دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الجمهوريون والبعثيون امام المقصله: محمد على جادين
|
الجمهوريون والبعثيون امام المقصله محمد علي جادين
مع تصاعد العنف السياسي وسط طلاب الجامعات تحل علينا هذه الأيام الذكرى الثانية والعشرون لأخطر محاكمتين واجهتهما حركة النهضة السودانية الحديثة في تاريخها، محاكمة الفكر الجمهوري والبعثي باسم الدين والشريعة الإسلامية الغراء.. وإذا كانت ذكرى المحاكمة الأولى قد وجدت اهتماماً واسعاً في يناير الماضي في كتابات وندوات عديدة، فإن هذا المقال يهدف إلى اثارة الاهتمام بذكرى المحاكمة الثانية وربط المحاكمين بالتراجع العام الذي ظلت تشهده حركة الفكر والسياسة السودانية منذ سبعينيات القرن الماضي ووصل ذروته بانقلاب 30 يونيو 1989 وتداعياته السياسية المتواصلة والتي تتجسد الآن في المأزق السياسي والاجتماعي الراهن بكل ما يحمل من مخاطر داخلية وخارجية، فالمحاكمتان كانتا تدشينا مدوياً لسيطرة سلاح الدين وسلاح العنف على حركة الفكر والسياسة السودانية ومن ثم تراجع حركة العقل والاستنارة والنهضة في كافة المجالات.
في 25/2/1984م أصدرت حركة الأخوان الجمهوريين بيانها المعنون (هذا... أو.. الطوفان) في مواجهة قوانين سبتمبر 1983 المسماة إسلامية، وشددوا على انها (أذلت الشعب وشوهت الإسلام وهددت وحدة السودان) ونتيجة لذلك قامت سلطات الأمن بإعادة اعتقال محمود محمد طه وأربعة من أنصاره (عبد اللطيف عمر، محمد سالم بعشر، تاج الدين عبد الرازق، خالد بابكر) وبعد محاكمة لم تستغرق سوى دقائق رفعت المحكمة حكمها لمحكمة الاستئناف برئاسة المكاشفي طه الكباشي، الذي حول المحاكمة من محاكمة سياسية محددة إلى محاكمة للفكر الجمهوري واتهامه بالردة والكفر، استناداً إلى محاكمة عقدها خصومه السياسيون من الأخوان المسلمين والسلفيين في 1968، فحكم على الأستاذ محمود بالإعدام وحرق كتبه ومصادرة أملاكه واستتابة الأربعة الآخرين، وأيده في ذلك رئيس الجمهورية جعفر نميري وأضاف حيثيات جديدة لم ترد في محكمة الموضوع أو الاستئناف، وهكذا نفذ حكم الإعدام في 18 يناير 1985 في حوش الطوارئ بسجن كوبر العمومي، وكان ذلك لطمة عنيفة للإسلام والتراث العربي الإسلامي ولقيم التسامح الديني والثقافي في السودان وعلنية الشنق كانت، بكل المقاييس، تشكل بربرية لا حد لها وهي تطال شيخاً في السادسة والسبعين من عمره – هلل للإعدام الأخوان المسلمون وتجار الهوس الديني واعتبروه انتصاراً حاسماً على خصمهم العنيد ولكنه وجد معارضة من دوائر عديدة داخل الطبقة الحاكمة، وبعد انتهاء مسرحية الإعدام تساءل الناس: من يجزم بردة محمود محمد طه؟ أو بمخالفته للإسلام؟ هل ما حدث كان دفاعاً عن العقيدة؟ أم ارهاب وتخويف لقوى المعارضة الشعبية والعسكرية النامية وقتها؟ لذلك وجدت الحركة السياسية والفكرية السودانية نفسها أمام تطور خطير يحول نشاطها السياسي المعارض في مواجهة (سلطان جائر) إلى كفر وإلحاد وزندقة وخروج على الملة.
