خمسة وثمانون وتسعمائة وألف : هو عام الرحيل الباهِر .
ما أحوجنا إليك . عُدت الآن إلينا تُطل من قُبة السماء . تَنفرج صورتك البهية كمطر السقي الأول . الضوء برقٌ والرعود زلازل ، والأحجار جماجم على الثرى ، ترتدي لحمها وجواهرها لتُبصِرك. ذكراكَ نبتة عُشبٍ أخضر لأدواء النفوس ، وكتابُك إستبرق . لن ينتحب الدهر ، وبين أيدينا ورثنا عَرشَكَ المُتَكلِم . صورتك المُنى ، والحُلم عَجَّل بالرحيل ، والريح تنفُث حُزنها أسفاً علينا .
(2)
فتحنا عُلب الذاكرة : العشب يُغطي الأرض وأنت تنظُر الأفق. للأخضر حزماً من الألوان وللمكان فُسحة تُسابق الريح فيها الخيل . وجدناكَ هناك تمشي بخُطى الرُسل ومؤسسي الديانات القديمة . في محبَسِكَ القديم جلستَ إلى الصفاء وصادقتكَ نفسُك وتصالحتَ مع الدُنيا ثم خرجتَ خُروجاً بيِّناً .
من يقرأ أسفاركَ و أقوالكَ يعلم أن وراء المُعلِّم رؤيا في منامٍ انكشفت أستارها .كأنها تركب سرج سابحٍ له أجنحة ضاربة عرض السماء بذيل طاووس . سِرتَ بين أسفار العقيدة سير المُتمَهِل. قرأت من الماضي واستبطنت الجوار المُحمدي ومسَّت بصيرتكَ الصورة الباهرة ثم صُعِقتَ بالحُلُمُ . كانت أردية النبوءة أثقل حِملاً على جسد المُريدين ولم تزلْ . تخاطَرتَ أنتَ مع المُستَقبل من مورد الماضي . استسقيتَ من البِرَك التي لا تنضب . جلستَ لمولاكَ الذي زين لكَ الكون جُرعة محبة . بصفاء هبطت الرؤيا هبوطاً سدَّ الأفق : جسداً وروحاً و جوهراً . ما بين الحنايا أكبر من أن يُخفى ، حتى تيسر أن يستَكتِبُكَ مولاكَ فكتبت.
(3)
أيهم أطول في الخطو فيسبقُك؟
تتبع (محمود ) سيرة المصطفى . قرأ وتبِع الأقوال والأفعال . استبطن من سيرة مُعلمه النبي ـ ذاك عالي المقام ـ كيف يُميز بين نهجه في تدريس أهل زمانه ، ونهجه الذي ينفلت من عصره إلى مُقبِل الأيام وفتوحات المُستقبل . قرأ وصلى وترقى في صلاته لتأتيه النفحات المُباركة تتساقط عليه كِسَفاً في اليقظة وفي المنام . كان المحبس الجبري عندما بدأ أول مرة ثم كان محبسه الذي اختاره لنفسه من بعد ...منذ منتصف القرن الذي رحل .
بدأت الصلاة عنده من أولها : تغتسل و تتوضأ وتقف وتُكبِر وتقرأ وتركع وتسجد وفق التقليد... فالطريق الذي يوصل يبدأ من هُنا ثم صعودا . استبطن من المنقول عن النبي خيطاً يميز به خطاب النبوءة في عصرها وحين مدَّ التسامُح طوفانه ، ما استطاعت الدُنيا حينذاك أن تكون بقدره . رأى ( محمود ) أنها نُسِخَت لأنها أرفع مكانة وتستأهل الإنسانية القادمة وإلى مُنتهاها .
جلس هو جلوس الصفاء وهصر بدنه بالعبادة حتى تتخفف الحُجب الغليظة وقرأ ما وراء الخطاب ، فالعامَة يحسبهم يقرءون على عجل ، أما العلماء فأغلبهم نَقَلة تجارب الماضي وحَفَظة نصوص . لم تُسعفهم مكانتهم العالية في اللغة ودراسة علوم الدين أن يستبطنوا المآل من الخطاب الكثيف إلا من رأى منهم الشمس بازغة وهم قلَِّة . لمسوا خيوط محبة المصطفى و نسجوا نسيجاً باهراً وقرءوا الذكر بعد أن تبينوا معانيه وانتهجوا النهج من أول السُّلم وصعدوا . كتب بعضهم في الإشراق وفي الفتوحات الربانية التي على إبداعها لا توافق شكلاً ظاهر الشرائع التي ترى أن الرسالة واحدة : نُسخت فيها آيات السماح وإلى الأبد .
