وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 06:56 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عادل محمود احمد الامين(adil amin)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
07-14-2006, 08:41 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي

    يمتاز تلاميذ الاستاذ محمود بالوعي الحر المستقل.لم يجعل الا ستاذ منهم صدي صوت اوابواق كما تفعل الكائنات الهلامية المحسوبة علي الفكر والثقافة حيال تلميهذا ومريديها .بل جعلل لهم النظرة الثاقبة التي تستشرف المستقبل..وترفع حجب الغيب...فهم احفاد زرقاء اليمامة..تظل كتاباتهم تشع وتضيء كاليورانيوم عندما تخبو شموع الامل...اللهم ارحم البوردابي القديم المحامي طه ا اسماعيل ابوقرجة... في هذا الخيط نعيد نشر البعض من مقالاته الثرة..........


    مقال د. خالد المبارك يكشف عن حقائق مؤسفة (1 من 3)
    متى يرفع السودانيون أصواتهم استنكاراً لتزييف التاريخ؟

    طه اسماعيل أبوقرجة - 25 ديسمبر 2002
    بتاريخ الأربعاء 11 ديسمبر 2002 أرسلت مقالاً قصيراً إلى صحيفة الرأي العام رداً على مقال الدكتور خالد المبارك الذي نشرته ذات الصحيفة في عددها بتاريخ 18 نوفمبر 2002 تحت عنوان (مفكرة سودانية بريطانية.. محمود محمد طه وأنصاف الحقائق)، والذي تعرض فيه للأستاذ محمود محمد طه، ولثورة رفاعة التي قامت في عام 1946 في مواجهة قانون محاربة الخفاض الفرعوني الذي سنته الإدارة الاستعمارية. لم يحظ مقالي بالنشر، ولعل صحيفة الرأي العام قد اكتفت بنشر الرد الذي تفضل به الدكتور عبد المطلب بلة زهران على مقال الدكتور خالد المبارك. بيد أن بعض الإخوان قد تكرم بنشر مقالي في مواقع عديدة من شبكة الإنترنت.

    ولما كنت قد وعدت في ذلك المقال برد أطول على مقال الدكتور خالد المبارك في حيز آخر، فقد كان لزاماً علي أن أفعل. ولقد حرصت أيضاً على الرد المطول لأسباب أخرى، منها أن الحوار حول الموضوع قد اتصل في بعض منابر السودانيين في شبكة الإنترنت، وقد بدت منه الحاجة إلى تسليط مزيد من الضوء على ثورة رفاعة، التي لم يقو جل المؤرخين على ذكرها. ومنها التنبيه إلى أمور خطيرة كشف عنها مقال الدكتور خالد المبارك. من هذه الأمور، احتمال تورط الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، راعي مركز عبد الكريم ميرغني، في تزييف التاريخ، باتباع نهج انتقائي يفتقر إلى الأمانة في رصد وتسجيل وقائع التاريخ. ومنها أيضاً ذهول السودانيين حتى في مستوى قامة الدكتور خالد المبارك عن موت ما يسمى بالحركة السياسية السودانية.

    هذا المقال يقع في ثلاثة أجزاء، أولها يتناول تزييف التاريخ، والثاني يناقش بعض ما أثاره الدكتور خالد المبارك، والثالث يلقي ضوءاً على ثورة رفاعة، ويعرِّف بقيمتها الحقيقية، باعتبارها الموقف الذي قاد إلى تقصير أجل الاستعمار البريطاني على السودان، وهي القيمة التي من أجلها حرصت جهات عديدة مؤثرة على إسقاط هذه الثورة من التاريخ. وسأحاول جهد الإمكان مناقشة بعض ما أثاره الدكتور خالد المبارك مناقشة موضوعية دون أن أغلظ عليه القول، وذلك لاعتبارات شتى، منها أن الدكتور خالد المبارك هو رغم ما قاله يعد من السودانيين المتعلمين النشطين القلائل، وذلك أمر يجب أن يحفظ له، وأن يشفع له.

    خلفية عن مقال الدكتور خالد المبارك :
    لمصلحة القراء الذين لم يقفوا على مقال الدكتور خالد المبارك، أفيد بأنه قد أقدم على كتابة مقاله إثر استماعه، على حد تعبيره، إلى تسجيل في شريط فيديو لحفل تقديم مجلدات "الوثائق البريطانية عن السودان" التي حررها الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، راعي مركز عبد الكريم ميرغني، الذي أقيم بقاعة الشارقة بجامعة الخرطوم، حيث تحدث أحد أساتذة جامعة أم درمان الأهلية معبراً عن خيبة أمله لأن الوثائق لم تشمل ذكراً لنضال الأستاذ محمود محمد طه ضد الاستعمار رغم أن الإدارة الحاكمة اضطرت إلى إرسال فرقة عسكرية من الخرطوم لإخماد المقاومة التي قادها في رفاعة. وقال الدكتور خالد المبارك أن ذلك المتحدث أطرى على الأستاذ وحزبه الجمهوري بلا تحفظ. ومن هنالك مضى الدكتور ليقول أن ذلك الإطراء هو بسبيل من نظر السودانيين، في الشمال والجنوب، وفي اليمين واليسار، إلى القائد السياسي كشيخ للطريقة الصوفية. ثم مضى ليصف ثورة رفاعة بالرجعية، وبأنها من مخازينا لأنها كانت ضد قرار تحديثي. كما رمى الأستاذ محمود محمد طه بالبذاءة. وهو قد فعل كل ذلك لمقاومة ما أسماه مواصلة "الحديث عن القادة بانتقاء يسلط الضوء على الإيجابيات فحسب ويضلل الشباب لأنه ينطلق من أنصاف الحقائق وأسداس الحقائق ويغذي جينات النزعة الصوفية المتأصلة في أفئدة السودانيين". هذا هو لب المقال، وسأتعرض إلى فقرات منه في هذا الرد.

    جل المؤرخين السودانيين لم يقووا على ذكر اسم الأستاذ محمود ولا الحزب الجمهوري :
    قال الدكتور خالد المبارك في مقاله عن ثورة رفاعة:- (قيل لنا أنها مثل إضرابات الطعام في المدارس وإضرابات زيادة الأجور العمالية، مجرد ظواهر اجتماعية لمضمون سياسي هو رفض الاستعمار..)!!

    ولابد أن أقول هنا للدكتور أن الكتابة بطريقة "قيل لنا" لا تليق به، خصوصاً في موضوع بهذه الأهمية والحساسية. وأنا أعفيه من أن يذكر لنا من قال ذلك، ولمن، ومتى، وأين.

    ولما كان الدكتور خالد المبارك قد زعم في مقاله أن الأستاذ محمود محمد طه لم يدافع عن ثورة رفاعة بعد الاستقلال (وهو زعم خاطئ)، فإن عبارته هذه تفيد أن المشتغلين بالتاريخ السوداني هم الذين برروا ثورة رفاعة على ذلك النحو. وذلك إيحاء مضلل، لأن جل المؤرخين السودانيين قد فاتهم شرف ذكر هذه الثورة في كتبهم، بل صعب عليهم أن يوردوا اسم الأستاذ محمود محمد طه رغم أنه كان أول سجين سياسي في تاريخ الحركة الوطنية الحديثة وأصلب من قاوم الإرهاب الاستعماري، كما صعب عليهم أن يذكروا الحزب الجمهوري كأحد الأحزاب السودانية رغم أنهم ذكروا كبيرها وصغيرها، ورغم أنه أول حزب دعا إلى قيام جمهورية سودانية، ورغم أنه الحزب الوحيد الذي قام على مذهبية سودانية المنبت.

    والحق أن تلك مؤامرة اغتيال معنوي قديمة ومخزية تضافرت على حياكتها أيد كثيرة. وما الاغتيال الحسي في يناير 1985 إلا فصل متأخر من فصولها التي ما برحت تتوالى. هذه المؤامرة هي التي ساقت أستاذ جامعة أم درمان الأهلية إلى التعبير عن خيبة أمله من إسقاط نضال الأستاذ محمود محمد طه ضد الاستعمار من الوثائق التي قال الدكتور خالد المبارك أنها حررها الأستاذ محمود صالح عثمان صالح.

    إن التاريخ يجب أن يسجل بأمانة. ومن يدري، فلعل الله قد قضى بأن يجيء قريباً اليوم الذي يعلم فيه السودانيون بأن حركتهم الوطنية لم يكن فيها أنصع ولا أشرف من مواقف الأستاذ محمود، وعندئذ قد يهرع بعض المؤرخين لإصدار طبعات منقحة ومزيدة من كتبهم، يذكرون فيها اسم الأستاذ محمود، ونضاله، وثورة رفاعة، ويوردون اسم الحزب الجمهوري كأحد الأحزاب السياسية السودانية. إن اليوم الذي يعرف فيه السودانيون تاريخهم لآت، فلابد لليل التضليل والمضللين أن ينجلي. ويومها سيحاسب كل من أسهم في تزييف التاريخ، مثلما سيحاسب كل من كاد لهذا الشعب. وذلك حساب مخزي حتى وإن لم يلحقه عقاب. والحق أن مزيفي التاريخ هم بعض أدوات السياسيين الكائدين لهذا الشعب.

    ألم يدافع خالد المبارك عن إسقاط نضال الأستاذ؟
    بيد أن الدكتور خالد المبارك قد ورط نفسه، دون أن يقصد أو أن يدري، في تلك المؤامرة الرخيصة المزمنة التي تستهدف إسقاط اسم الأستاذ محمود محمد طه كلياً من تاريخ هذا البلد، إذ ذهب شوطاً بعيداً في مجافاة النهج العلمي حين رد على ذلك التعبير عن خيبة العمل قائلاً أن تلك الثورة كانت رجعية ومن مخازي السودانيين. وهو قد فعل ذلك دون يستنكر تغييب هذا التاريخ، أو يأسف لوقوعه، أو يستعلم عن دوافعه، أو يستقصى أمره. بل أنه أسرف على نفسه فتجرأ على رمي الأستاذ محمود محمد طه بالبذاءة، كما بينت في المقال السابق وكما سأبين في الجزء الثاني من هذا المقال. وهو بذلك كأنما يقول أن ثورة رفاعة وغيرها مما يتصل بالأستاذ محمود محمد طه ليس جديراً بالتسجيل والتأريخ. وهو بذلك قد دافع عن إسقاط هذه الثورة من التاريخ، قصد ذلك أم لم يقصد.

    هذا أمر جد مؤسف، فالدكتور لابد يعلم بأن التاريخ يجب أن يسجل تسجيلاً أميناً وكاملاً، بصرف النظر عن رأينا فيه.

    ولو أن أستاذ جامعة أم درمان الأهلية طالب بالإشادة بنضال الأستاذ محمود، لكان للدكتور خالد المبارك حق الاعتراض على تلك المناشدة مبدياً رأيه في ثورة رفاعة. ولكن الدكتور خالد لم يقل في مقاله أن أستاذ جامعة أم درمان الأهلية طلب الإشادة بنضال الأستاذ محمود محمد طه، وإنما قال أنه عبَّر عن خيبة أمله من إسقاط التاريخ المتصل به. ألا يحق له ذلك التعبير؟ بل ألا يجب عليه ذلك التعبير وسط هذا الجحود الكبير الذي أبى الدكتور خالد المبارك إلا أن يضم نفسه إلى طوابيره؟ وهل يصح وصف هذا التعبير عن خيبة الأمل من الانتقائية في تسجيل التاريخ، وما تقتضيه من إشادة بالأستاذ محمود، بأنه تعامل مع القائد السياسي كشيخ للطريقة "ومواصلة للحديث عن القادة بانتقاء يسلط الضوء على الإيجابيات فحسب ويضلل الشباب لأنه ينطلق من أنصاف الحقائق وأسداس الحقائق ويغذي جينات النزعة الصوفية المتأصلة في أفئدة السودانيين"؟

    إن وجوب رصد التاريخ بأمانة أمر لا يعيي ذا لب. لكنه بكل أسف أعيا الدكتور خالد المبارك. والحق أني لم استغرب ذلك، لأن الدكتور في مقاله لم يغفل حقائق التاريخ فحسب وإنما طمرها تحت الأباطيل التي سال بها مداده دون عناء ولا حذر، وكأنه لا يسأل عما يفعل. وذلك ما بينته في المقال الذي أرسلته إلى صحيفة الرأي العام، وما سأورده في الجزء الثاني من هذا المقال. وبطبيعة الحال فإن من يطمر الحقائق على نحو ما فعل الدكتور خالد المبارك لا تنتظر له حساسية نحو انتقائية رصد التاريخ. بيد أني أؤمن بأن الدكتور خالد لم يفعل ذلك عن سوء نية، وإنما عن غفلة. وقد كان يليق به أن يأبى انتقائية التاريخ، وأن يرفع صوته بذلك. وهو لا يزال مرجواً أن يفعل ذلك.

    انتقائية التاريخ عند القائمين على مركز عبد الكريم ميرغني ؟!
    ويهمني هنا أن أتساءل عن قيمة الوثائق التاريخية التي أعدها الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، راعي مركز عبد الكريم ميرغني. ما هي طبيعة هذه الوثائق؟ فقد أشار الدكتور خالد المبارك في مقاله إلى مجلداتها بعبارة (مجلدات "الوثائق البريطانية عن السودان"). فهل هي كل الوثائق البريطانية عن السودان؟ أم أنها وثائق منتقاة؟ وهل هناك إفادة واضحة للقراء بأنها وثائق منتقاة؟ أم أنها تركت لتوحي إلى الناس بأنها كل الوثائق البريطانية عن السودان؟ وإذا أسقطت هذه الوثائق نضال الأستاذ محمود محمد طه، فماذا أسقطت غير ذلك؟ وماذا ذكرت؟ هل على سبيل المثال أوردت واقعة إهداء السيد عبد الرحمن المهدي سيف أبيه لملك بريطانيا، وتعفف الأخير عن الاحتفاظ به؟ أم أنها أسقطت هذه الواقعة التاريخية ذات الدلالة المؤسفة؟ ولماذا؟

    مسئولية المثقفين القائمين على مركز عبد الكريم ميرغني :
    لقد كشف مقال الدكتور خالد المبارك عن أن الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، راعي مركز عبد الكريم ميرغني، ربما تورط في تزييف التاريخ السوداني باتباع النهج القديم الذي درج عليه جل المؤرخين السودانيين. هذا النهج المؤسف يجب أن يقابل من كل السودانيين بالرفض الحاسم، ورفع الصوت، والمساءلة الأدبية، إلى أن يجيء وقت المساءلة القانونية. لقد كان حرياً بالدكتور خالد المبارك أن يبدأ بذلك، وأن يكون عوناً للدكتور عبد المطلب زهران، أستاذ جامعة أم درمان الأهلية، الذي أثار هذا الأمر، بدلاً عن ممالأة راعي مركز عبد الكريم ميرغني. ذلك كان أولى للدكتور خالد المبارك، فليسرع إلى تدارك أمره، وليهنأ الدكتور عبد المطلب بمقامه الذي لم يجد فيه على الخير أعوانا.

    إنني لم أطلع على هذه المجلدات، ولذلك لست في وضع أجزم فيه بأنها انتقائية ومضللة على نحو ما يشير مقال الدكتور خالد المبارك، بيد أني سأعمل على الوقوف على حقيقة هذه المجلدات ومعرفة ملابسات إعدادها. كما أني لا أعرف شيئاً عن الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، وكل ما سمعته عنه أنه من أسرة المرحوم عثمان صالح، الكريمة، المعروفة، وأنه يمارس الأعمال التجارية، ولست على يقين من ذلك. ومهما يكن، فإن عدداً من المثقفين والأكاديميين السودانيين يرتبطون بمركز عبد الكريم ميرغني. وأعتقد أن عليهم واجب التأكد من طبيعة هذه المجلدات التي ربطت بهذا المركز. فسيكون صمتهم عاراً إن كانت هذه المجلدات تضلل الشعب عن حقيقة ما يراد بتاريخه من تزييف.

    الثورة تبدأ من ذواتنا ومن قعور بيوتنا :
    يظن أكثر السودانيين أن مشكلة بلادنا هي النظام السياسي القائم، وأننا لو أطحنا به ستنتهي المعاناة. والحق أن الشعب قد جرب الإطاحة بالأنظمة الفاسدة مراراً دون أن تنتهي المعاناة. وما ذاك إلا لأن الأنظمة السياسية ليست سبب الأزمة، وإنما هي نتيجة الأزمة. الأنظمة السياسية مهما كان حظها من السوء هي ثمرة الأزمة لا بذرتها. والأزمة إنما هي فينا كلنا، وفي حياتنا كلها، ومن مظاهرها تهاوننا مع العظائم التي نعدها صغائر. يجب أن لا نستهين بأي أمر. وفي هذا المقام أقول أننا يجب أن لا نستهين بتزييف التاريخ. فالذين يزيفون التاريخ هم أنفسهم الذين يسممون الحاضر، ويئدون المستقبل. ومشكلة بلادنا ليست فقط في العسكريين وضعاف العقول الذين يقفزون إلى السلطة بحد السلاح، وإنما هي فوق ذلك وقبل ذلك في الذين يتقحمون مجالات التاريخ والفكر والسياسة بلا علم ولا هدى ولا كتاب منير. إن الثورة يجب أن لا تختزل في الإطاحة بالأنظمة السياسية الفاسدة. فهي إن اختزلت في ذلك، ظل حظنا هو العجز عن بناء نظام سياسي صالح. إن ثورتنا هذه المرة يجب أن تكون جذرية وعميقة وشاملة. وهي يجب أن تبدأ داخل كل منا، على غفلتنا وتراخينا وتهاوننا. يجب أن نغير أنفسنا، فبيوتنا، ومدارسنا، وشوارعنا، وأنديتنا، ومراكزنا. بذلك، وبذلك وحده، نضع الفأس على أصل الشجرة. وبذلك لن يملك النظام السياسي الفاسد إلا أن يسقط، لأنه إنما يقف على دعامة الفساد المستشري في حياتنا.

    لقد رفع مقال الدكتور خالد المبارك قضية تزييف التاريخ السوداني إلى السطح من جديد. وإني لآمل أن نستيقظ هذه المرة من سباتنا، فنواجه الأمر بما يستحق من الحزم والصرامة. فإذا استيقظنا، كان ذلك ثمن المغفرة للدكتور خالد المبارك عن الإسفاف الذي تورط فيه. أما إذا لم نستيقظ، فما الدكتور إلا من غزية غوت.
    (يتبع الجزء الثاني والثالث)

    طه إسماعيل أبو قرجة
    25 ديسمبر 2002
                  

07-15-2006, 02:42 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)





    مقال د. خالد المبارك يكشف عن حقائق مؤسفة (2 من 3)
    ألم يأن للسودانيين أن ينشئوا حركة سياسية حية ؟؟
    فالحركة السياسية الحالية ولدت في الأربعينيات ميتة
    طه إسماعيل أبو قرجة - 28 ديسمبر 2002
    في هذا الجزء من المقال أتعرض إلى بعض النقاط التي أثارها الدكتور خالد المبارك في مقاله. ومثلما اهتممت في الجزء الأول بلفت الأنظار إلى تزييف التاريخ السوداني، يهمني هنا أن أنبه إلى أمرين هامين كشف عنهما مقال الدكتور خالد المبارك. أولهما ذهول المتعلمين السودانيين عن واجبهم في توعية الشعب. وثانيهما عجز السودانيين حتى اليوم عن إدراك حقيقة بسيطة وظاهرة هي موت الحركة السياسية السودانية.

    محنة الشعب السوداني في أبنائه المتعلمين :
    إن مقال الدكتور خالد المبارك يكشف عن جانب من محنة الشعب السوداني في أبنائه الذين اقتطع من شظف عيشه ليعلمهم، ليعملوا على رفعه من وهدته. وتلك محنة كبرى، ولا ريب. وهي أس داء هذا البلد المنكوب. والجانب الأسوأ من هذه المحنة يمثله المتدثرون بالدين، في حين يمثل المتدثرون بالحداثة الجانب الآخر. فمثلما عاد الدكتور الترابي من السوربورن بلقب الدكتوراه في القانون الدستوري ليسلب الشعب أبسط الحقوق الأساسية وليرتد بالبلاد إلى حقب الإجماع السكوتي وثقافة عصر الشافعي، ومثلما عاد السيد الصادق المهدي من أكسفورد ليتبوأ قيادة أكبر حزب طائفي بالبلاد، كذلك عاد خالد المبارك بالدكتوراه التي لا يبدو لها أي أثر في مقاله هذا العجيب، ليشيع الغيبوبة بين الناس، مثلما يفعل أضراب له، اتخذوا من الحداثة عباءة جديدة بعد أن أبلى أولئك عباءة الدين، يحشرون لفظها حشراً في مقالاتهم، فيما بدا جلياً أنهم يجهلون محتواها كل الجهل. أسمعوه ماذا قال:-
    (.. لكن الأستاذ محمود محمد طه ارتكب أيضاً عدة أخطاء تقديرية جسيمة. حدثت انتفاضة رفاعة-التي أشاد بها المتحدث- احتجاجاً على قرار الإدارة الاستعمارية بمنع الخفاض الفرعوني. قيل للعامة: "يريد الإنجليز أن يتدخلوا في كل شيء حتى "...." بناتكم! وفعلاً ثار الناس حماية للشرف الرفيع وكان على رأسهم الأستاذ محمود. كان موقفه ذلك متخلفاً ورجعياً في مواجهة قرار "تحديثي" جريء وسليم. انتفاضة رفاعة المزعومة ليست من مآثرنا في النضال ضد الاستعمار بل هي من مخازينا. ويقع وزرها على كاهل الأستاذ محمود محمد طه. قيل لنا أنها مثل إضرابات الطعام في المدارس وإضرابات زيادة الأجور العمالية، مجرد ظواهر اجتماعية لمضمون سياسي هو رفض الاستعمار. وهذا دفاع واه لأن الأستاذ محمود لم يراجع مواقفه علناً أو يذكر مبرراته بعد نيل الاستقلال..).

    د. خالد المبارك لا يعلم الحقائق الأولية :
    دعونا من تقويم الدكتور خالد المبارك لثورة رفاعة حتى نمتحن إلمامه بالحقائق الأولية. فهو إن كان له حظ من الإلمام بالحقائق الأولية، كانت فيه مظنة قدرة على تقويم تلك الثورة. أما إن كان منذور الحظ من المعرفة بالحقائق الأولية، فقد انقطع الظن فيه.
    هل صحيح أن الأستاذ محمود لم يقل شيئاً عن الخفاض وعن ثورة رفاعة بعد الاستقلال؟ لقد اصدر الإخوان الجمهوريون كتاباً باسم "الخفاض الفرعوني" في عام 1981، تعرضوا فيه لعادة الخفاض ولملابسات ثورة رفاعة وهدفها. كما أن بموقع الفكرة الجمهورية بشبكة الإنترنت أكثر من كتاب يتعرض لثورة رفاعة، منها كتاب (معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية خلال ثلاثين عاماً 1945-1975). ثم أن معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية كان في سعيه خلال عام 1975 لتوثيق تاريخ الحركة الوطنية قد أجرى مقابلة مع الأستاذ محمود ورد فيها حديث مفصل عن ثورة رفاعة. والتسجيل الصوتي لهذه المقابلة موجود بموقع الفكرة بشبكة الإنترنت. ومن الأفضل للدكتور خالد المبارك أن يرجع، ليقرأ، ويسمع، قبل أن يكتب. ثم إن عليه أن يبحث في الأسباب التي ساقته إلى هذا التقرير الخاطئ، ولينظر ماذا يمكنه أن يفعل لتدارك أمره. ذلك أمر متروك له.

