|
رحيل ( عرفات ) نجـم لواء 1924 م ـ في رؤى محمد أحمد محجوب
|
رحيل ( عرفات ) نجم لواء 1924 م في رؤى : محمد أحمد محجوب
تقديم : كتب الشاعر الهادي آدم : ودمت بلادي للخائفين أماناً وللمرتجي مأملا سلاما على كل ذي همة رأى فيك ِ ورد الردى منهلا سلاما على كل مستشهد توشحت من دمه ما غلا سلاما على مثخن بالجراح يدوس على جرحه مقبلا وكل يراع أنار الطريق فأذكى المشاعر أو أشعلا وعشت على الدهر رمز الخلود وبلغت أعلى الذرى منزلا كتب ( المحجوب ) في صحيفة الفجر عن ( عرفات ) وقد رحل . زلزال ألم بالكائنات ، فرّت الطيور من فوق أفنانها ، و فرحت العيون الزرق . قد رحل اليوم مجداً من أمجاد أمة ، فماذا يا تُرى قد كتب ؟ . هنا بعض ما خطه قلم الأديب ( المحجوب ) في العام 1937 من الميلاد : ـ ( عرفات )
وإنه لحديث حزين هذا الذي تحويه صفحات الفجر هذه المرة ، لأنها تنتظم دموع شعب كريم عرف لأبنائه حقهم فقدره ، وشعر بفقدهم فبكاهم ، ولأنها تفيض بأنات الشباب ، وقد فُجع في حامل لوائه ، وتزدحم بالنظيم والنثير من كل لؤلؤي اكتسب الحمرة من وفاء القلوب المفجوعة وقضى هو ذوب المآقي الحسيرة . وكم كنا نود أن يكون حديث اليوم في( الفجر ) من فيض قلم عرفات السِحري يعالج فيه ما استعصى من شئوننا العامة ، ويحدثنا عن الواجبات ، ويفكرنا بالحقوق ، ولكن هكذا إرادة الله حكمت ولا راد لقضاء الله .
مات عند الفجر :
في فجر ذلك اليوم المشئوم استيقظت من نومي على صوت أقرب الناس إلى وأحناهم على عرفات في أيام علته التي قضى بعدها ، وما كدت أزيح الغطاء عن وجهي إلا وانفرجت شفتاه عن لفظتين لا يزال صداهما يتردد في أذني وقلبي " مات عرفات " . وهنا استولى عليّ الذعر ، وعقد لسان صاحبي وهو الذرب ، وجاش صدره بالحزن وفاضت عيناه بالدموع وأجهشت في البكاء ، وعهدي به لا يحزن على ميت و لا يبكي على فائت لأن مهنته جعلته يرى الأموات في كل يوم يغادرون هذه الدار إلى دار أخرى ، ولكنه فقد الصديق العزيز والرجل النافع يلينّ القلوب القاسية ويبعث الشجون الكامنة ويفجر الدموع من الجفون الجافة . أجل " مات عرفات " وهاأنذا أعدو في الطريق حاسر الرأس شارد اللب أسكب الدمع فلا يبرد علة ، وأرسل الصوت بالأنات الكامنة فلا يفرّج كربة ، وهاأنذا أدخل داره فإذا كل من فيها حزين ثاكل ، وإذا بطفلتيه الحبيبتين قد جللهما السواد ، وإذا بزوجه الوفية قد ذوت كالغصن الذابل ، وإذا بي أسترجع الذكريات سراعاً ، وإذا بي أرى آماله الكبيرة تنهار ، وإذا بي أرى مجلسه العامر ينطوي ، وإذا بي أرى الصحب يتلفتون ليروا هل من فتى يعقد له اللواء فترتد الأبصار حاسرة لأن الفتى قد قضى نحبه ، ولأن رب اللواء قد سقط في حومة الجهاد ، ولم يبق سوى الجند . فأبكي ويبكي من حولي ولكن ماذا يجدي البكاء .
