دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي :
|
إلى السيد محمد عثمان في المكان العالي .
لك منا ألف سلام وألف تحية.
من سمائنا الدُنيا نخطُف منبراً عصياً على مُمتهِني السياسة، يسيراً على الهواة من كل طيف و من كل لون. قُمتُ الآن من نومي مُثقلاً مما في قِدر ذاكرتي من الفواجع. تمُور مما بها من ثريد بلا لَحم وبلا توابل. الماء فيه يغلي بكل الألوان التي تَحلُم بالظهور. عينٌ تنظر ولا تعرف كيف يُدار طعام العصر.كل روائح الزمن الكالح تتفَرَّس في وجهي وهي تقول:
ـ بقي القليل يا عبد الله قبل فراق بينك وبين قلب موطِنكَ المُمَزق في منتهى الحكاية. مُكبر الصوت يعلُو كل الأصوات، قبل أن تُشير عقارب الزمان أن الوقت قد أزِف.
إلى سيدنا في المكان العالي
إلى سيد صنعتْ سيادته محبة الطيبين من أبناء وبنات موطني. نُهديك نظرة تستهدي بأدمُعٍ متلألئة من ملح الأشقياء الذين صادفت الأعياد بُؤسهم. نسور الزمن الكالح من دواخلنا ومن الطقس الرمادي في الكون الجديد تنظُر الفرائس ببصر أراه اليوم حديد. ضجَّت الديمقراطية التي لا نُتقِن مسك دفاترها من ركود أورثنا المهالِك. خرج علينا من يقولون: وضعنا رؤوسنا فوق أيدينا !! . تركوا كل شيء وحملوا رؤوس بني وطنهم إلى مقصلة البتر بفؤوس صدئة.
من الجنوب يأتي النيل يتلوى اثني عشر ألف عام، يسلُك طريقاً ويمدُد ساعديه يميناً ويساراً وهو يقول:
ـ هُنا تصلُح الخُضرة لتلك الأرض المُنبسطة على مدّ البصر. هُنا دار الهجرات الأولى للزراعة والاستيطان. هناك تأتلف السهول بألوانها ولُغاتها وأجناسها، وكان المكر دوماً يتلصص. ابتاعت الدُنيا النفوس ولفظت طيب البوادي.
قام للوسط كيان قبل بواكير الاستقلال. حاز أغلبية مُطلقة تحكُم لأول مرة في تاريخ السودان، وكانت الأخيرة. ترهلت الديمقراطية، لم نعرفها، ولم نستطع أن نُعدِّل كتابها: وزير يُكمل حديثه بعصاه ! ، ورئيس في يده الظرف التاريخي يُمزق مُبادرة كانت بصيص أمل ! . سارت الرُكبان تهتُف عند كل منعَطَف، وعُدنا بخيبات جديدة، وعاد مكر الشقيق يلوِّن المصالح. بقي من الزمان القديم أنتَ سيدي والقِلة ، وكثير ممن هدَّ العُمر فعلهم. إن تيسر الأمر سنُفرِد لكل كتاب.
قال ( هيكل ) منذ عام وأكثر:
ـ السودان وطن آيل للتَفَكُكْ.
عندها كُنا على أبواب اتفاق تاريخي رقص على نغمات طبله القاص والداني، رُغم المُلاحظات عليه، تم استبعادكم من أعياد الوطن التاريخية. قالت بيزنطة :
ـ اليوم للسيوف المُشرعة. هي أكثر لمعاناً من القول الصراح ومن الكُتبِ ومن المؤتمرات الجامعة . تعالوا نُعلمكُم كيف يكون التفاوض: المصالح ثم العفو المُتبادل ، ونحن شهود وجيشنا يحمي !.
وقفت أنتَ سيدي مع الوطن عند العُسرة، وتآلف من يطلبون وطناً رحيماً بأهله. كنتَ السند لرفيق درب في الزمان غيبه الموت القسري. لم تكن الصُدفة من وراء غيبته أو سوء الحظ أبداً، بل مكر كوني أحاط بموطننا وقبض على الخِصر، لتذهب الراقصة إلى التخدير ثم سرير التقسيم ! . لن تُقنعني أخطاء ينسبونها للموتى، ولم تسقط الطائرة الرئاسية بعدم الكفاءة، بل لأمر يعلمه القائمون على سيادة الكون البيزنطي .
بقيت أنت سيدي منذ زمن الأحباب، الذين ارتضُوا بيُسر أن تموت الطبقة التي تتوسط بين الفقر وبين المال الناهِض بالوكالة. وحلَّت ( العُمودية ) في الزمن الآفل مكان برنامج يرقى بأهلنا، وديمقراطية حقيقية تجلس و تتخير أرحمهم على الناس و أرقَّـهُم على الفقير واليتيم. لا نريد أقواهُم مكسراً فقد روَّعنا التاريخ بسيوف الغلاة. كفانا كسراً للغضاريف قبل موعد اكتمالها ، وكفانا موت الأطفال في مزابل الدول اللصيقة والشقيقة ! .
نأتيك الآن سيدي ونصعد إليك في منفى المكان العالي. أهُنالك من موعد لعودة منظورة ؟
لو كنتُ مكان الرئاسة السودانية لأنـزلتك بأثواب العِزة مكاناً أنت أهله، ولفرشنا لكَ البساط الأحمر زينة لتمشي عليها، كما مشى عليها رفيقاً لك أعطى الوطن عُمره.
هذا زمانك التاريخي .
تأخذ بحُضنكَ من أبعدته خواص الطرد المركزي من فقراء الأطراف بيدٍ حانية. تأتلف على رؤى الوطن أمَلاً أن يكون من شمال الوطن من لديه كاريزما جاذبة ليبقى الوطن سالماً من بعد عُسرة . نعم.. الآن بلَّغنا السماء أن الوصال خيرٌ من الصمت، فلم يبق الكثير الذي ينتظر من الزمان.
تقبل محبتنا من قبل ومن بعدُ.
عبد الله الشقليني 19/04/2006 م
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
وفي فجر تلك الليلة , وهي الليلة الثالثة , وأنا في إيوان الحضرة , وإذا بأصحاب الدائرة ورجال الوقت والقطب الغوث صاحب الزمان ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ وقد حضروا وعقدوا بعد الزيارة بالأدب والخشوع والخضوع مجلسهم هناك داخل الحضرة الصيادية , وقال صاحبي الغوث الجامع ـ سلام الله عليه ـ وهو الذي رأيته بمصر في الأزهر وقد ذكرت الواقعة : قف يا بهاء الدين ـ يعني هذا العبد الضعيف ـ وراء هذا الباب , اسمع كلام أهل الديوان لتتمرن على عادتهم .
فوقفت , فبدأوا بقراءة الفاتحة , وذكروا الله تعالى , وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم , وقام منهم قائم ذكر سلسلة الأغواث العظام من عهد النبي ـ عليه الصـلاة والسلام ـ , إلى صاحب الوقت , وقرأوا الفاتحة .
وألقى الخطاب عليهم الغوث من مقامه , فارتعدت فرائصهم هيبة له , ثم سكن حالهم , فخاطبهم من حاله فنشطوا , ثم خاطبهم من مقاماتهم فتمكنوا , ثم خاطبهم من أحوالهم فارتاحوا , ومروا على حوادث الأكوان كليها وجزئيها , وبارك الله بوقتهم , وذكروني هناك خمسة وعشرين مرة , وذكروا هناك أيضا من ينوب عني في مرتبتي من مقام الظهور في مشهد الحكمة من مطارقات الزمان فقالوا : هذا الأشعث الأغبر , الغريب الخفي الظاهر , الواقف وراء الباب : هو صـاحب نوبة التجديد في الشـرع المحمدي والطريق الأحمدي , ولكن نبعة حـاله تتـفجر من قلبه فتظـهر على يد ولسـان نائبه محمد بن حسن بن علي بن خزام , أحد أغصان هذا البيت في خان شيخون أصل وفرع .
فحمت الله تعالى , وبعد إتمام جلستهم الشريفة في مجلسهم الأنور قاموا للصلاة فصلوا , وصليت معهم , وخلعوا علي بعد الصلاة كل واحد منهم على قدر حاله , فأخذت الحصة الكبرى من مددهم .
وقلت للغوث ـ سلام الله عليه ـ : سيدي , هل لكم وقت معين تجيئون به إلى هذه البقعة السعيدة ؟ فقال : لنا أربع ليال في السنة , نعقد بها ديوان الحضرة في هذه الحضيرة الجليلة , إعظاما لشأن ساكنها وأولاده المدفونين بهذا الرواق النير , فقبلت يده , وقاموا وانصرفوا .
محمد مهدي الرواس الرفاعي ـ بوارق الحقائق
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: محمد عثمان الحاج)
|
عزيزنا محمد عثمان الحاج :
لك السلام وأنت تنقُل لنا الكثير من الوَجَد . في مجالس الصفاء ، يمضي الوقت وللكلام رونق ، وبريق . للغة أكثر من سُرادق . تتأرجح الأنجم تُضيء . مجلس حديثه من ثقل الأحجار . الصمت له أكثر من آذان ، والطقس يعتدل رغماً عنه . لا برد هُو ولا غضب من الشمس . تُطوى الأرض طيا ، وتأكل من الثمار وتشرب الماء أو الحليب . العودة لعادات الفطرة . نعُمنا كثيراً بالنص . نراه رواق من أروقة الحضور . شكراً لك ، فلم نزل في مظلة ما تكتُب .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
الاخ الكريم
عبد الله الشقليني,
Quote: وقفت أنتَ سيدي مع الوطن عند العُسرة، وتآلف من يطلبون وطناً رحيماً بأهله. كنتَ السند لرفيق درب في الزمان غيبه الموت القسري.
بقيت أنت سيدي منذ زمن الأحباب، الذين ارتضُوا بيُسر أن تموت الطبقة التي تتوسط بين الفقر وبين المال الناهِض بالوكالة. |
أوجزت فأبلغت وحق لرسالتك أن تصل ليد السبط الشريفة تستبين منه كنه غـياب مولع بالحكمـة.
فعلا فإن (عثمان الميرغني) هـو آخـر النبلاء في مسيرة القادة السودانيين.
Quote: أهُنالك من موعد لعودة منظورة ؟
لو كنتُ مكان الرئاسة السودانية لأنـزلتك بأثواب العِزة مكاناً أنت أهله، ولفرشنا لكَ البساط الأحمر زينة لتمشي عليها، كما مشى عليها رفيقاً لك أعطى الوطن عُمره. |
ترتضي الرئاسـة السودانية من الغنيمة بالإياب وتواصـل الاصرار على الاستفراد بوطن تجيد إثارة شـجــونـه.
Quote:
هذا زمانك التاريخي .
تأخذ بحُضنكَ من أبعدته خواص الطرد المركزي من فقراء الأطراف بيدٍ حانية. تأتلف على رؤى الوطن أمَلاً أن يكون من شمال الوطن
من لديه كاريزما جاذبة ليبقى الوطن سالماً من بعد عُسرة . نعم.. الآن بلَّغنا السماء أن الوصال خيرٌ من الصمت، فلم يبق الكثير الذي ينتظر من الزمان. |
إنها البلاغـة وقد رزقتها أخي عبدالله.
لك التحيـة و للزعيم
أحمد الشايقي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: أحمد الشايقي)
|
عزيزنا أحمد الشايقي لك الود وكثير احترامي لك ، وأنت تمَس اللغة بيد حانية وطول صبر . إنني أثق دوماً في خميرة النوم ، تغلي المراجل في الحُلم وتصفو السرائر . أفقت ووجدتُ حَمل الكتابة يُرفس يطلُب الخروج . لعل الرؤى لولبية تكشف حُزن عالمنا ، وقد تفرق أبناؤه . الضيم أكبر من تحَمُل الأجساد . شكراً لك على الجلوس بيننا .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
احترت أحبتى بين من يحدثنا عن صاحب البساط الأحمر الغائب الحاضر ومن يحدثنا عن صاحب الزمان الباقى حتى يأخذ الراية غيره ؟؟؟؟
هل هما ذات الشخص تُرى ؟؟
للأول السلام والاحترام والرجاء بأن ياخذ بايد التائهين الحيارى وللثانى المحبة والاجلال وأن يشملنا بالدعاء ...
الأول من بعض الغصن الأخضر عليهم اتم الصلاة وازكى التسليم والثاني محب لاهل الشجرة الثابتة فى الأرض وفرعها فى السماء
وازداد حيرة كلما استرجع كلمات رائعات هنا بحق هذا وحق هذا
عليهم السلام وعليكم السلام
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: قرشـــو)
|
العزيز قرشو تحية لك
من يخطو بين الأول والثاني ، يعرف بين سماع الصوت والصدى برهة . بين الشهقة والمفاجئة ريح لولبية . سلام عليك ونحن نستأنس ، وأنتَ بيننا . هُنا لا تمُرّ العين قافزة فوق المعاني ، بل تستريح اللغة لأبجدية لها بين الحرف والحرف سكتة عاشق .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
الآستاذ العزيز عبد الله الشقليني
في آخر سنة لي في السودان اقترح علي الصديق الشيخ ابراهيم البيلي أن نسجل زيارة لطيب الذكر الشيخ حسن الفاتح قريب الله.
وحين جلسنا مع الشيخ حضر رجل عربي الملامح ولكنه ليس سوداني رحب به الشيخ ملقبا اياه بالشريف وكان يتكلم لهجةعربية غريبة استعصى علينا فهمها في حين كان الشيخ يحاوره بطريقة تدل أنه يفهم جميع ما يقوله. ومن السياق عرفنا أن الزائر يقول بأنه أتى من زيارة للسيد محمد عثمان الميرغني. ثم بدأ يتكلم في موضوع آخر عرفت منه أنه يتكلم عما دار في الحضرة. ومن ضمن ما تعجبت منه أنه كان يقول للشيخ أن أبوك قال كذا وكذا وقال شيخ فلان كذا وكذا. وردد كلمة السجن عدة مرات. كان ذلك سنة !1988 وفي السنوات التالية كثيرا ما تذكرت كلام ذلك الرجل وأنا أتأمل فيما يحدث في السودان!
سوداننا الجميل وواقعيته السحرية وأخلاق أهله الملائكية بناها القوم. وقبل زمن طويل حكى لي رجل مسن أن أهل الحضرة قرروا أن يدمروا السودان لكن الشيخ فلان منعهم. في ذلك الزمان كان السودان لا يزال بخير وكنت أنا لازلت فتى لا علم لي بقوانين أهل الطريق فتعجبت لماذا يقرر أهل الحضرة تدمير السودان. لكن حين تنحدر أخلاقنا إلى ما هي عليه الآن من أكل أموال الناس بالباطل وعبادة الدرهم والدينار فلابد أن يهتز بنا السودان.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: محمد عثمان الحاج)
|
للأحباء هُنا ، ونخُص الأستاذ محمد عثمان الحاج تحية طيبة وكثير احترامي . ذكرت كتابك هُنا عزيزنا الأستاذ محمد عثمان الحاج ، وتذكرت مقالاً لي كتبته في الصحيفة السماوية : ( سودانيات ) وكان ذلك قبل أكثر من عام ، لربما كان فيه ثراء حول ما تحدثت به من سرد ، وما يوافق الكثير من رؤى ربما كان هنا مدخل و مُداخِل لها الكثير من التقدير في الأذهان . نرفق المقال كما هو ليُصبِح استفراعاً لجانب من ثقافة لها المريدين في ضفاف الوطن : النص :
إضاءة حول الكرامة الصوفية
يقول الشيخ محمد الطيب الحساني :
( لحظاتنا كلها كرامات وليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العِلم )
إن من يطلع على ما يُطبع في المطابع العربية حول الكرامات ، يجدها تكاد تفوق كل ما طُبع عن الكرامات في كتب التراث . وتحوي سير الأولياء ، المناقب ، الشطحات ، النفحات ، الأعاجيب ، الخوارق ، المدد ، ، البركة وأحياناً المعجزات . ولعل المدد هي الكلمة المرددة في جنبات الأضرحة والمزارات المقدسة ، وترد على أفواه الناس و ذوي الحاجات الذين يؤمنون بالكرامات ويتناقلون روايتها مخلفين لنا بوعي أو بدونه تراثاً أدبياً جديراً بالدراسة وحَرياً بالنقد والتحليل . إن التحليل والدراسة تقرب الراغب في المعرفة ، حتى لا يجذبه التقديس من منطلق إيحاء صوفي ، أو النبذ من منطلق عقلاني بتحميل الناتج وِزر بؤرة اللاوعي في العقلية الغيبية للإنسان المعاصر . لقد بات واضحاً في مجال المعرفة أن المنتج غير العقلاني يلعب دوراً كبيراً في صُنع التاريخ ، وفي تحريك مجرياته . يمكن مراجعة ( حضرات الخليفة عبد الله التعايشي ) والخاصة برؤية المهدي و الخضر و الرسول الكريم في إحدى الحضرات ، والتأمين على رأي الخليفة في غزو الحبشة وغزو مصر . و بالرجوع لمنشورات المهدية الذي حققه الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم يجد الراغب فوق ما يتمنى . إن إهمال المنتج غير العقلاني بدعوى الإغراق في الغيبيات ، يفقد المُتقصي جانباً من دراسة مجتمعه أدبياً واجتماعياً وسياسياً وتاريخياً ونفسياً. فالكرامات هي مادة الحديث في السمر ، ووسيلة وعظية في المساجد . وهي من أدوات الترقي في المقامات لدى معظم أهل الطرق الصوفية . وهي من الأغراض التي يتكئ عليها الأدب العربي الحديث ولا سيما في الرواية . وقد استثمر الأديب الفخيم الطيب صالح الكثير من التراث الصوفي الذي تحفظه الذاكرة الشعبية السودانية ، وأينعت ثمار أدبه أينما إيناع ، وأزهر القص عنده جاذبية وروعة ما بعدها روعة . إن النص الكراماتي هو نص روائي لا متناه ، يستطيع أن يواكب العصور بوهجه ، ويتجاوزها بنصوصه الشعبية الهلامية وصفاً لسير الأولياء . لقد أخطأ المؤرخون كثيراً عندما أزاحوا الكرامات الصوفية جانباً ، إذ أهملوا جانباً خصباً من طرائق البحث في الوجه الآخر للمجتمع ، أشبه بالتأريخ الشعبي للحياة كما يتصورونها في ذواكرهم أو يتمنونها في دُنياهم . لقد كانت الكرامات منهلاً خصباً للأدب حيث وُظِفت توظيفاً انتشله من التقريرية إلى الخيال اللا محدود ، وقَدِمت الرؤى الشعرية التي تركت بصماتها على الأسلوب الأدبي والفني . فالكرامة تنشأ من الراوي كطرف ، ومُحقق الكرامة ( المدد ) كطرف ثانٍ ، وشهود الكرامة كطرف ثالث . وتتحرك الكرامة في محور إثبات الولاية للولي ، والتنفيس الإبداعي عن أفراد المجتمع ، و الكرامة ذات المدلولات التعليمية . لقد وجدت الكرامات من القص الشفاهي مع النقل و الإضافة من الخيال مزرعة خصبة ، فابتنت لها دوراً شاهقة زخرفتها بالنقوش ، حتى أضحت بما عليها من ألبسة فضفاضة و ناعمة تلتف من حولنا وتنبت في أنفسنا سحراً طفولي الملامح ، يُسكِن الأساطير شُعب الخيال . إن الدهشة سيدة الجاذبية ، والخيال هو الحاضِر دوماً . يُغذي تلك الصورة الحالمة ويرفدها من نبعه الذي لا ينضب. يمكن للكرمة لو جاز لنا وصفها في صورها الشعبية المنقولة إلينا حين تتلون بألوانها و تتخلق بغرائبها تتأرجح بين الخيال والرهبة والحُلم وهي ترتدي القلائد المُقدسة : ـ طيراناً في الهواء ، أو مشياً على الماء ، أو تحمل الجوع والعطش ، أو طي الأرض ، أو تسخير الملائكة والجن والحيوانات والجمادات وكائنات أخرى ، أو إنقاذ الناس ساعة الحاجة ، أو التنبؤ بالمستقبل ، أو القدرة على شفاء الآخرين من الأمراض ، أو المعاونة على التأليف ومعرفة كل العلوم ، أو مصاحبة الأنوار والغمام ، أو إحياء الموتى وتكليمهم ،أو خلود الولي بعد موته أو إرهاصات موته ، أو تحقيق النصر على الأعداء ، أو القدرة على تغيير جوهر الأشياء مع بقاء الصورة ، أو مشاهدة الخضر ومصاحبته ...الخ الناظر لحياة مؤسسي الطرق الصوفية عندنا ، والمميَّزين من سلالتهم في كافة ربوع بلادنا ومنذ القدم ، يجد أنهم يُعرَفون عند الناس بأهل العلوم الدينية . إن لهم دوراً محورياً في حياة أهلنا ، تُلبسهم أقاصيص الكرامات لباساً متوهِجاً ، توقِد المحبة في أنفس المُريدين فيمطرونهم بمتاعبهم ، و يلتمسون في صحبتهم رحابة الصدر وسِعته ، يطربهم الدعاء لهم بالخير . إني أرى العقل الباطن ، صاحب الغريزة المنفلتة في صراع دائم مع العقل الواعي . وأرى أن الصورة المُثلى التي تتصارع بين الضوء وبين الظلمة ، أو ما يسمى في اللغة الأخلاقية الصراع بين الخير والشر ، يجعل المستضعف في هذا الصراع يبحث عن نصير ، يُعينه ساعة الخوف الكُبرى ، ويتوسم الدفء الحنون أينما كان . يتقبل المتصوفة النفس البشرية بما بها من ضعفٍ وقصور . لا يلهبون ظهرها بالوعيد والنفي والبتر والقطع ، بل بالعون على الطريق بالميسرة . وينهجون نهجاً مغايراً لنهج أهل الظاهر ، يتقبلون الضعف بالرحابة حتى تقربت العامة والخاصة إلى دورهم . ففي غيوم إسقاطات الدنيا وأهواء النفس المُتقلبة ، ينهض الشيخ الصوفي الرحيم داعماً للعقل الواعي وقد تجسد لحماً ودماً . يترفق ثم يتصالح مع العملاق الذي يسكن الذاكرة ، حين يسود بالغرائز ويلتهب بالخوف . إنها النفس وقد أضجرها ما بها ، ترغب أن تنام في حضن تطمئن إليه ، يستنجد الفرد بكلمات يتقوى بها في وجه العافية حين تضعف ، أو الخوف عندما يستوطن أو الأحلام حين يستعصي تحقيقها ، أو الهموم عندما تتكاثف . إنها النفس وقد وقفت عارية تسأل النجدة . إن طرائق تدريب المتصوفة لأجيالهم اللاحِقة ، وصبرهم على مهارات التعامل مع المُريدين ، تجعلهم يتقنون معرفة المُقبلين عليهم ، باختلاف طبقاتهم التعليمية والثقافية والاجتماعية . يدخلون عوالمهم ويتحكمون في عواطفهم . لقد مكنهم كل ذلك من تبوء تلك المكانة التي يعجز المرء عن إدراك عظمة عوالمها . لقد توقف المستعمرون كثيراً أمام هذه الظاهرة ، فقد كانت ولم تزل محبة الناس هي القوة التي ترفِّع الشأن ، وتسمو بالمتصوفة تلك المراتب . وأرى أن صناعة المحبة في أنفُس الناس مهمة شاقة على التوصيف ، يلفها الكثير من الغموض و التعقيد . فالمسلك تجاه الجميع والنظر لأمورهم بمنظار الرأفة يُحبب المُريدين إلى مجالسهم ، لاسيما عندما يجدون ذواكرهم تنهل من وهج السلالة و عِطر تاريخها ، تربط الخلف بالسلف ، فتنمو المحبة وتزدهر . تثري الحياة الوجدانية من حولهم وتكسبها أهمية في مجتمعاتهم تفوق دراسة العلوم الدينية واللغوية التي تقوم عليها البنية التحتية للتعليم عند المتصوفة . لقد نهل هؤلاء من حضارات أمم الشرق القديم ما أعانهم على إبداع المناهِج الدافئة والجلوس للصفاء ، وتفتحت أذهانهم للحياة العِرفانية . والرصيد المُدون من تراث المتصوفة في المشرق أو المغرِب العربي ، إضافة للتراث المدون من إرث المتصوفة السودانيين قد أمدتهم برصيد وافر من المرجعية والزاد . فتمارين التعبُد والصيام ، وقراءة الأسماء والأوراد وطقوس قهر البدن وإذلال الروح للانصياع ، هي التي تمهد لنور الصفاء أن يرسم خطوطه في أوجه المتصوفة و يمهد لنقل الإيحاءات القوية للآخرين لحظة رؤيتهم أو مخاطبتهم . و عند توهُج الحضور للشيخ المتصوف تتبدى صورته في رونقها ، و ينهض الذهن البشري بالإيحاء و يتخلَّق في أبهى حُلله . تطرب الدنيا من النشوة ، كأنما تغشى العيون غشاوة سحر مسمري قديم ، وتنهض الشخصية الكاريزمية من سُباتها وتطوف المحبة من حولها أفواجاً من الناس . عبد الله الشقليني 10/03/2005 م المرجع : 1/ منشورات المهدية ، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم 2/ أدبيات الكرامة الصوفية ، للدكتور محمد أبو الفضل بدران
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
أخى الحبيب عبدالله الشقلينى
لك التحية والاحترام
سعدت بمقالتك فى العام الفائت وقد طفت بنا سيدى فى رحلة جميلة مشوقة ولعل لبها ما نعانيه الان وهو الاحتراب بين اهل العقل والمنطق واهل التصوف واحتمال الاخيرين الاذى دون رد ولك سيدى ولهم اقول كيف يحس بحلاوة الايمان من لم يتذوقه ؟؟؟ وكيف يحس بروعة الصوفية والكرامة من لم يلج عالمها ولم يفتح الله بصيرته ولعل المرتكز الأول للكرامات سيدى هو قول الحق فقد قال الله تعالى في القرءان الكريم: ألا انّ أولياء الله لا خَوف عليهم ولا هم يحزنون الذين ءامنوا وكانوا يتّقون لهم البشرى في الحيوة الدنيا وفي الأخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم [سورة يونس:62-64]. ترى ما هى البشرى فى الحياة الدنيا ؟؟؟ الناس لا يفكرون ولا يتفكرون بل يسارعون لرمى غيرهم بالباطل دون وجه حق ... ثم أن لنا فى نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم اسوة حسنة وهو القائل : عن ربه أنّه قال: "فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها" رواه البخاري، ويقول الامام الرفاعي رضي الله عنه في شرح هذا الحديث: "الصقوا بأولياء الله، الولي من وادَّ الله وءامن به واتقاه، فلا تحادوا من وادّ الله. الله ينتقم لأولياءه ممن يؤذيهم، عليكم بمحبتهم والتقرب اليهم تحصل لكم البركة". إذن الأساس سيدى لفهم الكرامات واهل الكرامات هو الدين الحنيف ولكننا فى زمن ضعف فيه طلاب الدين حتى اصبح من يتمسك بدينه يلمز ويستهزأ به بل ومصائيبنا انه اتانا من يدعى الاسلام ويطعن فى الشريعة الغراء ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم ... شكرا اخى الكريم على هذه الاضاءات التى يتجلى نورها فيعم الاعماق وينير الدواخل ويجعلنا نعود لاحبابنا الصوفية نستقى منهم العلم الجميل الذى لم يسطر فى الكتب ولم يدرس فى الجامعات والمعاهد علنا نجد عندهم هدى ....
مع خالص حبى وودى الجميل
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: قرشـــو)
|
عزيزنا قرشو شكراً جزيلاً لك
وقد أعطيتنا أكثر مما نستحق ، ونأمل أن نكون كما تَوَدُ . إن علوم النفس البشرية ، كساء فضفاض يحمل في خيمته الكُبرى الكثير الذي يتعين معرفته و فهمه وفهم المسلك والجاذبية بين الشخوص ، والمُريدين . وودت لو أستطيع استفراع حديث عن الصفحة المُتصوفــة والفسيفساء ، إلا أنه ربما نخرج من إطار كتابنا ، أو ربما يتحدث أحد الأحباء هنا من أننا تركنا الرسالة بما تحمله من أوجاع الوطن ، وفتحنا بوابة حول الخيط الذي يربط المشايخ والمُريدين والمحبة : من أين تبدأ ، وكيف تسير ، وكيف المآل . وكيف يمكننا في وسط ذلك الخضم أن نجد خلخلة لمأزق الوطن وأوجاع أهله . وتذكرت صفحة كتبتها أيضاً في المجلة السماوية ( سودانيات )
واسم الموضوع : الحلاج يرحل عاشقاً و مُعذباً
أيمكنني فعل ذلك ؟ لست أدري . ولك شكري ومحبتي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
الأخ عبدالله
لك التحية والاحترام
اعتذر أولا للتأخير فى الرد عليك والتواصل معك
واننى أتوق لانزال تلك المقالة فاخوك محروم من مثل هذه الكتابات الرائعة الجميلة لاننى اعيش حيث لا مناخ للكتابة الا فى اتجاه واحد فقط ..
فالحلاج يحيل مساحة واسعة فى فكرنا الصوفى وما تعرض له ...
فى انتظار ردك وانزال الموضوع
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
الأستاذ عبدالله الشقلينى
تحية طيبة
بارك الله فيك سيدى ونور عقلك وقلبك بنور المعرفة اللدنية حتى تشع انوارك السرمدية فتضىء لنا وللاخرين معرفة فتزيدنا حبا وقربا...
لعلنا سيدى لم نسرق الوهج من العارف بالله محمد عثمان الميرغنى ولن نغمطه حقه حينما نذكر اخوة له فى الطريق بهرتنا سيرتهم وذهلنا من اقوالهم واستعصت علينا كما استعصت على الذين سبقونا حواسهم فاعملنا - ومازلنا - كل مشاعرنا علنا نقترب وعلنا نعرف ولكن شهب القرب تحرق لمن لا يقوى ونحن لا نقوى سيدى ...
سعدت بمقالتك عن الحلاج وما جمعته فيها من اقوال من عاصروه ولعلها تكون ردا على من يكفره الرجل كان ذائبا فى الحب الالهى ولذا تقمص شخصية غير ما اعتاد عليه الناس ولعل فى هذه الكلمات فقط Quote: نهج الحلاّج منهج الغلظة على الجسد لجلاء الروح وصفائها ، حتى أصبح مُخشوشِناً كقِشرة الثمر ، تُمعِن هي في الصلابة لتُنَضِّر باطنها فيحلو المذاق . و رويَّ عن أبي يعقوب النهرجوري أنه قال :
دخل الحلاّج مكة دخلة ، وجلس في صحن المسجد سنةً ، لم يبرح موضعه إلا للطهارة والطواف ، ولم يحترز من شمس ولا من المطر . وكان يُحمل إليه في كل عشية كوز ماء وقرص من أقراص مكة ، وكان عند الصباح يُرى القرص على رأس الكوز وقد عضَّ منه ثلاث عَضات أو أربعاً ، فيُحمَل من عنده .
|
ما يرد عليهم وما يطمئننا بأن الرجل بلغ من الايمان درجة تفرد بها ولن يجرؤ غيره على الاقتراب منها فهو مشعل حب يضىء لمن يود المسير ...
حقيقة اجد متعة سيدى فى ذكر اهل الله واجد فى سردك خاصة تفردا يزيدنى وجدا وارجو ان نعود لصاحب البوست ونوفيه حقه ، اما انا فجاهل فى ذلك المضمار وانتظرك لتنورنا عنه أكثر وأكثر نفعنا الله واياك بجاههم سيدى ..
مع عميق احترامى وودى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
الأخ الكريم عبدالله
لك التحية والاحترام
النص سيدى اتانا موشى بروائع الكلم وبجميل التعابير فطغت حلاوته على هدفه السياسى ولعل السياسة فى بلادى تعودت ان ياتى حاملوها العصى والسكاكين والان يحملون المسدسات والمتفجرات حتى نفر الناس منها واصبحوا يتوارون من مقدمها ولكنك كنت صاحب طرح متفرد ولغة محببة لنا ولذا ولجنا البوست - وان حورناه قليلاً - بشغف وحب فكلماتك حببت لنا السيد المبجل وهو صاحب سيرة حسنة وحقيق علينا ان نقرأ عنه قليلا من خلال المحبين أمثالك طالما يكتبون بهذا الاسلوب الجزل وطالما يترفعون عن ساقط القول وكما اسلفت فى بوست سابق لأخ كريم فاننى إن وجدت السيد فساقبل قدمه حباً فى اصله الكريم واعيد قولى بأننى اسعد بقراءة أى شىء عنه وهو لا ينفصل عن الشجرة المباركة ويهدينا وهج منها نشتاقه ونبحث عنه ...
لك تحياتى واحترامى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: قرشـــو)
|
عزيزنا الأستاذ قُرشي
لعلك قرأت ورقة قلبي النابض بكتابك الأخير .
فورقة السياسة ولُغتها المُتعجرفة ، التي اعتدنا لا تقدم إلا خطاب إزراء . أصدقك القول إنني أتهيب الغوص في الغث ، ومُباشر اللُغة أياً كانت . خير المناهج ما أراه يُقدم فائدة وإعلاء للتواصل التفاعُلي . القارئ عندنا في صفحة السماوات يتمدد عُمره ، منذ قبل العشرين إلى ما فوق الستين ، وذاك لعمري هو من تفاوت طرائق السرد ، وطوافان التجريب ، وبالونات الإعلام التي اعتادها من يرغبون بمكر أن يكون الاسم فوق العيون التي تقرأ ، دون التقصي أن الكتاب مرآة صاحبه .
شكراً لك مُجدداً ، لعل صلتنا بك وبكثير من الأحباء هُنا ، هو الخير الذي تيسر ، وإنها لنعمة يستحق المرء فيها أن يشكُر من يسر لنا ، وهو المعلوم والمحجوب الذي نعرفه .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: إلى السيد محمد عثمان في المكان العَالي : (Re: عبدالله الشقليني)
|
إلى السيد في المكان العالي ،
تحية وألف سلام
ـــــــــــــــ
وللأحباء هنا نقول :
لم نزل نلتحف الحُزن ، ونشرب من سُمه . ما أشبه إبريل العام الماضي بإبريل اليوم،
ماذا يكتُب القلب عند الإنحسار ، أو حين رحيل الروح قرب الأسحار .
كتبنا في وداع الأزهري الإبن :
محمد الأزهري يا بهياً بزينة القُرى والمَدائن.
لن يُضير العُمر إن جلس قليلاً و انتظر. لن يُضير العُمر أن يبقى حتى ينفُخ في وجهِها حليب الفأل ، ويبدأ العُرس المُؤجل ونَفرح لهما وللوطن. للفواجع أن تهنأ فقد نسجت عُشاً لغُربانها وأسكرنا رجز الثواكِل . ها هوَّ الحُزن يصُب العلقم في الحُلوق عُنوةً.
جاء الصباح بشمسه المُحتقِنة ، واسودَّت مصابيح العُيون على فراقكَ يا سيد النضار . مآقي الدمع تنـزف بالفراق، أ هذا ما وعدتنا به يا زمان البؤس : ذبح قديم في جُمعة عظيمة ، ثم عيد للقيامة مُفرِحٌ ، ثم سفر لك سيدنا بلا عودة ! .
هذا ربيع الجمر حَط على مضاربنا. هدَّ المسير رواحلنا وتكالب الطير ينتظر الوليمة. في وداعك التفَّت الأجساد برايات قديمة ، ونزفت الطرقات بالأفواج رَذْماً . أول الرؤساء عندنا جال في الخاطر ، و تذكَّرنا الآن كيف كان رحيله المقهُور فادحاً . كنت سيدي خرزة عُنقود تمجد، يصلُح لريح الزَّعامة أن تركُض في أثره بنفيس أثوابها، وثقيل ملحها، وعسير أيامها تَطلُب الرضا.
الوطن و قد أعيته التضاريس، يسير حافياً. ما أن تنهض فكرة تُطوِّر حتى يتخطفها الكواسر من كل صوب. تستعصِم هي بالشرنقة ، ويستَقوي غلافها عليها فتحتَجب .
رأيتُك أول مرة وأنتَ في منتصف عُمرك الجامعي، وكانت الأغُصان يافعة تلهو بها الريح. كستكِ الوداعة من بساتينها. كنـز الروائح من دواخلنا يفوح وأنتَ ببساطة طبعك كُنت :
( سيد نفسك مين أسيادَك ؟ ) .
أتذكرني سيدي وتذكر رفقتي، أم أن الروح يشغلها هوى جديد ؟ كنتَ على اليمين والصديق صلاح حسن أحمد على اليسار، ولا تصلُح هُنا إلا كلمات الشاعر أحمد محمد علي :
همسات من ضمير الغيب تُشجي مَسمعي و خيالات الأماني رفرفت في مضجعي
لم يشغلك الإرث العظيم، ولم يُخامرُك التعالي. حديثك بيننا يُطرب، وأصابع يديك تُمسِك بأحاسيس الدواخل . كنتَ شمعة أكبر من كل المصابيح التي عهدنا، ثم صعدت فرعاً باسقاً، وها أنتَ الآن نجماً يومِض من بعيد .
إنها الخسارة الفادحة.
حلَّ علينا زمان الفرقة ، شرٌ مستطير. أُقنوسة المُلكْ الحزينة جلست على رؤوس لا تستحق ! . كان موعدك على قارب في اليَّم، وحولك سُفن القراصنة مُشرعة. هذا زمان آسن يُغرِق أحباءنا ويُنجِي الثعالب ! . الأشقياء دوماً يطول عُمرهم، وأنت طيب مثل أبيك ترحل قبل إنجاز المُراد . الدهر صوَّب سهمه وتكسرت النِصال على النِصال. تفككت الأصفاد عن الروح، وغادرت جسدك البديع إلى عوالم أرحب. رحلتَ مُبكراً سيدي والجُرح مفتوحا على سَفح الهزيمة و الملف الآن ينتظر. لك السلام في أرائك العُلا، و لكَ المَحبة منذ كانت، والقلب يركُض في أثر الهوى وإن رحَلتَ.
عبد الله الشقليني 27/04/2006 م
| |
|
|
|
|
|
|
|