    الدكتور خالد يرمي الأستاذ بعدم عفة اللسان !!
    هذا يسوقني لإبراز أمر آخر شديد الدلالة على أن الدكتور خالد المبارك قد كتب بمجافاة تامة للنهج العلمي. فقد جاء في مقاله العجيب:- (قيل للعامة: [يريد الإنجليز أن يتدخلوا في كل شيء حتى "…" بناتكم]). إن عبارة الدكتور هذه لا تعطي غير فهم واحد، هو أن الأستاذ محمود محمد طه هو الذي قال ذلك. وتلك حالقة للدكتور. فهو يوحي إلى الناس بأن الأستاذ محمود قال عبارة يعف قلمه هو عن إيرادها. هل رأيتم هذا الإدعاء؟!
    من أين للدكتور خالد المبارك بهذه العبارة؟ إن نص الخطبة التي ألقاها الأستاذ محمود في مسجد رفاعة، والتي تحرك الناس بعد سماعها إلى السجن، موجود، وقد تم نشره. كما أن ما كتبه الحزب الجمهوري في معارضة قانون الخفاض مرصود، وبعضه منشور بالإنترنت. فهل يظن الدكتور خالد المبارك أنه يحترم القراء حين يشيع عليهم لغواً مثل هذا عن رجل مواقفه موثقة بالكلمة المقروءة والمسموعة؟ بل هل يظن أنه يحترم قلمه ونفسه حين يجترح ذلك؟ إن الأستاذ محمود محمد طه إن كان يتفوه بمثل هذه العبارات الساقطة لما ثار للعفة والعرض، ولما نهضت مدينته التي تعرف خلقه بأسرها من ورائه. إن ما قاله الدكتور خالد لا يعلق بالأستاذ محمود. ولقد يكفي أن أقول أن الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في عام 1951 موضحاً أن الحزب الجمهوري عارض الطريقة التي شرع بها الإنجليز في محاربة عادة الخفاض لأنها "طريقة تعرض حياء المرأة السودانية للابتذال، وعلى الحياء تقوم الأخلاق كلها، والأخلاق هي الدين".
    إن الدكتور خالد المبارك لا يعرف عن من يكتب، ولا عن ماذا يكتب، ولا لمن يكتب. بل ظهر أنه يكتب في أخطر الأمور بناء على السماع ممن ليس بذي شأن. أعتقد أن عليه أن يراجع أمره، لأنه بهذا لا يفعل أكثر من تسويد الصفحات بغثاثة منكرة، ومن الإساءة إلى الدرجة العلمية التي يحملها، بل وربما إلى المؤسسة العلمية التي منحته هذه الدرجة.

    غثاثة لا تليق :
    لقد شط الدكتور خالد المبارك عن النهج العلمي ولجَّ في الغثاثة. أسمعوه يقول:- (ولعل دعوة الأستاذ محمود للاعتراف بإسرائيل هي السبب المباشر في الرعاية الحميمة التي ينالها أتباعه في الغرب، حيثما حلوا). هل رأيتم هذه الغثاثة؟ هل لدى الدكتور خالد المبارك إحصائيات عن أعداد الجمهوريين في الغرب أو مقارنة لأعدادهم بأعداد الفرق السياسية الأخرى؟ أم انه يكتب بالطريقة التي يتحدث بها بعضنا في المقاهي؟ ثم ما هي الرعاية الحميمة التي ينالها الجمهوريون في الغرب؟ هل هي حق اللجوء السياسي أم أكثر؟ وإن كانت أكثر من ذلك، فما هي؟
    إن منح الجمهوريين حق اللجوء السياسي قائم على أساس أنهم أهل فكر في بلد ليس للفكر فيه كرامة، بل يتضافر فيه حتى أصحاب الدرجات العلمية الرفيعة على سلبهم مجرد حق اشتمال مصادر التاريخ على الوقائع المتصلة بهم، كما فعل الدكتور خالد المبارك في مقاله هذا العجيب، عن قصد أو عن غفلة. ألا يرى الدكتور أن الجمهوريين بإزاء هذا كله يستحقون منحهم حق اللجوء، بل وأكثر من حق اللجوء؟
    إن ما قاله الدكتور خالد المبارك في هذا الشأن لا يجوز على السودانيين في المهاجر المختلفة لأنهم يعرفون كيف يعيش الجمهوريون، ويعرفون إن كانوا يلقون رعاية خاصة. ولكن هذا الكلام قد يجوز على بعض قراء الرأي العام في الداخل. فهل قصد الدكتور خالد المبارك أنه يسخر قلمه للتضليل والكتابة غير المسئولة التي تتسقط رضاء الهالكين؟ أم انه تورط في ذلك غافلاً؟
    بيد أني يجب أن أقول للدكتور أنه بهذا القول قد أظهر تخلفه عن جهلاء المعارضة السلفية بنحو أربعين سنة. فقد كانوا يشيعون أن الجمهوريين يتلقون أموالاً من إسرائيل لتمويل نشاطهم، حتى إذا ما هرعوا إلى البنوك وسجلات الأراضي في يناير 1985 لمصادرة أموال الأستاذ محمود محمد طه لم يجدوا حتى حساباً مصرفياً واحداً، ولا عقاراً سوى منزل الحكر المبني بالجالوص في تلك الحارة الشعبية. وهاأنت يا دكتور تحاول تسويق تلك التهم الساذجة القديمة تحت مزاعم جديدة، هي الرعاية التي يجدها الجمهوريون في الغرب. وأنت رجل تحمل درجة الدكتوراه، وتصور نفسك كرجل عليم بالغرب، وتلصق "مفكراتك" ببريطانيا دون ما سبب واضح، وتكتب زاعماً محاربة أنصاف الحقائق، فما بقي غير أن يصدق الناس ترهاتك هذه؟ إنني أقول لك ذلك لأن المرء قد ينزلق بالغفلة فينحط في طرفة عين عن مستوى أجهل الجاهلين. ألم يقل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأساً فيهوي بها في النار سبعين خريفاً)؟ بلى قد قال، وعلينا أن ننتبه.

    لا يقرأ أم لا يفهم ؟!
    لقد أبى خالد المبارك إلا أن يفيدنا بأنه لم يقرأ شيئاً للأستاذ محمود محمد طه، أو أنه لم يفهم. أسمعه يتحدث عن الأستاذ: (أصاب حينما لم يوصد باب الاجتهاد)!! فهل كانت قضية الأستاذ هي الاجتهاد وفتح أو وصد بابه؟ وماذا كان رأي الأستاذ في الاجتهاد كسبيل لحل مشاكل عصرنا؟ إن الدكتور خالد المبارك لا يعرف شيئاً من هذا، ولكنه يحب أن يوحي إلى القارئ أنه يعرف، تماماً مثلما هو يحب أن يوحي إلى القارئ بأنه يعرف مضامين الحداثة، فحشر المفردة حشراً في مقاله. الظاهر عندي أن الدكتور خالد المبارك يحسن الظن بنفسه إلى الحد الذي يزدري به الناس ويرى أنه يمكنه نقد مواقفهم التاريخية والفكرية دون أن يكلف نفسه مشقة الوقوف عليها.

    حركتنا السياسية ولدت ميتة :
    قال الدكتور خالد المبارك:- (وقد أخطأ الأستاذ محمود أيضاً كقائد سياسي حينما جعل الحزب الجمهوري "حزب فرد" تلف حوله كل اللوالب الإدارية والفكرية، فلما قتل مات معه الحزب). هذا لعمري حديث العوام. ولذا لن أخوض في طبيعة علاقة الأستاذ بالحزب الجمهوري، ولا بما أسماه الدكتور باللوالب الفكرية والإدارية. لن أخوض في هذا معه، وإنما أسأله عن مظاهر حياة الأحزاب الأخرى إن كان يحسب أن الحزب الجمهوري قد مات وأنها حية. وقبل أن يجيبني إجابة سطحية، أرده إلى رأي الحزب الجمهوري الوارد في "السفر الأول" الصادر في أكتوبر 1945 بأن الحركة السياسية السودانية ولدت ميتة.
    إن الأمر المؤسف هو أن السودانيين في جملتهم لا يزالون يجتمعون حول حركتهم السياسية على نحو مما ظلوا يفعلون منذ قيام الحركة السياسية الحديثة في مستهل الأربعينات، وينتظرون منها خيراً. بل إن ما يدعو لمزيد من الأسى هو أن السودانيين المتعلمين، في مهاجرهم المختلفة، يظنون أن ليس عليهم من واجب سوى دعم هذه الحركة ممثلة فيما يسمى بالتجمع الوطني الديموقراطي وتكوين فروع له تكون بمثابة مكاتب خلفية.
    لقد كان للحزب الجمهوري شرف التنبيه منذ عام 1945 إلى حقيقة أن الحركة السياسية ولدت ميتة. بيد أن الشعب السوداني ظل يتعهد هذه الجثة طيلة العقود السوالف دون أن يدرك حقيقة ما يتعهد، حتى هذا اليوم وقد زحم عفنها الأفق. ورغم أن هذه الحقيقة ظلت تتكشف يوماً بعد يوم وتتزايد أعداد مدركيها، إلا أن الوقت قد أنى ليدرك الشعب في جملته هذه الحقيقة الضرورية. فهو إن لم يدركها سيظل يدور في هذه الحلقة المفرغة. لقد أنى لشعبنا أن يدرك هذه الحقيقة، فيقبر هذه الجثة المنتنة، وينشئ بدلاً عنها حركة سياسية جديدة، حية، مقتدرة، كريمة.
    إن المتعلمين على وجه الخصوص مرجوون لأن ينهضوا لهذا الدور. ولقد كان الدكتور خالد المبارك جديراً بالانتباه إلى موت الحركة السياسية، ولكنه لم يحب أن يفكر تفكيراً جديداً، وإنما أحب أن يسير في الطريق المطروق. فهو قد انتبه إلى أن رأي الأستاذ في مشكلة الشرق الأوسط كان متقدماً على نحو أسطوري، ولكنه لم ينتبه إلى أن رأيه في الحركة السياسية السودانية كان كذلك. والدكتور خالد المبارك مرجو لأن يتدبر ذلك، وأن يبزم على الإسهام في ميلاد حركة سياسية جديدة تعوضنا عن هذه الجثة.
    ثم إني أعود وأقول للدكتور خالد المبارك أن الجمهوريين يعرفون بعض قصورهم، وما يفصل بينهم وبين الشعب، وهم من أجل ذلك توقفوا عن الحركة، وهم يسعون لتلافي قصورهم. وهم ربما كانوا أعلم بعمق الأزمة، وأصدق مع أنفسهم، من الأحزاب الأخرى التي تصم آذان الشعب بجعجعة بلا طحن، وتصرف الشعب عن حقيقة مشكلته وعن حلها. هذا أمر قد تكشف عنه الأيام. لكن الذي يهم الدكتور خالد المبارك هو موقفه هو، ومسئوليته كمتلق عن الجمهوريين حين ينظمون أنفسهم ويكتبون أو يتكلمون. فهو لا يحق له أن يتطرق لحراك أو موات الجمهوريين بينما لم يكلف نفسه عناء قراءة ما كتبوا ولا سماع ما قالوا. إن مستوى المتلقين، لا علم المتكلم وحده، يحدد أيضاً مستوى الخطاب. ومستوى الخطاب قد يكون الصمت. والصمت، والتولي عن المدعوين إلى حين، معروف في تاريخ الأديان والدعوات، والكلام فيه يطول. ويكفي أن من الرسل من صمت ثلاثين عاماً قبل معاودة الكلام. فليكف الدكتور خالد المبارك عن رمي الأستاذ محمود بقبض اللوالب الفكرية والإدارية للحزب الجمهوري، وليعكف على قراءة ما كتب، وعلى سماع ما قال. ذلك أجدى له وللناس مما يشيعه باسم الحداثة. إن من لم يقرأ ما كتبه الجمهوريون ولم يسمع ما قالوا، لا يحق له الحديث عن حراكهم أو مواتهم. لأنه في حقيقة الأمر أولى له أن يظن الموات بنفسه لا بالناس.

    ثرثرة لا معنى لها :
    إن مقال الدكتور خالد برمته ثرثرة لا معنى لها. فهو قد حاول أن يصور لنا أنه يكتب ليوزن الإعجاب الواقع بالأستاذ حتى لا يغفل الناس عن أخطائه. أسمعوه ماذا قال:- (ولا ينبغي أن تحول الرغبة في ذكر محاسن الأموات ولا المناداة الموضوعية بحق الأستاذ محمود في الاجتهاد دون نقده. كما أن الاعتراض على مقتله وحرق كتبه بطريقة دعائية مرتجلة لا ينبغي أن يتخذ ذريعة للنظر إليه بعين الرضا وحدها. فقد كان آدمياً ابن أنثى وقائداً سياسياً أخطأ وأصاب).
    هل رأيتم مساهمة الدكتور خالد المبارك في هذا الوقت الذي تحذِّر فيه الحكومة الصحف من نشر مقالات يرد فيها ذكر الأستاذ أو فكره بخير؟ وهل يا ترى يعلم الدكتور أن الحكومة قد منعت في يناير الماضي الاحتفال الذي ازمعته اللجنة القومية للاحتفال بالذكرى السنوية لاستشهاد الأستاذ؟ هل يعلم الدكتور ذلك أم أنه يجهل الحاضر كما يجهل الماضي فيبدو وكأنما يكتب من صندوق مغلق؟ وإن كان يعلم، فهل يرى أن كفة الإعجاب بالأستاذ والإطراء عليه راجحة بحيث يتوجب عليه كتابة مثل هذا المقال المخالف لكل أسس العلم والموضوعية؟ أم هل عساه يرى أن الزمان قد لا يجود بمن هو في مثل قدرته الذهنية ليرد الأمور إلى نصابها في الوقت المناسب فآل على نفسه أن يقوم بالواجب قبل أوانه؟

    كلمات للدكتور :
    لقد وزع الدكتور خالد المبارك تهم الولاء الطائفي يمنة ويسرة، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. وهو قد فعل ذلك بتهكم غير خاف. وفي خضم ذلك حدثنا عن المثل الإنجليزي (ثمة سمك كثير في البحر)، وعن استشهاد السير دوقلاس هيوم به وهو يجيب على سؤال السائلين عمن عساه سيخلفه في وزارة الخارجية البريطانية. ويهمني هنا أن أهمس في أذن الدكتور خالد بكلمات.
    أولها، أنه من ضمن سمك البحر، لا اعتراض لدينا في ذلك، لكن عليه أن يعرف مياهه.
    وثانيها، أنه من الأجدى له أن يستغل تواجده ببريطانيا لينقب في مصادر التاريخ السوداني هنالك قبل أن يكتب بشأنه. والقارئ السوداني يهمه هذا التاريخ بأكثر مما تهمه كلمات دوقلاس هيوم ومعارك حزب العمل مع اللوردات.
    وثالثها، أني لا أرى معنى لاستعراض معايشة الدكتور أحداث السياسة الإنجليزية الداخلية، ولا لتصدير مقاله بعبارة (مفكرة سودانية-بريطانية)، أم يا ترى أن صحيفة الرأي العام هي التي اختارت ذلك؟
    ورابعها، أنه كان يمكن لمقاله أن يكون عميقاً ومفيداً. فما أسماه بالنزعة الصوفية المتأصلة في جينات السودانيين هي أس الرجاء فيهم وفي وحدة ترابهم. وهي هي التي تجمع بينهم في حقيقة الأمر، وليس الحدود السياسية الطارئة. وهو قد لاحظ أن هذه النزعة متأصلة في الجنوب والشمال. وأقول له أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون رجل قبيلة النوير الذي أشار إليه "عارفاً" وليس مجرد "عراف". إن ما يعاب ليس النزعة الصوفية، وإنما الميول الطائفية. والطائفية هي اتباع رجل بدل اتباع فكر. هي إلغاء العقل. وليس هناك من جماعة ناهضت الطائفية أكثر من الجمهوريين، ولذلك فإن ما يمكن أن يقال عن الطائفية لا يقال لهم.
    وخامسها، إن الدكتور يحتاج ضبط عبارته. فعلى سبيل المثال، لا معنى لقوله بأن أهل بلاد السودان دخلوا الإسلام "قبل وأثناء وبعد المرحلة المسيحية"!! فالناس يعلمون أن السودانيين دخلوا الإسلام أثناء وبعد المرحلة المسيحية، كما يعلمون بأن المرحلة المسيحية قد بدأت في منتصف القرن السادس الميلادي- أي قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ومن أجل ذلك لم استطع أن أفهم كيف دخل أهل السودان الإسلام قبل المرحلة المسيحية!! أم أنه جريان القلم بغير فكر؟ إن ضبط العبارة من ضبط الفكر. أعانني الله وإياك على ضبط الفكر والعبارة.
    ثم إن الدكتور خالد المبارك غير متهم عندي بمعاداة الفكر الجمهوري. بل أني أقبل ما ذكره من مواقف في مواجهة المؤامرة التي استهدفت الفكر الجمهوري وحياة الأستاذ محمود محمد طه. كما أني أحمد له نشاطه الجم في الكتابة، وأشعر أن الخطأ الذي ارتكبه في مقاله هو خطأ من يعمل ويكتب، وهو حتى إن كان خطأ جسيماً فأفضل من الصمت الذي يلف مجاميع المتعلمين السودانيين. لقد حاولت جاهداً أن لا أتحامل عليه وآمل أن لا تكون الشدة التي تظهر في بعض جوانب هذا المقال قد فاقت الجرعة اللازمة.
    هذا وسيتوفر الجزء الثالث على إلقاء بعض الضوء على ثورة رفاعة.

    طه إسماعيل أبو قرجة
    28 ديسمبر 2002




                  

07-15-2006, 02:46 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    مقال د. خالد المبارك يكشف عن حقائق مؤسفة (3 من 3)
    ثورة رفاعة غيرت وسائل الحركة السياسية وقصَّرت أجل الاستعمار
    طه إسماعيل أبو قرجة - 29 ديسمبر 2002
    وقفنا في الجزء الأول من هذا المقال على تزييف التاريخ السوداني، وعلى الحقيقة المؤسفة المتمثلة في إسقاط جل المؤرخين السودانيين اسم الأستاذ محمود محمد طه، والحزب الجمهوري، وثورة رفاعة. كما حاولت في الجزء الثاني التنبيه إلى حقيقة موات الحركة السياسية السودانية، وقلت بضرورة الانفضاض من حولها وإقامة حركة سياسية جديدة، كما سعيت إلى توضيح أن الدكتور خالد المبارك قد خاض في تقييم ثورة رفاعة دون أن يقف على ما قاله الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريون عنها. والحق أن من يجهل حقائق التاريخ لا يمكنه تقويم ثورة ولا أي حدث تاريخي. وقديماً قال الأستاذ محمود محمد طه: (الفكر هو ثمرة لقاء الذاكرة بالخيال). وقد وضح أن الدكتور خالد قد كتب بلا ذاكرة- أي بلا معرفة بالتاريخ. وسأحاول في هذا الجزء أن أعطي مؤشرات عن موقع ثورة رفاعة في التاريخ.

    خلفية عن ثورة رفاعة :
    للحديث عن ثورة رفاعة لابد من وضعها في إطارها التاريخي. وذلك أمر يقتضي، ضمن أمور أخرى، إبراز الطريقة التي اتبعتها الحركة السياسية السودانية منذ نشأتها في مؤتمر الخريجين للحصول على الاستقلال، والطريقة الأخرى التي سار عليها الحزب الجمهوري في قضية الاستقلال. وليس هناك حيز واسع لذلك، وإنما سأكتفي بالإشارات.

    معلوم أن الحركة السياسية الحديثة نشأت في مؤتمر الخريجين العام الذي قام في 1938. وقد اتخذ مؤتمر الخريجين "القومية السودانية" شعاراً له، وبدأ عمله بمجالات الخدمة الاجتماعية وعلى رأسها التعليم، فأنشأ عدداً من المدارس. وفي 1942 أسفر المؤتمر عن وجهه السياسي، وذلك بالمذكرة التي وقعها رئيسه، السيد إبراهيم أحمد، في 3/4/1942، والتي كان أهم مطالبها: (إصدار تصريح مشترك في أقرب فرصة ممكنة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشرة وإحاطة ذلك الحق بضمانات تكفل التعبير عنه في حرية تامة كما تكفل للسودانيين الحق في تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعبين المصري والسوداني).

    بيد أن حكومة الاستعمار قد تعاملت مع مذكرة المؤتمر بقسوة بالغة، إذ رفضتها واعتبرتها خطوة متسرعة وأعادتها إلى المؤتمر. كما اعتبرت أن المؤتمر لا يمثل الشعب السوداني، وقالت أن السودانيين يمثلهم القادة الدينيون والإداريون (أي العشائريون) وبعض الجهات الأخرى التي سمتها. وقد أدى ذلك الموقف الاستعماري إلى دفع الخريجين أكثر إلى أحضان الزعماء الطائفيين، كما أدى إلى نشأة أكبر أحزابنا السياسية بالتحالف بين الطائفية الدينية وبين الزعامات العشائرية. وسنرى لاحقاً أن حزب الأمة مثلاً قد نشأ نتيجة تحالف بين زعيم طائفة الأنصار وبعض الزعماء العشائريين وبعض الخريجين. وبذلك يتضح أن الاستعمار تقع عليه مسئولية في النشأة المعوجة لحركتنا السياسية. بيد أننا مسئولون أكثر من الاستعمار، لأننا لم نقدر على تقويم هذا الاعوجاج لمدة فاقت نصف القرن.

    الإصرار على النضال برفع المذكرات :
    أعود إلى التاريخ لأذكر أن المؤتمر لم يستبدل أسلوب نضاله بأسلوب آخر، رغم أن رفع المذكرات هو أضعف عمل في النضال، ورغم أن الاستعمار قد أهان المؤتمر حين رفع إليه مذكرات. والحق أن المذكرات نفسها كانت ترفع في تكتم شديد حتى أن لجان المؤتمر الفرعية كانت لا تدري بها. وقد شهدت تلك الفترة نشاطاً متزايداً في الدعوة إلى الاتحاد مع مصر. وفي يوليو 1943 زار السيد إسماعيل الأزهري مصر، ومنذ ذلك لحين أخذت دعوة جماعة الأشقاء إلى الاتحاد مع مصر تتجه نحو الدعوة إلى الاندماج الكامل. وقد اكتسح الأشقاء انتخابات المؤتمر التي جرت في 27 نوفمبر 1944، وقد كان لذلك أثره في تعديل مطلب المؤتمر الوارد في مذكرته المرفوعة في 1942 ليكون مطلباً بوضع السودان تحت التاج المصري. ففي 23/8/1945 رفع المؤتمر مذكرة أخرى إلى الدولتين المستعمرتين، بواسطة حكومة السودان، بتوقيع رئيسه، السيد إسماعيل الأزهري. وقد جاء في هذه المذكرة:- (يا صاحبي الدولة: لما كان السودانيون هم أصحاب الشأن الأول في تقرير مصيرهم فإننا لنتقدم الآن بهذه المطالب راجين وملحين في الطلب أن تصدر على الفور الحكومتان البريطانية والمصرية تصريحاً يتضمن الموافقة على رغباتنا هذه والإسراع في العمل على وضعها موضع التنفيذ. فباسم العدل وباسم الرخاء الذي قاتلت من أجله الديموقراطية يطلب مؤتمر الخريجين العام بالسودان: قيام حكومة سودانية ديموقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري. والله وحده ولي التوفيق).

    وبطبيعة الحال فإن هذا المطلب ليس للاستقلال، وإنما لإدارة محلية تابعة للتاج المصري. وكانت الجماعات الاستقلالية قد انزعجت من اتجاه المؤتمر إلى الاندماج مع مصر منذ اكتساح الأشقاء لانتخابات المؤتمر في نوفمبر 1944. وفي 31 مارس 1945 أعلن عن قيام حزب الأمة. ويحدثنا الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه في كتابه القيم "الحركة السياسية السودانية والصراع المصري البريطاني بشأن السودان 1936-1953" في ص 203 قائلاً:- (نشأ حزب الأمة كتحالف بين ثلاثة عناصر هي طائفة الأنصار وزعماء العشائر ونفر من الخريجين الذين ينادون باستقلال السودان على أساس شعار "السودان للسودانيين". وقد بدأت الاجتماعات التأسيسية لحزب الأمة في ديسمبر 1944 أي بعد انتخابات المؤتمر التي أجريت في 27 نوفمبر 1944 وانتهت بفوز جماعة الأشقاء وسيطرتهم على هيئة المؤتمر الستينية ولجنته التنفيذية). انتهى

    ومثلما كان للأشقاء تعاون مع مصر ساقهم إلى المناداة بالاندماج معها، كان لحزب الأمة تعاون مع الإنجليز. وقد تمثل هذا التعاون في ولوج الحزب المؤسسات الضعيفة التي أنشأها الإنجليز لإيهام السودانيين بأنهم يساهمون في حكم بلادهم، كالمجلس الاستشاري لشمال السودان الذي تأسس في 1943، والجمعية التشريعية 1947. كما تمثل ذلك التعاون في ربط حزب الأمة مطلب الاستقلال بالتحالف مع بريطانيا. ولقد أدى هذا التعاون إلى إثارة تهم في وجه حزب الأمة بأنه صنيعة بريطانية، بالإضافة إلى التهمة الموجهة إليه بأنه كان يسعى لتنصيب السيد عبد الرحمن ملكاً محلياً تحت السيطرة البريطانية. وكان حزب الأمة يرى أن دخول تلك المؤسسات هو سبيل لتحقيق الاستقلال في نهاية المطاف عبر التطور الدستوري.

    وثيقة الأحزاب المؤتلفة وبعدها عن خدمة قضية الاستقلال :
    وبسبب تقاسم الأحزاب الولاء بين مصر وبريطانيا، شرع بعض النفر (على رأسهم الأستاذ أحمد خير) في 10 مايو 1945 في محاولة للتوفيق بين الجهتين الاتحادية والاستقلالية، فانعقدت اجتماعات لتنظر في أمرين، أولهما فيما يحدثنا الدكتور فيصل عبد الرحمن: (إمكانية توحيد مبادئ الأحزاب المختلفة فيما يتعلق بمستقبل السودان السياسي)، وثانيهما: (مناقشة الخطوات الأولى التي يجب اتخاذها لتحقيق المطالب القومية على ضوء الاتفاق الذي سيتم التوصل إليه بين الأطراف).

    وقد تمخض هذا الجهد عن ائتلاف هش بين القوى الاتحادية والاستقلالية. وبعد جهد جهيد تمكنت الأحزاب المؤتلفة من توقيع وثيقة في 25 أغسطس 1945 أصبحت تعرف فيما بعد بوثيقة الأحزاب المؤتلفة. بيد أن الائتلاف لم يزد عن العمل بالسنة التي سنها مؤتمر الخريجين من قبل، والمتمثل في محاولة نيل الاستقلال عن طريق رفع المذكرات إلى الدولتين المستعمرتين. وقد تبنى مؤتمر الخريجين وثيقة الأحزاب المؤتلفة، ورفع مذكرة في 15 أكتوبر 1945 تضمنت مطالب الوثيقة. ومن المهم أن نقف على محتوى المطلب الأول والأساسي في المذكرة (الوثيقة). فقد كان كما يلي:- (قيام حكومة سودانية ديموقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطاني). (المرجع السابق ، ص 229). ويمكن أن نلاحظ أن هذا المطلب تضمن بقاء السيطرتين المصرية والإنجليزية، الأولى بالاتحاد، والثانية بالتحالف.

    قيام الحزب الجمهوري :
    في هذا الوقت كان الأستاذ محمود محمد طه متحركاً وحده. وكان من ضمن وجوه نشاطه كتابة المقالات في الصحف في مواجهة الاستعمار، ونقد القوى السياسية على مهادنتها الاستعمار، وانقسامها بين الدولتين المستعمرتين. وقد كان عنوان أحد المقالات: (لماذا مصر ولماذا بريطانيا؟!) ومن هنا نشأت فكرة إقامة الحزب الجمهوري، وأسندت رئاسته منذ أول وهلة للأستاذ محمود محمد طه. وقد قام الحزب في 26 أكتوبر 1945.

    ويحدثنا الدكتور فيصل عبد الرحمن قائلاً:- (ورفض الحزب الجمهوري الوثيقة التي ائتلفت عليها الأحزاب الأخرى في 25 أغسطس 1945 وتبناها المؤتمر في أكتوبر 1945 لأنها تختلف في جوهرها عن دستور الحزب. وقد سبقت الإشارة إلى أن أحد بنود الوثيقة ينص على قيام حكومة سودانية ديموقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا. وفي معرض تعليقه على هذا البند قال الحزب الجمهوري: "إننا لا نفهم لماذا نتقيد باتحاد وتحالف فنضع بذلك حق البلاد الطبيعي في الحرية موضع المساومة بأن ندفع ثمن الحرية اتحاداً مع هذه أو تحالفاً مع تلك"). ص 237.

    ويمضي الدكتور فيصل ليقول أن الحزب الجمهوري كان يتفق مع حزب الأمة على استقلال السودان وعلى أن يكون السودان للسودانيين. (ولكنه كان يختلف عن حزب الأمة في أمرين: أولهما أن الحزب الجمهوري أعلن في بيانه الأول في 4 نوفمبر 1945 تفضيله للجمهورية نظاماً للحكم بينما لم يعلن حزب الأمة قبوله للجمهورية نظاماً للحكم إلا في 21 أغسطس 1953. وأما الأمر الثاني فقد كان أن الحزب الجمهوري يرفض التعاون مع إدارة السودان البريطانية لتحقيق الاستقلال ويرى أن السبيل لتحقيق الاستقلال هو الجهاد).

    ولقد يحسن أن أذكر بهذه المناسبة أن المذكرة التفسيرية لبيان إنشاء الحزب الجمهوري ورد فيها: (أن النظام الجمهوري هو أرقى ما وصل إليه اجتهاد العقل البشري في بحثه عن الحكم المثالي لأنه لا يجعل لمواطن فضلاً على آخر إلا بقدر صلاحيته وكفاءته للاضطلاع بالأعباء المنوطة به، هذا بالإضافة إلى أنه لا يقيد الناس بضروب من الولاء والتقديس اللذين لا مصلحة للإنسانية فيهما). (المرجع السابق، ص 235) ورغم هذه المناداة المبكرة بالمساواة بين المواطنين إلا أن السيد الصادق المهدي طابت له نفسه في عام 1999 أن يدعي أنه أول من دعا للمساواة بين المواطنين، ونسي حتى أنه أيد محكمة الردة عام 1968 على صفحات الجرائد.

    ومما يعين على فهم مواقف الحزب الجمهوري يومئذ، معرفة رأيه في الحركة السياسية. فقد عاب عليها أمرين: خواءها من المذهبية والبرامج، وقعودها عن تنوير الشعب وتحريكه ليناضل من أجل الاستقلال والحرية والرضا بدلاً عن ذلك بحرب المذكرات. ولعل الفقرة التالية من كتاب "السفر الأول" الصادر في أكتوبر 1946 تعطي فكرة معقولة عن رأي الحزب يومئذ:- (.. هذه صورة سريعة جداً، مقتضبة جداً، لنشاط المؤتمر في السياسة، وفي الإصلاح. ولسائل أن يسأل لماذا لم يسر المؤتمر في التعليم على هدى سياسة تعليمية موضوعة، منظور فيها إلى حاجة البلاد كلها في المستقبل القريب والبعيد؟ ولماذا لم يعن المؤتمر بمناهج الدراسة كما عني بإنشاء المدارس؟ وله أن يسأل لماذا عندما وُلِدت الحركة السياسية في المؤتمر اتجهت إلى الحكومة تقدم لها المذكرات تلو المذكرات، ولم تتجه إلى الشعب تجمعه وتثيره لقضيته؟؟ ولماذا قامت عندنا الأحزاب أولاً ثم جاءت مبادؤها أخيراً). ويمضي السفر الأول ليقول: (نعم، لسائل أن يسأل عن منشأ كل هذا. والجواب قريب، هو انعدام الذهن الحر المفكر تفكيراً دقيقاً في كل هذه الأمور. فلو كان المؤتمر موجهاً توجيهاً فاهماً لعلم أن ترك العناية بنوع التعليم خطأ لا يدانيه إلا ترك العناية بالتعليم نفسه، ولأيقن أن سياسة "سر كما تشاء" هذه المتبعة في التعليم الأهلي سيكون لها سوء العواقب في مستقبل هذه البلاد. فإن نوع التعليم الذي نراه اليوم لن يفلح إلا في خلق البطالة، وتنفير النشء من الأرياف، وتحقير العمل الشاق في نفوسهم. وانعدام الذهن المفكر تفكيراً حراً دقيقاً هو الذي طوع للمؤتمر يوم ولدت فيه الحركة السياسية-وهي قد ولدت ميتة- أن تعتقد أن كتابة مذكرة للحكومة تكفي لكسب الحرية، حتى لكأن الحرية بضاعة تطلب من الخارج ويعلن بها الزبائن بعد وصولها، حتى تكون مفاجأة ودهشة. ولو أن جميع الأحزاب القائمة الآن استطاعت أن تفكر تفكيراً دقيقاً لأقلعت عن هذه الألاعيب الصبيانية، التي جعلت الجهاد في سبيل الحرية ضرباً من العبث المزري).

    مهزلة "وفد السودان" إلى مصر :
    منذ يونيو 1945 وحتى مارس 1946 انشغل مؤتمر الخريجين والأحزاب المؤتلفة بالإعداد لتكوين وفد لحضور مفاوضات دولتي الاستعمار الرامية لإعادة النظر في اتفاقية 1936. وكان الصراع على أشده بين المؤتمر والأحزاب الاتحادية من جهة والاستقلاليين من الجهة الأخرى، حول تمثيل السودان، وحول مطالب السودانيين. وكان المؤتمر والاتحاديون يريدون أن يمثل المؤتمر السودان وتكون مطالب السودانيين هي محتوى مذكرة المؤتمر المرفوعة في 23/8/1945 التي أشرت إليها أعلاه، والتي تطالب بوضع السودان تحت التاج المصري. هذا في حين كان يحرص الاستقلاليون على أن يمثل السودان بواسطة الأحزاب السياسية وأن تكون مطالب وثيقة الأحزاب الموقعة في 25/8/1945 هي مطالب السودانيين. وقد انشغلت الأحزاب وقتاً للوصول إلى صيغة وسط تجد قبول الاتحاديين والاستقلاليين.

    قام الفوج الأول من الوفد في 22 مارس 1946. بيد أن حكومتي الاستعمار قد استخفتا بالوفد (الذي اشتهر باسم وفد السودان). وقد أصدرت حكومة الاستعمار بياناً أعلنت فيه أنها لا توافق "على إرسال وفد غير مكفول برعاية يبعث آمالاً لا يحتمل تحقيقها". وقالت الحكومة أن الوفد لا يمثل ولا يمكن أن يمثل السودان بوجه عام. كما شككت في إمكانية أن يقابل المفاوضون الوفد لأنهم لم يطلبوه ولأنه لا يمثل سوى جزء من المجموعة. (المرجع السابق ، ص 249-250). كما أن الأحزاب والهيئات المصرية لم ترض بمهمة الوفد، ومارست عليه ضغوطاً ليترك مصر تتحدث عن الجلاء من وادي النيل، مصر والسودان. ونتيجة للضغوط التي مارسها المصريون على الوفد تم إبعاد حزب الأمة من الوفد وانتهى الوفد إلى أن يكون ضيفاً مقيماً بمصر.

    ولم يقف هوان الوفد عند ذلك الحد، بل إن بياناته كشفت عن ضعف مؤلم وضع الشعب السوداني موضعاً يوجب الإشفاق. فعلى سبيل المثال، لم يكشف بيان الوفد الذي نشره في 2 يونيو 1946 عن أي إنجاز غير حصوله على مواثيق والتزامات وعهود من الأحزاب والهيئات الشعبية المصرية تؤكد أن قضية وادي النيل "مصره وسودانه" قضية واحدة سيتم الفصل فيها في وقت واحد. وذلك يعني شيئاً واحداً، هو أن الوفد قد رضخ لضغوط المصريين وترك لهم قضية السودان، ليفعلوا فيها ما يشاءون. ويحدثنا الدكتور فيصل عبد الرحمن قائلاً:- (وكشف الوفد في بيانه أنه التقى إسماعيل صدقي رئيس الوزراء ورئيس وفد المفاوضة المصرية في 11 مايو 1946 وأوضح له أن المطالب التي يحملها وفد السودان باعتباره ممثلاً لأبنائه متفقة تماماً مع مطالب أبناء مصر وهي الجلاء عن وادي النيل ووحدته "تلك الوحدة التي فسرها وفد السودان بأنها وحدة وادي النيل مصره وسودانه تحت التاج المصري مع وحدة الجيش ووحدة التمثيل السياسي –السياسة الخارجية- على أن يتولى السودانيون إدارة شئونهم الداخلية بحكومة تقوم على أسس ديموقراطية). (ص 265). بهذا يمكننا أن نرى بؤس حصيلة وفد السودان، كما يمكننا أن نرى طبيعة الدولة التي أرادتها بقية الوفد حين نرى التفسير الذي أعطته لشعار وحدة وادي النيل. والجدير بالذكر أن أعضاء "وفد السودان" من الاتحاديين، بعد أن سلموا قضية السودان إلى مصر، أقاموا عموماً في الفنادق الفخمة، في مصر، على نفقة الحكومة المصرية، ولم يعودوا إلى السودان إلا في عام 1948، بيد أن بعضهم نشأت لهم مصالح تجارية ومصالح وظيفية بمصر فلم يعودوا عندئذ.

    الحزب الجمهوري يرفض مهادنة الأحزاب للاستعمار :
    رأينا من قبل أن الحزب الجمهوري، في بيانه الأول، رفض وثيقة الأحزاب المؤتلفة الموقعة في أغسطس 1945 ونعى على الحركة السياسية مهادنة الاستعمار. وحين انشغلت الأحزاب والمؤتمر بتشكيل وفد السودان ومحاولة الاتفاق على صيغة للمطالب ترضي كل أطراف الوفد، كان الحزب الجمهوري يعارض الاستعمار بالمنشورات والخطب السياسية في الأماكن العامة. وقد استمر في محاولة حشد الحركة السياسية في خط مواجهة الاستعمار. فعلى سبيل المثال أصدر الحزب الجمهوري بياناً في 18/2/1946، أجتزئ منه بالتالي:-

    ((هذا نذير من النذر الأولى

    يا جماعة الأشقاء ويا جماعة الأمة.. أيها القاسمون البلاد باسم الخدمة الوطنية.. أيها القادحون قادحات الإحن بين أبناء الأمة.. أيها المذكون ثائرات الشر والتفرقة والقطيعة.. أيها المرددون النغمة المشئومة-نغمة الطائفية البغيضة.. إنكم لتوقرون أمتكم وقراً يؤودها.

    يا هؤلاء وهؤلاء: أنتم تلتمسون الحرية بالانتماء إلى المصريين فتتمسكون بأسباب رمام، وأنتم تلتمسون الملك بالبقاء تحت الإنجليز فتتهيأون لدور الهر الذي يحكي بانتفاخه صولة الضرغام. أنتم تريدون إبقاء المصريين، وأنتم تريدون إبقاء الإنجليز، فإذا اجتمعت كلمتكم فإنما تجتمع على إبقاء المصريين والإنجليز معاً.

    يا هؤلاء وهؤلاء: أنتم تتمسحون بأعتاب المصريين لأنكم لا تقوون على مواقف الرجال الأشداء، وأنتم تتمسحون بأعتاب الإنجليز لأنكم صورتم المجد في أخلادكم صوراً شوهاء. أنتم تريدون السلامة، وانتم تريدون الملك. أنتم تضيعون البلاد لما تجبنون، وأنتم تضيعون البلاد لما تطمعون..).


    وقد مضى هذا المنشور في محاولة استنهاض القوى السياسية للمواجهة، فورد فيه:- (يا هؤلاء وهؤلاء: كونوا ليوثاً غضاباً، أو فكونوا قردة خاسئين؛ وارحموا شباب هذا الوادي المسكين، فقد أوسعتموه غثاثة وحقارة وهوانا.. الخ.).

    وقد كانت المادة الأساسية للجمهوريين في منشوراتهم وخطبهم هي قضية الاستقلال. وقد ركز الحزب الجمهوري في محاولة لف الشعب حول قضية الاستقلال على قضايا المستضعفين: الجنوب، والمرأة. ركز الحزب على الجنوب وإهماله وعزله، وانتقد المجلس الاستشاري لشمال السودان لمسائل منها استبعاد الجنوب منه، كما استغل قانون الخفاض الذي صدر في ديسمبر 1945. وحين ضاق الاستعمار بنشاط الجمهوريين، طلب من الأستاذ محمود محمد طه في يونيو 1946 توقيع تعهد بعدم الاشتغال السياسة أو توزيع منشورات. ولكن الأستاذ رفض، فصدر بحقه حكم بالسجن لمدة عام. بيد أن التهاب الشعور الوطني أجبر الإنجليز على الإفراج عنه بعد خمسين يوماً من سجنه.

    وكمثال لمواجهة الجمهوريين للاستعمار يومئذ، أورد خبرين من الرأي العام، أولهما في يوليو 1946: (ألقى الأستاذ أمين محمد صديق سكرتير الحزب الجمهوري خطاباً عاماً أمس الأول عن الجنوب في الخرطوم بحري في جمهور كبير أمام السينما الوطنية، وأعاد إلقاءه مرة أخرى في نفس الليلة في مكان آخر في الخرطوم بحري، وقد استدعاه البوليس هذا الصباح وحقق معه فاعترف بكل ما حصل وزاد بأن هذا جزء من خطط كبيرة ينفذها الحزب الجمهوري). والخبر الثاني من الرأي العام في27/9/1946:- (اعتقل بوليس الخرطوم بحري مساء أمس ذا النون جبارة وعبد المنعم عبد الماجد، عندما ألقيا خطابين أمام السينما الوطنية بالخرطوم بحري، نددا فيها بالمجلس الاستشاري وقانون الخفاض وكبت حرية الرأي والخطابة).

    قانون محاربة الخفاض :
    في ديسمبر 1945 سن الإنجليز قانون محاربة الخفاض. والقانون يعاقب بالسجن كل أم أو شخص يخفض بنتاً، وكذلك كل من أجرى خفاضاً، كما يلزم القانون الناس بالإبلاغ عن أي حالة خفاض نمت إلى علمهم. وقد انتقد الجمهوريون القانون بعد صدوره مباشرة.

    ومن المهم أن اذكر هنا أن الجمهوريين قد نبهوا منذ أول بيان لهم ضد قانون محاربة الخفاض، في ديسمبر 1945، إلى أنهم لا يدافعون عن عادة الخفاض، وإنما يعارضون المرامي السياسية من وراء القانون، كما يعارضون طريقة محاربة عادة الخفاض بالقانون. فقد جاء في البيان الأول ضد القانون ما يلي:- (لا نريد بكتابنا هذا أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني، ولا نريد أن نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان، والضرورة التي أبقته بين ظهرانيهم إلى يومنا هذا. ولكننا نريد أن نتعرض لمعاملات خاصة، وأساليب خاصة، وسنن خاصة، سنتها حكومة السودان، أو قل ابتدعتها ابتداعاً، وأرادتنا أن ننزل على حكم ابتداعها إرغاما).. (ومن الآيات الدالة على سوء القصد، في هذه الأساليب، إثارة مسألة الخفاض الفرعوني في هذا الظرف، وأساليب الدعاية التي طرقتها له، والطرق التي ارتأتها مناسبة لإبطاله، والقضاء عليه، ولقد جاءت هذه الآيات دليلاً واضحاً على التضليل المقرون بسبق الإصرار). ومضى البيان ليقول:- (قل لي بربك!! أي رجل يرضى بأن يشتهر بالتجسس على عرض جاره؟؟ وأي كريم يرضى أن يكون سبباً في إرسال بنات جاره أو صديقه أو عشيره للطبيب للكشف عليهن؟؟ عجباً لكم يا واضعي القانون- أمن العدل والقانون أن تستذلونا باسم القانون؟؟ أومن الرأفة بالفتاة أن تلقوا بكاسيها في أعماق السجون). وقد مضى الحزب الجمهوري في بياناته وخطبه ليقول أن الاستعمار لم يقدم للمرأة السودانية أي خدمات تجيز له إدعاء الحرص عليها على نحو ما يفعل قانون محاربة الخفاض. وفيما بعد، حين جاء الاستعمار لمحاكمة الأستاذ محمود محمد طه في ود مدني عن دوره في ثورة رفاعة، رفض الأستاذ أن يدلي بأقواله في التحقيق أو أن يمثله محام إلا على أساس مناقشة قانون الخفاض. ولم تكن القوانين وقتها تجيز ذلك، علماً بأن قوانين السودان قد أتاحت فيما بعد وقف المحاكمات لمنح المتضرر من القانون فرصة للطعن فيه بعدم دستوريته أو نحو ذلك.

    وبالنظر إلى ما اقتطفته أعلاه من البيان الأول للحزب الجمهوري، يتبين أنه لا سبيل لأحد أن يزعم أن الحزب الجمهوري دافع عن عادة الخفاض.. اللهم إلا إذا كان يروق لأحد أن يوزع التهم دون تمحيص، ودون اعتبار للحق.

    لماذا سن الإنجليز القانون ؟
    الظن بأن الإنجليز قد أصدروا قانون محاربة الخفاض لمحاربة هذه العادة، ظن ممعن في الغفلة. وهو ظن يجب أن لا يجوز على أحد. فأهل العالم الثالث يجب أن لا تنطلي عليهم خدع الاستعماريين الذين درجوا في كل مكان على تصوير أنفسهم بأنهم لم يهدفون من الاستعمار ولا من سياساته المختلفة إلا خدمة الشعوب المستعمرة وتطويرها وتوصيلها بأسباب الحداثة. ويكفي أن أيرنست بيفن وزير خارجية بريطانيا قال في خطاب ألقاه أمام مجلس العموم في 26 مارس 1946 أنه: (ليس للحكومة البريطانية من غرض في السودان سوى رفاهية السودانيين الحقيقية. وقد أعلنت الحكومة المصرية هذا المبدأ أيضاً في معاهدة سنة 1936. ولا يمكن تحقيق رفاهية السودانيين إلا إذا احْتُفِظ في السودان بإدارة ثابتة). (المرجع السابق ص 250) والعبارة الأخيرة تعني عملياً أنه لا يمكن تحقيق الرفاهية للسودانيين إلا إذا استمر الاستعمار.

    أدرك الحزب الجمهوري أن الإنجليز قصدوا بالقانون إيجاد مبرر لإطالة أمد الاستعمار، بإيجاد ذريعة تسمح لهم بالتنصل عن التزامهم الناشئ بموجب وثيقة الأطلنطي الموقعة في 14 أغسطس 1941، التي التزمت فيها بريطانيا بمنح الشعوب المستعمرة حق تقرير المصير عند انتهاء الحرب لمصلحة الحلفاء إن دعمت تلك الشعوب مجهود الحلفاء الحربي. ومعلوم أن الشعب السوداني وقوة دفاع السودان قد حاربوا بجانب الحلفاء، فاستحقوا بذلك منحهم حق تقرير المصير عند نهاية الحرب. ولكن بريطانيا كانت تحرص على الاستمرار في حكم السودان ونهب ثرواته، فاهتدت إلى حيلة مفادها تصوير الشعب السوداني في نظر الرأي العام العالمي بأنه شعب همجي يمارس عادة بهذه الهمجية والتخلف. ومن أجل ذلك أثير قانون الخفاض في بريطانيا بتغطية إعلامية واسعة استهدفت الرأي العام الغربي على وجه الخصوص لإقناعه بضرورة استمرار الحكم البريطاني على السودان ليخرج شعبه من دياجير الظلمات. وقد كان هذا الإقناع ضرورياً، لأن أمريكا كانت حريصة على خروج دولتي الاستعمار التقليدي–بريطانيا وفرنسا- من مستعمراتهما.

    الإنجليز قرروا إطالة الاستعمار عشرين سنة حتى 1966 :
    وقد استغل الإنجليز ضعف الحركة السياسية السودانية، فتجرأ هدلستون، الحاكم العام، على أن يعلن في الخرطوم عن نيتهم لإطالة أمد الاستعمار في السودان، وذلك في الخطاب الذي ألقاه في 17 إبريل 1946عند افتتاح الدورة الخامسة للمجلس الاستشاري لشمال السودان. يحدثنا الدكتور فيصل عبد الرحمن أن هدلستون قال في مستهل خطابه (أن بعض أعضاء المجلس طلبوا مناقشة وضع السودان ولكنه قرر أن الوقت لم يحن بعد لإجراء هذه المناقشة). ويمضي الدكتور فيصل ليحدثنا قائلاً: (وعبَّر الحاكم العام عن ثقته بأنه في فترة عشرين عاماً سيحكم السودانيون أنفسهم. ولكنه قال أن هذه المدة تقريبية وأعرب عن أمله في الوصول إلى تاريخ ثابت عندما يبحث المجلس لاحقاً توصيات المؤتمر المرتقب). والمؤتمر المقصود هو الذي أعلن عنه هدلستون في ذات الخطاب، وقال أنه سينعقد في نهاية دورة المجلس، برئاسة السكرتير الإداري، ليدرس الخطوات اللازمة لإشراك السودانيين بشكل أوسع في إدارة بلادهم، وأن توصيات المؤتمر ستعرض على المجلس الاستشاري لمناقشتها. (المرجع السابق 257-25. وقد كان ذلك المؤتمر هو مؤتمر الإدارة، المشهور، الذي عقد في 1947، وهو رغم صلة موضوعه بقضية الاستقلال إلا أنه لم يتناولها على نحو مباشر، وإنما تناول أمر إشراك السودانيين في الإدارة.

    وهكذا، فبدلاً من إتاحة الفرصة للشعب السوداني لتقرير مصيره فوراً بمجرد نهاية الحرب في أغسطس 1945، أراد الإنجليز التنصل من وثيقة الأطلنطي، وسعوا إلى مد أجل الاستعمار عشرين سنة أخرى أو أكثر. وكان قانون محاربة الخفاض هو ذريعتهم لاستمرار الاستعمار. ولما كانت الحركة السياسية لم تقو آنئذ على نضال يتعدى رفع المذكرات، فقد نهض الحزب الجمهوري ليقاوم قانون محاربة الخفاض.

    قد يتضح مما تقدم أن السبب الهام الذي جعل الحزب الجمهوري هو الحزب الوحيد الذي ظهر بمقاومة قانون محاربة الخفاض، هو أنه الحزب الوحيد الذي كان يرفع وسيلة الجهاد كوسيلة لطرد الاستعمار. ولو كان الأمر يتعلق بتقدم المفاهيم النظرية، بمعزل عن الظرف السياسي والوسيلة التي ابتدعها الإنجليز لمحاربة عادة الخفاض، لربما كان هو الحزب الوحيد الذي يعمل على إيقاف عادة الخفاض على نحو علمي ناجع. والحق أنه لا يصح لأحد أن يظن أن الحزب الجمهوري، الذي عرف بمواقفه المتقدمة في القضايا المحلية والإقليمية والدولية، وقف مدافعاً عن عادة الخفاض.

    ثورة رفاعة تحدث تحولاً في أساليب القوى السياسية :
    لا سبيل هنا للحديث عن تفاصيل أحداث ثورة رفاعة التي جرت في النصف الثاني من سبتمبر 1946. ويكفي القول بأن مواطني رفاعة قد استطاعوا بها إخراج المرأة المسجونة عنوة من السجن، وبقوا بدلاً عنها بالسجن حتى فاض بهم، معطين بذلك درساً قيماً في المسئولية. وقد اضطرت الإدارة الاستعمارية أن تطلب منهم مغادرة السجن. كما اضطرت أن تعمل على إنقاذ هيبتها، وعلى تهدئة الخواطر الثائرة، فنقضت جهات قضائية عليا حكم السجن على امرأة رفاعة. بيد أن هوان السلطة الاستعمارية قد بلغ بتلك الثورة حداً جعلها تنقض حكم السجن بينما كانت المرأة في بيتها، حتى أن نقض الحكم لم يكن من الناحية العملية إلا محاولة من الاستعمار لحفظ ماء وجهه. وكانت تلك أول مرة يتجرع فيها الاستعمار الثنائي مرارة الهوان في السودان. وقد دخل كثير من سكان رفاعة السجن، كما لحقت بآخرين منهم عقوبات مختلفة، منها الجلد، وكان نصيب الأستاذ محمود محمد طه السجن سنتين.

    لقد ساقت ثورة رفاعة القوى السياسية إلى إعادة النظر في أسلوب المذكرات والمهادنة، وكذلك أسلوب البقاء في مصر في انتظار المصريين لتحقيق الجلاء عن "وادي النيل" على نحو ما كان يفعل قادة الاتحاديين. ولا أقول أن زعماء الحركة السياسية قد أعادوا النظر في أساليبهم خشية أن يسوق الحزب الجمهوري الشعب في خط الثورة دونهم، وإنما لأنهم قد اتضحت لهم على نحو عملي فعالية المواجهة وضرورتها.

    وللوقوف على تغيير القوى السياسية أساليبها بعد ثورة رفاعة، أشير إلى ما ذكره الدكتور فيصل عبد الرحمن في ص 237 من كتابه من أن حزب الأمة "أوقف التعاون مع حكومة السودان وأعلن الجهاد" في أكتوبر 1946 إثر الأزمة التي فجرها بروتوكول صدقي-بيفن. وقال أن الحزب الجمهوري تعاون عندئذ "مع حزب الأمة وأحزاب استقلالية أخرى في إطار الجبهة الاستقلالية". وقال أن الحزب الجمهوري عبَّر عن ذلك بقوله: "كانت هناك حواجز بيننا وبين حزب الأمة، ولكن عندما أعلن الجهاد ورفض التعاون مع الإنجليز سقطت تلك الحواجز، واشتركنا في الجبهة الاستقلالية".

    أما الأحزاب الاتحادية فقد عدلت عن خطها هي الأخرى، فكونت في يوليو 1948 "جبهة الكفاح الداخلي" التي شرعت في معارضة المجلس التنفيذي والجمعية التشريعية، وسيرت المظاهرات في العاصمة وعطبرة ومدن أخرى. وفي نوفمبر 1948 حكم على قيادات اتحادية عديدة في الخرطوم ومدني وعطبرة لتسيير المظاهرات. وفي ديسمبر 1948 اشترك إسماعيل الأزهري في مظاهرة بأم درمان فحكم عليه بالسجن لمدة شهرين.

    كان ذلك اتجاهاً جديداً في الحركة السياسية. فقد استبدلت المذكرات بالخطابة السياسية والمظاهرات وغيرها من أساليب النضال. عندئذ رأى الحزب الجمهوري أن فراغ الحماس قد امتلأ، فعزم على أن يملأ فراغ الفكر. وقد دخل الحزب مرحلة بيات في الفترة من نهاية 1948 وحتى نهاية 1951 تقريباً، حيث طرح الأستاذ الفكرة الجمهورية على النحو المعروف.

    هذا قول موجز هدفت به إلى وضع ثورة رفاعة في إطارها التاريخي، وإلى تبيين قيمتها التاريخية العظيمة. ومن المؤسف أن المؤرخين السودانيين لم ينتبهوا إلى التحول الذي أحدثته هذه الثورة في أساليب الحركة السياسية السودانية الحديثة، وهو التحول الذي قصر به أجل الاستعمار. بل إن من المؤسف أن المؤرخين السودانيين ثقل عليهم اسم الأستاذ، فلم يقووا على ذكره، بل خضعوا لرغبات السياسيين القاصرة وأطاعوها. ويكفي الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه فخراً، وهو القانوني الذي لا يحتاج إلى تقريظ، أنه كتب في التاريخ بأفضل مما كتب أي مؤرخ سوداني حتى هذه اللحظة. ويكفيه فخراً انه كتب بأمانة تليق به. ويكفيه فخراً أنه لم يذكر الحزب الجمهوري كأحد الأحزاب السودانية فحسب، بل أفرد له فصلاً مستقلاً. وما ذاك إلا لأنه قويَ حين ضعف الناس.

    إن مما يشحن المرء بالأسى أن يعجز بعض المتعلمين البارزين عن فهم ثورة رفاعة وموقف الحزب الجمهوري من قانون محاربة الخفاض. وهم قد كانوا في مأمن من التورط في ظنونهم هذه لو تساءلوا بينهم وبين أنفسهم لماذا بقي الإنجليز بالسودان منذ 1898 وحتى انتهاء الحرب العالمية الثانية دون التعرض لعادة الخفاض. ولكنهم مسكونون بالشكل. هم مسكونون بأن القانون إنجليزي، صاغه أهل الحضارة المعاصرة، ضد عادة شرقية من الزمان الغابر. ومن أجل ذلك يقرر أحدهم في يسر بالغ أن موقف الأستاذ محمود كان (متخلفاً ورجعياً في مواجهة قرار "تحديثي" جريء وسليم). فهل للحداثة صلة بمحاربة العادات المتأصلة بوسيلة القوانين؟ وماذا كان إسهام الإنجليز في إشاعة الوعي كسبيل لمحاربة هذه العادة؟ إن ثورة رفاعة كانت ثورة على المرامي السياسية البريطانية الخفية، المقصودة أولاً وآخراً من وراء قانون الخفاض، كما أنها كانت ثورة على طريقة محاربة عادة الخفاض لأنها طريقة غير ناجعة وضارة وتعرض حياء المرأة السودانية للابتذال، وهي لم تكن دفاعاً عن الخفاض، وقد بين المنشور الأول ضد قانون الخفاض ذلك الأمر. فهل لا يزال يستعصي على عقولنا فهم أمر بهذا الوضوح؟ وهل لا نزال نعتقد أننا ندخل في عداد المثقفين حين نتورط في مثل هذه السطحية المؤسفة؟

    إن الغربيين أنفسهم يعلمون أن العادات لا تحارب بالقوانين، ولكن الأغراض الاستعمارية أذهلتهم عن ذلك يومئذ. وقبل وقت وجيز كتبت البروفيسورة إيلين قرونبوم (Ellen Gruenbaum) كتاباً عن الخفاض يتناوله من منظور أنثروبولوجي، بعد خمس سنوات من البحث الميداني في السودان، قالت فيه أن أكثر الغربيين فشلوا في التعامل مع كثير من عادات المجتمعات الشرقية بما في ذلك عادة الخفاض حين أغفلوا تأثير الأديان والعادات ومعايير الأخلاق التي ساهمت في تكوين المجتمعات الشرقية، فحاولوا التعامل معها بالقوانين دون أدنى اعتبار للعوامل الأنثروبولوجية. إن هذه الكاتبة لأجدر بالحداثة من بعض كتابنا الذين لا يزيدون عن استغلال لفظ الحداثة لتسويق مضامين متخلفة، على نحو ما يفعل أدعياء الدين بالدين، حتى لكأن أدعياء الحداثة هم الوجه الآخر لعملة أدعياء الدين. بل هم كذلك. وهنا يكمن خطرهم.

    الأميون أصحاب البصائر أدركوا ، وبعض المتعلمين عجزوا :
    إن ثورة رفاعة لتشهد بدقة فكر الأستاذ محمود ويقظته وحنكته السياسية. فهو قد فوت بها مؤامرة بريطانيا لإطالة استعمارها السودان. ولولاه ربما قضي على السودان أن يستقل في نهاية الستينات. ولقد أدرك ذلك وقتها رجال بسطاء ذوي بصيرة. ففي منتصف السبعينات زار العمدة عبد الهادي- عمدة منطقة جديد (غرب كوستي)- زار الأستاذ محمود في بيته بمدينة المهدية، وقال له أن أول مرة سمع فيها اسم الأستاذ كان في خريف 1946 حين جاءتهم أنباء ثورة رفاعة. وقال أنه أدرك يومئذ أن تمكُّن الثوار من اقتحام السجن وإخراج المرأة منه يعني أن "جبارة الإنجليز انفكَّت وسلطتهم انتهت". وقد كان الأمر كذلك، بيد أننا نحتاج أحياناً بصيرة الأميين البسطاء.

    أرجو أن يكون في هذا إضافة في التعريف بثورة رفاعة التي تآمر عليها المؤرخون، وجهد بعض الكتاب مؤخراً للانضمام إلى ركبهم.

    طه إسماعيل أبو قرجة
    29 ديسمبر 2002
                  

07-15-2006, 02:48 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    مبايعو السيد الصادق بايعوه على قطعيات الشريعة
    في حين أنه يرفع شعار المواطنة كأساس للحقوق والواجبات
    طه إسماعيل أبو قرجة - 31 ديسمبر 2002
    نقلت لنا الصحف مؤخراً صيغة بيعة مؤتمر الأنصار المنعقد فيما بين 19-21 ديسمبر الجاري للسيد الصادق المهدي، ونصها:- (بايعناك على بيعة الإمام المؤسس الأول وخليفته، وبيعة المؤسس الثاني وخليفتيه. بايعناك على قطعيات الشريعة. بايعناك على نهج الشورى وحقوق الإنسان. بايعناك على الطاعة المبصرة فيما يرضي الله ورسوله. بايعناك على فلاح الدنيا وصلاح الآخرة. نشهد الله على ذلك والله خير الشاهدين).

    هذه خطيئة ارتكبت على رؤوس الأشهاد، وفي وضح النهار. ثم هي بعد ذلك لم تعدم من حملة الأقلام من يهلل لها، ويعين أصحابها على التضليل، يردون بذلك للشعب دينه الذي في أعناقهم إذ علمهم ومكنهم من الأقلام. ويهمني هنا أن أنوه بأمور ثلاثة.

    السيد الصادق والجمع بين السلطتين بين الأمس واليوم :

    أول هذه الأمور هو الربكة التي لن تنفك تلاحق السيد الصادق المهدي أينما حل. يذكر الناس أنه دخل الحياة السياسية منتصف الستينات راغباً في فصل إمامة الأنصار عن رعاية وقيادة حزب الأمة. وهو قد طالب يومئذ عمه، المرحوم الهادي المهدي، بأن يكتفي بالإمامة ويترك له الزعامة السياسية. وحين رفض عمه، نشب بينهما الصراع المحموم الذي انقسم به حزب الأمة انقسامه المشهور. وهاهو السيد الصادق المهدي يعود بعد قرابة أربعين سنة ليحاول الجمع بين إمامة الأنصار وزعامة بقية حزب الأمة. ولن يستعصي على كثير من الناس أن يفهموا أن دافعه في الحالتين إنما هو واحد، وهو تأمين الزعامة لنفسه. فالجمع بين السلطتين الدينية والسياسية كان سيجعلهما في الماضي في يد المرحوم الهادي المهدي، بينما يجعلهما اليوم في يده.

    ومن المهم أيضاً ملاحظة أن السيد الصادق المهدي حين انتهى الآن إلى قبول ما رفضه قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن إنما أقر بأنه يتخبط. كما أنه بتنصيب نفسه إماماً قد دحض مزاعمه الباطلة بأنه تأهل لزعامة حزب الأمة بكسبه وليس لأسباب طائفية. وبطبيعة الحال فإن كثيراً من الناس لا يحتاجون إقراره بالتخبط، كما لا يحتاجون دليلاً إضافياً منه بأنه لا كسب له، ولكن من المهم أن يعان هو نفسه على الانتباه، بوضع مواقفه أمامه، عسى أن يراها، فيقلع عن إضاعة وقته ووقت هذا الشعب.

    أين قطعيات الشريعة من المواطنة ؟

    أما الأمر الثاني الذي أود أن أنوه به، فهو التناقض الصارخ بين نص البيعة ومواقف السيد الصادق. ومن ذلك أن البيعة قد نصت على قطعيات الشريعة، في حين أن السيد الصادق لم يكد يترك منبراً في السنوات الثلاث الأخيرة إلا وأعلن منه قبوله بأن تكون المواطنة هي الأساس في تحديد الحقوق والواجبات في الدولة. فهل لم يسمع المبايعون من الأنصار قوله هذا؟! أم انهم لا يعرفون الشريعة التي يبايعون على قطعياتها؟؟ أم يا ترى أنهم يدركون أنه لم يكن يعني ما يقول بشأن المواطنة؟؟ أم أنهم جميعاً يدهنون؟؟

    ولمصلحة من لا يعرفون الشريعة، أقول أنها لا تساوي بين المواطنين، وإنما هي تميز بينهم على أساس العقيدة، وعلى أساس الجنس، وعلى أسس أخرى. ومن أمثلة التمييز على أساس العقيدة، قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء. بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وهي تمنع أن يتولى غير المسلمين، من يهود ونصارى، أمور المسلمين. وبموجبها لا يصح لغير المسلم أن يكون رئيساً للدولة ولا وزيراً ولا مديراً ولا رئيساً على المسلمين في أي موقع. بل لا يصح أن يتساوى غير المسلم مع المسلم حتى في حق الطريق. فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين قائلاً:- (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه). ومعلوم أن آية الجزية قد نصت على أن يعطي أهل الكتاب الجزية عن يد وهم صاغرون. ومعلوم أيضاً أن عمر بن الخطاب لم يقبل من أبي موسى أن يوظف كاتباً نصرانياً لديه في العراق. كما هو معلوم أن عمر فرض على نصارى الشام الشروط المعروفة في تاريخ المسلمين باسم "العهدة العمرية" التي أوجبت عليهم، فيما أوجبت، جز مقاديم رؤوسهم. هذه أحكام لا تغيب على من يدعي أدنى معرفة بالشريعة وقطعياتها، فهل يا ترى يجهلها آلاف الأنصار الذين شكلوا هذا المؤتمر؟ وإن جهلوها فما قيمتهم في موازين الحق؟

    ومعلوم أن حكومة الإنقاذ قد وافقت في ماتشاكوس على نسخ هذه الأحكام الشرعية القطعية، وذلك حين ارتضت أن تكون المواطنة هي الأساس في تحديد الحقوق والواجبات، بدلاً عن العقيدة الدينية. وكما سبقت الإشارة، فإن السيد الصادق قد أيد ذلك النسخ. بل زعم أنه كان أول من نادى به. فهل يا ترى قرر التراجع عن ذلك بعد أن بات إماماً، مثلما قرر التراجع عن موقفه القديم الرافض للجمع بين الزعامة الدينية والسياسية؟؟

    أما تمييز الشريعة على أساس الجنس (بين الرجال والنساء) فمعلوم، وآياته عديدة، أهمها آية القوامة: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم..). هذه هي قطعيات الشريعة. لكن حين تكون المواطنة هي الأساس، فإن الباب سينفتح على مصراعيه للمساواة بين الرجال والنساء أمام القانون مثلما هو قد انفتح للمساواة بين المسلمين وغير المسلمين. فأين يقف السيد الصادق؟ مع قطعيات الشريعة أم مع المواطنة؟

    يبدو أن السيد الصادق لا يهتم بمواقف الحق، وإنما هو يهتم بكسب أكبر قطاعات ممكنة، لتتيسر له أسباب الزعامة. فهو من ناحية يريد أن يرضي عامة الأنصار بالحديث عن قطعيات الشريعة والشورى ومجلس الحل والعقد.. كما هو من ناحية أخرى يحتاج أن يرضي قوى أجنبية ومحلية مستنيرة لكي يتسنى له الحلم بالعودة إلى موقع السلطة مرة ثالثة، فحدث هذه القوى عن المواطنة وحقوق الإنسان والديموقراطية وحكم الجماهير. وهو بأطماعه هذه قد وضع هؤلاء الأنصار المؤتمرين وضعاً حرجاً، وشط بهم عن مواطن الحق. فنفس المؤتمر الذي بايع على قطعيات الشريعة قد اختار 16 امرأة لمجلس الشورى، كما اختار 4 نساء في مجلس الحل والعقد، ليكنَّ بذلك قوامات على الرجال. هل رأيتم هذا المسخ؟!

    من شك في مهديتي فقد كفر !!

    ومن وجوه التناقض بين نص البيعة ومواقف السيد الصادق (الذي بات يعرف بصاحب العهد) أن البيعة تضمنت بيعة المؤسس الثاني (السيد عبد الرحمن) وخليفتيه (وهما السيد الصديق والسيد الهادي). هذا في حين أن السيد الصادق قد نقض بيعة السيد الهادي حين انشق عنه في الستينات، حتى هتف غلاة الأنصار في وجهه يومها: (الله أكبر على من بايع وأنكر). ثم ماذا كان نص بيعة السيد عبد الرحمن وخليفتيه؟ بل ماذا كان نص بيعة الإمام المهدي؟ ومعلوم أن الإمام المهدي قال:- (من شك في مهديتي فقد كفر)‍‍‍!! فهل تتضمن بيعة السيد الصادق ذلك؟ أم أنه يبيح الشك؟ وإن لم يكن يبيحه، فما جزاء من يشك؟ هذه أسئلة يحتاج الناس أن يعرفوا إجابتها، ليحقنوا دماءهم، فهل من مجيب؟

    الإعلام والأقلام اليوم عند غير أهلها :

    إن قطعيات الشريعة وحقوق الإنسان لا يجمع بينهما إلا حاطب ليل. وذلك يسوقني إلى الأمر الثالث الذي أود أن أنوه به في هذا المقال. فقد سخَّر بعض حملة الأقلام أنفسهم للتطبيل للسيد الصادق، مثلما طبلوا من قبل لغيره. وهم بذلك لم يزيدوا عن تأكيد القول الثابت، قول الأستاذ محمود محمد طه: (الإعلام والأقلام اليوم عند غير أهلها). الأقلام اليوم مسخرة لتضليل الشعب. وحسب أهلها ما اختاروا لأنفسهم. وحسب السيد الصادق أنه اختار أن يعود من أكسفورد ليستثمر إرثه الطائفي الراسف في أغلال الجهل بحقائق العصر وبقطعيات الشريعة.

    عسى الله أن يجعل قريباً اليوم الذي يشيع فيه الوعي بين الشعب حتى ييأس منه أمثال هؤلاء.

    طه إسماعيل أبو قرجة
    31 ديسمبر 2002
                  

08-08-2006, 03:26 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    just for remamber when we face the delema of old hapit die hard
                  

09-05-2006, 04:50 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    ما اشبه اليوم بالبارحة




    الثورة البنفسجية 2008 هي الحل
                  

11-26-2006, 09:16 AM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38128

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    مع تحيات الحملة الوطنية لاستئصال شلل الافكار
    الجرعة الخامسة(قبل الاخيرة)
                  

11-26-2006, 11:12 AM

khalid abuahmed
<akhalid abuahmed
تاريخ التسجيل: 10-25-2005
مجموع المشاركات: 3123

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: وهكذا تكلم...المرحوم طه ابوقرجة المحامي (Re: adil amin)

    الاخ الاستاذ عادل
    تحياتي وتقديري واحترامي

    أجد نفسي مقدرا جدا وشاكرا لك هذا الصنيع بايراد ما كتبه قلم الفقيد الراحل العزيز طه ابوقرجه الذي فقدته في ذلك العام وقد بدات بيننا علاقة عجيبة من الحب والمودة ذلك الرجل فتح بصيرتي على أشياء كثيرة ومن خلاله تعرفت على حقائق كنت اجهلهاولولا تلك العلاقة التي لم تكتمل نصف عامها الأول لكني أحسب اني اجلس يوميا مع طه ابوقرجة واتبادل معه ذلك الحديث الذي كان يدور بيننا الذي يغلب عليه هموم أهل السودان، ولهذا حديث طويل... ولكن..!!
    غريبة هي الشخصيات التي ارتبطت بمحمود محمد طه... كلهم من الاطهار اصحاب القلوب البيضاء النظيفة ونادرة النظافة والصفاء التي قل ان نجد مثلها في عالمنا اليوم، أنا لست جمهوريا البته، وقبل اعدام محمود محمد طه بعامين كنت اواظب على اركان د. الدالي في جامعة الخرطوم لكن لم اتعرف في حينها على (جمهوري) عن قرب لكن في البحرين تعرفت على الاخ المرحوم طه وكانت لنا جلسات طويلة من النقاش الموضوعي الهادي، وقبل ذلك خال زوجتي الاستاذ سعد القاضي الذي كان أحد الجمهوريين هالة من الضياء الروحي، وكما يقول الاخوة في ايران ويتداولون مصلطح العرفان الذي اشعره به في شخصية القاضي وذلك الصفاء الروحي والأدب الجم ومحبة الناس وحب الخير للآخرين، ثم جاءت فترة وتعرفت في البحرين أيضا على الاخ العزيز بدر الدين السيمت، وذات الصورة للقاضي وابوقرجة، ثم جاءت فترة تعرفت على الاخ ابوبكر القاضي .. وما أدراك ماابوبكر القاضي .. ولذا أجد ان الجمهوريون اذا كانوا جميعهم على هذه السمة والله هم أحق الناس بالاتباع في زمن افتقدنا فيها مكارم الاخلاق وضياع المبادي والمثل الحميدة التي جاء بها الاسلام..
    نعم عندي راي حول الفكرة (الجمهورية) ولكن ما تيقنت منه من خلال هذه الشخصيات التي ذكرتها آنفا يجعلني أفكر كثيرا في أن اتعلم منهم كيف أكون انسانا محبا للخير ولمكارم الاخلاق وللتفاني في خدمة الاخرين، وللسعي وراء فكرة ان اسجل موقفا لـ (نفسي) يجزيني به الله تعالى خيرا كثيرا..ويجنبني به الشرور.
    هذه الايام عموما ايام للتفكر والتدبر في ما هو مطروح على الساحة.

    وأكرر أخي عادل شكري لهذه المبادرة.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de