قرأ التقي العابد وجلس جلوس الصفاء فتفتحت قرائحه إلى كيف تصلون وما شريعة الأحوال الشخصية وما مكانة المرأة وما جهاد السيف وما الزكاة ...، حفر الذهن ومدَّ بصيرته لرؤى تقف في وجه التقليد بالتأويل وتكشف الحُجب التي كان يتعيّن على أمثاله أن يكتبوها للناس ، فهو رسول من رسل القراءة التي تُعيد للعقيدة تسامحها و أن المولى قد اختارها لعباده درجة ثم أخرى إلى يوم يُصبح الفتح أعظم والإنسان سيد بعلمه لا بسيفه .
(4)
في يوم الجمعة الكُبرى صعد الشهيد ( محمود ) عتبات الوجود قبل الذهاب ثابتاً لرحلة العبور إلى دُنيا غير التي نحيا . كان فَرِحاًَ يتبسم . قَتَلتهُ انزووا في ظلمة الكسوف الأكبر . رحلت عنهم الكرامة و معرفة الحق فالدُنيا نعيم لمن يتصالح مع نفسه وجحيم لمن يكتشِف لاحقاً أن الخسران المُبين هو أن تستل سيفك في وجه أعزل .كان المُعلِم شجرة في كل ورقة من أوراقها بُرعُم يُزهِر قنديلَ بِشر . نقيٌ هو ملائكي المَسلَك : ناصِحٌ وناصِعٌ و صبوح .
(5)
هذه صورتكَ النبيلة يا نسمة رقة بها من العطر: أول ما يأتي مع مفاتيح الصباح وضوءٍ من باذنجان الليل فتح قلبه . عابدٌ انتظر الصباح ليله وهو يحزم أمره . أخذته السَّكينة. أ أنتَ يا ورقاً تُسمِّد الأرض لتُنبِتْ البواسق من الشجر المُثمر ؟ . لن تمضي أيامي مُبعثرة وصدركَ حانٍ ، وقطاف أزهار ربيع العُمر أقرب من أكسيد الحياة .
كَم يقْزُم جَلادوكَ !؟ .
إن الوزر أثقل من أحجار الرحى حين تحملها الحنايا . بيت قلبِكَ الظليل يا سيد الكِرام أعشاش محبة لَففتُه لنا في ورق الهدايا : استنارة تفرح الطفولة في الدواخل ، وتُطرِب بيت الفِكَر . نم هنيئاً بين الثُريات في عليائك فنور محبتك أشرق مثل شمس الوجود ، وأينعت قِطائفُكَ تُلامس وجداننا وبقيتَ سرمدياً بين أضلعنا وطاب لكَ المقام.
Quote: إلي الإنسانية ! بشرى .. وتحية . بشرى بأن الله ادخر لها من كمال حياة الفكر، وحياة الشعور، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وتحية للرجل وهو يمتخض ، اليوم ، في أحشائها ، وقد اشتد بها الطلـق ، وتنفس صبح الميلاد .
عندما ينقشع الفجر الكاذب من المحيط الي المحيط لانبياء كاذبون ملتحون يقرقعون ويركبون على الشعوب ولا رسالة...يبيعون الوهم عندما ينقشع الزبد الذى لا يذهب جفاء من السودان
ستشرق شمس الحقيقة...وان انكرها اللذين قلوبهم غلف..لماذا؟
لان الاسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما بدا
07-05-2007, 01:29 PM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
Quote: يستحق أصحاب الرؤى كثيراً من الوفاء فقد حملوا شمساًفي اليمين وقمراً في اليسار ولم يتركوا الأمر .
الأديب / عبدالله الشقليني حري بكل من يستظل بدوحة أدبك أن يلقي التحية مطأطيء الرأس ، فعلي أعتابك تنثني أسنة الأقلام ولاتستقيم الحروف فينحني الكلام ، لك مني أعظم تحية والتحية عبرك لخرائد أسرة محمود محمد طه الأخت رباب وزوجها د.صلاح الذين غادرونا إلي دبي والسلام عليكم ورحمة الله .
08-18-2007, 09:40 AM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
بمرورك تمُر علينا نسائم يرتج لها العُمر ، وعصافير لُغتك تُغرد من فوقنا ، وعلى قِصَر العبارة فخامتها وجزالتها . ليتنا نكُن بمثل ما توصفيننا ، ونزوي الآن خجلاً من وصفك الباهر لنا . شكراً.. أن كنتِ أستاذتي تبثيننا من كرمك كل حين .
07-14-2007, 08:41 PM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
كنا ولم نزل في بحر المُعلم باسق الطول من فكره فقد ضرب الآفاق وهو يجلس مجلس البساطة ويمُد اليد بأريحية . نتمنى أن تأتي ذكراه من سُلاف الحفاوات تنضح عافية وتُرفد الفكر والرؤى . شكراً لك بيننا
08-18-2007, 03:55 AM
Omer Abdalla
Omer Abdalla
تاريخ التسجيل: 01-02-2003
مجموع المشاركات: 3083
أخي الأستاذ عبد الله عاطر تحياتي ومحبتي أهديك وضيوفك الكرام زهرة من بستان الأستاذ محمود وأنت تحي ذكراه في قلوبنا بهذه الكتابة المضيئة: الراحلة المقيمة إخلاص همد في باقة من القصائد العرفانية عمر
08-24-2007, 06:12 PM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
إنها ذكرى لا يزيدها الدهر الأ بريقا ولمعانا وهي معاني لن تمحى من الذاكرة ... بل تزداد التصاقا وتوهجا ... انه الخير الآتي من بعيد ... من الزمن اللآنهائي انه الفكر البديع الأصيل ...
شكرا الكاتب والأديب عبدالله الشقليني وأنت تخط هذا البوست المبارك والمحبة لكل المتداخلين يا أهل الفكر والعقل الثاقب ...والأدب الجم
شكرا أخي العزيز هواري .. بهذا العبق المزدهي الذي عطرت به البوست
عميق محبتي ...
08-25-2007, 02:17 PM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
في مداخلة الأخ عمر عبد الله التي وضع فيها باقة من الإنشاد استمعت إلى قصيدة من قصائد الشيخ ابن الفارض.. سأقتطف بعض الأبيات منها وأرجو أن تقبلها زهرات في هذا البستان..
Million of orchards in the anniversary of this legendary freedom martyr….
His revolutionary ‘daring’ reading of the Koran made many block-minded mainstream ‘ulema’ aware that religion is no longer besieged in the 7th century…
I hope that his followers really do follow his path in continuing his religious thinking… We will be doing his spirit disservice if we got frozen in his thinking time of Jan 1985…. Jamhori members need to continue his legacy of re-reading Koran and all other Holy Books…
Mohamed elgadi
09-08-2007, 04:53 PM
عبدالله الشقليني
عبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736
الأستاذ / محمد القاضي . تحية واحتراماً نِعم الرأي ما رايت ، فقد كتبا قبل ايام هذا النص آملين التطوير الذي نادى به الأستاذ ، ولا يقف تلامذته عند رابيته :
Quote: الدكتورة مهيرة والكاتب : أسامة الخواض والدكتور ياسر الشريف
تحية طيبة لكم ،
المداخلة (3)
وقد تفضلتم بقول الكثير ، وكنت سأتحدث عن باب استخدام الفتوحات العلمية أياً كانت في خطاب الأستاذ ، وأورد هنا اختلاف رؤاه عن رؤى أصحاب العلم والإيمان ، كما أنني أختلف مع الدكتورة مهيرة من أن الأستاذ يُفرغ النص الديني من معناه ويُعيد إلباس تفسيره وهي تعتبر ذلك تفسيراً باطنياً يُجافي اللغة وعلومها ، وأنا أرى اللغة كما يقول الأستاذ دوماً عنده التأويل وليس التفسير الباطني و أن التطور عند الأستاذ أراه ديمومة لازمة ولا تتوقف بالفتوحات العلمية في عصره و إن صدقت نسبياً أثناء حياته أم تطورت هي عن ذلك ، وهو نهج ثابت وهو الذي أفضى للتطور من مرحلة الشريعة في الطريق إلى الحقيقة . والذي نقول به في فهمنا عما ورد في أسفار الأستاذ أن التطور نهج ، وأن هنالك أكثر من رسالة في حُجب الغيب ، والذي في ذلك ذكرنا كيف يتعين على الجمهوريين الأفاضل أن يتبعوا المنهاج وهو يقودهم إلى هجر الغلظة التي بقيت في قوانين العقوبات وليتحرروا من رابية الأستاذ وقد وقفوا عندها كثيراً دون إبداع .
الأخ الشقلينى جمال ظاهر هذا به كل الورى اسرى اسع دحين لو طبقنا ما قالو الأستاذ عام 1951 بتكون فى مشاكل فى العالم, أرجو ان يكون لك نصيب منها وللمتداخلين وشخصى الكريم وضيفيك الأساسيين دكتور ياسر والأخ الخواض
ودمت يا رجل يا منصف يا جميل كن جميلا ترى الوجود جميلا والما عندو محبة ما عندو الحبة*** والعندو حبة محبة ما خلى الحبة
بكَ تفتحُ الجنان الخُضر ابوابها ,نودِّع النسيان . إن حضوره المُذهب كالحِلي لن يبرح الصدور . إن الخلوة مصنع العُباد وإن الثرى لحافهمُ وإن الثريا مُبتدأ أحلامهم . وإننا من حيث لقيناهُم أو من حيث كتبوا لنا : يبدأ الكون الجميل ، فالمحبة من أوصاف الآلهة .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة