كدي نخلي الكتاب المهم ده ونمهد بمقالات تشخيصية للاقتصاد الهلامى الذى ساد الفترة من 1989-2005 ...من اللذين افسدو الدين والسياسة معا في السودان
منقول من سودانايل
الرأسماليون الإسلاميون: (1-2) ماذا يفعلون فى الحركة الإسلامية؟ د. التجاني عبد القادر [email protected] (1) أشرت فى مقال سابق إلى إرهاصات تحول إستراتيجى وقع فى مسار الحركة الإسلامية، وذكرت أنه صار يتجسد سياسيا فى تحالف ثلاثى بين "القبيلة" و"السوق" والذهنية الأمنية"، ثم تحدثت فى مقالين تاليين عن هذه الذهنيةالتى هيمنت على التنظيم وحولت سائر نشاطه الى ملفات أمنية، وأريد فى هذا المقال أن أتحول الى السوق، لنرى ظاهرة أخرى تتمثل فى "الذهنية" التجارية وفى العناصر الرأسمالية التى صارت هى الأخرى تنشط وتتمدد حتى كادت أن "تبتلع" الجزء المتبقى من تنظيمنا الإسلامى الذى لم ننضم اليه أصلا الا فرارا من الرأسمالية المتوحشة. ولما كان الشىء بالشىء يذكر، فقد كتب صديقنا عبد المحمود الكرنكى،الصحفى والملحق الإعلامى السابق بلندن، كتب ذات مرة فى أوائل الثمانينات مقالا لصحيفة الأيام تعرض فيه بالنقد لممارسات بعض "أخواننا" العاملين فى بنك فيصل الإسلامى. كانت رئاسة الصحيفة قد أوكلت آنذاك، ابان ما عرف بالمصالحة الوطنية، الى الأستاذ يسين عمر الإمام. وقبل أن ينشر الموضوع وصل بصورة ما الى الدكتور الترابى، فلم يعجبه وطلب من الكرنكى أن يعرض عن نشره، على أن يبلغ فحواه الى "أخوانه" فى البنك على سبيل النصيحة. قال له الكرنكى: لن أنشر الموضوع احتراما لرأيك، ولكنى لن أتقدم بأية نصيحة لأحد. ولما سأله الترابى عن سبب ذلك، قال له: هب أنى تقدمت اليهم بنصيحة، ثم تقدم اليهم "الأخ" الطيب النص بنصيحة أخرى، فبأى النصيحتين يأخذون؟ وكان الطيب النص آنذاك من التجار/المستثمرين الكبار الذين يحبهم مديرو البنوك، ويطيلون معهم الجلوس، ويولونهم إهتماما لا يولون معشاره لأقوال الصحف والصحفيين، خاصة الفقراء منهم. وقد أحس الكرنكى بذلك وأدرك أولا أن بعض "أخواننا" قد داخلهم "شىء ما" أفقدهم القدرة على تذوق النصيحة "الناعمة" والموعظة الحسنة، كما أدرك ثانيا أن العلاقة بين التنظيم والسوق، والتى يمثل(اكس) "همزة الوصل" فيها، قد بلغت من القوة مبلغا لا تجدى معه المواعظ الأخوية والنقد السرى. والسيد (اكس) ليس هو التاجر المجرد، وانما هو تاجر"إسلامى"، وهو حينما يذهب الى موظفى البنك "الاسلامى"، أو الى العاملين فى مرافق الدولة لا يذهب كما يذهب عامة التجار وانما يذهب ومعه هالة التنظيم، ليتوصل الى مصالحه الخاصة، وهذا هو مربط الفرس وبيت القصيد، أى أن "المصالح الخاصة" التى تتخذ لها غطاء من "التنظيم" هى محل الإشكال وموضع النظر فى هذا المقال. والسؤال هنا: كيف بدأت العلاقة بين التنظيم والسوق؟ وفى أى اتجاه تطورت، والى أى شىء يتوقع لها أن تقودنا؟ أظن أن بداية هذه العلاقة تعود الى فكرتين بسيطتين احداهما صحيحة والأخرى خاطئة. أما الفكرة الأولى الصحيحة فهى أن اصلاح المجتمع السودانى أو اعادة بنائه على قواعد الاسلام وهديه(وذلك هو الهدف الأساسى للتنظيم) يستلزم تجديدا فى الفكر الاسلامى ذاته، تتمخض من خلاله رؤية تحريرية-تنموية، يتوسل بها لانتزاع الإنسان السودانى من براثن الجهل والمرض والفاقة، وذلك من خلال بناء نماذج فى التنظيم والقيادة، ونماذج فى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية تكون كل واحدة منها "بؤرة إشعاع" يلتقى فيه الهدى الدينى، والعرف الإجتماعى، والخبرة التقنية،والقيادة الرشيدة. ولكن العمليات البنائية هذه لا تكتمل إلا بتنظيم دقيق ومال وفير، فهما وسيلتان أساسيتان من وسائل التحرر والنهضة الإجتماعية الإسلامية، ولكن لا ينبغى للوسيلة "التنظيم" أن تتحول الى هدف، كما لا ينبغى أن تكون للعاملين على تحقيق هذه الوسائل "أجندة خاصة"، كأن يتحولوا هم الى أغنياء ثم يتركوا التنظيم والمجتمع فى قارعة الطريق. أما الفكرة الثانية الخاطئة فهى أن "التنظيم" لا يكون قويا الا اذا صار غنيا، ولن يكون التنظيم غنيا فى ذاته وانما يكون كذلك اذا استطاع أن يأخذ بعض المنتسبين اليه "فيصنع" منهم أغنياء، بأن يضعهم على قمة المؤسسات الإقتصادية:مديرون لبنوك، ورؤساء لمجالس الإدارات والشركات، ومستشارون قانونيون، وفقهاء شرعيون ملحقون بالبنوك، فيصير هؤلاء أغنياء ليس عن طريق الرواتب الكبيرة والمخصصات السخية فحسب وانما عن طريق السلفيات طويلة الأجل، والقروض الميسرة، والمعلومات الكاشفة لأوضاع السوق ولفرص الإستثمار. هذه الرؤية الخاطئة لم أستطع أن أتحقق من مصدرها بعد، ولكنى أذكرها لأنها صارت رؤية سائدة وذات جاذبية كبرى، وكان من نتائجها أن تولد لدينا "مكتب التجار"، ليكون بمثابة الأصابع التنظيمية فى السوق، ثم تحولت "إشتراكاتنا" الصغيرة الى شركات(كيف؟ لا أدرى)، ثم صارت كل شركة صغيرة تكبر حتى تلد شركة أخرى، ولما لوحظ أن عددا كبيرا من العضوية الإسلامية ميسورة الحال يوجد فى السعودية وفى دول الخليج الأخرى، أنشأ "مكتب المغتربين"، ليقوم بجمع الاشتراكات، ثم تحولت وظيفته بصورة متدرجة الى ما يشبه الوساطة التجارية والوكالة والإستثمار. ولما لوحظ تكرر المجاعات والكوارث فى السودان، أنشئت أعداد من المنظمات الخيرية التى تهتم بالعون الإنسانى، ولكنها تركت لأصحاب العقلية الرأسمالية التوسعية، فصار القائمون عليها فى كثير من الأحيان ينحدرون من الشريحة التجارية ذاتها؛ الشريحة التى تتخندق فى البنوك والشركات والمكاتب التجارية. ثم جاءت ثورة الإنقاذ، فكانت تلك هى اللحظة التأريخية التى وقع فيها التلاحم الكامل بين الشريحة التجارية المشار اليها، والمؤسسات الإقتصادية فى الدولة، فمن كان مديرا لبنك البركة صار وزيرا للمالية والإقتصاد، ومن كان مديرا لبنك فيصل صار محافظا لبنك السودان المركزى، ومن كان مديرا لشركة التأمين الإسلامى صار وزيرا للطاقة، فاذا لم يصب فيها نجاحا خلفه عليها مدير بنك التضامن أو بنك الشمال الإسلاميين، الى غير ذلك من وزراء الدولة ووكلاء الوزارات. وكل من هؤلاء لم يعرف لأحدهم أسهام أصيل فى الدراسات الإقتصادية، أو رؤية عميقة للتنمية الإسلامية، ولكن كل هؤلاء يعرف بعضهم بعضا معرفة شخصية، وكانت لهم ذكريات مشتركة فى المدارس، أو فى العمل التنظيمى، فصاروا يديرون الإقتصاد السودانى كأنما هو شركاتهم الخاصة، وتحولوا تدريجيا الى نخبة حاكمة مغلقة، فاذا خرج أحدهم من وزارة أعيد الى وزارة أخرى أو أعيد الى "مملكته" السابقة، أو أوجدت له شركة خاصة للاستشارات أو المقاولات أو الإنشاءات، وذلك ريثما يخلو أحد المقاعد الوزارية، فى تطابق تام مع نظرية "تدوير النخبة الحاكمة" التى قال بها عالم الاجتماع الأمريكى رايت ميلز وآخرون. وبهذه الطريقة تم تمرير وتسويق المفاهيم الرأسمالية وتوطينها فى برامج الدولة والتنظيم، وبهذه الطريقة سدت المنافذ لأية محاولة جادة لبلورة مذهب اسلامى أصيل فى التنمية الإقتصادية،وبهذه الطريقة تحول التنظيم الى ما يشبه "حصان طروادة" يشير مظهره الخارجى الى صرامة المجاهدين وتقشف الدعاة، أما من الداخل فقد تحول الى سوق كبير تبرم فيه الصفقات، وتقسم فيه الغنائم، دون ذكر لتجديد الفكر الإسلامى أو لنموذج التنمية الإسلامية الموعودة، وبهذه "الطريقة" صار أفراد هذه الشريحة أغنياء بينما ترك "التنظيم" ليزداد فقرا وتمزقا،بل إن عامة العضوية ظلوا فقراء مثل عامة الشعب برغم الشركات الكثيرة التى تم توزيعها بين المؤتمرين الوطنى والشعبى؛ الشركات التى أسست باسم الإسلام ومن أجل نصرة الفقراء والمستضعفين. (2) وما الغضاضة فى ذلك، يقولون، ألم يعمل النبى عليه السلام فى التجارة، وكان بعض الكبار من أصحابه تجارا، وأن التجار قد نشروا الإسلام فى بقاع العالم، وبفضل من أموالهم ترسخت دعائم الحضارة الإسلامية قرونا؟ ألم يساهم هؤلاء الرأسماليون الإسلاميون فى انجاح مشروع الانقاذ الوطنى، وفى تثبيت الحكومة فى أيامها الصعبة الأولى حينما قبض الناس أيديهم؟ أليست التجارة هى أحد ركائز التنمية؟ والإجابة على كل هذا: اللهم نعم، ولو شئنا الإستطراد فى اتجاه المبادىء والمثال لقلنا أكثر من هذا، على أن الاعتراض ليس على مبدأ التجارة ولا على صيرورة بعض الناس أغنياء(إذ نعم المال الصالح للعبد الصالح)، ولكن الإعتراض يتركز حول "الكيفية" التى صاروا بها أغنياء، أى ان الاعتراض ليس على "الثروة" فى ذاتها، ولكنه على استغلال "للعلاقات والمعلومات" التنظيمية (رأس المال الإجتماعى)) وتحوير اتجاهها وتسخيرها لتأسيس الشركات الخاصة ولتعظيم أرباحها، ولتأمين الحياة لأبناء النخب الحاكمة، ولأصهارهم وأبناء عمومتهم وأعيان قبائلهم،هذا هو المال غير الصالح الذى يتحكم فيه غير الصالحين، كما يفهم من الحديث النبوى بمفهوم المخالفة. الإعتراض إذن ليس على وجود شريحة من الأغنياء فى داخل الحركة الإسلامية، إذ لو تكونت تلك الثروة بطريقة مستقلة عن "التنظيم"(كما هو حال بعض الإسلاميين) لما حق لأحد أن يتساءل، وذلك على مثل ما يحدث فى المجتمعات التى شهدت ظاهرة الإقطاع، حيث لا يوجد معنى للسؤال عن "كيف" صار بعض الناس أغنياء، لأن المجتمع تكون "تأريخيا" من "الفرسان النبلاء" الذين اغتصبوا الأراضى عنوة بحد السيف، وظلوا يتوارثونها جيلا بعد جيل تحت حماية القانون ومباركة العرش، فأكسبتهم تلك الملكية قاعدة اقتصادية راسخة، ووجاهة اجتماعية ونفوذا سياسيا لا يضارعهم فيها أحد. أما فى حالة المجتمع السودانى، وفى حالة الحركة الإسلامية السودانية بصورة خاصة فلم تكن توجد طبقة من النبلاء الأرستقراطيين ملاك الأراضى(أو الباشوات)، اذ أن الغالبية العظمى من الشعب لم تكن تملك شيئا، كما أن الغالبية العظمى من عضوية الحركة الإسلامية جاءت اما من أدنى الطبقة الوسطى، من شريحة الموظفين محدودى الدخل، واما من الشرائح الاجتماعية الفقيرة القادمة من قاع المجتمع ومن هوامشه الاقتصادية. يتذكر كاتب هذا المقال أنه فى أواسط السبعينيات من القرن الماضى كان تنظيمنا يعمل من تحت الأرض، وأردنا أن نجد "أماكن آمنة" فى مدينة الخرطوم نخفى فيها أعضاء اللجنة التنفيذية لإتحاد طلاب جامعة الخرطوم من أجهزة الأمن التى كانت تطاردهم، فكان عدد الذين يملكون منازلا خاصة بهم (تتسع لاستضافة ثلاثة أشخاص أو أكثر) يعدون على أصابع اليد. وأذكر أن أحد أخواننا الذى امتاز بالسخرية والدعابة كان لا يخفى تذمره من البقاء فى المنزل العائلى المتواضع الذى استضيف فيه، فاذا سألناه قال: كيف أبقى هنا وكلما أردت الحمام هرعت الى الشارع لأبحث عن سيارة للأجرة. أما الآن فقد صار كثير من هؤلاء يمتلكون البنايات الطويلة، التى تقدر أثمانها بما لا نستطيع له عدا، وتدخل منزل أحدهم فترى ما لم تكن تسمع به حتى فى بيوت الباشوات، وتسأل أحدهم من أين لك هذا فيقول من "استثماراتى"، ماطا شفتيه بالثاء، ولا يذكر أنه الى عهد قريب كان يسكن بيتا من الجالوص الأخضر. فالسؤال إذن عن "الكيفية" التى تحولت بها هذه "البروليتاريا الإسلامية" إلى ما يشبه حالة البرجوازية سؤال مشروع، اذ أن كثيرا منا لم يأتِ الى الحركة الاسلامية، ويفنى زهرة شبابه فى خدمتها من أجل الحصول على الثروة ولكن من أجل العدل الإجتماعى، اذ أن قضية العدل الاجتماعي هي القضية الأم التي لم ينفصل الإسلاميون عن أحزابهم التقليدية وطرقهم الصوفية، ومجموعاتهم العرقية، الا من أجلها،كما لم يتصلوا بالحركة الإسلامية الا من أجلها.ولكن ما تقدم من سرد يشير الى أن قضية العدل الإجتماعى لم تعد هي القضية الأم في النموذج الراهن، وذلك لأن الفئات الثلاث التى يقوم عليها النموذج: الشريحة الرأسمالية المتحالفة مع القوى الأمنية والبيروقراطية فى داخل الدولة، ومع القوى القبلية فى خارجها، لم يعد لواحدة منها هم والتزام بقضية العدل الاجتماعي، فبيروقراطية الدولة لا يمكن أن تسعى في تحقيق العدل الاجتماعي لأنها لم تنشأ "تأريخيا" من داخل المجتمع، كما أنها لم تستطع فى عهد الإنقاذ أن تتحول الى نخبة "رسالية" مهمومة بقيم الدين، فلا هي إذن تعبر تعبيراً صادقا عن رغبات ومصالح "الناس" ، ولا هى تجسد قيم الكتاب، فهي مجروجة لانقطاعها عن الكتاب من جهة، ولابتعادها عن الناس من جهة ثانية، ولانحباسها في مصالحها وامتيازاتها ولانصياعها للشريحة الرأسمالية من ناحية ثالثة. وهذا على وجه الدقة هو ما يجعل أجهزة الدولة ومؤسساتها الإقتصادية أدوات طيعة تسخر لتحقيق مصالح المستثمرين والتجار (المحليين والعالميين) دون مراعاة جادة لمصالح الفئات الأخرى في المجتمع. وهو ما يؤكد القول بإن هناك تحالفاً مصلحياً بين بيروقراطية الدولة والشرائح الرأسمالية المتحكمة. وهو ما يوضح بصورة مباشرة لماذا صار بعض الثقات من الإسلاميين يوضعون مواضع الظنون والشبهات حينما يوضعون في المواقع العليا في بيروقراطية الدولة، ليس لأن هذه المواقع مسكونة بالشياطين، ولكن لأنها موصولة بمجموعات قرائبية/قبلية متضامنة، وبشبكات تجارية مترابطة ذات قدرة على الحركة والالتفاف تجعل الموظف أو الوالى أو الوزير يدافع عن سياساتها ومصالحها أكثر من دفاعه عن النموذج الإسلامى وعن المستضعفين من الناس. فالحديث إذن عن الشريحة الرأسمالية هذه لا يأتى من قبل الحسد أو الغبن، كما قد يتوهم بعض الناس، وانما يأتى الحديث عنها لأنها صارت تشكل مسار الحركة الإسلامية، وتحدد اختياراتها، واذا لم تتدارك الحركة الاسلامية أمرها بصورة جادة فانها سرعان ما تجد نفسها منقادة بقوى السوق، وسيكون أرقى مكاتبها هو مكتب التجار، وستكون أنشط عناصرها هم المقاولون ورجال و(سيدات) الأعمال، الذين يكون انشغالهم بالأرصدة والصفقات أكثر من انشغالهم بالكتاب وبالناس وبالقسط الاجتماعي، وسيصعب عليهم الاستماع الى النصائح الناعمة من أى أحد حتى ولو قرأ عليهم كل ما كتب فى أبواب الزهد والقناعة. أما القضايا الإستراتيجية الكبرى، مثل قضايا الحرب والسلام، والعلاقات الإقليمية، والسياسيات الخارجية، فستتحول في غيبة الجماعات العلمية القادرة، والمجالس التشريعية الحاذقة إلى ملفات أمنية أو إلى صفقات تجارية، وفي كلتا الحالتين فستتولاها مجموعات "أمسك لي واقطع ليك"، وهى مجموعات "براغماتية" نبتت فى داخل الحركة الاسلامية، يطيل أحدهم اللحية، ويتسربل بالملفحة الفخمة، ثم يخوض فى أسواق السياسة والإقتصاد على غير هدى أو كتاب منير.أما قضايانا الأساسية مثل تجديد الفكر الاسلامى، وبناء المناهج والنماذج، وبلورة الرؤى، وتأهيل الكوادر، ونشر الوعى، واحداث التنمية فستترك لشعراء المدائح النبوية، وللوعاظ المتجولين، ولوزارة الأوقاف والشؤون الدينية إن وجدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول الغزالى: اعلم أن الله عز وجل اذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فاذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم، يرى أحدهم القذى فى عين أخيه ولا يرى الجذع فى عين نفسه...وكان عمر رضى الله عنه يقول:رحم الله امرءً أهدى إلى عيوبى، وكان داود الطائى قد اعتزل الناس فقيل له:لم لا تخالط الناس؟ فقال: وماذا بأقوام يخفون عنى عيوبى؟ ثم يقول الغزالى: وقد آل الأمر فى أمثالنا الى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا(الإحياء:كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب).
04-25-2007, 09:56 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38103
(1) أين نحن الآن؟ يتساءل رجال الأعمال والإداريون أحيانا: أليست هناك حالات يكون من الأفضل فيها "اغلاق" المصنع المتهالك بدلا من محاولة اصلاحه؟ أليست "البداية الصحيحة" أسهل وأفضل من محاولة اصلاح ما هو قائم على اعوجاج؟ سؤالان يجوزان فى مجال المؤسسات التجارية والصناعية، كما يجوزان فى مجال التنظيمات السياسية والاجتماعية.فالمجموعات السياسية التى "تنشق" من أحزابها التاريخية لتكون لها أحزابا جديدة هى مثال للنفسية الثائرة ذات النزعة الراديكالية التى ترى أن "إغلاق المصنع المتهالك" والبداية من درجة الصفر خير من الترقيع والترميم. وهذا سعى قد ينجح فى بعض الحالات، إلا أننا نشك فى امكانية تكرر نجاحه، كما نشك فى وجود حالة "صفرية" فى الحياة الاجتماعية والسياسية، اذا يتعذر لمن ترعرع فى كنف "المصنع القديم"، وتعود على نظمه، وتشرب ثقافته، أن يخرج منه "سالما" كما تخرج الشعرة من العجين ليؤسس مصنعا جديدا مغايرا. قد يستطيع بالطبع أن يغير اسم المصنع، وأن يطيح ببعض القائمين على ادارة التسويق والمشتريات، وأن يستجلب ادارة جديدة للعلاقات العامة، ولكن "الرؤية" الأساسية لملكية المصنع، وللإدارة ذاتها، وللعاملين والمستهلكين، ستظل كما كانت. مما يعنى أن اشكالات المؤسسات والتنظيمات ليست اشكالات هيكلية خالصة، تنحل لمجرد إسقاط القديم أو الخروج منه وإنشاء شىء جديد بدلا منه، اذ أن "المرض القديم" سينتقل أيضا وسيقود الى النتيجة ذاتها. فإنشاء مؤسسات جديدة، أو تنظيمات بديلة لن يكون ذا جدوى ما لم تسبقه عمليات نقدية صادقة للممارسات السابقة، تحدد العوامل "الذاتية" التى تنبثق منها الرؤى، وتتعزز بها أنماط السلوك، كما تحدد العوامل الموضوعية، الداخلية والخارجية، التى أدت و تؤدى الى الإنهيار والفشل. والعملية النقدية، مثلها مثل العمليات الجراحية، قد تكون مؤلمة وباهظة التكلفة لمن يجريها ولمن تجرى عليه، ولكنها قد تبين فى المحصلة النهائية أن المرض/الخلل يمكن استئصاله أو السيطرة عليه، وأن المصنع يستطيع أن يؤدى وظائفه الأساسية بعد إزالة الأورام وإجراء الترميمات اللازمة، أو قد تبين أن المصنع قد فقد بالفعل كل مقومات البقاء والمنافسة، وأن تكلفة المعالجات والتجهيزات والتعويضات تتجاوز تكلفة المصنع الجديد. فى مثل هذه الحالة يكون الخروج واجبا، ليس فقط من هيكل المصنع وفضائه، ولكن من أساليبه ونظمه وثقافته ورؤيته التى قادت الى الخسران المبين. فاذا تغيرت الرؤية، واذا توفرت معها قدرة على التعلم، ورغبة فى تغيير السلوك، فان دورة جديدة من دورات الانتاج والعطاء ستبدأ، سواء تم التحول الى مصنع/منظمة جديدة، أو لم يتم. وهذا قريب مما ما حاولنا أن نقول فى المقالات السابقة؛ حاولنا أن نقول أن المشكلة (بل الأزمة)) التى واجهت الاسلاميين فى السودان لم تبرح مكانها بعد، وأن "المفاصلة" التى وقعت بينهما مفاصلة فى الشكل والاطار وليست فى الرؤى والممارسة؛ اذ أن من خرج خرج وهو يتمسك بماضيه ويدافع عنه، متجنبا نقد نفسه ومعرفة أخطائه، فلم يتعلم شيئا؛أما من بقى فقد طفق يواصل المشوار كأن شيئا لم يكن، يدافع عن "انجازاته"، ويوارى أخطاءه، ويرفض أن يتعلم. ولذلك فقد أطلنا الحديث (فى مقالاتنا السابقة) عن البدايات التاريخية للازمة، وعن بعض التصورات والممارسات الخاطئة فى المجالات الأمنية والاقتصادية والسياسية، فانتهينا للقول إن هناك حاجة قوية للتغيير، ليس فقط فى الهياكل كما قد فهم البعض ولكن فى الرؤى والسلوك. ولكن تغيير الرؤى والسلوك، أو تركيب رؤية جديدة، تتبعه وتثور حوله أسئلة كثيرة مثل: من نحن؟ وأين نحن الآن؟ وما هى صورة المجتمع الذى نريد؟ وكيف نصل الى هناك؟ أما "من نحن" فقد تقدمت باجابة عليه فى مقال سابق نشر فى هذه الصحيفة(17/7/2005)، فلنتحول الى السؤال الثانى: أين نحن الآن؟ وهذا سؤال مهم لأن من لا يعرف أين هو الآن لا يستطيع أن يعرف الى أين يسير. (2) "أين نحن الآن" ليس سؤال عن المكان فقط، وانما هو سؤال عن المكان والزمان؛ أى ما هي طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة، على مستوى مجتمعنا المحلى، وعلى مستوى محيطنا الإفريقي والعربي، وعلى المستوى العالمي ؟ إن محيطنا الأفريقي العربي كان لعهد قريب هو محيط التحرر من الاستعمار والتحول إلى البناء والتنمية. وكانت مفردات الحرية والوحدة والتنمية هي المفردات المهيمنة في خطابنا السياسي. وكنا في كل قطر نرى المثقفين في حركات التحرر يقودون مشاريع ضخمة للنهضة. ولكن مشاريع النهضة تلك بلغت مداها بعد عقد واحد من استيلاء أولئك القادة على الدولة القطرية، حيث استفرغت كل الطاقات الوطنية في الصراع، ليس الصراع حول البناء والتنمية ولكن الصراع حول (جهاز الدولة) الذي تم الاستيلاء عليه عنوة أو وراثة من قوى الاستعمار الغربي. وما من حركة تحرر أفريقية أو عربية معاصرة، من جزائر بن بيلا وغانا نكروما وكينيا جومو كنياتا إلى مصر عبد الناصر وسوريا الأسد وعراق صدام، إلا انتهت إلى النظام الاوتوقراطي الاقصائي الذي يمهد الطريق إلى الحرب الأهلية أو التخلف الاقتصادي أو إليهما معاً، عائدة بنا إلى التدخل الغربي في صورة من صوره. وقد بلغ الأمر من السوء مبلغاً جعل بعض المتشائمين يدعون صراحة إلى عودة الاستعمار وجعل بعضهم يتمنون عودة النظم الملكية السابقة لعهد الثورات الإفريقية والعربية. فيمكن أن يقال إذن أن أهم ملامح المرحلة التاريخية الراهنة على مستوى محيطنا الإفريقي والعربي: 1- تفسخ النظم الرسمية على مستوى الدولة والحزب، وعجزها التام عن التعبير عن إرادة الجمهور أو تفجير طاقته، مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع بصورة مفزعة. 2- انهيار مفهوم الأمن العربي المشترك وبروز مفهوم الأمن العالمى(أى الأمريكى) حيث تكون النظم الأمنية العربية ملحقيات تابعة بصورة كبيرة للاجهزة الإستخباراتية الغربية. 3- انهيار القواعد الإنتاجية في الريف الإفريقي والعربي وتحول المزارعين والرعاة إلى كم بشرى فائض عن حاجة المجتمع، يحيط بالمدن البرجوازية إحاطة السوار بالمعصم، مما ينذر بثورة اجتماعية وشيكة. 4- بروز تنظيمات ما قبل الحداثة (قبائلَ وعشائرَ) إلى مراكز القيادة في المجتمع، مع ما يحمله ذلك من رؤى عرقية ضيقة تشكل خمائر للحروب الأهلية المدمرة. أما على الصعيد الإسلامي فقد كانت الآمال معقودة، بعد خيبة الثوار القوميين واليساريين، على حركة البعث الإسلامي، حيث تتوفر أطر قيادية جديدة منعتقة من العصبيات العرقية والقطرية، تجمع بين الالتزام الديني المستنير والتقنية الغربية الحديثة، وتتعلم من التجارب الفاشلة التي لا تحصى، لتدفع بالمجتمع الإسلامي خطوة في اتجاه النهضة، وتقدم نموذجاً يقتدي به الآخرون. ولكننا بدلاً من ذلك صرنا نرى بعضاً من هذه الحركات الإسلامية قد حوّل جهاده المشروع ضد الظلم والعدوان إلى حروب داخلية يقتل فيها الأخ أخاه، ويدمر فيها كل فريق ما بناه الآخر، في سلسلة من المذابحات البشعة التي لا يقرها شرع ولا عقل(كما نرى فى الحالة الجزائرية والأفغانية والعراقية)، أما بعضها الآخر فقد تورط في لعبة الانقلابات والانقلابات المضادة (كما هو عندنا فى السودان)، وصار الاستيلاء على السلطة هدفاً قائماً بذاته يضحى من أجله بالقيم ويسفك في سبيله الدم. ثم انخرط صنف ثالث من هذه الحركات في مناوشات طائشة ضد القوى الدولية الكبرى، مناوشات لم يحسن فيها تقدير لمصلحة أو تخطيط لمستقبل أو قراءة لأخلاق الإسلام في القتال. فترتب على ذلك أن جرّ المسلمون في كل مكان إلى معارك لا يعرفون غاياتها، واستثيرت ضدهم قوى الاستكبار العالمي في الشرق والغرب معاً وصار الكل، تحت شعار محاربة الإرهاب، يجلب على المسلمين بآلياته ومؤسساته، فضيقت ساحات النشاط الإسلامي السلمي المستنير على ضيقها، وأغلقت منافذ الحوار مع الآخر على وعورتها، وانقطعت سبل الاتصال مع قوى الحرية والسلام المناهضة للإمبريالية والتي كانت تمثل حليفاً قريباً من المسلمين، وجملة القول، فإن هذه الحركات الإسلامية لم تستطع أن تنجز مشروعاً وطنيا جامعا، أو تكمل مشروعاً ثقافيا/فكرياً راشداً، أو تعد الأجيال القادمة إعداداً أخلاقيا وعلميا متيناً، أو تبقي حتى على الحلم الإسلامي نقيا ناصعا. فاذا وصلنا القول الى الأوضاع الراهنة فى الحركة الاسلامية فى السودان فماذا نرى؟ إن أول ما سنرى هو أن الفصيلين الإسلاميين المتناحرين يسيران فى الإتجاه ذاته، اتجاه التدمير المتبادل، أى سنلاحظ أن العلاقة بينهما قد تحولت من المربع الرابع، حيث كان تناقضهما ثانويا غير عدائي، الى المربع الأول حيث صار تناقضا عدائيا رئيسيا، يسعى فيه كل فصيل الى تصفية الفصيل الآخر، مع تضاؤل مستمر فى امكانية بروز أى صيغة للتراضى. فهل يؤشر هذا الى احتمال أن يتعمق الصراع الراهن ويتفاقم بين الأطراف المتورطة فيه، ثم يظل ينتقل من صعيد الى آخر، حتى يتمكن أحد أطراف النزاع أن يطغى على الآخر، ويقصيه تماما من الساحة السياسية، أم أن من المحتمل أن يفقد كل من الفريقين (أثناء عمليات التدمير المتبادل)) السيطرة على مجريات الأمور السياسية، فى الوقت الذى تتبلور فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة مناهضة للتيار الإسلامى فى مجمله فتحتل مكانه؟ ثم يبقى سؤال أخير عن طبيعة المرحلة التاريخية الراهنة في مستواها العالمي، وانعكاساتها وتفاعلاتها مع المستويات المشار إليها آنفاً، هل هي مثلاً مرحلة متطورة من مراحل الاختراق الرأسمالي/الإمبريالي، حيث تبلغ ثورة المعلومات والاتصال مداها، وحيث يحقق النظام الرأسمالى/الليبرالي انتصاره النهائي ؟ أم هي مرحلة المزاوجة " والتخليط " بين الليبرالية والاشتراكية ؟ أم هي مرحلة تراجع الآيديولوجيات الكبرى والفلسفات الكلية أياً ما كانت وتقدم العشائر والقبائل وتكوينات ما قبل الحداثة؟ كيفما تكون الإجابة على هذه الأسئلة، فنحن نشهد من بين أيدينا ومن حولنا تحولات كبيرة، فنرى دولاً تهوي ونرى مجتمعات تمزق وتخلع من جذورها، ونرى أعداء يتحولون إلى أصدقاء، ومعارضين يتحولون إلى حكام، ومنتجين يتحولون الى متسولين. وبديهي أن تفسير مثل هذه التحولات الكبيرة لا يتأتى من خلال البصر وحده، وانما يحتاج المرؤ الى رؤية مكينة نافذة موصولة "بالشجرة المباركة"، وما لم تتوفر لنا تلك الرؤية العميقة فلن نستطيع فى هذا الكم الهائل من الضباب أن نعرف أنفسنا، أو نرى العالم من حولنا، ولن نستطيع أن نحدد "مواقعنا" في خريطته، ولن نستطيع أن نميز في القوى الإجتماعية المتصارعة المتناقضات الأساسية والثانوية، مما يتعذر معه معرفة العدو الاستراتيجى وميادين المعارك معه. أما اذا توفرت لدينا "الرؤية/النموذج" فقد يتيسر لنا أن نصمم خرائط للحركة والدولة، وأن نضع خططا كبرى وصغرى للتنمية، وأن نتعرف على القوى الإجتماعية التى يعبر النموذج عن طموحاتها ومصالحها فنجعلها قاعدة اجتماعية نتناصر معها فى عملية البناء الوطنى. أما القول بإعادة بناء الحركة الإسلامية فى غيبة "الرؤية/النموذج" فسوف لن تتجاوز آثاره استعادة الشركات والسيارات، أو مراجعة قوائم العضوية، وفرز الموالين والخصوم (كما يجرى الآن في عصبية عمياء). وبالطبع فقد يرى البعض في قولنا هذا شطحاً نظرياً بعيداً، وسيضعه فى خانة "الكلام النظري الفارغ"، وهى شنشنة قديمة، تتزعمها وتروج لها مجموعات أشرنا لها سابقا بعبارة "أمسك لي وأقطع ليك"، وهي من ذوات النزعة الفورية التي لا ترى من الأشياء إلا ظواهرها، ولا تهتم من الأمور إلا بأعجلها، وهي بالطبع تجسيد لذهنية العوام التي تهيمن على حياتنا الاجتماعية والسياسية في السودان وفي غيره من البلدان الإسلامية والإفريقية. وما يقلق أنه قد صار لهذه المجموعات وجود قيادي متقدم في داخل الحركة الإسلامية، فهى التي دعمت من قبل نموذج "المشيخة" ورسخته، لأنها بطبيعة الحال لا تستطيع لوحدها أن تكون مذهباً في الرأي، أو رؤية للحركة أو الدولة أو المجتمع. فإذا كان هناك أمل في الإصلاح فأول خطواته تكون بمواجهة مثل هذه الذهنية، حتى ينفتح مجال لتقبل الأفكار التى تسير فى اتجاه إعادة بناء رؤية إسلامية إصلاحية، وفى جذب ولم القوى الإسلامية المتناثرة واعادة تفعيلها، فاذا وقع ذلك فستكون الأزمة قد نجحت من حيث لم يحتسب أحد فى فرز نوعية جديدة من المثقفين المصلحين، اذ أن الأزمات على مسار التأريخ تفرز مثقفيها، منذ سقراط الى الغزالى وابن خلدون ومحمد أحمد المهدى وغرامشى وسيد قطب ومالكوم أكس. فإذا برز مثقفون جدد من الاسلاميين ذوو الأهلية الفكرية والأخلاقية، وممن استطاعوا أن يتحرروا من التبعية الفكرية والعصبية التنظيمية، ممن لم يتوغلوا فى النزاع الرهن، و تمكنوا من صياغة رؤية اصلاحية جديدة فذلك يعني (ضمن أمور أخرى) أن تيارا اسلاميا ثالثا سيولد، وستتولد فيه قيادات، وتتكتل حوله قوى اجتماعية جديدة، لتبدأ دورة جديدة من دورات العمل الاسلامى الرشيد.إن هذا أفضل بكثير من أن ننتظر نهاية الحرب الباردة بين الفصيلين المتناحرين، أو أن نترك المشاكل لحالها، اذ لو كانت المشاكل تبقى فى مكانها كما يبقى الحصى والرمل، لما كتبنا عنها سطرا، ولكن المشاكل حينما تترك لحالها فانها ستتحول الى "مخاطر"، وتحول معها الرمال الساكنة إلى عواصف عاتية تقتلع الجذور، ولا غالب إلا الله. (2) من نحن؟ يسألني كثيرممن يلقاني من اخواني واصدقائي القدامى - الذين تفرقت بهم سبل السياسة - وأين أنت؟ يقصدون بذلك أين موقفي من الصراع الذي نشب وتطاول بين الإسلاميين في السودان. فكنت اجيب احيانا واسكت عن الاجابة في اكثر الاحيان، ليس تخوفا من فوات حظ او تطلعا لاقتناص فرصة (مع ان النفس الانسانية لا تنفك عن حظوظها الخاصة - كما يقول الامام الغزالي) ولكن لاني كنت ولم ازل ابحث عن ارض صلبة اقف عليها، وعن حجة بينة القى الله بها، اذ لا يمكن من بعد العواصف المزلزلة ان يكتفي الانسان بالبحث فقط عن (خيامه) القديمة، ولكن ينبغي قبل ذلك ان يفحص (الاوتاد) التي كانت تشدها الى التربة، فلربما اصابها عطب، او لربما يتوجب عليه ان يفحص (التربة) نفسها، فقد تكون هي التي تصدعت ومهدت الطريق الى العاصفة. على انه وقبل فحص الخيام والأوتاد والتربة يحتاج المرء أن ينظر في نفسه، فقد يكون هو مصدر العطب والخراب، وما العواصف السياسية والخلافات التنظيمية الا مظاهر سطحية لداء دفين في نفوس الافراد. فالسؤال اذن لاينبغي ان يقف عند (اين انا) وماهو ما سأجيب عليه لاحقا ولكن ينبغي ان يتجاوز ذلك الى (من أنا) وهذا ما لا تحسن الاجابة عليه دون رجوع الى شئ من التاريخ الاجتماعي، فهناك توجد الخلية الاولى التي نشأت فيها واعطتني اسما وشكلا ولغة ودينا؛ وهي المعطيات التي صارت عناصر أساسية من بين العناصر المكونه لهويتي. فانا من حيث الشكل واللون سوداني - أفريقي، ومن حيث اللغة عربي، ومن حيث العقيدة مسلم، وتشدني الأسرة من حيث الانتماء الصوفي الى الطريقة التيجانية، وتصلني السياسة بالحركة الاسلامية، وتصلني المهنة بالفلسفة والفكر السياسي وهلمجرا. ولكن هذه العناصر فوق انها ليست متساوية القيم والأهمية فهي ايضا لا تمثل كل العناصر المكونة لهويتي، اذ كنت كلما بلغت مقاما من مقامات الرشد احذف واضيف، واخفض واعلي بعضا من هذه العناصر، فكم من إنسان غير اعتقاده وبدل اسمه واعرض عن عرقه وطريقته، مما يؤكد ان الانسان لايصير انسانا بالموروثات الاجتماعية وحدها، ولكنه يصير انسانا عن طريق الوعي والارادة، فالانسان هو من يستطيع ان يميز العناصر "القلب" المكونة لجوهره، فيرفعها الى قمة هرمه التقديري، ويدرك العناصر الاخرى الثانوية فيضعها في منازلها، وانه وبمثل هذا الوعي بالذات وبقيمتها وبمكانها بالنسبة للآخرين يصير الانسان قادرا على فحص الذات ونقدها، وقادرا على فحص انتماءاته الموروثه، وقادرا وهذا هو الأهم على خرق التصورات النمطية عن الآخرين (Stereotypes) وتجاوزها عبر حوار يساعد على إنشاء انتماءات جديدة من خلال الصورة التي يرسمها لنفسه والصور التي يرسمها للآخرين من حوله. فمثل هذه الانتماءات الجديدة - التي تتجاوز المكان الجغرافي والنسب العرقي هي التي تفتح افقا ارحب للتطور الاجتماعي السلمي وتلك هي صناعة النفر من الناس الذين يقال عنهم "مثقفون"، واذا سئلت من انا فسأقول انني انتمي الى هذا الصنف من الناس الذين لا يقطع احدهم انتماءاته الموروثه ولكنه مع ذلك يحتفظ ببعد نقدي يمكنه من مراجعتها ونقدها، وبشجاعة تمكنه من النظر في موروثات الآخرين والتحرك في الفضاء الانساني بقلب مفتوح يبحث عن الخير المشترك بين الناس والحق الموزع على المصادر. ولكن من من الناس يسعى لاعادة تحديد هويته ورسم صورته، ورفض الصور الجاهزة التي يصنعها له المجتمع، والأدوار المعدة التي يحشره فيها السياسيون اوتطوقه بها الوظيفة؟ إني لأظن ان الفشل الذي اصاب التنظيمات السياسية في بلادنا (ومن بينها التنظيمات الاسلامية) يرجع الى عجزنا نحن المثقفين في هذه الناحية، ولا يوجد من يماري الآن ان اوضح ماكشفته الازمة الاخيرة التي شهدتها الحركة الاسلامية السودانية هي عجز مثقفيها على قلتهم عن تحديد هوياتهم وقبولهم بالادوار الجاهزة التي يرسمها لهم السياسيون والتجار ورجال الامن. قد يرجع ذلك لاسباب تتعلق بالنشأة والتنشئة السودانية القروية الكافة عن السمعه والاعلان، فلا يستطيع احد تأدب في تلك البيئة ان يدخل في عمليات التسويق والترويج التي تتطلبها الحياة المدنية المعاصره، او قد يرجع للطرد المركزي الذي تحدثه بؤر السياسة والاقتصاد. وكيفما كان الامر فقد اختفى المثقف الاسلامي خلف الوظيفة او خلف التنظيم فانقطع عن الناس فصاروا لا يرونه الا من خلال الصورة التي صنعها له التنظيم وألبسه لها السياسيون. ولما لم يقم المثقفون الاسلاميون بتعريف انفسهم، ولم يرسموا صورهم ويثبتونها على جدران العمل الاسلامي الوطني، فقد صاروا غير موجودين في بيروقراطية التنظيم، وغير موجودين في بيروقراطية الدولة الا كما يوجد مترجم الملك يستدعي للخدمة في حضرة الاجانب ويستغنى عنه بانتهاء مراسيم الزيارة. فبيروقراطية الحزب وتجاره سواء في ذلك الاسلاميون وغيرهم - لا يريدون المثقفين الا أدوات فنية تستخدم في تحقيق مشاريع لم يشاركوا في صناعتها ولا يعرفون غاياتها، اما اذا استعصى احدهم اواستعصم فسيكون مصيره التغييب، كأن يغيب عن الحزب وعن الدولة او عن الوطن ذاته، فلا يسمع له صوت ولا ترى له صورة. ولعلك تدرك من هو المستفيد من تغييب (أوإفقارأو تهجير) هؤلاء، فغيابهم يجعل التنظيم/الحزب في حالة من غياب الذاكرة، وهي الحالة المثلى التي يستطيع فيها السياسي المحترف، والكادر الأمني، والبيروقراطي الفارغ، والتاجر الكذوب أن يتقلبوا بين الافكار والمواقف دون مواربة او حرج، في انتهازية لا يحدها حد، لان الجماعة السياسية التي يغيب مفكروها و مثقفوها، ستغيب عنها الذاكرة وتكون كمن ولدت البارحة، لا تثبت اقدامها الا اذا اتكأت على أب - شيخ. ان بداية الاصلاح تكون بالخروج على هذا المألوف، وبظهور صريح للمثقفين المصلحين على ساحات العمل الوطني الاسلامي حتى يتمكنوا من اعادة تعريف انفسهم بانفسهم وازاحة الصور القديمة عنهم، اذ انه بدون تعريف للذات لن يكون هناك شعور بها، والشعور بالذات هو بداية للوعي المفضي للحركة، كما انه من حق المثقف ان يكون حرا في رسم صورته وفي رسم صورة المجتمع الذي يريد، اما اذا حرم من ذلك الحق، او ا ختار ان يدخل في صورة رسمها له الآخرون فقد فقد حقه في الحياة. فمن هم المثقفون؟ وماهي الصورة التي يودون ان يعرفوا من خلالها؟ وما هي صورة المجتمع الذي يريدون؟ نقصد بالمثقفين/ المفكرين اولئك الذين يهتمون اهتماما خاصا بتحصيل المعرفة وانتاجها والتعبيرعنها، ويجتهدون في سبيل ذلك للاتصال بمصادر تتجاوز تجاربهم الشخصية المباشرة، وذلك بقطع النظر عن المهن التي يشغلونها. فاذا صار احدهم موظفا في مكتب او مهندسا في مصنع فذلك لا يعني انه لم يعد مثقفا مفكرا اصيلا، فالمثقف يعرف بالدور المعرفي الاجتماعي الذي يضطلع به وليس بالمهنة او النشاط المحدود الذي يتحصل عن طريقه على معاشه. ولا يكون الانسان مثقفا مفكراً لتعاظم ألقابه العلمية، ولكن يصير كذلك حينما يتجاوز مرحلة التستر بالشهادات والتكاثر في المعلومات ويدخل مرحلة توليد الافكار ونقدها وصياغتها وتنميتها والتعبير عنها. فالمثقف ليس هو فقط من يلاحظ ويشاهد الازمات والتفاعلات الاجتماعية من حوله، ولكن المثقف من يحاول ان يصنع مفهوما او نسقا من المفاهيم يحاول من خلالها تعقل الظواهر وقراءتها، اي فك هذه الظواهر عن تجسدها الاجتماعي - التاريخي ورفعها الى أطر الانشاءات الذهنية ليتمكن بذلك من وصلها بما تراكم لديه ولدى غيره من خبرات ومعارف، فيصير بذلك اقدر على فهم خصائصها وتوقع تفاعلاتها ومآلاتها، فيتمكن من الاشارة الى طرائق التحكم فيها - تحكما يتضمن الخروج من الازمة علاجا واصلاحا. ولكن من اين يستمد المثقف مفاهيمه التحليلية والتركيبية؟ هل هناك ترسانه ابستمولوجية يمكن للمثقف ان يستورد منها ما يحتاجه من مفاهيم؟ ام انه يتوجب عليه ان يستولدها استيلادا؟ ان قليلا من المثقفين السودانيين من يأبه لتوليد مفهوم يتمكن من خلاله ان يصف الواقع الاجتماعي السوداني، وانما يعتمد اكثرهم على استجلاب المفاهيم الجاهزة التي انتجت من واقع آخر بعيد كاستجلابه البضائع والصناعات والتحف. فاذا لم تتأتى للمثقف خصوبة فكرية ومعرفية مستقلة تمكنه من تجريد الواقع ولإنشاء صور ذهنية بديله له فلن يعدو ان يكون مستهلكا مثل سائر المستهلكين، وهذا يعني ان المثقف ذاته - وليس السياسي وحده - ينطوي على ازمة عميقة تظهر في خطابه الفكري حيث يكون فاقدا للوضوح النظري وعاجزا من ثم عن القراءة الصحيحة للاحداث من حوله او اتخاذ موقف منها. وسينعكس كل ذلك على سائر ممارساته السياسية والاجتماعية. على ان الاتصال بعالم الافكار وحده لا يكفي. فالمثقف لا يتصل بعالم الافكار لينحبس فيها وانما يجتهد في ان يصل الفكرة بالعمل - عملا في النفس من الداخل - وعملا في المجتمع من الخارج - عملا في سياسة النفس لالزامها بالفكرة.عملا في سياسة المجتمع لدفعه نحوالمثل العليا. وتلك حالة تورث قدرا من التوتر ولكنه (توتر مبدع) لا بد للمثقف ان يعيشه، شأنه في ذلك شأن الصوفي في خلوته وجلوته. وهذا يعني ان الفعل الثقافي له اطاران: نفسي/ باطني، ومجتمعي/ خارجي. اذ يتوجب على المثقف المفكر بعد قيامه باقتناص الفكرة او توليدها ان يقوم ايضا باستبطانها وذلك يعني ان تتجاوز الفكرة السطح المعرفي لتدخل في محاورة باطنيه صامته مع المعطيات النفسية للمثقف لا يراها ولا يسمعها الآخرون، ولكنها محاورة تتوقف عليها حياة المثقف وفاعليته، فالمثقف الذي لا تلامس افكاره شغاف قلبه، ولا تصل الى اعماق وجدانه، مثقف هامشي لن يتجاوز السطح المعرفي والاجتماعي إلا كما تتجاوز القصبة الخاوية السطح المائي، وهذا الاطار/ الباطني هو المجال (اليمين) الذي تتصل فيه المعرفة بالروح، والفلسفة بالتصوف، فيصيرالمثقف روحانيا صوفيا بما يتسنى له من تملك لزمام نفسه يرفعه الى مقام الشهادة على النفس والولد والاستعداد لمفارقتهما والعيش منفردا، ولا يشهد على نفسه وولده أو يبدي استعدادا لمفارقتهما الا شخص عرف الحق وتذوقه وصابر على ذلك، وهي التجربة الروحية المستمرة التي يعرفها كل مثقف حق مهما كان اعتقاده، وهي التجربة ذاتها التي يتضمنها مفهوم التزكية القرآني، فهذاالاتصال بين الفكر والروح هو الذي يوفر المشروعية الاخلاقية والمصداقية العملية التي لا بد منها لاي مشروع من مشاريع الاصلاح والتنمية.
