|
ذاك نبع أبي الطيب ، هيا نستسقي
|
ذاك نبع أبي الطيب ، هيا نستسقي
بَخٍ ، بَخٍ . نَقطُف من لُغة النبوة في الطرب حين نقرأ لك سيدي أبو الطيب المتنبي تمدح نَفسك . تُذكي أنت شِعرك ليتطاول على الممدوح فتُكدِّره سحابة حزن . كأن المادِح من سماواتٍ علٍ والممدوح من طينة الثرى . ( إنكَ لعلى خُلقٍ عظيم ) تُضرِب بأجنحتها الزمان . ترتجّ عروش الممالك الصغيرة فيرتجف أصحابها ، فمُلك الزمان عصيٌ عـلى المُبدعين . بِك سيدي.. نُفاخر ، فالماء المَجلوب من غديرك يبِّل الشوق ولا يَروي الغليل . لمَ أنتَ سيدي... تقف طوداً شامخاً ولا تتواضع ؟ قُم سيدي وعلِّم أهلنا كيف يركبون الدواب عليها الطنافِس ويشُقون عُباب الريح ليقرئونك حين تقول :
أي محلٍ أرتــقي .. أي عظيم أتقــي وكل ما قد خلق الله .. كشعرة في مفرقي محتقرٌ في همّـــتي .. كشعرة في مفرقـي
أو حين تقول وأنت تقف في مقام من مدحت :
وأنا منك لا يُهنئ عضوٌ .. بالمسرات سائر الأعضاء
أو حين شككت بمقدرة الملوك على تبيان الغث من الثمين ، وقد ميزت نفسك تحتفي بمقام شِعرك أمام من مدحت :
إني نثرت عليك دُرّاً فانتقد .. كثر المُدلس فاحذر التدليسا
أو حين علوت الملوك بمقامك و قلت ما سارت به الرُكبان :
سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلـــسنا .. بأنني خير من تسعى به قــــدم الخيلُ والليلُ والبيداء تعرفني.. والسيف والرمحُ والقرطاس والقلمُ
أو حين سبرت أغوار اللغة وابتنيت طموح مجدك وأنت تقول :
لأتركن وجوه الخيل ســــاهمةً .. والحرب أقوم من ساقٍ على قــدم ردّي حياض الردى يا نفس واتّركي .. حياض خوف الردى للشاء والنعـم أيملك الملك والأسياف ظامـــئة .. والطــير جائعة لحمٌ على وضــم من لو رآني ماءً مات من ظــمأٍ .. ولو عرضتُ لهفي النوم لم تنــم
أوحين تقول :
وَما الدهر إلا من رواة قصائــدي .. إذا قلت شعراً أصبح الدهرُ مُنشِدا فَسار به من لا يســـــير مُشمـّراً .. وغنّى به من لا يغني مُغــــــردا
دوماً يُفتنك التضاد سيدي ، فتُمسك خيوط اللغة لتُنسج لنا الجمال وأنتَ تُفاخِر :
وما الجمع بين الماء والنار في يدي .. بأصعب من أن أجمعَ الجدَّ والفهما
أو حين تُضمر أنتَ في نفسك ما يُوحي :
وأشجع مني كلّ يومٍ سلامتي .. فما ثبتت إلا وفي نفسها أمرُ
سيدي أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفي ، أتقبل عِتابي ؟ قرأت لك وتوقفت كثيراً حين علمت أن الدُنيا رغائب تُرتَجى ، قد تحني هامات الأكابر وهي تبتغي الآمال والأحلام . ففي مدح كافور أوشكت أن تُزلّ نفسك العالية حين قلت له :
أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أناله .. فاني أغني منذ حــين وتشربُ وهبت على مقدار كفي زماننــــــا .. ونفسي على مقدار كفَّيك تطلبُ إذا لم تُنِط بي ضيعةٌ أو ولايــــة .. فجودك يكسوني وشغلك يسلـــبُ
وحين بلغت بكَ الكآبة مبلغاً نثرت لنا حكمة جرت مجرى الألسُن :
ما كلّ ما يتمنى المرءُ يدركه .. تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
إنها المصائر سيدي :
بين حافة السيف والجسد الرخو سفر أكبر من العُمر ، مأساة نابه في عُمر النضار . تأخذكَ الأصقاع إلى فلاة . معركة لا تستحق أن يُقتل فيها شاعر مثلكَ ، أنضج الشِعر العربي بقصائده دهوراً ، تأتيك العصور إلى مرقدك لتستزيد . في رحم الغيب من يولدون وعلى ضفاف نبعكَ يستسقون . نَعُمتْ بك الدنيا ، كم هي الأرض حبلى بما غرز الزمان في أحشائها .
عبد الله الشقليني 02/07/2005 م
|
|
|
|
|
|