النعي :
وما كادت أشعة الفجر الفضية تنمحي من أثر الفاجعة الأليمة وترتفع الشمس إلى كبد السماء ولكن بها كلف من أثر الحلكة التي كست الوجوه ، وأعشت العيون إلا وأقبلنا على بعضنا نتفاكر ونقول ،ولكن لعرفات علينا حقاً أكثر من هذا البكاء . لا بد من القيام به ، ولأمة ( عرفات ) علينا بعض الحق لا بدّ من وفائه . وأول ما فكرنا فيه أن ننعيه لأمته ، وهنا عقدت الألسنة التي تحسن الإملاء وجفّت الأقلام التي ما عودت الجفاف ، فهذا يدفع القرطاس إلى ذاك ، وهذا يحاول أن يملي فلا يفلح ، فأيقّنا أن الفجيعة لم تقف عند حد ، وإن هذا الموت لم يكفه القضاء على واسطة عقدنا وريحان مجلسنا ، بل ضاعف الفقد بأن عقد ألسنتنا وشلّ أقلامنا ، فعجزنا حتى عن نعي ( عرفات ) , وأخيراً بأيد مضطربة وشفاه راجفة ، وأكباد واجفة دفعنا إلى المطبعة النعي الذي وُزع على سكان العاصمة المثلثة في حينه ، والذي نشرناه فوق هذا الحديث ، فكان نعياً حزيناً مضطرباً يدل على أن الحزن عقال الألسنة الذربة ، وقيد الأقلام التي لا يكبحها قيد . لفّ نعشه لون أخضر ، عليه كلمات عاش ومات ( عرفات ) من أجلها :
{ الحرية والنهضة والفجر }
تسابق الشيوخ والشباب يتخطفون النعش . أمة تبكي حملته إلى مدفنه ، و أكاليل الزهر على قبره تبدو يانعة . الخطباء يتباكون في مرقده ، وكنت أقول لنفسي : {ستُنسى كلمات التأبين ، وينتصر الموت على الحياة ، مهما خفّفت وطأته الحقيقة . } ولد هو في فجر يوم من أيام عرفات ، قُبيل الفتح الأخير ، وطبول الحرب تدق وجلجلة السلاح ودوي المدافع تصُم الآذان ، وقد أحست روحه وهو في المهد دماء الشهداء تسيل على ثرى الوطن ، وأرواحهم تفيض إلى بارئها راضية مطمئنة ، لأنها قضت واجبها نحو الله والوطن ، وأن من يولد في مثل تلك الظروف لحري أن يقف حياته لخدمة بلاده وأن يجاهد أصدق الجهاد ، ولهذا كانت روح عرفات روح تضحية وجهاد لأنها أحست معنى الوطنية في المهد وتشبعت به .
لم يزل أبناء جيله يذكرون الذكاء والنبوغ ودماثة الخُلق . يبدو لك ذاهلاً متشاغلاً عن دروس التعلم ، تحسبه لا مبالياً ، ولكنه يمّل سماع المكرر من الحديث . لا شيء يوقف طموحه في التطلع إلى العوالم التي تتراءى أمام عينيه ، فيهرب من دروس المنهاج إلى عوالم أرحب . ذلك شأن الرجل الحالم . ( عرفات ) يحلم بتأثيل مجد طارف ، ركض خلفه حتى مماته . انقضت أيام الدراسة وكان في الطليعة المتعلمة في تلك الأيام ، والتحق بمصلحة البريد والبرق موظفاً . بدأ بجِد يعمل ليجد مكاناً لأبناء جلدته بين موظفي الجاليات الأخرى وهم كُثر في تلك المصلحة . إنه رب عائلة تكبر عن مرتب الوظيفة ، فعمل في بيوت التجارة ، وعند الليل يعود إلى داره يقرأ ويكتب ، أو يعرج على بعض أصحابه يجاذبهم أطراف الحديث أو يتقارضون الشِعر ويروون من أخبار العرب والعربية كل طريف وظريف . فهو ريحانة مجالس الأنس والأسمار . المستقبل في العمل يبسم ، والأسرة الصغيرة ، زوجة وطفلتين تبشران بهناء .
الآن قرعت أجراس النداء ولبى ( عرفات ) الطلب . وفي عام 1924 م ، رأى هو وصحبه أن حمل اللواء أوجب ، وأصبحوا رأس فكر يؤجج للنضال غير عابئين بالسجن أو التشريد أو الموت . لم يزل يذكر الذاكرين ذلك النداء الذي نشره ( عرفات ) باللغة الإنجليزية على صفحات ( التايمز ) ونشرت الأهرام ترجمته ، وذلك في وقت كان كُتاب الإنجليزية فيه لا وجود لهم في بلادنا ، ولكن ( عرفات ) كان سباقاً في كل حلبة .
في مصر : ـ
شّد هو الرحال إلى مصر ،ليقرب من معقل النهضة المصرية . فشد الرحال ، وضحى بالوطن الأصغر في سبيل الوطن الأكبر ، بعائلته في سبيل أمته . غادر البلاد غير حاسب حساب زوجه الوفية ولا طفلتيه الحبيبتين وغير حاسب حساب المرتب المضمون و ركب مركب المجهول . اتصل بالدوائر وامتزج بالأوساط ، ورأى في أبناء مصر على عهده حركة دائبة وفكراً ثاقباً وصبراً على الشدائد وتقديراً للواجب . عندما كانت تعرض الوظائف عليه يرفضها بإباء وهو يقول : { ما جئت إلى مصر طالب مال ولا باحثاً عن عمل ، ولكنني جئت أعرض مطالب شعب وأدافع عن قضية أمة }
وبينما هو في كفاحه هناك قتل ( السير لي إستاك ) فزُج مع صحبه من السودانيين في السجن ، وظل سبعة أشهر كان فيها مثال الثبات والصبر والنزاهة ، والثبات أمام القضاء والصبر على مضض السجن ، والنزاهة في الرد على ما يوجه اليه من الأسئلة . خرج من السجن فوجد الحياة على غير ما ترك ، ووجد نظام الحكم غيره بالأمس ، ورأى الوجوه التي كانت باشة بالأمس متجهمة اليوم . ووجد النفوس التي لا تعرف الخور قد قبعت في الدور ، وأيقن آنذاك أن جهاده قد وضع له حد ولو إلى حين . نزل إلى ميدان العمل الحر فلم يأنف من أن يفتح حانوتاً للبقالة يرتزق منه هو وأبناؤه الطلبة الذين ذهبوا إلى مصر في طلب العلم ، ثم من بعد نزح إلى سيناء واتصل بشركة التعدين الإنجليزية ، وظل يعمل بها زهاء العام ، ثم استقال عنها .
في جَدّة : ـ
ذهب ( عرفات ) إلى جدّة ، وعمل بشركة القناعة للسيارات وكان في أوقات فراغه يعطي دروساً في اللغة الإنجليزية واللغة العربية للراغبين . وجمع حوله جماعة من الصحاب السودانيين والمصريين والجدّاويين ، فوجدوا فيه خير عون وخير موئل . بعد أدائه فريضة الحج ، رأى أن يعود للوطن لأنه من الذين يؤمنون بأن المرء لا يستطيع خدمة بلاده خارج الوطن ، وأن الصوت الذي يأتي في ذلك الزمان من خارج الحدود يأتي خافتاً .
عودة الرائد : ـ
تغرب ( عرفات ) عن الوطن مدى خمسة أعوام ونيّف ، وعاد بعدها بتجارب عظيمة . كتب ( عرفات ) من جدة إلى أستاذه ( المستر هللسون ) وكان إذ ذاك مساعداً للسكرتير الإداري في الشئون الأهلية طالباً أن يسهِل له أستاذه سبيل العودة على أن يأخذ على نفسه تعهداً للمحافظة على الأمن العام مدة عامين ، وإذا أخل بالشرط دفع خمسمائة من الجنيهات . ولعل السر الذي لا يعرفه الناس هو الرسالة التي بعث بها للسكرتير الإداري يطلب العودة لبلاده ، فما كان فيها مستجدياً ولا متملقاً ولكنه كان صريحاً حراً . واليك ترجمة هذه الفقرة من تلك الرسالة : { ليس بدعاً أن يطلب الرجل العودة إلى بلاده وعلى الأخص عندما يرى أمانيه وآماله تحطمت أمامه . لقد اشتركت فيمن اشترك في حركة سنة 1924 تدفعني إلى ذلك وطنيتي ، وما أن فشلت مهمتي رغبت العودة اليوم إلى بلادي ولا أقطع على نفسي عهداً بأنني إذا دعتني ظروف الخدمة العامة في بلادي سأحجم عن ذلك } هكذا عاد الرائد إلى وطنه لا ليقبع في داره ويكسب عيش أولاده ، بل ليعمل مع العاملين من أبناء أمته وليلبي النداء من جديد حين تقرع أجراسه .
عرفات في الحِمى : ـ
عاد ( عرفات ) إلى الحِمى وسرعان ما وجد له عملاً عند غير الحاكمين ، فهو متعدد المواهب ، لن يعدم العمل أنى حّل وأنى سار . وجعل يتسلل إلى المجتمعات ويتعرف بالأوساط من جديد ، وكان نادي الخريجين بالخرطوم في طور التأسيس . فقام ( عرفات ) بإخراج وتمثيل عدة روايات لمساعدة النادي ، ولعل الناس ذاكرون له بالخير تمثيله لدور مجنون ليلى وهو يهيم بليلاه ويحن إلى تراب المهد من أرض عامر . ولم تحرم مؤسسة من المؤسسات الوطنية الخيرية من خدمات ( عرفات ) ، فقد مثل رواية أو اثنتين مساعدة للمدرسة الأهلية ، وأقام السوق الخيري الأول لمساعدة ملجأ القرش ، وشرع في السوق الخيري الثاني للمشاريع الوطنية الثلاثة : الأهلية والأحفاد والملجأ ليبرهن للناس أن عمل الخير لا يعرف التحزب ، وأن خير الأعمال ما كان لخير الوطن جميعه وخالصاً لوجه الله ، ولكن المنية عاجلته قبل أن يتم ما بدأ .
( عرفات ) الصحفي : ـ
أبرز ما في ( عرفات ) إيمانه في الصحافة كأداة لخدمة الأمة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية ، واعتقاده في أنها خير أداة لتحقيق مطالب البلاد . وعندما عاد من الأراضي الحجازية أحس بالنقص الفاضح في صحافتنا ، وما كاد الصديق أبو الريش يفكر في إصدار مجلة النهضة ، ودعاني للعمل معه وطلب إلي أن أدعو ( عرفات ) ليعمل معنا ، لأن صلته بعرفات لم تكن لتسمح له أن يطلب منه ذلك الطلب ،إلا وتقدمت لصديقي أزف إليه البشرى بظهور صحيفة الشباب ، وأدعوه إلى العمل في الصحافة التي يؤمن بها ، وكان أن نزل على رغبتنا وقال لأبي الريش : { سأحاول التعاون معك بقدر ما يسمح لي زمني } وخامر أبا الريش الشك في معاونة ( عرفات ) له لأنه لم يعطه عهدا قاطعا . وشد ما كانت دهشة أبي الريش ودهشتي عندما بدأنا العمل ، ورأينا ( عرفات ) أكثرنا مواظبة وتوفراً على خدمة الصحيفة في تحريرها وإدارتها ، وكان أول من جزع لاحتجابها في المرة الأولى وأكثر الناس حزناً يوم ماتت بموت صاحبها عليه رحمة الله وغفرانه .
الفجر : ـ
عز على ( عرفات ) ألا تكون للشباب صحيفة بعد احتجاب النهضة ، فعمل جهده إلى إصدار الفجر ، يرسل أشعته الفضية على سواد هذا الليل الحالك ، ويبذل فيه كل ما ملكت يده وسكب فيه عصارة فكره وذوب قلبه ، فكانت صحيفة الشباب في أدبها وثقافتها واجتماعياتها ووطنياتها ،كانت ملتقى القديم الصالح بالجديد النافع . وهنالك بدت مرونة ( عرفات ) وحنكته السياسية ، فكان يهدئ من ثورة الشبان إذا رأى اللهب يكاد يجتذبهم ويذكيها عندما يرى الجمر كاد يخبو ويصير رماداً، وكان يعمل ما يريد عمله فإذا بالفجر يصدر وإذا بإدارة الأمن العام تدق جرس التلفون تحذر مرة وتهدد أخرى ، وإذا ( بعرفات) يقابل التحذير والتهديد بصدر رحب وابتسامة صفراء ، ويمضي غير عابئ بالتحذير ولا بالتهديد ولسان حاله يقول : { سنعودهم الحرية حتى يألفوها وسنطالبهم بالحقوق حتى يقروها وسنريهم مقدرتنا على القيام بالواجب في غير ما ضوضاء حتى يكبرونا }. وهكذا مضى وخلف ( الفجر ) تركة اجتماعية لهذا الشعب ، واستمر ( الفجر ) في ليل طويل حتى حسبناه لا حقاً بصاحبه ، وكدنا نقيم مأتماً وحداداً وكدنا نؤبن هذه الأمة لولا أن هب شباب البلد العاملون وخافوا من وصمة الأجيال القادمة ، فعاد الفجر بفضلهم وفضل القراء إلى الظهور ، وعرفات الذي ولد في الفجر ومات في الفجر ستنعم روحه بالخلود في هذا الفجر لتحيى ذكرى ( عرفات ) .
عرفات الصديق :
وهنا أرجو أن يعفيني القراء لأن ذلك شيء يخصني وحدي دون سائر الناس ، وما ذكرته إلا ثارت شجوني وفاضت عيوني بالدموع وإذدحمت بمخيلتي الذكريات وكفاني أن ابكيه بيني و بين نفسي في دمعة حارة أرسلها أو قصيدة أدبجها على قرطاس كلما جاش القلب لذكراه وإن أبى الناس إلا أن يشاركونني هذه الذكرى الحزينة فليترقبوها في أوانها في كل عام ، وأما أنت أيها الميت الخالد الحي الذكر فنم هانئاً في جنات عدن تحف بك الحور الحسان ويطوف عليك الولدان المخلدون وثق أن صحابك على العهد باقون وهم لتراثك الأدبي والاجتماعي حافظون ولمبادئك السامية راعون وهذا فجرك منارة هديهم وأداة جهادهم وعليه بعد الله يعتمدون ، وتساعدهم على ذلك أمتك الكريمة التي هم لعطفها وتقديرها راجون . طبت يا ( عرفات ) دنيا وآخرة وتلك عقبى المحسنين .
حاشية : ـ * الكاتب : محمد أحمد محجوب ( رئيس وزراء السودان الأسبق ) * المقال :بعض مما خطه الكاتب و نُشر بمجلة الفجر _ المجلد الثالث العدد الثاني _ 16 مارس 1937 ميلادية .
عبد الله الشقليني 07/09/2004
|
|
|
|
|
|