(3) ومـــــن نـحـــــن؟ وكما أوجبنا على المثقف استبطان افكاره، فانا سنوجب عليه من ناحية اخرى ان يستظهرها اي يصلها بالواقع الاجتماعي من حوله، فذلك هو الموقع (اليسار) الذي تتصل فيه المعرفة بالقوة، والفكر بالسلطة، والمثقف بالسياسي، اذ يترتب على المثقف الذاكر الا ينحبس في دهاليز نفسه، ولكن عليه ان يسعى بصورة مستمرة للاشتباك مع الواقع الموضوع، والى الالتحام مع الآخرين، مناهضا الحدود العرقية والجغرافية والآيديولوجية، باحثا عن القدر المشترك من الحق والخير ليكون مع اولئك الآخرين الصالحين طليعة اصلاح تتفشى في البيئة المحيطة بها فتوفر ديناميكية للتغيير الاجتماعي السياسي. وهنا ينقسم المثقفون الى فئات كثيره، فمنهم المثقفون "الخفاف" الذين تتحول المعرفة عندهم الى صناعة لفظية وشهادات ورقية يتحصلون من خلالها على معاشهم الدنيوي، وينالون بها حظا في البريق الاعلامي، ومنهم المثقفون "النافرون" المهاجرون، يفر احدهم من المستنقع السياسي بحثا عن الكرامه والحرية والاستقلال المادي - وهو بحث مشروع - ولكنه قد ينتهي به في أودية الغربة وضنك الحياة، فلا وطنا ابقى ولا استقلالا ماديا انجز؛ ومنهم المثقفون "الفنيون" يوظف احدهم تدريبه العلمي وخبرته الفنية لخدمة السياسي، خدمة ينفصل فيها النشاط الاداري عن غاياته البعيدة واهدافه القصوى، فالمثقف الفني يتصل بجهاز الدولة اتصالا عضويا لا ينفك عنه بتغيير السياسات الجزئية او الرؤى الكلية. بل انه يتلون لكل سياسة بما يناسبها ويقدم لها ما تحتاجه من وسائل التنفيذ والتمكين، هؤلاء ليسوا هم المثقفون الحقيقيون الذين نقصدهم ونسألهم صياغة (رؤية) جديدة أوالتعبير عنها. فهؤلاء قد تراجعوا من افق الالتزام الاجتماعي الوطني الى الاطار الذاتي، ومن المسؤولية الاخلاقية العامة الى الخصوصيات المهنية والفئوية، ومن الاستقلال الفكري الى تبعية القوى المتنفذه سياسيا واقتصاديا، وعندما (يتراجع) المثقفون الى محاضنهم العرقية وخصوصياتهم المهنية ومصالحهم الذاتية تخلو مواقع الإمامة الفكرية والسياسية ويكون ذلك ايذانا بالانهيار الاجتماعي. على انه لاينبغي ان يفهم من هذا ان المثقف يمثل قوة مستقلة عن القوى الاجتماعية الاخرى او متعالية عليها. ولكن فحوى القول هو ان المثقف لا ينبغي ان يستمد قوته من المؤسسة السياسية، ولا من تبعيته لاحد الشرائح الاجتماعية التي تمسك بتلك المؤسسة وتوزع من خلالها الامتيازات، وانما ينبغي ان يستمد قوته من قدرته واستقلاله الفكري، ومن موقفه الاخلاقي، ومن فاعليته الاجتماعية، فالفهم والمواقف والفاعلية هي منابع قوته الذاتية، والفرق بين انــواع المثقفين لا يرجع الى القدرة او ا لعجز في تحليل الظواهر والافكار، فما من مثقف الا وهو اخذ بنصيب من ذلك - قل اوكثر- ولكن الفرق يرجع الى دائرة الصدقية الاخلاقية او الى دائرة الفاعلية الاجتماعية. ثم ان هاتين الاخيرتين - الصدقية والفاعلية - هما اللذان يؤهلان المثقف ليكون عنصر تأليف وتكتيل وتنظيم لسائر القوي الاجتماعية،ولكن لن تكتمل للمثقفين هذه الاهلية الا بأمور، منها: 1/ ان يحسوا بذواتهم المستقلة فيفكوا الارتباطات العضوية بالمجموعات الاخرى، اذ لن يكون المثقف مثقفا حقا ان لم يحتفظ ببعد نقدي بينه وبين عشيرته القريبة وقبيلته المحيطة وتنظيمه المغلق، وقياداته السياسية التاريخية، ذلك لانه بدون هذا البعد النقدي فلن يكون في مقدور المثقف ان يسهم في عمليات الاصلاح والاحياء التراثي او في عمليات التجديد والتحديث، لأنه سيكون عندئذ فاقدا لشجاعة النظر في معطياته الثقافية وقناعاته الآيديولوجية، وسيعجز عن نقدها وفحصها، والاعتراف بما فيها من ضعف وقصور، كما سيكون فاقدا لشجاعة النظر في المعطيات الثقافية "للآخرين" والاقرار بالقدر المشترك فيها من الحق والخير والجمال، فيفوت بذلك كل فرصة لايجاد اطر مفتوحة للحوار والتعايش الانساني السلمي. 2 - أن ينشئوا قنوات حقيقية للتواصل والحوار بينهم، فلقد اضر بالمثقفين انهم لايعرفون بعضهم البعض - لا اقصد معرفة الاسماء والالقاب ولكن معرفة الافكار والرؤى، فاذا تم اتصال فكري حقيقي بينهم فقد يكتشفوا ان المشكل الوطني (الاجتماعي والسياسي) الذي يهمهم جميعا لا يمكن ان يحل بان ينحبس كل فريق منهم في (صندوقه) الخاص، ان الخروج من الصناديق بكافة اشكالها العرقية والآيديولوجية هي بداية الطريق نحو الاصلاح والنهضة الشاملة. 3- أن ينشئوا قنوات جديدة حقيقية للتواصل مع الجمهور العريض الذي ظل يتململ تحت قياداته التاريخية العاجزة الفاشلة وقياداته الجديدة الانتهازية الفارغة، فلايكفي ان يتناجى المثقفون مع المثقفين بينما تنحدر قطاعات المجتمع الى مستنقع الحروب العرقية فلا تجد هاديا ولا ناصحا الا السياسيين الانتهازيين وتجارالاسلحة والدمار. فاذا توفرت هذه الامور المفضية الى الاهلية الفكرية والأخلاقية فسيكون في مقدورنا أن نجيب على سؤال (من نحن؟) فنحن لا تعني فردا فقيها يطل على الناس من حين لآخر بفتوى، لان مثل هذه الامور لا تعالج كما هو معلوم بفتوى متعجلة يصدرها فقيه واحد، او برأي فطير يقول به مفكر منعزل، وانما تحتاج الى جماعة من المثقفين ممن يتوفر فيهم التحرر من التبعية الفكرية والعصبية التنظيمية يعملون في صمت وصبر في إطار مشروع اصلاحى من اجل مراجعة الأوضاع الراهنة للحركة الاسلامية وتركيب رؤية جديدة للمستقبل الاسلامى فى السودان، يمكن أن تنبثق منها خطط طويلة المدى وسياسات محدودة وأطر للاتصال والتنفيذ. ثم إن هذه الجماعة الاصلاحية لا تعني طبقة من رجال الدين - كما يظن من يخالفنا الرأى ولا هي فئة من اصحاب الشهادات العليا الباحثين عن رواتب او مناصب، ولكنها مجموعة من المثقفين المسلمين الذين رسخ احدهم بحكم تخصص دقيق اوخبرة او تدريب مهني في مجال من مجالات المعرفة والحياة، او مجالات الفنون، وصارت له قدرة على الانتاج المعرفي وتوفر لديه مع ذلك التزام بقيم الدين ورغبة في تنمية وتطوير الوطن، فهؤلاء بقطع النظر عن مواطنهم الجغرافية ومواقعهم الوظيفية يمكن ان يتداعوا لتشكيل فرق علمية قادرة على بناء رؤية اسلامية بديلة، قادرة، وهذا هو الاهم - على تفكيك وتعرية المسلمات الهشه والمزاعم السائدة، فينفتح الافق لطرح خيارات في الرؤى، وخيارات في الخطط وخيارات في القيادة تدور حولها عملية الشورى، مما قد يؤدى بصورة طبيعية الى تفعيل الحركات الاسلامية والى تفعيل المجتمع المدني الاسلامي، لينهض بمسؤولياته ويحقق ارادته من خلال التنظيمات والمؤسسات والعلاقات التي يريد. هذا، ولا نعرف في التاريخ مجتمعا تطور دون أن يتقدمه نفر من المثقفين الذين يقومون بمثل هذه العمليات الحفرية العميقة. وهذه الجماعة لا يراد لها فى الحال أن تزاحم التنظيمات القائمة، أو أن تسارع الخطو نحو مواقع السلطة،بقدر ما يراد لها أن تعيد الحركة الى النهر بأن تزيل السدود والأعشاب الضارة فيتبلور تيار اسلامى وطنى رشيد يؤلف بينه ايمان بعقيدة الدين، والتزام بالمنهج العلمي، فاذا تكاملت ونضجت تلك الرؤية الاصلاحية الجديدة، فقد تجتذب اليها قطاعا من الأغلبية الصامته، وفئات من أطراف النزاع الراهن، وهذا يعني (ضمن أمور أخرى كثيرة) أن تنداح من بين الفرث والدم مساحة عامة ثالثة يمكن ان تتولد فيها قيادات جديدة تكون أبصر بالمخاطر وأقدر على العطاء. ومانقول به هنا ليس بدعا، ففي الدول الغربية الحديثة التي تقدمت علينا في مجالات التخطيط والإدارة توجد "مصانع" خاصة لتوليد الأفكارثم نوجد "نحن" من بعد ذلك لنشكل حقولا حية تجرب فيها تلك الأفكار والنظريات. وما لم نشرع بدورنا في القيام بعمليات مماثلة، ليس على سبيل المحاكاة والتقليد فقط، ولكن على أساس من قناعة ذاتية وايمان عميق بأهمية الأفكار وبأنها تسهم في تغيير الواقع وصناعة المستقبل، فان كثيرا من المشاريع الأخرى التى تصب فيها الموارد المالية وتبذل فيها الجهود الحربية ستكون عديمة الجدوى على المدى البعيد، وسنكون معرضين بصورة مستمرة لأن نصبح "فضاء خاليا" تجرب فيه نظريات الآخرين، وسيكون "الآخر/الخارج" عاملا حاسما فى حياتنا السياسية: يطلق المبادرات، ويحرك الساكنات، ويصنع تاريخنا.
04-25-2007, 09:58 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38103
الرأسماليون الإسلاميون: ماذا يفعلون فى الحركة الإسلامية؟(2-2) د. التجاني عبد القادر [email protected] (3) كنت أقف ذات مرة أمام شباك الزكاة بإدارة المغتربين بمطار الخرطوم استكمالا لإجراءات تأشيرة الخروج.سألنى الموظف باحترام ظاهر عن مقدار راتبى الشهرى، وقبل أن أنطق بشىء لكزنى الشخص الذى كان يقف خلفى فى الصف لكزة ذات معنى،ولما التفت اليه قال بنبرة حازمة: لا تخبره بكل المرتب، قل له أن مرتبى ألفين أو ثلاثة، أصلو ديل....، ثم قال كلمة جعلت موظف الزكاة يشيح بوجهه.دفعت الزكاة كاملة والرسوم وبعضا من متأخرات الضرائب ثم خرجت وأنا أشعر بغصة فى حلقى. صحيح أننى ذهبت لشباك الزكاة لأنى كنت محتاجا مثل غيرى لتأشيرة للخروج، ولكن الصحيح أيضا أننى كنت على قناعة بوجوب الزكاة باعتبارها عبادة فى ذاتها، وباعتبار أنها قد شرعت من أجل الفقراء والمساكين الذين قد تخرجهم اضطرابات المعاش، أو تشوهات الأسواق، أو طغيان رأس المال، قد تخرجهم من دورة الاقتصاد وتوقعهم فى ذل الحاجة،أو تدفعهم فى طريق الرذيلة أو الجريمة، فيريد صاحب الشرع من خلال نظام الزكاة أن يسد حاجاتهم الأساسية، وأن يحفظ كرامتهم الانسانية، حتى يتمكنوا من الاندراج مرة أخرى فى دورة الاقتصاد.قلت فى نفسى: لماذا غابت هذه "الرؤية" وحلت مكانها "صورة" سلبية عن الزكاة وعن العاملين عليها؟ هل يعود ذلك أيضا الى عدم الشفافية والصدق؟ اذ يرى الناس دقة وانضباطا فى "تحصيل" الزكاة ولكنهم لا يرون مثل تلك الدقة والانضباط فى "توزيعها"، يرى الموظف أن الزكاة تؤخذ منه على "دائرة المليم" ولكنه حينما يذهب الى قريته ويتعلق به الفقراء والمساكين وأولو القربى، فلا يصادف منهم من تلقى شيئا من الزكاة طيلة حياته الدنيا، فيقول فى نفسه: اذا كانت زكاتى لا تكفى فأين زكاة العمارات والمصانع والماكينات والفنادق والشاحنات والطائرات، ثم أين زكاة الذهب والنفط، ألم يقل سبحانه وتعالى(يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما رزقناكم ومما أخرجنا لكم من الأرض)، أليس النفط "ركازا" أخرجه الله من الأرض، أو ليست زكاة الركاز الخمس(20%) كما ورد فى الحديث؟ على أن الزكاة مهما تنوعت مصادرها وتكاثرت أقدارها ووزعت بالقسط ليست الا جزءا من رؤية اجتماعية-اقتصادية متكاملة؛ رؤية يعلو فيها الإنسان والعمل على المال، ويغلب فيها التضامن والتكافل على المحاصصة والأثرة، رؤية منحازة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فهل نحن نملك هذه الرؤية؟وهل نحن جادون فى تطبيقها؟ سؤال نوجهه الى أنفسنا فى الحركة الاسلامية، ثم الى "الفريق" من مفكرينا الاقتصاديين وعلمائنا الشرعيين الذين ظلوا على رأس المصارف الإسلامية وديوان الزكاة وهيئة الأوقاف ووزارة المالية والتخطيط الإقتصادى ردحا من الزمن. هل منهم من يملك بالفعل رؤية إسلامية للاقتصاد، أم أن جل ما يعتمدون عليه هو صيغة "المرابحة" التى عثروا عليها جاهزة فى حاشية ابن عابدين فصارت وصفة سحرية تستخدمها البنوك الاسلامية فى تعظيم أرباح عملائها من الرأسماليين، ثم أضافوا اليها فتوى بعض علماء الأزهر بوجوب أخذ الزكاة من الموظفين دون انتظار الحول، ثم أضافوا لهما "روشتة" البنك الدولى برفع الدعم وتحرير الأسعار، أهذا هو الإقتصاد الإسلامى؟ ان السؤال عن البعد الإسلامى فى السياسات الاقتصادية(ولا أقول البديل الاسلامى)ليس من نوافل القول أو فضول الكلام، وانما هو سؤال يتعلق بعلة وجود الحركة الاسلامية ذاتها كحركة اجتماعية-سياسية تتصدى للاصلاح والنهضة، غير أن الفريق الاقتصادى الحاكم، مثله مثل الفريق الأمنى، لا يهتم كثيرا "بالمرجعية الإسلامية"، ويعتبر ما نقوله ضربا من "الكلام الفارغ"، ولقد هالنى أن اطلعت ذات مرة على مقابلة مع واحد من القيادات الإقتصادية الاسلامية. كانت المقابلة تهدف لقراءة "ذهنية" النخبة الإسلامية المتحكمة فى القطاع الإقتصادى، وذلك أهم عندى من قراءة الأرقام التى يحيلوننا اليها، اذ بدون معرفة "الذهنية" يصعب علينا أن نتعرف على مرامى السياسات والخطط. كان السؤال المحورى فى المقابلة: ما معنى انتهاجكم سياسة اسلامية فى الإقتصاد؟وما هى المقومات الإسلامية فى الإقتصاد السودانى؟ وهو سؤال جيد فى نظرى لأنه يحاول أن يكتشف عما اذا كان الاقتصاديون الإسلاميون يملكون بالفعل رؤية أو "نموذجا"، وعما اذا كان ذلك النموذج المستبطن فى ذهن المخطط يرتكز بصورة واعية او غير واعية على مذهب إسلامى فى الإقتصاد، أم أنهم يسيرون على أهزوجة الشعار التى صاحبتنا طيلة العقود الماضية؟ وجه السؤال بصورة مباشرة لأحد وزراء الدولة آنذاك فى وزارة المالية، وهو رجل يحمل الدكتوراة فى مجال الإقتصاد، وظل لفترة طويلة يشغل مناصبا تنفيذية عليا فى القطاع الاقتصادى باختيار من قيادة الحركة الاسلامية والدولة،فأجاب على السؤال كما يلى: "هذا سؤال كبير يحتاج الى ندوة، ولكن التصور الإسلامى الكامل معروف، والمبادىء الاقتصادية تنطلق من التصور الاسلامى حول حقيقة هذا الكون من ربه والى أين يسير، وينطلق أيضا من المبادىء الأساسية فى القرآن والسنة والمعاملات وفى الاقتصاد..أنتهى"، والسؤال لم يكن بالطبع عن التصور الاسلامى العام للكون، أو المبادىء الكلية التى قررت فى القرآن والسنة، وانما كان عن "الطريقة" التى يتم عبرها تجميع وتنظيم تلكم التصورات الاسلامية العامة وتحويلها الى رؤية اسلامية-اقتصادية متماسكة تستوعب خصوصيات المعاش فى المجتمع السودانى بأوضاعه الراهنة،ثم ربطها بالخطط الإقتصادية الجزئية التى يشرف عليها سعادة الوزير، وما اذا كان لمثل هذه العملية نتاج معرفى ملموس يجعل الوزير وحكومته يعلنون على الملأ انهم ينتهجون سياسة اسلامية فى الاقتصاد، ولكن الوزير لم يشأ أن يواجه السؤال، ليس لجهله، وانما لمعرفته التامة بأن النخبة الرأسمالية التى يمثلها، والتى صارت تهيمن على مفاصل الدورة الاقتصادية فى الريف وفى المدن، لا ترى لها مصلحة فى استنباط مذهب اسلامى واضح فى الاقتصاد، لأن المذهب الاسلامى يضع محددات أخلاقية وقانونية على الثروة، كما يضع التزامات اجتماعية عليها، والشريحة الرأسمالية تريد أن يكون السوق "حرا" من هذه المحددات والإلزامات حتى تستطيع أن تعظم أرباحها كيفما تشاء؛ أى أن الشريحة الرأسمالية لا تريد "رؤية" اسلامية متماسكة، وانما تريد "شعارا" فضفاضا( أو قل ماركة تجارية) تحرك به العاطفة الدينية، وتستقطب به رؤوس الأموال.أما السذج من أمثالنا، والذين دخلوا فى الحركة الإسلامية على أمل أن يتمكنوا من بلورة برنامج اسلامى للتنمية الإقتصادية المتوازنة والعدل الإجتماعى، أو على أمل أن يوصلوا أصوات الفقراء المستضعفين الى مسامع السلطة، هؤلاء الساذجين عليهم أن يبحثوا عن طريق آخر، فالرأسمالية المتوحشة قد استولدت لها أنصارا فى صفوفنا الأمامية. (4) ويبقى السؤال الكبير: لماذا صار الانسان فى السودان على هذه الدرجة من الفقر حتى أنه صار يحتاج الى الصدقة والزكاة؟ ألم يكن القطاع الأكبر من الأسر فى الريف السودانى ينتج موادا غذائية تكفى حاجته المباشرة دون دعم من أحد؟ فكيف تحطمت تلك الوحدات الإنتاجية التى كان يعتمد عليها الوجود المادى للمجتمع، والمتمثلة فى الأسرة ذات المزرعة والمراح في القرية السودانية؟وكيف تبدل نمط الإنتاج التقليدى ومن الذى استفاد من ذلك؟ الأسباب عديدة ومتنوعة ولكن تأتى على رأسها أربعة: أولها الهجمة الهائلة التي قامت بها الأسواق الرأسمالية منذ زمن طويل في اختراق المجتمعات الزراعية والرعوية في الدول النامية وإدراجها في نظمها النقدية والصناعية بحيث صارت المزارع والمراعي في الدول النامية موارداًً رخيصةً لاحتياجات الصناعة الغربية من المواد الخام، دون اعتبارٍ لما يصيب البيئة من تخريب أو لما يصيب العامل من ضرر، فصار المزارعون والرعاة في الدول النامية ينتجون سلعا ً لأسواق عالمية لا قدرة لهم في التحكم فيها، ولا معرفة لهم بما تتعرض له من تقلبات، وما ينشأ فيها من تطورات، ودون أن يكون لهم بديل آخر يلوذون به؛ وثانى الأسباب هو إلحاح الدولة الوطنية، في مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، في الطلب على السلع الزراعية التي توفر عائدا ً نقديا ً بالعملات الأجنبية، لكي تتمكن من تغطية نفقاتها المتصاعدة، ليس في المجال التنموي ولكن في المجالات العسكرية والأمنية، على أن اعتماد الدولة شبه الكامل على قطاع الزراعة والرعي لم يقابله استثمار من قبلها في مجال البنيات الأساسية أو الأبحاث الزراعية والصناعية أو الحماية البيئية أو الخدمات الاجتماعية التي يحتاجها الريف "المخزن"؛ وثالث تلك الأسباب هو تشريد المزارع التقليدي واخراجه من الأرض، وظهور المزارع "التجاري" والمشاريع الزراعية التجارية، حيث يكون الاعتماد على رأس المال والآلات الحديثة أو العمالة الرخيصة؛ وآخر تلك الأسباب هو ضمور القطاع الصناعي الوطني وعجزه المستمر، إذ لم تستطع الدولة أو الرأسمالية المحلية المرتبطة بها أن توطن أي صناعة من الصناعات الاستراتيجية أو تنفذ خطة مناسبة للنهضة الصناعية. فكان لزاما ً أن يؤدي تدهور القطاع الصناعي وعجزه إلى تدهور أكبر في القطاع الزراعي. وكانت النتيجة، كما هو متوقع في مثل هذه الحالة، أن يتم الفصل بين المزارع التقليدى والأرض من جهة، ثم يفصل بينه وبين أدوات الإنتاج ورأس المال من جهة ثانية، فيجبر عدد كبير من المزارعين والرعاة ليصيروا عمالا ً مؤقتين في قطاع صناعي كسيح ليست له قدرة على البقاء فضلا ً عن النمو وامتصاص العمالة الفائضة، أو جنودا فى الجيش والشرطة والسجون، أو "خفراء" فى قطاع المنشئات والمبانى،أو يتركون فى قارعة الطريق، حتى صار من المألوف فى السودان أن ترى الرعاة يتجولون بلا ماشية، وأن ترى المزارعين يتحولون الى باعة فى شوارع العاصمة تطاردهم البلدية، وترى نساءهم يتحولن الى بائعات للشاى والقهوة فى نواصى الطرقات. وكما انقطعت الصلة فى الريف السودانى بين المزارع و الأرض وبين الراعى والماشية، فقد انقطعت الصلة كذلك فى المدينة بين العمل و الأجر، فصارت الوظيفة حقا يطالب به المتخرجون فى المدارس و الجامعات سواء وجدت أعمال يؤدونها فى المقابل أو لم توجد، فاذا نال أحدهم وظيفة وجدها لا تسد رمقا ولا ترضى طموحا، واذا لم يجدها علق آماله بالحصول على عقد للعمل فى دول الجوار الغنية بالنفط، أو وقف أمام السفارات طلبا للهجرة، وصار كل هؤلاء، من وجد ومن لم يجد، ومن تعلم ومن لم يتعلم، يمثلون "فائضا بشريا" دائما، ومليشيات عسكرية جاهزة، تتغذى منها الحركات المتمردة فى شرق البلاد وغربها، وتحولها الى جيوش تقاتل بهم إخوانهم المستضعفين الذين سبقوهم بالإنخراط فى الجيش والشرطة طلبا للمعاش، وهذه بالطبع ظاهرة فريدة فى نوعها، ومؤلمة لمن تأملها، إذ نرى "البروليتاريا المسلمة" تنقسم على نفسها، ويقوم بعضها بضرب رقاب بعض، فى غفلة تامة عن القاعدة الإجتماعية الواحدة التى ينحدرون منها، وفى جهل بطبيعة العدو الإستراتيجى الذى يستهدفون. تلك هى اذن عملية الإستنزاف المستمر، والتحطيم البنيوى، والإفقار المتعمد للريف السودانى، وتلك اذن هى ثمارها المرة، والتى ساهمت فى انتاجها الرأسمالية العالمية والشريحة الرأسمالية المحلية(اسلامية وغير اسلامية)، وذلك من خلال هيمنتها على مفاصل الدورة الاقتصادية في الريف وفي المدن وفي الأسواق الإقليمية، ومن خلال ارتباطاتها القوية بالمصارف والشركات ومراكز السلطة السياسية، مانعة بذلك قطاعات واسعة من الجمهور من الانخراط فى دورة الاقتصاد، ودافعة أعدادا مهولة من السودانيين نحو الهجرة الجبرية المتواصلة الى المدن، أو الى المليشيات المتمردة، أو نحو الثورة الإجتماعية الكامنة التى لا يعرف مداها ومآلاتها أحد الا الله. إن تفكيك النظام الاجتماعي والاقتصادي في الريف وما صحبه ولحق به من تهجير جماعي مفزع من الريف إلى المدن لم تصحبه كما هو معلوم ثورة صناعية توفر قاعدة جديدة للإنتاج، كما لم تسنده قاعدة تعليمية أو تكنولوجية توفر مهارات ومعارف تفتح منافذ بديلة للمعاش، فشكل ذلك الوضع حالة من الاحتقان النفسي والانفراط الاجتماعي جعلت الجميع يحلمون باسترداد هوية ضائعة وثروة مسلوبة، فلم يجدوا أطرا تستوعب تلك الأشواق سوى المليشيات العرقية المسلحة، أو التنظيمات السياسية المتطرفة؛ اذ أن البحث عن " الهوية الضائعة " وعن" الثروة " المسلوبة يعملان معاً في صناعة ايديولوجيه "المفاصلة"، سواءً كانت مفاصلة دينية أو عرقية، وهي الأيديولوجية التي تسوغ لأصحابها الانقضاض على السلطة، وقد ينجحون في ذلك بالفعل ولكنهم سينتهون،عاجلاً أو آجلاً،إلى النتيجة نفسها التي انتهى إليها الإنقلابيون من قبلهم وهي أن المشكل الاجتماعي-الاقتصادى الراهن لا يمكن أن يحَّل عن طريق البتر العسكري أو الإقصاء العرقى أو الدينى. (5) على أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد،اذ أن القاعدة الإنتاجية التقليدية المشار اليها آنفا، لن تعود الى الريف وتستأنف عمليات الإنتاج لمجرد وجود الطرق والجسور(والتى تجتهد الحكومة فى بنائها)، ولكن وعلى افتراض عودتها وممارستها للانتاج فانها لن تستطيع تحت هيمنة الرأسمالية الشرسة واقتصاد السوق غير المقيد أن تلبى حاجاتها الاقتصادية المباشرة فضلا عن أن تلبى حاجاتنا القومية من السلع الزراعية، وسيترتب على هذا أن توجه جل الموارد القومية المتحصلة من عائد النفط لاستيراد السلع الغذائية والصناعية التي ترد من الأسواق الخارجية، ولإسترضاء المليشيات المسلحة، ودفع استحقاقاتها وتعويضاتها، مما يؤدى لاختلال مستمر فى ميزان المدفوعات، ولنضوب الاعتمادات التي يمكن أن توجه الى قطاعات الإنتاج الزراعي و الصناعي، فتزداد هذه القطاعات تحطما على ما كانت عليه، وسيزداد لدينا عندئذ عدد المزارعين الذين لا زراعة لهم، والعمال الذين ليست لدينا مصانع تستوعبهم، والخريجين الذين ليست لدينا وظائف لهم، وسيشكلون جميعا، وقد انحل ترابطهم الاجتماعي القديم وتناثرت تنظيماتهم التقليدية، حزاما متجددا من الفقر والإحباط يحيط بالعمارات الشاهقة التي يتبارى في تشييدها الأغنياء القدامى والجدد. والسؤال هنا:هل يمكن إحداث نوع من التكامل البنيوى بين المزارع التقليدي والأرض البور والنخب الإجتماعية الحديثة ذات الكفاءة المهنية والقدرة الإدارية المتطورة حتى يتم إحياء القاعدة الإنتاجية التي يقوم عليها المجتمع؟ أم أن عائدات النفط وما ينتج عنها من فرص استثمارية ستصب فى جيوب النخبة الرأسمالية ذاتها؛ النخبة التى لا ترغب فى تطوير برنامج تنموى إسلامى، ولا ترغب فى الدخول فى العمليات الإنتاجية الإستراتيجية(زراعة وصناعة) وتفضل الإستثمار المضمون فى قطاع العقارات والخدمات والإستيراد؟ لأنه وما لم يتم إدراج القوى الريفية التقليدية (التى أخرجت من ديارها، وأبطلت طرائق معاشها) في البنية الاقتصادية الحديثة، وما لم تتم إعادة الشرائح الرأسمالية الجديدة الى قطاعات الإنتاج الاستراتيجي، فان الفجوة بين هاتين الفئتين ستتباعد وقد تتحول الى تناقض أساسي بين الدولة والمجتمع قد يتبلور في اتجاه الثورة الاجتماعية الشاملة. ولكن ما هو الدور المتبقي للدولة؟ هناك من يقول ان الدولة في العالم الثالث في عهد العولمة الأمريكية الذى نشهده مهددة بالتلاشى والزوال، على أية حال، سواء كانت اسلامية أو لبرالية، اذ من المؤكد أن تجد نفسها دائما غير قادرة على التحكم فى الرأسمالية المحلية أو توجيه مساراتها نحو انتاج السلع الأساسية التى يمكن أن تدفع في اتجاه التنمية القومية؛ وستجد نفسها (ثانيا) غير قادرة على إحداث تنمية اقتصادية عن طريق الصناعة والتقانة بصورة مستقلة؛ وستجد نفسها (ثالثا) غير قادرة(حتى ولو أنتجت سلعا أساسية كالسلع الزراعية) على المنافسة في السواق العالمية، اذ أن فائض الإنتاج الزراعى في الدول الصناعية الكبرى، والذى تقف وراءه بقوة إتحادات المزارعين ووكلائهم في المجالس التشريعية في الديقراطيات الغربية لا يتيح فرصة حقيقية لأى دولة نامية أن تجد سوقا لمنتوجاتها الزراعية، أما اذا كانت تلك الدولة النامية ذات شعار اسلامى كحالتنا هذه فسوف يتعذر عليها أن تجد منفذا للأسواق العالمية ما لم تتخلى عن الحواجز الثقافية و الأخلاقية التي يفرضها مشروعها الإسلامى. فهذه كما ترى أمور شديدة التعقيد، لا يحلها خبير اقتصادى واحد، أو فريق من التكنوقراط، أو فقيه تخصص فى باب البيوع، وانما يحتاج الأمر الى قاعدة فكرية وعلمية راسخة يعهد اليها ببناء رؤية متعمقة للتنمية القومية- تصورا فكريا، وتخطيطا استراتيجيا، وإدارة علمية، كما يحتاج الى شريحة إجتماعية رائدة ذات رغبة صادقة فى احتضان عمليات التنمية، توطينا للصناعة والتكنولوجية،وتشجيعا ورعاية للعلماء والمخترعين، ورد اعتبار للزراعة والرعى؛ وتحتاج علاوة على هذا لقيادة سياسية مترفعة عن الولاءات العشائرية الضيقة ومتجردة للمصلحة القومية، فتناط بها عمليات التعبئة الشعبية و التنسيق المؤسسي والتشريعي لإنجاز العملية التنموية على قواعد العدل الاجتماعي.فهل يستطيع الرأسماليون الإسلاميون أن يقوموا بهذه العمليات؟ ان الإقتصاديين الاسلاميين سيفقدون كل مشروعية للبقاء فى قمة الهرم الاقتصادى أو فى قيادة الحركة الإسلامية ما لم يقوموا بتطوير أطروحة فكرية اسلامية متماسكة يجاب فيها على هذه التساؤلات، وترفع فيها هذه التناقضات، ثم يبلوروا فى ضوء ذلك برنامجا اجتماعيا-اقتصاديا ينحاز بصورة واضحة للطبقات الدنيا فى المجتمع، أما اذا بقوا على حالهم هذه، وتركت سياسات الدولة ومؤسساتها الاقتصادية تحت تصرفهم وتصرف مجموعات المصالح الخاصة المرتبطة بهم فان ذلك سيكون فى تقديرى أمرا شديد الضرر على المستوى التنظيمى الخاص بالحركة الإسلامية وعلى المستوى القومى العام. ولكن، وحتى لا تبلغ الأمور نقطة اللاعودة فإن الحكمة والحاجة يقتضيان أن تكف الحركة الإسلامية عن تعلقها بالنخبة الرأسمالية، وأن تعلق أملها بالله وبالناس، وأن تبدأ بصورة جادة فى إعادة النظر فى برنامجها الاجتماعى-الاقتصادى، فالعمل من خلال القضايا الاجتماعية المحورية(الفقر والمرض والعجز والبطالة والجريمة والطفولة والأمومة ونحوها)هو الذى يعمق الوعى بالرؤية الإسلامية،ويرهف الحس الاجتماعى-الانسانى، وينمى الروح، ويقود الى التلاحم بين شرائح المستضعفين، ويرفع التناقضات المتوهمة بينهم، وهو خير من انتظار نهايات للحرب الضروس بين داحس القصر وغبراء المنشية.
04-25-2007, 10:02 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38103
فرض تحريم الفائدة البنكية منذ البداية لم يكن شرعياً والان لم يعد دستورياً
طه ابراهيم / المحامي
الجميع يعلم انه في اول التسعينيات قامت الانقاذ بتحريم الفائدة البنكية وقهرت كل السودانيين على الالتزام والعمل بهذا التحريم دون مشاورة الشعب السودانى او استفتائه في امر خطير كهذا، اذ قام بضع عشرات من الضباط والجنود باجبار كل الشعب السودانى بفوهة البندقية وسطوة السلطة على تنفيذ فتوى فقهائهم بان هذه الفائدة حرام دون الالتفات الى وجود ثقل غير مسلم بالسودان، ودون اعتبار لرأى المسلمين الذى يخالفون فقهاء السلطان في تفسيرهم بأن هذه الفائدة حرام. نتج مباشرة عن هذا التحريم ان بدأت البنوك تعمل بالمرابحات والمضاربات والمشاركات التى لم يوضع لهامش ربحها حد ادنى او سقف اعلى، ولهذا فرضت البنوك هوامش ربح كان متوسطها يتراوح بين 4% الى 5% في الشهر، وبذلك بدأ تدمير الصناعة والزراعة في السودان. في كل انحاء العالم وخاصة في البلدان النامية لا يوجد رجل اعمال يريد ان ينشئ صناعة جديدة يملك نقداً كل الاموال الكافية لاقامة المصنع، بل يكون دائما في ذهنه انه بعد ان قطع شوطاً في بناء المصنع يلجأ الى البنوك ليحصل على قرض يكمل به المصنع، وبطبيعة الغرض من القرض فانه لابد ان يكون طويل الامد بفائدة قليلة ومعقولة لا ترهق او تحمل المصنع اعباء لا يستطيع الوفاء بها وهو امر مستحيل في ظل هامش ربح المرابحات، وقانون بيع الاموال المرهونة للمصارف فيصرف النظر عن اقامة المصنع. اما من كان يملك مصنعاً ولنقل انه معصرة لزيوت الطعام فان الواقع يقول بان صاحب المصنع يحتاج في بداية كل موسم الى مبلغ طائل لتمويل مدخلات الانتاج وخاصة شراء الحبوب الزيتية وهو مبلغ لا يقل في المتوسط لمعصرة متوسطة عن مائة مليون دينار، والواقع يؤكد انه يستحيل ان يكون لصاحب المصنع مثل هذا المبلغ نقداً في حسابه، فيذهب الى البنك للحصول على التمويل وهناك يفاجأ بان عليه ان يدفع 60% في السنة هوامش مرابحة، فاذا اضفنا اليها ما ينبغى ان يحصل عليه صاحب المصنع من ربح، والاصل انه ينبغى الا يقل عن ربح البنك اي ان القرض الذى يسمى صفقة مرابحة ـ لابد ان يدر ربحاً قدره 120% في السنة، ونتساءل هل هناك صناعة في العالم كله يمكن ان تدر هذا القدر من الربح ؟ حاول البعض في البداية ان يغامر فاذا به ينتهى اما الى السجن او بيع المصنع او في احسن الاحوال قفل المصنع وتشميعه لحين فرج بزوال سلطة الانقاذ ويبحث له عن عمل آخر لاكل العيش. واذا ذهبنا الى اي منطقة صناعية ولنقل انها الخرطوم بحرى فأننا سنجد البوم ينعق في مبانى المصانع. والامر لا يختلف في الزراعة فكل مزارع في بداية الموسم يحتاج الى تمويل لحراثة الارض وشراء التقاوى واستئجار التركتورات والزراعات واخيراً الحاصدات فاذا به يفاجأ ايضا ان البنك يطلب منه 60% في سنة هامش مرابحة الامر الذى انتهى بالمزارعين الى بيع مزارعهم او منازلهم او دخول السجون وبوار الزراعة. استمرت مقادير هوامش المرابحات متروكة لتقدير البنوك حتى عام 1995 حيث صدر المنشور رقم ب س/محافظ/65/9/ب المؤرخ 31/12/1995 يقرر وجوب ان يكون الحد الادنى لهامش المرابحات هو 36% في السنة، وفي 1997 رفع الحد االدنى الى 40% وانقص الحد الادنى في عام 98 الى 30% واستمر الحال كذلك حتى نهاية الالفية الثانية حيث تم تدمير القطاعين الصناعى والزراعى تماما. لم يستطع احد ان يقاوم هذا التخريب المتعمد لان الانقاذ كانت بالمرصاد والبندقية وبيوت الاشباح وبالسياط تحرس استمرار التخريب للصناعة والزراعة حتى جاء عام 1998. وتجدر الاشارة بان المهنة الوحيدة التى ظلت تربح هى تجارة الاستيراد حيث ظل التجار يرفعون اسعارهم حسب ارتفاع سعر الدولار ومن ثم انفلت غول الغلاء الطاحن وسحق المستهلكين وبطبيعة الحال فاننى لست غافلاً عن الطرق الاخرى لتكديس وتراكم ثروات تجار الانقاذ مثل تفادى دفع الجمارك تحت حجة الاستيراد للجمعيات الخيرية او الحصول على الامتيازات والاعفاءات الجمركية تحت مظلة الاستثمار وبعدها تباع البضائع في السوق باقل من اسعار الاخرين، فيفلس الاخرون وتزداد ثروات تجار الانقاذ. * اجتهاد غير ملزم : وفي تاريخ ميلاد الانقلاب الانقاذى في 30/6/1989 صدر دستور الانقاذ لسنة 1998 الذى حاولوا به تحويل حراسة الخراب من البندقية الى الدستور حيث قررت المادة 65 من ذلك الدستور ان : (الشريعة الاسلامية واجماع الامة استفتاء وعرفا هى مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الاصول، ولكنه يهتدى برأى الامة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة امرها). واعلنت الانقاذ ان اجتهاد علمائها افضى الى فتوى ان الفائدة البنكية ربا من وجهة نظر الشريعة الاسلامية ومن ثم فان حظرها يتفق مع الدستور بموجب المادة 65. واول ما نلاحظه ان الفتوى بان الفائدة البنكية ربا هى فتوى مجتهد اذ لا يوجد نص من القرآن او الحديث يقول بان الفائدة البنكية هى الربا المحرم في القرآن او السنة، وانا هنا لن اقوم بمناقشة اسانيد هذه الفتوى او التعرف على مدى صحتها، بل كل ما اود قوله ان هناك فتوى من جهة اكثر تأهيلاً من الناحية الشرعية ممن اصدر فتوى الانقاذ واعنى به الشيخ الدكتور طنطاوى شيخ الازهر بمصر ومعه العديد من علماء الازهر، فجميعهم افتوا بان الفائدة البنكية ليست الربا المشار اليه في القرآن، وسبب الخلاف في الفتاوى ان الشريعة الى ان قفل باب الاجتهاد فيها لم تعرف النظام المصرفى او الفائدة البنكية او طبيعتها او اغراضها او نوعية الاقتصاد الذى افرز ضرورتها. والمبدأ الراسخ في الشريعة الاسلامية ان اجتهاد مجتهد غير ملزم لمجتهد آخر، والناس احرار في الاخذ باي الاجتهادين، ولا يجوز شرعاً فرض اجتهاد شخص او حتى مجموعة اشخاص على المجتهدين الاخرين او على الناس جميعا، هكذا اعلنها الامام مالك عندما اريد فرض كتابه الموطأ كقانون لكل الدول الاسلامية اذ رفض ذلك على اساس ان ما جاء بكتابه هو اجتهاد لا يجوز فرضه على المجتهدين الاخرين، كما لا يجوز الزام كل المسلمين به لان من حقهم ان يختاروا الاجتهاد المخالف لاجتهاده، ولهذا فان فرض تحريم الفائدة البنكية على كل المسلمين اي فرض اجتهاد فقهاء الانقاذ امر غير شرعى في وجود اجتهاد آخر مخالف اذ يحق للمسلمين اتباع الاجتهاد الآخر ورفض اجتهاد فقهاء السلطان. مما سبق يتضح خطأ الرأى القائل بان تحريم الفائدة البنكية يعتمد على النص الدستورى القائل بضرورة عدم تجاوز الشريعة عند وضع التشريعات، فاباحة الفائدة البنكية لا تشكل تجاوزاً للشريعة بينما فرض تحريمها على كل المسلمين والزامهم بهذا التحريم هو الذى يشكل انتهاكاً لمبدأ راسخ في الشريعة الاسلامية. * وجاء الدستور الانتقالى : في واقع الامر فان الدستور الانتقالى الصادر في 9/7/2005م ازال تماماً الحجة الواهية التى اعتمد عليها الانقاذيون في تحريمهم للفائدة البنكية عندما زعموا ان التحريم يستند على المادة 65 من دستورهم. نص الدستور الانتقالى في المادة 5(1) على ان (تكون الشريعة الاسلامية والاجماع مصدراً للتشريعات التى تسن على المستوى القومى وتطبق على ولايات شمال السودان) ولابد ان القارئ لاحظ الفرق الهائل بين نص دستور 98 والنص الوارد في الدستور الانتقالى، ففى دستور 98 كانت الشريعة والاجماع هى مصادر التشريع، كما قررت مادته 65(انه لا يجوز تجاوز هذه المصادر، وحتى هذه المصادر يهتدى الى احكامها بواسطة اجتهاد علماء الامة ومفكريها وولاة امرها). اما الدستور الانتقالى فانه يقرر ان تكون الشريعة مصدراً للتشريعات اي انها مصدراً من مصادر التشريع الذى قد تكون له مصادر اخرى عديدة، فهى ليست المصدر ولهذا يجوز تجاوزها عند التشريع. ويجدر ان نلاحظ ان القول بان منظومة قانونية تشكل مصدراً للتشريع لا يعنى ان تكون تلك المنظومة هى التشريع، ولا ان احكامها هى نصوص تشريعية، بل كل ما تعنيه انه يجوز اخذ تشريع ما من احكام تلك المنظومة. والغريب في الامر ان يقصر تطبيق النص على ولايات شمال السودان، ولو كنت مكان الاخوة في الحركة الشعبية لما اعترضت على سريان النص على كل ولايات السودان بما فيها جنوب السودان لان النص لا يستوجب فرض الشريعة، والقول بان تكون الشريعة مصدراً للتشريعات ليس فيه اي عيب قانونى، اذ من المعروف قانوناً ان الشريعة الاسلامية تشكل واحداً من اهم المصادر التاريخية للتشريع، وهى تدرس في كليات الحقوق العلمانية بهذه الصفة، وقد سبق ان اخذ القانون المدنى الفرنسى الكثير من القواعد القانونية من منظومة الشريعة الاسلامية. ان الامر الواجب تنفيذه هو النص على الحقوق والحريات الاساسية في صلب الدستور، وهذا ما فعلته اتفاقية السلام ومن بعدها الدستور الانتقالى، وبذلك صار تطبيق وثيقة الحقوق مقدم على اي نصوص تؤخذ من اي مصدر من مصادر التشريع وذلك لانه سواء اخذ التشريع من الشريعة او اخذ من اي مصدر آخر فانه يخضع لهيمنة وحاكمية نصوص الدستور، فالمادة الثالثة من الدستور تقرر ان (الدستور القومى الانتقالى هو القانون الاعلى للبلاد .. وتتوافق معه جميع القوانين) كما تنص المادة 27(4) بان (تنظم التشريعات الحقوق والحريات المضمنة في هذه الوثيقة ولا تصادرها او تنتقص منها) وتكرر المادة 48 ذات المعنى بقولها بانه (لا يجوز الانتقاص من الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذه الوثيقة) ومن هنا يأتى التساؤل مشروعاً هل قهر كل السودانيين المسلمين من غير اتباع فقهاء الانقاذ وجيمع غير المسلمين على التعامل بالصيغ الاسلامية الشرعية من مرابحة ومضاربة ومشاركة على اساس وجوب الخضوع لفتوى فقهاء الانقاذ بان الفائدة البنكية هى الربا المحرم في الشريعة الاسلامية، هل هذا القهر دستورياً بعد ان عرفنا انه ليس شرعياً ؟ نقول انه قهر لانه محظور اقامة بنك يعمل بالفائدة البنكية، ولهذا فان كل البنوك العاملة الان في السودان تعمل بالصيغ التى صدرت الفتوى بانها شرعية وبما ان الناس لا يمكن ان يستغنوا عن التعامل مع البنوك فانهم يكونون مقهورين ومجبرين على التعامل بهذه الصيغ التى وصفت بانها شرعية. الدستور الانتقالى لسنة 2005 تبنى وثيقة الحقوق في مواده من 27 الى المادة 48 حيث نجد المادة 31 في وثيقة الحقوق تقرر ان (الناس سواسية امام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية القانون دون تمييز بينهم بسبب العنصر او اللون او الجنس او اللغة او العقيدة الدينية او الرأى السياسى او الاصل العرقى). كما تقرر المادة 38 انه : (لكل انسان الحق في حرية العقيدة الدينية والعبادة ..) وتقرر المادة 27(3) ان : (تعتبر كل الحقوق والحريات المضمنة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الانسان والمصادق عليها من قبل جمهورية السودان جزءاً لا يتجزأ من هذه الوثيقة). وتجدر الاشارة بان السودان قد صادق على العهدين الدوليين الاول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثانى الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. تقرر المادة 26 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية ان : (كل الناس سواسية امام القانون، ولهم الحق دون تمييز لحماية متساوية من القانون، وفي هذا الصدد على القانون ان يحظر اي تمييز وان يضمن لكل الاشخاص حماية متساوية وفعالة ضد التمييز المبنى على اي سبب كان كالعرق او اللون او النوع او اللغة او الدين ..) وتعرف المادة الثانية من اعلان القضاء على كافة اشكال عدم التحمل والتمييز المبنى على الدين او العقيدة تعرف التمييز المبنى على الدين بانه : (اي تمييز او اقصاء او تقييد او تفضيل مبنى على الدين ويكون من غرضه او تأثيره محو او اضعاف الاعتراف او التمتع او ممارسة حقوق الانسان او حرياته الاساسية على اساس من المساواة). مما سبق يتضح ان قهر كل السودانيين على الخضوع لفتوى فقهاء الانقاذ من ان الفائدة البنكية ربا هو اولاً بالنسبة لغير المسلمين يعد تمييزاً او تقييداً او اقصاء بل هو ايضا قهر لغير المسلمين على الخضوع لاحكام القرآن كما فسرها فقهاء الانقاذ، كما انه يشكل محوا للتمتع بالحق في حرية الدين بالمساواة مع الاخرين لانه يجبرهم على التعامل بصيغ مأخوذة من دين لا يؤمنون به، وهو ايضا تفضيل للمسلمين الانقاذيين بفرض تفسيرهم على المسلمين غير الانقاذيين وعلى غير المسلمين جميعا، وهو ثانياً بالنسبة للمسلمين الذين يحق لهم تفسير دينهم بحرية ودون الخضوع لتفسير مسلم آخر هو ايضا اقصاء لهم وتمييز من شأنه اضعاف ومحو التمتع بالحق في حرية الدين على اساس من المساواة مع الاخرين. ولعل الاهم ان نشير بان فرض عقيدة الانقاذيين باعتبارها هى الشريعة الاسلامية على كل الناس المسلمين غير الانقاذيين وغير المسلمين هو اخلال خطير بحق المساواة امام القانون دون تفرقة بسبب الدين، فالناس جميعا من حقهم ان يتمتعوا بحماية القانون دون تمييز اي على اساس من المساواة التامة، بينما القانون الذى فرض التعامل بالصيغ الاسلامية والغى الفائدة البنكية على اساس انها ربا قانون يعلى عقيدة الانقاذيين بفرض تفسيرهم على كل الناس الاخرين بل ويقهرهم على الخضوع لهذا التفسير، ومن ثم فانه قطعاً قانون غير دستورى، فهو قانون ينتهك حق المساواة امام القانون، فضلا عن انه يصادر حرية العقيدة، كما انه يشكل تمييزاً صارخاً على اساس العقيدة الدينية. ان فرض التحريم على كل الناس ليس قطعاً مصدره تطبيق الشريعة، وانما هدفه تمكين اهل الانقاذ من الثروة وحرمان الاخرين منها، اذا لو كان الامر امر دين لفعلوا مثل ما فعلت مصر من اباحة العمل بالفتويين ولهذا سمحوا في مصر باقامة بنوك اسلامية بجوار البنوك التقليدية وذلك بغرض تمكين المسلمين من الاختيار، فمن اراد اتباع الاجتهاد القائل بان الفائدة ربا له ان يتعامل مع البنوك الاسلامية، ومن اخذ بالاجتهاد القائل بان الفائدة البنكية ليست ربا له ان يتعامل مع البنوك التقليدية وذلك تطبيقاً للمبدأ الراسخ في الشريعة القائل بعدم جواز فرض اجتهاد معين على كل المجتهدين او على كل الناس طالما ان هناك اجتهادات مخالفة.
كنت بين حضور ليلة سياسية أقامها الحزب الشيوعي السوداني بميدان الحرية في مدينة ود مدني مساء 11 ديسمبر 2005، أمها حشد غفير من مواطني الجزيرة، وتحدث فيها السيد محمد حمدنا الله عن تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، ثم السيد هاشم ميرغني عن الحزب الشيوعي بالجزيرة والمناقل. ختم بالحديث الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي السوداني. المناسبة المباشرة لهذه الليلة السياسية كانت دعم تحالف المزارعين، المكوّن من أحزاب الشيوعي والإتحادي الديمقراطي والأمة القومي والحركة الشعبية لتحرير السودان، في نضاله للفوز بانتخابات إتحاد المزارعين ضد قائمة المؤتمر الوطني. أما قضية الصراع الأولى بين الطرفين فهي قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005 الداعي لخصخصة المشروع: تحويل الأراضي إلى ملكية خاصة، رفع يد الدولة عن التمويل، تحويل سلطات وإختصاصات مجلس الإدارة إلى روابط مستخدمي المياه بما في ذلك التصرف في حيازة الأرض والمياه، توجيه وإدارة العملية الإنتاجية واسترداد الرسوم على مستوى الشبكة الكبرى والصغرى.
المتابع لقضايا المشروع يعلم أن القانون الجديد جاء ختاماً ماسخاً لسلسلة من السياسات التي إتبعتها حكومات متعاقبة بغرض تصفية مكاسب مزارعيه وإتمام الاستيلاء على فائض إنتاجهم لصالح البرجوازية الزراعية التقليدية المتنفذة في قطاع الدولة في مرحلة سابقة، ثم الرأسمالية الطفيلية الوليدة في عهد جعفر نميري واليوم مستنسختها الإسلامية التي تغذيها شرايين غنية من بنك دبي الإسلامي وغيره من مؤسسات الرأسمال الخليجي، وفي كل هذه المراحل يقف شبح البنك الدولي خلف ستائر المصلحة الكلية المزعومة بلجانه وتوصياته "الأكاديمية". بإزاء ذلك طالما أفلح المزارعون عبر هذا الصراع الطويل، وفي كل معركة من معاركه، في تجميع قواهم والتضامن من أجل الحفاظ على مكتسباتهم وتعزيزها مهما كلف الأمر في مواجهة صلف واستغلال طبقي فاحش. عليه يتصل تحالف المزارعين، كعدوه الطبقي، بتاريخ ممتد يعود إلى بدايات النشاط النقابي المستقل للمزارعين السودانيين، والذي كان لشيوعيين صبورين فيه دور نضالي بارز. المهم هنا أن التحالف قد تشكّل برغبة شعبية، إذ لم تتفق الأحزاب في قيادتها على تكوينه عند لقاء زعيمين أو ثلاثة في صالون أحدهم، بل جاء ثمرة لجهد جماعي مثابر بذلته قواعد المزارعين، مما أجبر الأحزاب المعنية على تبنّي موقف قواعدها من القانون المذكور رغم سد المصالح الذي يفصل بين القيادات وجماهيرها من المزارعين، لكن المواتاة السياسية ما كانت لتسمح لهذه القيادات، في هذه المرحلة بالذات والاستقطاب قائم بين معارض للمؤتمر الوطني ومساند له، بسلوك درب آخر غير الاستجابة لنداء قواعدها. على هذا الأساس فإن التحالف يمثل قطيعة إيجابية بل تحررية مع تراث شديد الوطأة تسير بحسبه القرارات الحزبية حصرياً من أعلى الهرم إلى أسفله تبعاً للولاء وقنواته، وهو تطور "حميد" بلفظ السيد الصادق المهدي، إذ طالما كانت نفس الأحزاب ترتهن بإرادة دوائر مركزية فيها تجمع سلطة الحل والعقد والمال والطبقة، وتتسم علاقتها بقواعدها الشعبية بكثير من الانتهازية والاستغلال، لكن التحالف بتكوينه المشهود إستنّ سنة يصعب الرجوع عنها، وذلك بفرض الإرادة الشعبية على الأحزاب، أي دمقرطتها بصورة فعلية ملموسة وليس فقط من فوق منابر قاعات ورش العمل والندوات في الخرطوم وعواصم "الحرية" البعيدة، بل من "تفاتيش" الجزيرة وفصول مدارسها التي جمعت مناضلي التحالف من غمار المزارعين على قلب رجل واحد. لهذه القطيعة الصالحة سابقة قريبة في تحالفات حركة الطلبة في الجامعات، حيث كافحت دهراً حتى انتزعت منابرها النقابية من فك المؤتمر الوطني رغم الدعم الغامر الذي يجده الطلاب الإسلاميون من الدولة، ورغم الاعتقالات والارهاب والعنف وبالطبع التزوير. كما لها كذلك سوابق ثورية في اكتوبر الظافرة والانتفاضة المجيدة، فما يضيع نضال الشعب السوداني سدى بل تتراكم مكاسبه ودروسه وبفضله يحرز تغييرات نوعية كالتي بين أيدينا.
كما سبقت الإشارة، ليس الصراع الطبقي حول مشروع الجزيرة بمستحدث، حيث يعود بتاريخه إلى نشأة المشروع في العام 1924 كأعظم وأوسع قفزة رأسمالية في البلاد، أصبح بموجبها جهاز الدولة صاحب عمل يستثمر في البنية التحتية ويؤجر العمالة، بهدف تصدير القطن كسلعة أولية إلى المملكة المتحدة. المشروع مثل المنفذ الأساس للاستيلاء على فائض القيمة من المنتج السوداني، هذا بموجب التحكم الاحتكاري في أسعار القطن وتسويقه وتصديره، وبجانب الضرائب المباشرة وغير المباشرة، وفي المقام الأول عبر الاستيلاء على الأرض، حيث تم في أول عام للحكم الثنائي فرض قانون يجعل جميع الأراضي التي يعجز أصحابها عن إثبات ملكيتها الخاصة ملكاً للدولة الاستعمارية. في العام 1902 تأسست رابطة زراعة القطن البريطانية ومقرها لندن بغرض دعم زراعة القطن في المستعمرات، يحفزها فشل محاصيل القطن طويل التيلة المصرية والأميركية سنة 1909. هذه الرابطة قامت بنشر معلومات تخص قدرات السودان في هذا المجال في دلتا طوكر والزيداب، مما فتح شهية الرأسمالية البريطانية للاستثمار فيه، وعليه قامت الرابطة بشراء أسهم في مؤسسة الزراعة السودانية، وهي من أول الجهات الأجنبية التي استثمرت في السودان، حيث أنشئت في العام 1904 نتاج فكرة للزراعي الأميركي لاي هنت، وأول نجاحاتها إنتاج القطن في الزيداب وفقاً لنظام أجرة يوظف المزارعين المحليين. النجاج النسبي لنموذج الزيداب شجع الحكومة والمؤسسة على التوسع في الزراعة الرأسمالية، فدعت الأولى نفس المؤسسة عام 1911 لإدارة نواة ما أصبح لاحقاً مشروع الجزيرة. في نفس العام أتمت رابطة زراعة القطن البريطانية شراء حصة في أسهم مؤسسة الزراعة السودانية وأصبح رئيس الرابطة عضواً في مجلس إدارة المؤسسة (تيسير محمد أحمد، 1989). سيطرة الإدارة على المزارعين كانت شبه كليه، فالمزارع في الجزيرة كان فيما يخص إنتاج القيمة بروليتارياً يعمل بأجرة، والإدارة تحتفظ بسلطة طرده أو عقابه بالغرامة.
يعود التاريخ المعاصر لحركة المزارعين السودانيين إلى العام 1946، حينما قررت مؤسسة الزراعة السودانية القائمة على مشروع الجزيرة خصم حصة مقدرة من دخل بيع القطن لإنشاء صندوق "لرفاهية المزارعين". أدى القرار إلى إضراب مزارعي الجزيرة وامتناعهم عن زراعة القطن. لم يكن الإضراب يحمل أي صبغة سياسية بينة وتم احتوائه عن طريق إتفاق وسط حول حجم الحصة المستقطعة، لكنه نبه الإدارة الاستعمارية إلى ضرورة وجود جسم يمثل المزارعين، عليه تم إنشاء هيئة لتمثيل المزارعين ذات صفة استشارية بحتة. الأثر الأكثر أهمية لهذا الإضراب "التجريبي" كان إيقاظ المزارعين في أرجاء البلاد لمكن قوتهم الجماعية خاصة بالنظر إلى انهيار أسعار القطن في إطار الأزمة الاقتصادية الكونية. أول جسم نقابي للمزارعين نال اعتراف الدولة كان إتحاد مزارعي جبال النوبة، في بداية الأمر زعمت السلطة الاستعمارية أن الإتحاد يسيطر عليه "الجلابة" والشيوعيون، وبالتالي لا يحمل صفة تمثيلية. لكن الإتحاد حافظ على خطه المناوئ للاستعمار ونجح في تنظيم إضراب دام لمدة شهر، بينما فشلت محاولات الإدارة البريطانية فرض هيئة استشارية كالتي في الجزيرة، مما أرغم الدولة الاستعمارية على الاعتراف بمشروعيته. في المديرية الشمالية، قامت الإدارة الاستعمارية عام 1952 بزيادة ضرائب الأرض والمياه، ما شجع المزارعين على تكوين إتحادات تمثلهم. في البدء كانت حركة محدودة لم تشمل جميع المشاريع الزراعية في المديرية، لكن عند نهاية العام تمت الدعوة لاجتماع عام في عطبرة. مرة أخرى وجهت الحكومة للمزارعين تهمة التآمر الشيوعي بحجة مكان الاجتماع والدعم الذي وجدوه من إتحاد نقابات عمال السودان. رغم السخط الحكومي نجح المجتمعون في تكوين مؤتمر عام لإتحادات المزارعين في المديرية كما طالبوا بإطلاق سراح من تم اعتقالهم في إضرابات سابقة. إبان نفس الفترة استبدلت الإدارة البريطانية الهيئة الاستشارية للمزارعين في الجزيرة بجمعيات للمزارعين كإجراء شكلاني استبقت به التوجهات النقابية، سيطرت على هذه الجمعيات القيادات القبلية والدينية، ومن بينهم كبار ملاك الأراضي وكبار المزارعين، بالتالي لم تكن بأية حال تمثل مصالح المزارعين "الأجراء". كرد فعل على هذه الخطوة تسارعت الجهود لإنشاء جسم نقابي مستقل؛ في فترة وجيزة تم انتخاب لجان قاعدية في كافة انحاء الجزيرة ثم توحدت هذه اللجان تحت مظلة واحدة – إتحاد مزارعي الجزيرة. المطلب المحوري لمزارعي الجزيرة كان تصحيح نسبة تقاسم عائد القطن التي تفرضها مؤسسة الزراعة السودانية منذ بداية عمل المشروع في 1925، أي 40% للمزارع و60% للمشروع. المطلب الثاني كان تغيير سياسات تسويق القطن: حتى عام 1952 كانت السياسة المتبعة تقوم على عقود إجمالية بأسعار ثابتة مع مفوضية القطن الخام البريطانية، بعدها، منذ العام 1953، كان التسويق يتم في مزادات مغلقة، حيث تقوم شركات خاصة بدور الوسيط لمشترين من أوروبا الغربية، أما مطلب المزراعين فكان تنظيم مزادات مفتوحة للقطن تمكّنهم من الحصول على أعلى الأسعار، لا يهم من الكتلة الشرقية أو الغربية. برغم رفض الحكومة الاعتراف بإتحادهم أو التعامل مع مطالبهم واصل المزارعون عقد اجتماعاتهم العامة في الجزيرة لمناقشة قضايا التمويل الزراعي والضرائب وكلفة عمليات الإنتاج، بجانب مسائل التعليم والصحة وشبكة الطرق في المنطقة، كما قاموا بتنظيم عدة مظاهرات وإرسال مذكرات إحتجاج إلى المسؤولين المحليين والحاكم العام في الخرطوم والصحف. الإدارة الاستعمارية من جهة أخرى لم تدخر وسعاً لتعبئة ودعم القيادات المحلية التقليدية في جمعيات المزارعين "الحكومية" عبر الإعفاءات الضرائبية والتسهيلات المالية والقروض الميسرة. بالمقارنة حُرم المزارعون "المعارضون" في المديرية الشمالية من ري محاصيلهم لأنهم عجزوا عن تسديد ضريبة الري نسبة لسوء حصاد الفول والقمح ذلك العام، كما نزعت الدولة في الجزيرة، بموجب قانون صدر عام 1925، ما يزيد عن 250 ألف فدان من الحيازات الصغيرة (5 فدان). بنهاية عام 1953 كان المزارعون في الجزيرة قد إتفق رأيهم على توحيد هيئاتهم النقابية في جسم واحد، ونظموا اجتماعات حاشدة دفعت 70% من عضوية هيئة المزارعين الحكومية للاستقالة الجماهيرية من مناصبهم والانضمام إلى إتحاد مزارعي الجزيرة، الذي أعلن رسمياً أسابيع قلائل قبل بداية الحكم الذاتي في 1954. بما أن مزارعي الجزيرة قد التزموا بالتصويت لصالح الحزب الوطني الإتحادي في الانتخابات التشريعية، ما أهل الحزب لنيل أغلبية مطلقة في أول برلمان سوداني منتخب، فقد توقع الإتحاد أن ينتبه الحكام الجدد إلى مطالبه وأولها الاعتراف الرسمي بإتحاد مزارعي الجزيرة، لكن ذلك لم يحدث، فواصل الإتحاد عمله في الخرطوم بتنظيم الندوات الجماهيرية في نوادي العمال والتي قاطعها الحزبان الكبيران الأمة والإتحادي. بالإضافة إلى ذلك تعرضت قيادات الإتحاد لتحرش الإعلام الرسمي والبوليس، وواجهت عضويته غرامات وجزاءات إدارة مشروع الجزيرة. خلال هذه الفترة حاول الحزب الوطني الإتحادي عزل قيادات الإتحاد عن قواعد المزارعين بالعزف على وتر الولاء للحكومة الوطنية وبالطبع تهمة الشيوعية، بينما إتبعت الحكومة كل السبل الممكنة لتسويف الاعتراف الرسمي بالإتحاد. من جانبه، إنضم إتحاد مزارعي الجزيرة إلى الحملة المناهضة للقانونين الاستعمارية التي تحد من الحريات المدنية والتي قادتها الجبهة المعادية للاستعمار بجانب إتحاد نقابات عمال السودان وحركة الطلبة. بقدوم عام 1955 لم يكن الإتحاد معنياً بإعتراف الحكومة، فقد كان أمراً واقعاً، بينما تعددت وتطورت مطالبه: نظام أفضل للتمويل الريفي؛ شراكة ذات مغزى في عمليات التسويق والإدارة؛ زيادة حصة المزارع من صافي الأرباح (المصدر السابق). منذ ذلك الحين وإتحاد المزارعين يأخذ موقعه في مجمل الحركة الديمقراطية كقوة نقابية وسياسية مهمة، ساهمت في قفزات البلاد الثورية، وأهمها ثورة أكتوبر 1964 حيث شارك الإتحاد في جبهة الهيئات التي جمعت كل القوى والجماعات السياسية التي ناهضت الديكتاتورية العسكرية الأولى، وكذلك كان حضوراً في حكومة أكتوبر الشعبية والتي جاء تشكيلها كما يلي: ممثلاً لكل من الحزب الشيوعي والأمة والوطني الإتحادي والشعب الديمقراطي وجبهة الميثاق الإسلامي، سبعة وزراء لتمثيل النقابات والمنظمات المهنية من بينهم السكرتير العام للإتحاد العام لنقابات عمال السودان ورئيس إتحاد المزارعين (محمد عمر بشير، 1978).
تكاد المقارنة بين النشأة الأولى لإتحاد المزارعين و بين حال اليوم تقفز إلى الذهن دون عون التفكير، فكما كانت جمعيات المزارعين في مرحلة سابقة تخدم مصالح كبار المزارعين والدولة في آن - أي السلطة في تجلياتها الاقتصادية والسياسية، وتقوم بدور المستشار لأجهزة السلطة بما يمكن من استباق وضبط العمل المستقل للمزراعين، كذلك إتحاد المزراعين الحكومي الراهن يقوم بتنفيذ أجندة طبقة متميزة من الرأسمالية الزراعية تجمعها بسلطة الرأسمالية الطفيلية الاسلامية تحت لواء المؤتمر الوطني أواصر قربى ومناصرة ومناصحة. في الواقع، يصعب إدراك الفوارق بين الإثنين وقد تبلورت مصالحهما وتضامنت قواهما بالتواطؤ على نزع مشروع الجزيرة من مزارعيه بسلاح الخصخصة عبر سلسلة من الاجراءات جوهرها الفصل بين توزيع عائدات الإنتاج والجهد المبذول أي استغلال المنتجين من خلال إعادة الهيكلة وخصخصة الإدارات الخدمية التابعة لمجلس إدارة المشروع: الخدمات الآلية، إكثار البذور، السكك الحديدية ..، تمهيداً للانقضاض على ما تبقى من قواعد أساسية يرتكز عليها المشروع في أداء مهامه الإنتاجية الأساسية ممثلةً في الأرض ومياه الري. تبين اللوحة الاجتماعية للمشروع أن أكثر من 95% من القوى العاملة في المشروع تساهم بنحو 80% من الجهد الإنتاجي ولا تحصل إلا على أقل من ثلث عائد الإنتاج للقطن، بينما يحوز أقل من 5% ممن لا يساهمون بأي جهد في العملية الإنتاجية على حوالي 70% من عائد إنتاج القطن، والعائد يمثل صافي حصة المزارعين بعد خصم الحساب المشترك قبل تطبيق الحساب الفردي في بداية الثمانينات (سكرتارية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني، يونيو 2005). واقع اللامساواة والاستغلال الذي تكشفه هذه الأرقام لا يحتاج إلى أي تعليق ويفرض مطلوباته بصورة بديهية، وهي التي دفعت المزارعين إلى التكاتف والتضامن ودعتهم إلى تكوين التحالف عبر الحزبي الذي به طلبوا الانتصار على الإتحاد الحكومي عن طريق الانتخابات. مرة أخرى تقفز المقارنة السابقة إلى الذهن فكما وظفت الإدارة الاستعمارية مفتشي المراكز وأجهزة البوليس لقهر وتفتيت الإتحاد الناشئ كذلك استحثت سلطة المؤتمر الوطني أجهزتها لضمان فوز قائمة الإتحاد الحكومي بسلسلة من الإجراءات جاء بعضها على لسان السيد محمد حمدنا الله: إخفاء النظام الأساسي للإتحاد عن مرشحي التحالف، تعديل لائحة الإتحاد جزافاً بحيث يدفع العضو اشتراكات أربعة أعوام بدلاً عن عام واحد كشرط للترشيح أو التصويت، رفض قبول اشتراكات المزارعين أو إعادتها لهم، الطعن في 90% من مرشحي التحالف بحجة عدم دفع الاشتراكات. النتيجة أن 80% من المزارعين لم يتمكنوا من تسديد اشتراكاتهم وحُرموا بالتالي من التصويت على خلفية تعديل اللائحة وأسباب أخرى شرحها عضو التحالف حسبو إبراهيم بقوله: "الاشتراكات لم تُسدد لأن 30% من 128 ألف مزارع هم الذين يزرعون القطن، لم يتمكن 10% من هذه النسبة من تحقيق أرباح وبالتالي لم يسددوا اشتراكات"، مضيفاً أن "المحرومين أمامهم خيار اللجوء إلى انتزاع حقهم الذي كفله لهم الدستور وإتفاقية السلام بحرية اختيار التنظيم الذي يمثلهم وممارسة حقهم الانتخابي وتكوين إتحاد جديد" (الأيام، 5 ديسمبر 2005). نتيجة الانتخابات النهائية، حسبما أعلنت، أن قائمة المؤتمر الوطني فازت بمجموع 402 من 420 دائرة في ولاية الجزيرة، بينما كان نصيب التحالف 12 دائرة انتخابية، والتحالف يجمع أحزاب الشيوعي والإتحادي الديمقراطي والأمة والحركة الشعبية (الصحافة، 14 ديسمبر 2005). ليس لنا إلا أن نقول "ده إيه الشفافية دي" – "هَبُوبْ سَاكِتْ يا مطر الشِتَا"! دروس تاريخ عمل السودانيين الجماهيري تؤكد أن تحالف المزارعين سيستمر ويتطور ويتقدم، أولاًبسبب المطالب الموضوعية التي من أجلها وُجد وثانياً بسبب الإتحاد الحكومي فقير المشروعية، وتؤكد كذلك ألا سبيل لنيل الحقوق سوى تنظيم الجماهير لنفسها في نقاباتها وإتحاداتها ومنظماتها الفئوية؛ لن تتنزل الديمقراطية من سماء "حكومة الوحدة الوطنية" أو سماء "المجتمع الدولي"، فليس يحقق المصلحة إلا أصحابها! ديسمبر 2005
04-25-2007, 10:11 AM
Muna Khugali
Muna Khugali
تاريخ التسجيل: 11-27-2004
مجموع المشاركات: 22503
Quote: على أن الزكاة مهما تنوعت مصادرها وتكاثرت أقدارها ووزعت بالقسط ليست الا جزءا من رؤية اجتماعية-اقتصادية متكاملة؛ رؤية يعلو فيها الإنسان والعمل على المال، ويغلب فيها التضامن والتكافل على المحاصصة والأثرة، رؤية منحازة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فهل نحن نملك هذه الرؤية؟وهل نحن جادون فى تطبيقها؟ سؤال نوجهه الى أنفسنا فى الحركة الاسلامية، ثم الى "الفريق" من مفكرينا الاقتصاديين وعلمائنا الشرعيين الذين ظلوا على رأس المصارف الإسلامية وديوان الزكاة وهيئة الأوقاف ووزارة المالية والتخطيط الإقتصادى ردحا من الزمن. هل منهم من يملك بالفعل رؤية إسلامية للاقتصاد، أم أن جل ما يعتمدون عليه هو صيغة "المرابحة" التى عثروا عليها جاهزة فى حاشية ابن عابدين فصارت وصفة سحرية تستخدمها البنوك الاسلامية فى تعظيم أرباح عملائها من الرأسماليين، ثم أضافوا اليها فتوى بعض علماء الأزهر بوجوب أخذ الزكاة من الموظفين دون انتظار الحول، ثم أضافوا لهما "روشتة" البنك الدولى برفع الدعم وتحرير الأسعار، أهذا هو الإقتصاد الإسلامى؟
...
كتاب الدكتور محمد سليمان عن حرب الموارد والهويه والذي صدر مرتين,,الثاني فيهم هو عن دارفور بالتحديد.. كتاب مهم في دراسة اسس الصراع في الدارفور وتمرحلها من نزاعات بسيطه الي صراعات وحروب.. كتاب جدير بالدراسه..
تحياتي..
05-29-2007, 09:21 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38103
Quote: كتاب الدكتور محمد سليمان عن حرب الموارد والهويه والذي صدر مرتين,,الثاني فيهم هو عن دارفور بالتحديد.. كتاب مهم في دراسة اسس الصراع في الدارفور وتمرحلها من نزاعات بسيطه الي صراعات وحروب.. كتاب جدير بالدراسه..
تحياتي..
شكرا اختي منى خوجلي
والله انت بمية راجل وفعلا كتاب جدير بالدراسة لكن..لمن كان له وعي او القى السمع وهو شهيد
والباقين وينم والله خسارة بكري يدي ناس باس ورد لربوب ما عندهم شغلة غير الولولة الفارغة طيب كان ما قريتو الكتاب ده جايين تجعجعو هنا لشنووعلي شنو هسه الازمة في السودان ازمة هوية ام موارد/تنمية؟؟ وبعدين هل بدات مشكلة السودان/دارفور سنة 2003؟؟؟؟ واذا ما بنطلع على كتب قيمة كهذا لكتاب او نتحاور حولها لماذا ننشر غسيل قذر يعبر عن جهلنا المركب والمزمن هنا عن ثقافة القبلية المنحطة ...السودان البلد الوحيد المبتلي باردا مثقفين عبر العالم(غارزة ونطاحة) الي من رحم ربي وهم قليل... ........... فعلا كان جينا للبوبار نلقى ناسو كتار
اقعدو يا ناس السودن القديم/البورد القديم(اتل...) في فلان قال لي وفلانة قلت ليها والنميمة المسنجرية لحدت ما الطيارة/الانتخابات تفوتكم
06-19-2007, 09:29 AM
adil amin
adil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 38103
عرفنا حروب دارفور 2003 سببا الصراع الوضيع (حرب الفجار)بين كيزان المركز وكيزان الهامش ثم تفاقمت الاوضاع وانتشرت الملشيات والجنجويد من الطرفين ما سبب حروب دارفور 1988 زمن الديموقراطية المزعومة؟؟؟
ارجعو لباب السابع باب دارفور في هذا الكتاب القيم لتحصل على الاجابة بدل الخطرفة والمهارترات غير المجدية في البورد
حتى لا تزايد احزاب السودان القديم بالديموقراطية وبدارفور
ومن المسؤل عن تغييب ثقافة المجتمع المدني هناك والتنمية ايضا منذ الاستقلال الذى لا ليته كان؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة