|
سادتي .. هل يا تُرى نَعرِف كيف نُدير مأتماً ؟
|
سادتي ..هل يا تُرى نعرف كيف نُدير مأتماً ؟
قال والدي : ـ ما تَفتَحوا البِكا ، يالا على المراسيل .. الثورات ، أم درمان الجديدة ، مدينة النيل..
انطلق المبعوثون ، حُزناً مع صرامة التكليف . قال والدي :
ـ أذهب يا حسب الرسول لعمك قاسم الدُومة في منـزله ، وقل له يجهز لك كَفن الدبلان .
نويت أنا الذهاب ، فقال لي والدي : ـ أنتَ ما تَمشي تعال يا عبد الله نَعلمك .
أمسك أبي بيدي ودخلت الغرفة المُقدسة ، وفي نفسي خوف ورهبة .
قال أبي : ـ إن ارتبكتَ يا ولدي سأُخرجك من الغرفة ، رجلاً أنا أريدكَ أن تكون مثلما علمني أبي . أنت يا عبد الله أكثر أبنائي قُدرة أن تكون ساعدي عند المُلِمات . سمعنا طرقات عند الباب . إنه ( عنقريب الرحيل ) ، أدخلناه للغرفة ببطء . وجّهني أبي للاتجاهات التي يتطلبها الدِين . بدأنا المراسم من بعد تمزيق الملابس برفق حتى لا يتهتك الجسد . الدم يهبط من الشرايين إلى قاع الجسد بالدفع التثاقُلي بعد أن سكت القلب ، وتوقفت المضخة الإنسانية منذ ثلث الساعة . تكشف الجسد الإنساني بهيبته وارتخاء قسماته .رباط للرأس يُمسِك بالفَكْ ألا يتدلى . اليدان تًغطيان ما بين الفخذين . الأصابع الكُبرى للقدمين برباط رقيق . الجفنان ..قال والدي أنه قد سبقنا واضعاً يده عليهما ليًبقيهما مغلقتين ، قال أننا نُسميها ( تَكسير العيون ) . ( طشت ) من تحت حبال المرقد الذي يُسجى عليه الجُثمان . بخور الطيب يُغطي المكان ولم نُحس به . الضغط على منطقة المعدة لنُفرغ الفضلات . لم تكن هنالك فضلات ، فالملاريا منذ أيام لم تترك للفقيد إلا معدة وأمعاء خاويات . توضأنا عند زاوية الغرفة ،وبدأنا مراسم ما يسمى ( بَرود خَرَاج الروح ) . وضوء الجسد كاملاً ، ثم بدأنا الغُسل ، ومن بعده إغلاق المنافذ و الثوب الأبيض غطاءً . طرقات على الباب ، وهمس ثم سمعت صوت أبي يقول :
ـ ما تَفتحُو البكاء قبل أخوانو كُلهم يصَلُو .
لن نخوض في تفاصيل كيف يتم غسيل الموتى ، وكيف أحكمنا الأثواب الثلاث من حوله بعد قفل المنافذ ( الملاين ) بالقُطن وسقينا الجسد ( بالحَنُوط ) . أربطة ما بعد الرأس والقدمين والوسط ثم إلى ( البِرِّش ) الملون ، والثوب الأبيض كغطاء كامل . رفعنا الفاتحة وعندها وصل أشقاء الراحل وهما في شبه انهيار نفسي . عندما فتحنا الباب لمصراعيه كانت أصوات الصُراخ تصُمّ الأذان . دفعنا النسوة دفعاً ، ويد أبي ما رأيت قسوتها في حياتي إلا حين دفع النِسوة من الطريق ثم إلى البوابة خرجنا .
بمثل تلك المراسم ، الدينية والعُرفية ، المُقدس مع العادات يقوم بعض العارفين من الأسرة بإدارة المأتم ، اللحظات الأولى هي مفتاح كيف نتعامل مع من حولنا وكيف نترفق بالنفوس الإنسانية عند جزع الموت . أمر يقوم به بعضنا ، فليس في مجتمعاتنا إلى اليوم مؤسسات تقوم بتجهيز الموتى أو دفنهم . الأقارب وكبار السن والذين يطلبون الأجر يفعلون كل ذلك .ونحمد لأنفسنا أن طيب الإنسانية فينا نبتة يلُفها الحنان .
أجد نفسي أسأل وأنا في حيرة من أمري :
هل استعصى على القائمين بالأمر في السودان ، من الذين نَحمد لهم يدهم التي وقعت نور السلام الحُلم لموطننا ، أن يديروا مأتم رجل من أبر أبناء الوطن حتى انفلت الأمر ، وخسرنا مع ضعف الكفاءة في إدارة الأزمات أرواحاً مؤلم فراقها ؟ كل نفسٍ ذهبت في الخسارة الفادحة ، تُساوي في نظري ذات النفس التي حزنّا جميعاً لفقدها .
كلهم متساوون والفقد فادِح .. ولا شيء مُبرر .
عبد الله الشقليني 02/08/2005 م
|
|
|
|
|
|