في نفس هذه الفترة وتحديداً في 14/5/1984 قامت سلطات الأمن باعتقال أربعة من شباب حزب البعث السوداني في منزل بالفتيحاب كانت تطبع فيه جريدة (الهدف) السرية، وهم: بشير حماد، عثمان الشيخ، حاتم عبد المنعم، الجيلي عبد الكريم.. جميعهم في عمر لا يتجاوز الخمسة والعشرين عاماً، والاعتقال جاء بعد إعلان نميري لحالة الطوارئ، في 29/4/1984 وهدد فيه قوى المعارضة بقوله (لن نطبق فيهم الإسلام السمح، بل سندخل البيوت ونتابع المعارضين ونعتقلهم ونحاكمهم) أي انه يفصح عن حقيقة أهداف القوانين المسماة إسلامية بوضوح كامل، وفي تلك الفترة تصاعد نشاط قوى المعارضة، وخاصة حزب البعث السوداني وتتابعت اضرابات الأطباء والمهنيين والعمال وحتى القضاة. وبعد ان خضع هؤلاء الشباب الأربعة إلى تعذيب وحشي في حراسات الأمن قدموا للمحاكمة في 12/11/1984 برئاسة القاضي المكاشفي الذي حاكم الشهيد محمود محمد طه والجمهوريين الآخرين. وبعكس طه الذي رفض مبدأ المحاكمة لأسباب حددها في عدم شرعيتها وفساد القضاء، فقد تعامل البعثيون مع محاكمتهم كمعركة سياسية ووجدوا في ذلك تضامناً واسعاً من قوى المعارضة السياسية والنقابية وشارك في هيئة الدفاع كوكبة من خيرة القانونيين السودانيين، الصادق شامي، كمال الجزولي، عبد الله ادريس، أبو حريرة، مصطفى عبد القادر، اسحق شداد، أحمد أبو جبة وآخرين، وبدأت المحكمة بتهم سياسية محددة في معارضة النظام الحاكم واستطاعت هيئة الدفاع وصمود المتهمين تحويلها إلى محاكمة للنظام نفسه ولسياساته وإلى منبر لقوى المعارضة السياسية والنقابية في البلاد، ووجدت في ذلك تعاطفاً شعبياً واسعاً في الداخل والخارج، وفي جلسة النطق بالحكم النهائي في 24 يناير 1985، أي بعد أسبوع واحد من إعدام محمود محمد طه واستتابة الجمهوريين الأربعة، قام المكاشفي بإضافة مواد اتهام جديدة للمتهمين شملت اتهام الفكر البعثي بالردة والكفر والالحاد استناداً إلى نفس مواد محاكمة الجمهوريين: 96 ك و105 و27 (أ) من قانون العقوبات والمادة 20 من قانون أمن الدولة والمادة 3 من قانون أصول الأحكام القضائية، وهي كلها مواد وضعية لا علاقة لها بالفقه الإسلامي أو الشريعة السمحاء، وكان الهدف منها تكفير الفكر البعثي ومن ثم استتابة المتهمين أو تعريضهم لعقوبة الإعدام، وفي وقت لاحق استتابة كافة البعثيين وأعضاء الأحزاب السياسية الأخرى المرتبطة بأفكار يسارية وليبرالية مشابهة، وحقاً نلاحظ تشابه المحاكمتين في جوانب عديدة أهمها تحولها من محاكمة لتهم محددة إلى محاكمة للفكر، في مرحلة الاستئناف في حالة الجمهوريين وفي مرحلة النطق بالحكم في حالة البعثيين.
هاتان المحاكمتان تستمدان أهميتهما التاريخية من ارتباطهما بأخطر مترتبات استغلال الدين في السياسة والدعوة لإقامة دولة دينية وهو تجريم الفكر استناداً إلى الإسلام بشكل خاص والأديان بشكل عام، وذلك بشكل يعيد الي الذاكرة محاكم التفتيش في اوروبا القرون الوسطى وفترات الاستبداد السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، ويستند ذلك بشكل اساسي إلى استغلال الدين والشعارات الدينية العامة لقمع الخصوم السياسيين ليس دفاعاً عن الدين والعقيدة وانما عن نظام ديكتاتوري يقوم على ركائز حكم الفرد والقوانين المقيدة للحريات والحزب الواحد والظلم الاقتصادي والاجتماعي وهذا التوجه شهدته فترات عديدة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية خاصة في العهد الأموي والعهد العباسي إضافة إلى عهود أخرى. وفي بداية القرن الماضي شهدت مصر محاكمات مماثلة أبرزها محاكمة علي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم) ومحاكمة طه حسين (في الشعر الجاهلي) وفي تاريخ السودان القريب يمكن الاشارة إلى حل الحزب الشيوعي السوداني في عام 1965 تحت شعارات دينية أيضاً وذلك في ظل نظام يدعى الديمقراطية وبقرار من البرلمان نفسه، رغم رفض القضاء لذلك القرار. ويشير كل ذلك إلى تحول قوى الديكتاتورية والاستبداد إلى التركيز على استغلال الإسلام والدين عموماً كسلاح رئيسي في القضاء على حرية الفكر وتطور حركة النهضة الوطنية والقومية، كما تشير إلى ذلك ظواهر عديدة في السودان والمنطقة العربية في الوقت الحالي، ووصل هذا التوجه ذروته بوصول حركة الإسلام السياسي في السودان إلى الحكم بانقلاب عسكري وبالتالي وضع البلاد في مجرى تطور معادي لحركة النهضة والتطور الديمقراطي، وذلك في تناقض مفضوح مع جوهر الإسلام والتراث العربي الإسلامي الملئ بقيم العدل والحرية والشورى، فالإسلام لا يعرف الدولة الدينية ولا يعرف الكهنوت وسدنة الكنيسة، وانما يرتكز على الدولة المدنية وولاية الشعب المسلم على مصيره- المهم ان محاكمات الجمهوريين والبعثيين في بداية 1985 كانت تدشيناً لبداية مرحلة ظلامية وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في الواقع السياسي بشكل عام وفي حركة النهضة والاستنارة والعقلانية بشكل خاص.
|
|
|
|
|
|
|
|
البعثيون ومحكمة الرده: محمد على جادين جزء2 (Re: altahir_2)
|
البعثيون ومحكمة الرده محمد علي جادين * في المقالة السابقة اشرنا الى ان محاكمات الجمهوريين والبعثيين في بداية عام1985م كانت تشكل تدشيناً لمرحلة ظلامية في تاريخ تطور حركة الواقع السياسي السوداني، بشكل عام، وحركة النهضة والاستنارة والعقلانية، بشكل خاص-فالمحاكمتان تحولتا فجأة من محاكمة سياسية الى محاكمة للفكر الجمهوري والبعثي. واذا كانت المحاكمة الاولي قد انتهت باعدام محمود محمد طه في ميدان عام واستتابة المتهمين الآخرين، فقد اتخذت المحاكمة الثانية مجرى آخر-ففي24يناير1985 اعلن المكاشفي، قاضي المحكمة، اضافة مواد جديدة تتهم الفكر البعثي بالكفر والردة والزندقة, والمفارقة هنا انه اراد محاكمة فكر حزب سياسي، علماني في نظرته لعلاقة الدين والدولة وليس له موقف فلسفي محدد تجاه الدين، مثله في ذلك مثل كثير من احزاب الساحة السودانية والعربية. والمفارقة الاخرى ان البلاد كانت تحكم بدستور 1973م العلماني رغم صدور قوانين سبتمبر1983م وان النظام الحاكم كان يعيش تكفكاً داخلياً خطيراً وصراعات واسعة في داخله, ونسبة لطبيعة التهم الجديدة لجأ القاضي الى استدعاء شهود رأي بهدف اثبات كفر وردة الفكر البعثي فأعلن استدعاء عدد من اساتذة الجامعات، منهم د.الساعوري، د.طه بدوي ود.مدثر عبدالرحيم ويلاحظ انهم جميعهم من القيادات النشطة في حركة الاسلام السياسي في السودان (الاخوان المسلمين) وفي شهادته امام المحكمة اشار الساعوري الى (ان ميشيل عفلق يحوم حول الكفر ولايلجه) وهو بذلك يضع مؤسس البعث في منطقة وسطى بين الايمان والالحاد ويبدو انه لم يجد ما يسعفه من مصادر لاثبات التهم الموجهة للفكر البعثي وذلك بحكم ندرة مثل هذه المصادر في السودان، وايضا بحكم تعقيدات موقف ميشيل عفلق بشكل خاص وحزب البعث بشكل عام، من الاسلام فهو علماني في نظرته لعلاقة الدين والدولة ويرفض الدولة الدينية رفضاً حاسماً ويرى انها من مخلفات القرون الوسطي في اوروبا والمنطقة العربية, ولكنه في الوقت نفسه يتخذ موقفاً ايجابياً من الدين بشكل عام، وينظر للاسلام كمكون اساسي في الشخصية العربية.
ورغم انه مسيحي ارثوذكسي فهو ينظر للاسلام كثقافة وحضارة وتاريخ باعتباره (تراثاً قومياً لكل العرب بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية...) اي انه تراث وثقافة قومية للمسلمين والمسيحيين العرب في نفس الوقت ولذلك جاءت عبارة الساعوري بتلك الطريقة واضطر المكاشفي للرجوع الى آراء خصوم حزب البعث لتأكيد كفره والحاده. وفي الوقت نفسه اصدر حزب البعث السوداني عدة بيانات يوضح فيها موقفه من تحولات المحاكمة واعتبرها محاكمة سياسية تستهدف قوى المعارضة في عمومها وليس حزب البعث وحده.
* بجانب ذلك قامت هيئة الدفاع، برئاسة مولانا الصادق شامي، بتحويل شهادة الساعوري الى محاكمة للنظام الحاكم ولفضح تناقضات المحكمة, فقد انتزعت منه شهادات مهمة، حيث اكد وجود نائب مسيحي لرئيس الجمهروية، ووجود اكثر من عضو مسيحي في المحكمة العليا واكد ايضاً ان الدستور الساري(1973م) دستور علماني وانه يتناقض مع (أسس الدولة الاسلامية) واكد ان قوانين السودان لاتتضمن مادة حول الردة(...)هذه الشهادات تفضح تناقضات المحكمة وتحول شعارات الشريعة الى تدجيل باسم الاسلام والاسلام منها براء. وأدى كل ذلك الى جذب اهتمام واسع بالمحاكمة وسط قوى المعارضة والمثقفين السودانيين وادى هذا الاهتمام، مع دوافع واسباب اخرى، الى تكوين التجمع النقابي في دار اساتذة جامعة الخرطوم في بداية فبراير1985م وامتد هذا الاهتمام الى خارج الحدود وسط المثقفين العرب وقوى حركة التحرر القومي العربية، حيث تطوع عدد كبير من المفكرين والناشطين للدفاع عن الفكر القومي والبعثي في مواجهة اتهامات الردة والتكفير, وكان من ضمنهم محمد احمد خلف الله، على المختار، محمد عمارة، ويحيي الجمل(مصر) وأمين شفير(الاردن) بشير بومعز(الجزائر)، وألياس فرح(سوريا) ومفكرون وناشطون لبنانيون وعراقيون وغيرهم. كل هؤلاء تطوعوا للدفاع عن الفكر القومي والبعثي، بشكل خاص، وحرية الفكر بشكل عام ووجدت المحاكمة ايضاً اهتماماً كبيراً من منظمات حقوق الانسان الدولية، مثل العفو الدولية وغيرها. وكان لكل ذلك دوره في ارباك المحكمة والنظام الحاكم ودوائره المتناقضة والمتصارعة.
* كانت حركة الاخوان المسلمين الاكثر حماساً واهتماماً بالمحاكمة ووقتها كانت تحتل مواقع اساسية في النظام الحاكم فزعيمها حسن الترابي كان مستشاراً في القصر، وعلى عثمان محمد طه كان زعيم مجلس الشعب، حيث قدم اقتراحات بتعديل دستور1973م تستهدف تحويله الى (دستور اسلامي ومبايعة نميري اماما للمسلمين) ولكن ذلك وجد معارضة قوية من الجنوبيين بقيادة مولانا ابيل ألير وجوزيف لاقو ومن المجموعات المايوية والمستنيرة وسط النخبة الحاكمة وانعكست هذه الخلافات والصراعات في الموقف من المحاكمة في طورها الجديد ففريق التحري (أمن الدولة) كان ينظر للقضية المطروحة كقضية سياسية لاعلاقة لها بالردة والكفر ومن خلال ذلك تحول جهاز الامن وبعض المايويين النافذين بهدف ايقاف اجراءات المحاكمة واعادتها الى وضعها السابق وقام النائب العام وقتها، المرحوم الرشيد الطاهر، بكتابة مذكرة لرئيس الجمهورية وضح فيها مخاطر استمرار المحاكمة بشكلها الجديد على النظام الحاكم وعلاقاته الداخلية والخارجية, واشار الى انها تسئ للنظام وتعمل لمصلحة قوي المعارضة(...) وفي مارس1985م نشرتها مجلة التضامن اللبنانية المعروفة بعلاقاتها الحميمية مع النخبة الحاكمة ونتيجة لكل ذلك اصدر نميري توجيهه للمكاشفي بالتراجع عن اتهاماته الجديدة والحكم في القضية على اساس الاتهامات الاولي وحدث ذلك في جلسة24/2/1985م حيث حكم على المتهمين بالسجن والجلد والغرامة بتهم الانتماء لحزب محظور والمشاركة في معارضة النظام الحاكم.
* المحاكمة اذن فضحت التدجيل باسم الاسلام واستخدام الدين كسلاح حاسم في مواجهة قوى المعارضة السياسية وساعدت في تحريك المعارضة لتنظيم صفوفها واسقاط النظام الحاكم واستعادة الديمقراطية وبدأ ذلك بتكوين التجمع النقابي في جامعة الخرطوم وتوجه القوى السياسية لتوحيد نفسها في جبهة موحدة. ومع كل ذلك يمكن القول ان تراجع المحكمة عن اتهاماتها الاضافية كان انتصاراً جزئياً وتراجعاً تكتيكياً مؤقتاً فرضته ظروف الصراعات داخل السلطة الحاكمة واتساع الضغوط المحلية والاقليمية والدولية. ومع ان تطورات الواقع ادت الى اسقاط النظام بانتفاضة مارس/ابريل1985م فان ذلك لم يؤد الى الغاء قوانين سبتمبر1983م ولا الى تغيير جذري في طبيعة الدولة وقوانينها ومؤسساتها ولذلك وجدت(بقايا مايو)، ممثلة في الجبهة القومية الاسلامية والفئات الطفيلية بشكل خاص، فرصاً واسعة للعمل بهدف المحافظة على ركائز النظام المايوي تمهيداً للقفز للسلطة بانقلاب30يونيو1989م. ومن هنا كان على قوى الديمقراطية والتقدم العمل على استكمال انتصارها على قوى الهوس الديني في ظروف جديدة وهذا مايشير اليه نشاطها في فترة الديمقراطية الثالثة وهو نشاط موثق وظل مستمراً في فترة حكم الانقاذ وحتى الان. والمهم ان الذكرى الثانية والعشرين لمحاكمات ردة الجمهوريين والبعثيين تؤكد ان حركة النهضة السودانية والعربية لاتزال تواجه نفس التحديات، تحديات مواجهة قوى التخلف والهوس الديني وفتح الطريق لنهضة وطنية وقومية شاملة ترتبط بجذورها الحضارية والثقافية وبالعصر الراهن في نفس الوقت. وفي هذا الاطار نناقش في فرصة قادمة التأثيرات الايجابية والسلبية لمحاكمة1985 على تطور حركة الجمهوريين وحزب البعث السوداني، فكرياً وسياسياً، خلال الفترة اللاحقة حتى الان ... هل مازالوا يشكلون جزءاً من حركة النهضة والعقلانية؟ أم أنهم تراجعوا الى مواقع متخلفة وظلامية؟؟
محمد علي جادين
| |
|
|
|
|
|
|
البعثيون ومحكمة الرده ( الدين والدولة العلمانيه) ج3: محمد على جادين (Re: altahir_2)
|
* في المقالين السابقين تحدثنا عن محاكمات الجمهوريين والبعثيين في بداية 1985م، وقلنا إنها كانت تدشيناً لبداية مرحلة ظلامية في تاريخ الحركة السياسية السودانية، بشكل عام، وحركة النهضة والإستنارة في أوساطها بشكل خاص، وفي نهاية المقالة الثانية (10/3) تساءلنا عن التأثيرات السلبية لهذه المحاكمات على حركة الجمهوريين وحزب البعث السوداني، فكرياً وسياسياً، في الفترة اللاحقة حتى الآن.. هل ما زالوا يشكلون جزءاً من حركة النهضة والعقلانية؟ أم أنهم تراجعوا إلى مواقع متخلِّفة وظلامية؟ التأثيرات الإيجابية أدت إلى صمود قوى الاستنارة والتجديد وفتح الطريق لانتفاضة مارس أبريل 1985م، والتأثيرات السلبية ظلت بارزة وفاعلة، بحكم أن ما حفرته المحاكمتان في شعور ولا شعور النخبة السودانية لم يندمل حتى بعد الانتفاضة، وذلك لأن القوى السياسية والاجتماعية، التي فرضت قوانين سبتمبر 1983م ومحاكمات الردة، ظلت تسيطر على مواقع مهمة في جهاز الدولة وفي المسرح السياسي السوداني، ممثلة في الجبهة الإسلامية القومية والقوى المايوية، ومثل هذه التأثيرات تطال الأفراد والأحزاب والمجموعات على السواء، وتشير هنا، مثلاً إلى محاكمات كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) وكتاب علي عبدالرازق (الإسلام ونظام الحكم) في عشرينيات القرن الماضي في مصر وما صاحبها من تراجعات فكرية أساسية في مسيرة هذين المفكرين البارزين، وتشير أيضاً إلى التأثيرات السلبية لحل الحزب الشيوعي السوداني في 1965م، وهي تأثيرات لا تخفى، لكنها لم تجد الاهتمام الكافي كما يشير محمد سعيد القدال في كتابه (معالم في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني)، وانقلابا مايو 1969م ويوليو 1971م هي احدى تجليات هذه التأثيرات السلبية، وذلك موضع آخر يحتاج إلى مقال آخر.
* حركة الأخوان الجمهوريين توقفت مباشرة بعد اعدام مؤسسها الذي أحدث ارباكاً واضحاً في أوساطها، ولكن الفكر الجمهوري الأساسي ظل مستمراً في عقول وقلوب أنصاره وفي استمرار الاحتفال بالذكرى السنوية لاعدام مؤسسه، وفي الذكرى الثانية والعشرين شهدنا عودة قوية لنشاط حركة الاخوان الجمهوريين واستقبلتها بعض القوى السياسية ومراكز التنوير الثقافي بترحاب واسع، والأمل أن يساعد ذلك في إثراء الساحة الفكرية والثقافية في الفترة القادمة. وفي الجانب الآخر كان تأثير المحاكمتين على حزب البعث السوداني مختلفاً، فهو يشكِّل جزءاً من منظومة حزب البعث العربي الاشتراكي في العديد من الأقطار العربية الأخرى.. وفكرياً هو تنظيم قومي واشتراكي ديمقراطي علماني، وتأثيرات محاكمة فكره بالردة تتحدد من نظرته الإيجابية للدين عامة وللإسلام خاصة، ومن حقيقة ترابط علاقة الإسلام بالعروبة، ولذلك اعتمد نهج تحويل المحاكمة إلى محاكمة سياسية للنظام المايوي نفسه. وفي هذا الجانب تحمَّل المتهم الرئيسي، بشير حماد، مسؤولية الدفاع السياسي، بينما اتخذ المتهمون الآخرون موقع الدفاع القانوني. وصاحب المحاكمة نشاط سياسي واسع داخل السودان وخارجه، ولكن مشكلة حزب البعث السوداني، كغيره من الأحزاب اليسارية واللبرالية الأخرى، أنه كان ولا يزال يعاني من عدم التوازن بين نموه ونشاطه السياسي الواسع نسبياً، ونموه ونشاطه الفكري والثقافي المحدد، ويمثل ذلك نقطة ضعف أساسية في مواجهة التأثيرات السلبية لمحاكمة 1985م التي اتهمت فكره بالردة والانحراف الديني. ولهذا السبب ظلت كتاباته في فترة الديمقراطية الثالثة (85-1989م) تطرح أفكاراً عامة حول علاقة الترابط بين الإسلام والعروبة والتمييز بين الإسلام كدين وتراث وحضارة، وبين استغلاله في الصراع السياسي لتحقيق أهداف دنيوية، وظلت حركته السياسية تركز على فضح (بقايا مايو)، وحركة الإسلام السياسي في البلاد. ولكن كل ذلك لم ينتج مادة فكرية ذات قيمة لها القدرة على مواجهة عملية تسييس الإسلام وتحويل الإسلام نفسه، كتراث وتاريخ وحضارة، إلى عامل إيجابي في حركة النهضة والاستنارة السودانية والعربية، والمفارقة أن وثيقة (البعث وقضايا النضال الوطني في السودان) التي أصدرها الحزب في عام 1973م، كانت متقدمة في تناولها للمسألة الدينية بمنهج سيوسيولوجي يربط بين الإسلام وتطوير الحياة العربية في القرن السادس الميلادي ويفتح الباب لتجديد الفكر الديني وتطويره مع مرور الزمن، ويلاحظ هنا أن الجهد الفكري الوحيد تمثل في كتاب (المقاومة والانتصار) الذي نشرته دار الفارابي للنشر في 1987م، وهو كتاب حرَّره الشاعر التجاني حسين وحفصة عبادي المحامية، وكان يحتوي على حيثيات محاكمة البعثيين الأربعة ومرافعات هيئة الدفاع، وهو جهد مفيد سياسياً، لكنه لم يتناول علاقة الإسلام والتراث العربي الإسلامي، في الحالة السودانية، بقضايا النهضة والتقدم وقضية تعزيز الوحدة الوطنية السودانية.
* عندما أصدر حسن الترابي، النائب العام وقتها، قانونه الجنائي البديل لقوانين سبتمبر 1983م، كان لحزب البعث السوداني دور بارز في معارضته، بل إنه أصدر وثيقة، أعدها القانونيون البعثيون، تفنِّده وتتهمه بالتمهيد لإقامة دولة دينية في السودان. وفي هذا الجانب كان موقفه واضحاً من الدولة الدينية ولكنه، في الوقت نفسه، يؤكد ضرورة اعتبار الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع (مداولات اللجنة السياسية حول مشروع قانون العقوبات 1988م). والواقع أن هذا الموقف يستند إلى كتابات ميشيل عفلق، مؤسس البعث، التي تركز على رفض الدولة الدينية والعلاقة بين الدين والدولة بتمايزاتها ضمن التجربتين العربية والأوربية، ويستند أيضاً على كتاب القيادي البعثي السوري، شبلي العيسمي حول (العلمانية والدولة الدينية) الصادر في 1986م، وكتبه مؤلفه نتيجة طلب ومناقشات مع بعض البعثيين السودانيين. وهو يسير في نفس توجهات عفلق، لكنه يطرح مفهوم (العلمانية المحايدة) كمحاولة لاستيعاب المفهوم البعثي للعلمانية وخصوصية علاقة الدين والدولة في التجربة التاريخية العربية، ولذلك يمكن اعتبار هذا الكتاب جزءاً من محاولة البعثيين السودانيين لإحتواء مواجهة التأثيرات السلبية لمحاكمة 1985م، وبرز ذلك أيضاً في الورقة التي أعدوها للمؤتمر الدستوري الوطني حول الهوية ونظام الحكم المنشورة في كتاب د. العجب الطريفي، اللامركزية في السودان، جامعة الخرطوم للنشر،1989م، وهكذا يمكن القول إن حزب البعث السوداني تمكَّن من محاصرة مواجهة التأثيرات السلبية لمحاكمات 1985م، وظل متمسكاً بموقفه العلماني الداعي لإقامة دولة مدنية ديمقراطية والرافض للدولة الدينية واستغلال الدين لأهداف سياسية.. ولكن ذلك لا يشكِّل كل المشهد.. فقد أدى دخول القوات العراقية في الكويت في أغسطس 1990م وكذلك الحرب العراقية الإيرانية (1980م-1988م)، وحرب الخليج الثانية في بداية 1991م، إلى تحولات وتراجعات أساسية في توجهات القيادة السياسية العراقية، ومن ثمَّ المركز القومي لحزب البعث في بغداد، وذلك في اتجاه استخدام الدين في التعبئة السياسية اليومية، والتحالف مع حركات الإسلام السياسي في المنطقة، ومن ضمنها الجبهة الإسلامية القومية ونظام الانقاذ، وأدى ذلك بالضرورة إلى إرباك واسع وسط حزب البعث السوداني خلال السنوات اللاحقة وانقسامه الكبير في 1997م نتيجة عوامل عديدة، من بينها بالتأكيد الموقف من قضايا النهضة الوطنية والقومية، وفي قلبها قضية الديمقراطية والدولة المدنية في السودان، بشكل خاص، والمنطقة العربية، بشكل عام، وبذلك تمايزت الخطوط بين تيار وطني قومي ديمقراطي في أوساطه وتيار آخر يجمع خليطاً من شعارات التطرّف اليساري والإسلاموي الجهادي. وتلك مسألة أخرى تحتاج إلى متابعة خاصة نأمل أن نتناولها في فرصة أخرى.
محمد علي جادين
| |
|
|
|
|
|
|
|