في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-09-2024, 09:37 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2010م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-13-2010, 10:21 PM

خلف الله عبود

تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد

    في ذكرى الأستاذ محمود: ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! (1) ... بقلم: د. النور حمد
    الثلاثاء, 12 يناير 2010 09:16

    كل صورةٍ، أو مشهدٍ، أو قضيةٍ ما، يمكن أن تتم رؤيتها من أكثر من زاوية! ورغم أن تقرير مثل هذه الحقيقية قد يبدو ضرباً من تقرير ما يدخل في باب البداهة، إلا أن شواهد التجربة الإنسانية تقول بخلاف ذلك! فالإنسان، من حيث هو، كثيراً ما ينحبس في قمقم رؤية الأمور من زاويةٍ واحدة. فاللحظات التي تتسع فيها رؤيتنا، وتنجاب فيها عن ناظرينا غشاوات الرؤية من زاوية واحدة، أو ما يسمى بالرؤية داخل النفق، ليست كثيرة! مبعث هذه الخاطرة هو التساؤل الذي لم يفارقني، منذ حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، في العام 1985. إذ ظللت أسائل نفسي، وباستمرار، كيف حدث هذا الأمر الذي خرج على كل مألوفٍ، وكل معقولية؟! ولماذا حدث ذلك الأمرُ البالغ الشذوذ في السودان، دون غيره من سائر أقطار الأرض؟! فلا شيء ينتج من لا شيء! لابد أن في بنية وعينا وفي إرث ماضينا، شيءٌ ما، قاد إلى هذه الحادثة البالغة الغرابة!



    عبَّر عن شذوذ حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، وغرابتها مقارنةً بالزمن الذي تمت فيه، عدد من الكتاب. وبالفعل، فقد كانت تلك الحادثةُ حادثةً بالغة الغرابة! فهي قد بدت لي، ولكثيرين غيري، وكأنها فصلٌ من فصول ماضي البشرية السحيق، اندفع فجأة من موقعه ذاك البعيد، في شعاب وغياهب التاريخ، ليبرز، فجأةً، وبلا مقدماتٍ، ليحتل حيزاً في الحاضر. ففي ما يشبه الكابوس، جاء ذلك الشيء من الماضي، وخلق لنفسه في الحاضر مسرحاً ماضوياً، ومزاجاً ماضوياً، وغيهباً ماضوياً مؤقتاً، تم فيه إعدام مفكرٍ أعزلٍ شنقاً، على رؤوس الأشهاد! ثم أُُسدل الستار، وتراجعت تلك الحالة، بسرعةٍ مذهلةٍ، إلى مقعدها الذي جاءت منه في شعاب التاريخ، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، أو إلى ما بدا لنا شبيهاً بما كانت عليه. وهكذا اختلط، ما هو من طبيعة كوابيس الرؤى المنامية، بما هو من طبيعة الواقع، والعكس بالعكس. وكما يقول الفيتوري: ((والجاهل من ظن الأشياءَ هي الأشياء))!

    سمعت الأستاذ محمود، في واحدة من تلك الجلسات التي كانت تتم إتفاقاً، ساعة الضحى، في غرفته الصومعة، المُعْتِمَة، العَبِقَة بعَرْفِ اللُّبان، وعَرْفِ الروح، وهو يقول، بلا مقدمات: ((الحياة دي حلمة طوووويلة))!! وإنها لكذلك لدى المبصرين، وما أقلهم!! هي ليست في حقيقتها سوى حالةٍ عارضةٍ، كالحلم القصير، الذي سرعان ما يصحو منه صاحبه، عائدا إلى السباحة في مجرى ذلك السديمٍ السرمدي القديم! كنا كثيراً ما نكون جالسين في غرفته ونحن صامتين. وكان يحثنا على ممارسة الصمت، ويحضنا على استجماع النفس، وسحبها من جلبة الخارج، ويدعونا إلى محاولة الانحصار، وإكثار النظر إلى الداخل. في مثل تلك الجلسات يتكثف الصمت أحياناً، حتى أن المرء ليحس وكأنه يسمع دقات قلب الكون.

    لم أر في حياتي إنساناً، يقظاً، منتبهاً كالأستاذ محمود. كان حاضراً في لحظته القائمة بين يديه، حضوراً محيِّراً. فالذي كتبه في كتبه الرئيسة عن عيش اللحظة الحاضرة، ودعوته إلى عدم التشتت بين قوى الماضي والمستقبل التي توزع الذهن، لم يكن وعظاً يهرف به اللسان، وإنما كان أمراً متحققاً مُعاشاً لديه، لحظةً، بلحظة. إلتقيت ذات مرة، بشخصٍ اسمه عبد العزيز، عرفت منه أنه من أبناء قرية الطالباب، بالجزيرة وللأسف، فإننني نسيت اسمه الكامل. تم لقائي به عن طريق بعض الأصدقاء في مدينة الرياض، في المملكة العربية السعودية، في العام 2003م. حدثنا عبد العزيز عن تجربةٍ اتفقت له مع الأستاذ محمود، ذاكراً أنه كان من ضمن من حضروا محكمة المهلاوي، التي أصدرت الحكم بإعدامه، بمجمع المحاكم الواقع بجوار بلدية أمدرمان. ذكر عبد العزيز أنه خرج من المحكمة مذهولاً، ومستاءً، وغاضباًً، وكان بعض الخارجين من قاعة المحكمة من الجمهور الذي حضر فَرِحون بما تم، وبعضهم الآخر مذهولون، غاضبون، مثله. قال عبد العزيز إنه وجد نفسه، حين خرج إلى الساحة الخارجية، وبمحض الصدفة، إلى جوار سيارة الشرطة التي كانت تقل الأستاذ محمود من المحكمة، إلى سجن كوبر، لتضعه هناك مع منتظري التنفيذ. قال إن الأستاذ محمود كان يجلس في مقعد السيارة الخلفي، مما يلي نافذتها المفتوحة. ونسبة للزحام الشديد في ساحة المحكمة، فقد تعذر على السيارة المرور وبقيت متوقفةً، في انتظار أن يخف الزحام لتمر. في تلك اللحظة وجد عبد العزيز نفسه، وجهاً لوجه أمام الأستاذ محمود، فمد يده إليه، وهو حزينٌ، كسير الخاطر، كما أخبر عن نفسه. قال عبد العزيز: لم أعرف حين وقفت أمامه بجانب السيارة، ماذا أقول له، أو كيف أعزيه، فالموقف يتطلب عبارات للمواساة من نوع ما، لم تتيسر لي صياغتها، لحظتها. المهم، مددت يدي إليه، وأنا أهمهم بحديث غير مفهوم، ورأسي تمور بالهواجس، وبالغضب، وبالإحباط. غير أن الأستاذ محمود شدَّ علي يدي الممدودة، وكان مبتسماً، هاشاً، وسألني بعد إكمال عبارات التحية قائلاً: ((عبد العزيز إن شاء الله آلام بطنك راحت؟))!! قال عبد العزيز: وقع سؤاله ذاك عليَّ وقع الصاعقة! وأدهشني، إلى أبعد حدود الدهشة، هدوءه، وسكينته، وطريقته في استقبالي. فأنا لم أكن أتصور قط أنه يتذكرني، بل ويتذكر إسمي، وأنا الذي زرته في بيته قبل سنوات، مجرد زيارة عابرة، شأني شأن غيري من الشباب الذين يزورونه في بيته المفتوح على الدوام لسؤاله عن فكرته، أو يجيئونه بسبب الفضول. وهالني أكثرً، أنه سألني عن آلام بطني! فأنا حين زرته، وكان ذلك قبل وقت طويلٍ، أعتذرت عن تناول زادٍ قدَّمه لي أهل بيته، وقلت له أنني أشكو آلاماً مزمنةً في بطني، تمنعني من تناول ذلك النوع من الزاد. قال عبد العزيز: تساءلت في نفسي: أي نوع من البشر هذا الذي يخرج لتوه من محكمة حكمت بإعدامه، ثم يظل هادئاُ، وبمثل هذا القدر من الحضور، والسكينة! بل، ولا يفوته أن يسأل شخصاً مثلي، زاره في بيته مرة واحدة، وبشكل عابر، وقبل زمن طويل، عن آلام بطنه المزمنة؟ واستطرد عبد العزيز قائلاً: جئت وأنا مشغولٌ بما هو فيه، فوجدته حين رآني، مشغولاً بما أنا فيه!! قال عبد العزيز: تحركت السيارة، وابتعدت، وبقيت متسمراً في مكاني للحظات، وأنا غيرُ مصدِّقٍ ما جرى بيني وبينه!!

    كان الأستاذ محمود يقظاً، أما نحن تلاميذه فكنا نياماً، أو شبه نيام! ولقد كان يعرف أننا نيام. ظل يحاول، بين كل سانحةٍ وأخرى، أن يوقظنا، لننتبه. ولكننا لم نكن لنستيقظ، أو لننتبه، إلا قليلاً، وأنَّى لنا بيقظةٍ مثل يقظته، وهو الذي وُهب الحضورَ واليقظةَ وهباً، ثم لم تبطره نعمة الوهب، فأخذ نفسه بمجاهدات أؤلي العزم، ليرسَّخ ما وُهبه بالكسب! فهو قد أدام الصيام، وأطال القيام، وأدام الذكر، وزهد في الأعراض الزائلة، وأدمن الفكر.! كان يوصينا على الدوام بإلحرص على قيام الثلث الأخير من الليل، وكان لا يمل من التذكير في هذه الوجهة. وما أكثر ما قال لنا: ((أنتو مطلوبين من خصومكم، والمطلوب ما بنوم))! وكان يقول: ((معركتكم مع خصومكم معركة روحية، يتم حسمها في سجادة الثلث الأخير من الليل)). ولقد كنا نعرف، هوناً ما، أننا مطلوبين، ولكننا لم نكن نظن أننا مطلوبين إلى حدٍ نبلغ معه الوقوف على حافة الموت! كان هو الوحيد الذي يعرف مبلغ الطلب، ومبلغ الثمن المتوجب دفعه، وقد احتفظ بذلك لنفسه، ولم يبح به لأحد. كان هو الوحيد الذي أعد نفسه، إعداداً تاماً لذلك الطلب، وحين جاء وقت الدفع، كان على أتم استعدادٍ لكي يدفع.

    تم إعتقال الأستاذ محمود محمد طه، وعشرات الجمهوريين في يونيو من العام 1983، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983. وكان سبب الإعتقال كتاب أصدره الإخوان الجمهوريين انتقدوا فيه النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك، اللواء عمر محمد الطيب، لكونه قد استجلب إلى مسجده المسمى "مسجد التقوى" في ضاحية كوبر بالخرطوم بحري، واعظاً مصرياً اسمه محمد نجيب المطيعي، كان يعمل في جامعة أمدرمان الإسلامية. وقد شرع ذلك الواعظ في تأليب وتحريض جمهور المصلين ضد الجمهوريين، من على منبر ذلك المسجد. أكثر من ذلك، فُتحت لذلك الواعظ المحرِّض أبواب التلفزيون القومي، ليؤلب الناس ضد الجمهوريين والمسيحيين معاً! وبما أن الذي بنى ذلك المسجد ويشرف عليه هو نائب رئيس الجمهورية، وهو المسؤول الأول عن الأمن في البلاد، فإن ترك المجال لذلك الواعظٍ الأجنبي ليثير فتنة دينية في البلاد مثَّل تفريطاً كبيراً في المسؤولية، من مسؤولٍ عام. ولذلك فقد طالب الجمهوريون بإقالته من منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وكمسؤول أول عن الأمن في البلاد. ولقد أشار الأستاذ محمود في مذكرة بعث بها الأستاذ محمود من معتقله إلى الجمهوريين المعتقلين بسجن كوبر، أنه يرى أن اللواء عمر محمد الطيب ضالع في مؤامرة ضد الجمهوريين فيها أيد أجنبية، يدل عليها استخدامه لذلك الواعظ الذي أخذ في بث الفتنة الدينية من "مسجد التقوى" التابع له، ومن التلفزيون القومي، ثم باعتقاله للجمهوريين. عموماً، أخذت حلقات المخطط المبيتٍ ضد الجمهوريين، تتجلى على أرض الواقع، منذ منتصف العام 1983م، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983م، واستمرت تلك الحلقات في الظهور المتتابع، حتى محاكمة الأستاذ محمود وإعدامه في يناير 1985م.

    بسبب نشر الكتيب الذي ينتقد اللواء عمر محمد الطيب، تم اعتقال الأستاذ محمود وأودع بيتاً في منطقة الخرطوم شرق يتبع للأمن. وكان يسمى "بيت بونا"، نسبةً لأن الوزير، آنذاك، بونا ملوال، قد سكن فيه لفترة من الزمن. وقد صحب الأستاذ محمود في ذلك المنزل أو "المعتقل"، معتقلٌ آخر، هو الدكتور خليل عثمان. أما الجمهوريون فقد أُودع عشرات منهم في سجن كوبر العمومي، الذي كان يعج بعشرات من المعتقلين من القوى السياسية الأخرى، كحزب الأمة، والحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث، وغير هولاء من الناشطين في معارضة نظام مايو. أما الأخوات الجمهوريات، فقد كن أربعاً، وقد أودعن قسم النساء، بسجن أمدرمان العمومي. في فترة اعتقال الأستاذ محمود، والجمهوريين، والجمهوريات هذه، صدرت قوانين سبتمبر، وبدأ تلطيخ سمعة الناس في أجهزة الإعلام، والتشهير بهم، وشرعت ما سميت وقتها بـ "محاكم الطوارئ" في جلد الناس على رؤوس الأشهاد، ثم ما لبث أن بدأ مسلسل قطع أيدي وأرجل البسطاء والمساكين، بل وصلبهم.

    حاولت السلطات إطلاق سراح الأستاذ محمود وحده، بعد شهور من الإعتقال، ولكنه رفض الخروج ما لم يتم إخراج أبنائه كلهم. فصرف النظام النظر عن إطلاق سراحه هو، وأطلق سراح الأخوات الجمهوريات. فإطلاق سراح الإخوان الجمهوريين لم يكن ضمن العرض أصلاً. استمر إعتقال الأستاذ محمود والجمهوريين حتى 19 ديسمبر 1985، حيث تم الإفراج عنهم دون قيد أوشرط. كان واضحاً للأستاذ محمود، أن الإفراج لم يكن سوى مقدمة لمؤامرة مبيتة، ولقد أشار هو إلى تلك المؤامرة في المذكرة التي أشرت إليها أعلاه. كان أهل السلطة يعرفون أن تاريخ الأستاذ محمود السياسي لم يعرف المساومة قط، ولم يعرف الانحناء للسلطات، إبتداءً بالحكم البريطاني، ومروراً بكل عهود الحكم الوطني. ولذلك فهو لن يصمت على قوانين سبتمبر، ولسوف يكتب، وينشر، ضدها، حال أن يخرج من المعتقل. كانوا يريدون منه مستنداً مكتوباً يثبت معارضته لتلك القوانين، ليقدموه بموجبه إلى محكمة تحكم بتصفيته. وبالفعل ما أن خرج الأستاذ محمود، حتى شرع في الإعداد لمنشوره الشهير، "هذا أو الطوفان"، الذي صدر في الخامس والعشرين من ديسمبر 1985م.



    بدأ توزيع المنشور، وتم اعتقال الجمهوريين الأربعة، الذين تمت محاكمتهم مع الأستاذ محمود. وصل المنشور إلى القصر، فكتب القاضي النيل أبو قرون إلى الرئيس نميري هذه المذكرة: ((الأخ الرئيس القائد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. المنشور المرفق وزعه الجمهوريون، وقد قُبض على ستة منهم، وتم التحقيق معهم وسوف يقدمون للمحاكم. وبهذا، فقد أتاحوا لنا فرصة تاريخية لمحاكمتهم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ولا شك أنها بداية لمسيرةٍ ظافرةٍ بإذن الله يتساقط دونها كل مندس باسم الدين، وكل خوان كفور، ولله الأمر من قبل ومن بعد .. وفقكم الله لقيادة المسيرة الظافرة، وإتمام نهج الله على آثار المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن سار بسيرهم ونهجهم إنه سميع مجيب .. النيّل عبد القادر أبو قرون ـ 6 ربيع الثاني 1405 هـ ـ يوم السبت الموافق 29/12/1984م)). وردَّ الرئيس نميري على مذكرة القاضي النيل أبو قرون، بمذكرةٍ جاء فيها: ((الأخ عوض، النيَّل، والأخت بدرية.. سلام الله عليكم .. آخر هوس الأخوان الجمهوريين هذا المكتوب الذي أرى بين سطورة "الردة بعينها"، أرجو الإطلاع ومعكم الأخ بابكر. سأجتمع بكم للتشاور في الأمر إن شاء الله بعد أن تكونوا على استعداد.. أخوكم في الله، جعفر محمد نميري ـ8 جمادى الأولى سنة 1304)). (تم نشر صور هاتين المذكرتين في صحيفة الأيام، يوم 7 رمضان الموافق 26 مايو 1985م، وقد أخرجهما فيما بعد الإخوان الجمهوريون في كتيبهم "الوثائق تكشف التآمر الجنائي"، الذي صدر في يونيو 1985).



    حين خرج الأستاذ محمود من معتقله الأخير، في 19 ديسمبر، خرج كمن نُصب له عَلَمٌ فشمَّر يطلبه. كانت عيناه تومضان ببريقٍ عجيب، وقد بدا الحزم والجد يغلبان على سمته، أكثر من أي وقت مضى. لقد أيقن حينها أن وقته قد أزف! في نهاية الستينات، وفي واحدة من طوافاته السنوية التي كان يجوب فيها مدن السودان المختلفة، داعياً إلى فكرته للبعث الإسلامي، اعتدى عليه رجل حين كان يتحدث في محاضرة عامةٍ، في واحدٍ من أندية مدينة الأبيض. تقدم الرجل نحو المنصة، دون أن يتنبه له الحضور، وفجأة هوى على رأس الأستاذ محمود بعكاز كان يخفيه إلى جانبه، فسقط أرضاً من قوة الضربة، ونزف من رأسه دمٌ كثير. حاول بعض جمهور المحاضرة الإعتداء على ذلك الرجل المعتدي، فوقف الأستاذ محمود بينه وبينهم، وسلم الرجل من أيدي الجمهور. سمع بعض قدامى الإخوان الجمهوريين، ممن شهدوا تلك الحادثة، الأستاذ محمود، وهو يقول بعدها بأيام: ((الزول ده استعجل ساكت، وقت الضربة ما جا!!)). ولم يعر أي واحدٍ من الجمهوريين تلك القولة كبير انتباه، حتى أذاع الرئيس نميري تأييده لحكم الإعدام الصادر ضده، قرابة العشرين عاماً، في ظهر يوم الخميس 17 يناير، من العام 1985م!!



    لم يكن الأستاذ محمود، طيلة نشاطه الفكري، والسياسي، منذ منتصف الأربعينات، يطلب سلطةً، أو جاهاً، أو عرضاً أياً كان. كان زاهداً في السلطة الفوقية، زهداً مطلقاً، فهو قد كان يريد تغييراً جذرياً، ينطلق من حيث يقف عامة الناس، لا من حيث تقف الصفوة! وكان يعرف أن ذلك يقتضي زمناً، ولذلك، فقد كان يسابق الزمن ليضع البذرة في الحقل البور، تلك البذرة التي كان ينتظر لها أن تثمر التغيير الجذري، في نهاية المطاف. فهو قد ألقى البذرة، وكان فقط، يود أن يتأكد أن جذوراً من تلك البذرة قد بدأت تمتد إلى داخل الأرض. لم يكن مشغولا متى ستشق تلك البذرة التربة، وتظهر على سطح الأرض، لتخضل وتثمر!! كان حامل مشعلٍ، ولم يكن طالب سلطة، وشتان بين الإثنين! (يتواصل)

    (عدل بواسطة خلف الله عبود on 01-13-2010, 10:23 PM)

                  

01-13-2010, 11:52 PM

Salah Musa
<aSalah Musa
تاريخ التسجيل: 03-29-2004
مجموع المشاركات: 891

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: خلف الله عبود)

    up
                  

01-19-2010, 05:14 AM

خلف الله عبود

تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: Salah Musa)

    في ذكرى الأستاذ محمود: ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر - 2

    [email protected]

    قبل أن أواصل في حلقتي الثانية، أريد أن أنوه لخطأين حدثا مني سهواً في الحلقة الماضية. وقد نبهني لهن بعض الأخوة الأفاضل. فقد ورد أن الأستاذ محمود خرج من معتقله الأخير في 19 يناير 1985، والصحيح هو 1984م، وليس 1985م. كما ورد أيضا، أن منشور هذا أو الطوفان الذي دعا فيه الأستاذ محمود إلى إلغاء قوانين سبتمبر، خرج في 25 ديسمبر 1985، والصحيح هو 1984م، وليس 1985م. ولابد أن القراء لاحظوا أن هذا مجرد خطأ.

    لم يكن يجول بخاطر أكثرية الجمهوريين والجمهوريات أن الأستاذ محمود، ومن تم اعتقالهم معه من الإخوان الجمهوريين سوف يُحكم عليهم بالإعدام! ولقد ذكر لنا الأستاذ محمود في واحدة من الجلسات التي سبقت المحكمة الأخيرة أن علينا أن نقوم بواجبنا في مقاومة تلك القوانين، وألا نظن أننا لن نلقى في ذلك عنتاً، أو عنفاً. قال إننا ربما نُجلد وأنه ما ينبغي أن نظن أن معجزة سوف تحدث لتحول بيننا وبين ما يمكن أن تواجهنا به السلطة من عسف، واضاف قائلا: (ما تجرِّبوا الله، خلوا الله يجربكم). وقال: (ربما تحدث معجزة، ولكن لا تنتظروها)!! كان أقصى ما بلغته أسوأ توقعاتنا، أننا سوف نُجلد، في واحدةٍ من حفلات الجلد العلنية اليومية، التي كانت فاشيةً في تلك الأيام الكئيبة. فقد كانت فرقعة السياط تنبعث من كل بقعةٍ في العاصمة المثلثة، أُقيمت فيه ما سُميت بمحاكم الطوارئ. تلك المحاكم التي أقام عليها نميري من القضاة من وصفهم الأستاذ محمود بأنهم: ((غير مؤهلين فنياً، وضعُفوا أخلاقياً عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين)). والذين وصفهم ايضاً الدكتور منصور خالد عقب تنفيذ الحكم على الأستاذ محمود، بأيام قلائل، بـ "القضاة التالفين"، في مقالته الشهيرة التي صدرت في صحيفة السياسة الكويتية، في يناير 1985م. كانت البلاد تبدو وكأن خبالاً من نوعٍ ما قد ألمَّ بها! فقد أخذ اللامعقول بتلابيبها، وطفق يزحم أجواءها بغبارٍ خانق. حين نطق القاضي المهلاوي بحكم الإعدام، ضد الأستاذ محمود محمد طه، والجمهوريين الأربعة الذين كانوا معه، لم يصدق غالبية حضور المحكمة أن ما سمعوه كان حقيقةً، فقد بدا ما جرى أقرب ما يكون إلى كابوسٍ منامي منه إلى شيء واقعي يمكن أن يحدث في حالات الصحو. هللت قلةٌ من أتباع "الحركة الإسلامية" للحكم، غير أن الأمر بدا للأكثرية شيئا غرائبياً، خرج بعده الناس وبعضهم واجمٌ وبعضهم يهمهم. وسرعان ما انفض السامر، وابتلعت أزقة أمدرمان جمهور المحكمة وجلبته، وخيمت على العاصمة حالة من الترقب.

    كنت ممن يؤمنون إيمان العجائز، بما يسمى بـ "تسامح السودانيين"، وذلك لما ظللت أراه على السطح، من شواهدَ دالةٍ عليه، ولما كان مسيطراً عليَّ من قناعات قامت على أسسٍ عاطفية، غذى أكثرها ما يتردد في الأفواه، في الحياة العامة، عن هذا التسامح المزعوم. أما الأستاذ محمود، فقد ظهر لي مما تأملته لاحقاً من تجربتي معهً، أنه كان يعرف الأمر على حقيقته. فهو، بالإضافة إلى البصيرة الثاقبة التي مخضتها فيه الخلوات، والصلوات، والصيام، في مقتبل العمر، قد عرف الكثير عن الحركة السياسية السودانية منذ أيام مؤتمر الخريجين، في نهايات الثلاثينات من القرن الماضي. بدأت استنتج مؤخراً، أنه كان يعرف ما ظل مخبوءاً من خمائر عنف النُّخَب، التي لم تكن الظروف قد نضجت له ليبرز إلى السطح. لقد تبين لي ضمن ما تبين، أن الأستاذ محمود لم يغادر هذه الحياة في الثامن عشر من يناير من العام 1985، وإنما غادرها قبل ذلك بوقت طويل. غادر الستاذ محمود حياتنا هذه ساعة خروجه من خلوته في العام 1951م. فقد كتب الأستاذ محمود في خلوته تلك بخط يده "وصية متوفى"، لا نزال نحتفظ بالدفتر الذي كتبت فيه إلى يومنا هذا. ويعكف على تحليل هذه الوصية الآن، الأستاذ عبد الله الفكي البشير، ولسوف يرى تحليله لها النور قريباً. في تلك الوصية التي أورد الدكتور عبد الله النعيم طرفاً منها، في المقدمة التي كتبها للترجمة الإنجليزية التي قام بها لكتاب الأستاذ محمود "الرسالة الثانية من الإسلام"، ورد ضمن ما أوصى به الأستاذ محمود أهله: ((لا يُفْرَشُ عليَّ، ولا يُتصدق، ولا أُكَفَّن في جديد، ولا يُناح علي، ولا يُجعل علي قبري أيُّ علامة))!! عاش الأستاذ محمود ما يقارب الأربعين عاماً عقب تلك الوصية، غير أن الشاهد هنا أنه كان مستعداً للذهاب منذ أن كتبها، في ذلك الزمن البعيد! وحين ذهب، استجابت السماء لوصيته، فتم له كل شيء وفق ما طلب، وسأل، وأوصى!

    رأى الأستاذ محمود إرهاصات العنف، وشم شميمه منذ وقت مبكر. سمعته مرةً في تلك الجلسات التي تتم اتفاقاً ساعات الضحى وهو يقول وكأنه يقرأ ما كان يتفوه به من رقٍّ مشدود عند حافة أفق بعيد: ((المهدية لسع فيها باقي!)). ولم أفهم قوله ذلك إلا بعد سنوات طويلة. فالمهدية قد عنفت بخصومها عنفاً شديداً. كان الأستاذ محمود يعرف قوى بركان العنف التي كانت تعتمل تحت القشرة، وكان يعرف مبلغ غشم قوى المتشكل السائد. تلك القوى التي وطن نفسه على مواجهتها، يوم أن اختط لنفسه خطاً ثالثاً، وقف به ضد الإستعمار، من جهة، وضد الطائفية، من الجهة الأخرى. وقف الأستاذ محمود كالسيف وحده، حين هرولت جمهرة المتعلمين الأوائل، من رمضاء الجهاد ضد المستعمر، إلى أفياء الطائفية المريحة. كان ضد الخيارين القائمين آنذاك: الإتحاد مع مصر، تحت التاج المصري، أو الإستقلال تحت الوصاية والرعاية البريطانية بخلق تاج سوداني. وحين خرج من خلوته وصدع بدعوته للبعث الإسلامي على النحو الذي أبانه في كتبه ومحاضراته التي كان يطوف فيها كل أرجاء السودان الشمالي، أضاف إلى القوى التي ظلت تستهدفه، المؤسسة الدينية الرسمية الممالئة لكل العهود السياسية، أجنبيةً كانت أم وطنية. في تلك اللحظة التي وقفت فيها الأمور المتعلقة بمستقبل البلاد السياسي، وبمستقبل الدين فيها، عند مفترق الطرق، عرف الأستاذ محمود أنه قد وضع نفسه في مواجهة كل القوى ذات الوزن في الساحة. ومنذ تلك اللحظة عرف ما يمكن أن يؤول إليه مصيره، وقبل ذلك المصير، قبولاً راضياً، سار به في درب تقاليد ابتلاءات التوحيد، الإبراهيمية، العيسوية، السامقة!

    أما نحن، الذين لازمناه سنيناً، وظننا أننا نعرفه، ونعرف ما كان يحيط به، فقد تبين لنا أننا لم نكن نعرف عنه الكثير. لم تتبدى لنا خيوط الأمور، إلا بعد سنواتٍ طويلةٍ من إعدامه. لم نكن نعرف أنه كان يعرف الوقت الذي ستخرج فيه طاقة العنف المكتومة تحت القشرة. لم نعرف، رغم أننا عرفنا عن أمر محكمة الردة التي عُقدت له في نهايات الستينات، في ما تسمى، زوراً، وبهتاناً، بـ "الديمقراطية الثانية". كان هو الوحيد الذي كان يعرف أن البركان الخامد سرعان ما سيثور. ولذلك فقد كان يسابق الزمن. فما أكثر ما سمعناه وهو يردد: ((ما في وَكِتْ))، ((الوَكِتْ قليِّل)) يقولها هكذا بالتصغير، ليؤكد على قصر ما تبقى من الوقت. كنا نسمعه ولكنا لم نكن نعي حقيقة ما كان يرمي إليه. لقد كنا رازحين في غمرةِ طفولةٍ عقليةٍ غريرةٍ، أبت أن تشب عن الطوق! كان يسابق الوقت، لمعرفته بالقوى التي ظلت تتربص به، فهو ليس بدعاً من المبصرين، الذين تم قتلهم في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، بواسطة الحكام الذين أكلوا الدنيا باسم الدين، منذ العصر الأموي، وحتى زماننا هذا. لم يكن يريد أن يذهب، قبل أن يترك على ظهر الأرض بذرةً قابلةً للنمو، ولذلك فقد كان يصل ليله بنهاره، يُسَلِّك الشباب الذين أهطعوا إلى سوحه، ويكتب الكتب، وينشر المنشورات، ويحاضر، ويستقبل الناس الذين لا ينقطعون عن داره من غبش الفجر، وحتى منتصف الليل.

    في ليلة الجمعة الرابع من يناير عام 1985م، وهي الليلة السابقة لإعتقاله، ختم الأستاذ محمود محمد طه الجلسة التي أقيمت في الساحة الواقعة غرب منزله مباشرة، بحديثٍ عن ضرورة القيام بواجبنا في مناهضة قوانين سبتمبر، أُورد منه هذه الفقرة كما وردت في شريط التسجيل: ((الصوفية سلفنا، ونحن خلفهم .. كانوا بيفدوا الناس .. الوباء يقع يأخذ الشيخ الكبير، الصوفي الكبير، وينتهي الوباء. دي صورة غيركم ما يعقلها كثير .. الجدري في قرية "التبيب"، تذكروها؟ كان في كرنتينة في القرية، لا خروج، ولا دخول. الشيخ الرفيع ود الشيخ البشير، أخو الشيخ السماني مات بالجدري في القرية. شيخ مصطفى خال خديجة بت الشريف، هو صديقنا وبزورنا كتير، قال: ((حصلت وفاة ومشيت أعزي. مرَّ علي الشيخ الرفيع ـ أخو الشيخ السماني شيخ المقاديم الهسع بيعطروا ليكم حلقات الذكر ديل ـ قال لي بمشي معاك .. قال مشينا سوا، إيدو في إيدي، كان فيها سخانة شديدة .. وصلنا محل الفاتحة، واحد قال: يا الشيخ! المرض دا ما كمَّل الناس!! الشيخ الرفيع قال: المرض بينتهي، لكن بيشيل ليهو زولاً طيِّب!! قمنا من المجلس، وصلنا البيت، والسخانة كانت الجدري، ومات الشيخ الرفيع، ووقف الجدري .. السيد الحسن أيضا مات بوباء وانتهى الوباء .. وفي سنة 1951م الشيخ طه مات في رفاعة بالسحائي، وكان مستطير بصورة كبيرة، وما عندو علاج، وما كان بينجو منو زول، الما يموت، يتركو بي عاهة .. مات الشيخ طه والمرض انتهى! الحكاية دي عند الصوفية مضطردة ومتواترة، العلمانيين تصعُب عليهم)). ولم ندرك لحظتها أبعاد ذلك الحديث كما ينبغي، رغم أن قد قيل قبل أربع عشرة ليلةٍ فقط قبل الإعدام. فقد كان في آذاننا وقرٌ من طفولة روحيةٍ غريرة! كان هو في حيز، وكنا في حيز آخر.

    قيل إن الحلاج حين سيق إلى الصلب كان ينشد:

    نديمي غيرُ منسوبٍ

    إلى شيءٍ من الحَيْفِ

    سقاني مثلما يشربُ

    فعلَ الضيفِ بالضيفِ

    فلمَّا دارتِ الكأسُ

    أتى بالنطعِ والسيفِ

    كذا من يشربُ الراحَ

    مع التنِّين في الصيفِ!

    لم يكن الأستاذ محمود مفكراً، بالمعني الشائع للكلمة، وإنما كان صاحب رؤيةvision . والرؤية فوق الفكر. وبما أن الناس، بشكل عامٍ، أسرى للأفكار، فإن استيعابهم لما هو رؤيوي يقتضيهم زمناً، ربما طال، وربما قصر، وفقاً للظروف المحيطة بهم. يقول ديفيد بوم عن الرؤيةinsight إنها: ((تعلن عن نفسها كصورةٍ ذهنية. فمفهوم نيوتن للجاذبية، وفكرة انشتين عن السرعة الثابتة للضوء، وردت إليهم كصورٍ ذهنية، وليس كفرضيات تأسست على تداعياتٍ منطقية. فالمنطق يُعد ثانوياً بالنسبة للرؤية، والمنطق لم يكن في يوم من الأيام، مصدراً لمعرفةٍ جديدة)).
    Huston Smith, Beyond the Postmodern Mind, Quest Books, USA, 2003)

    قيض الله للسودان، من دون بلاد الدنيا، أن يشهد تجربتين كبيرتين غريبتين على السياق السائد. ففي ثمانيات القرن التاسع عشر، والثورة الصناعية، في أوج صعودها، والتوسع الاستعماري في عنفوان تمدده، شهد السودان أحداث الثورة المهدية، التي دعت إلى العودة إلى الدين، ودعت إلى الجهاد وفتح البلدان. وفي ثمانينات القرن العشرين، شهد السودان تجربة محاولة تطبيق الشريعة الإسلامية، التي تداعت إلى قتل مفكرٍ مسالمٍ أعزلٍ بسبب أفكاره، في تجسيدٍ كان الأبشع من نوعه، في الإطار التاريخي الذي تم فيه. ثم جاءت الإنقاذ، في العام 1989م، وجاءت معها أحلام تصدير نموذج "الثورة الإسلامية"، إلى ما وراء الحدود! ولم تبلغ في ذلك طائلاً، وأصبحت تلك الأحلام نسياً منسياً.

    بدأت الثورة المهدية بأهداف دينية، وحلمت بفتح البلدان، وبإعادة العالم الإسلامي إلى جادة الطريق، كما رسمتها هي، ووفقاً لما حلم به قائدها، من مبايعة تتم له، بين الركن والمقام. يُروي أن الإمام المهدي توقف، وهو في زحفه نحو الخرطوم، عند الشيخ برير، صوفي قرية "شبشة" غربي الدويم، وهي القرية التي اقترن أسمها به. يقولون: "شبشة الشيخ برير". وقد كان الشيخ برير رفيقاً للإمام المهدي في الطريق السماني. يقال إن المهدي حين لقي الشيخ برير أمسك يديه بكلتا كفتيه، وقال له: ((كب يا برير، بلا مكَّة، مافي فكَّة)) أي، لن أترك يدك حتى نبلغ معاً مكة فاتحينً. فرد عليه الشيخ برير، وقد جرى ذلك المشهد تحت شجيرة: ((أنا شديرتي دي ماني فايتها، وإنت مقرن البحرين ماك فايتو)). ترك المهدي رفيق طريقه السابق برير حيث هو، وواصل زحفه نحو الخرطوم التي فتحها. غير أنه توفي فيها بعد شهورٍ معدوداتٍ من دخوله إليها!

    الشاهد، أن الثورة المهدية حلمت أحلاماً تخصها، ولكنها حققت للسودان أمورا أخرى غير التي حلمت بها هي! فالثورة المهدية رسمت حدود السودان الحالية، كما أقامت القطر من أطرافه، وأحدثت فيه حراك هجرات غير مسبوقة، وضعت الإثنيات المتعددة في القطر على طريق تشكيل القومية الواحدة، التي لا يزال مخاضها العسير مستمراً، حتى هذه اللحظة. أما نميري، ووراءه الحركة الإسلامية، فقد جاءوا بما أسموه "قوانين الشريعة". فأدخلوا البلاد في دوامة من الإضطراب، ومن العزلة، ومن التنازع، ومن الفشل المضطرد. وشهد الناس جوانب من كوابيس الهوس الديني، أوضحت بما يكفي خطورة طريق التثوير الشعاري، التعبوي، ومزالقه. وها نحن اليوم نقف عند مفترق الطرق، مرة أخرى، والسبل أكثر انبهاما مما مضى! فهل سيصبح الحجر الذي أباه البناؤون هو حجر الزاوية، كما نطق بذلك السيد المسيح؟ يا طالما سمعت الأستاذ محمود محمد طه، وهو يردد في حجرته الصومعة، العبقة، بنطقٍ مُفَسَّرِ، فصيحِ، مُبين، أبيات الشيخ عمر بن الفارض القائلة:

    وعن مذهبي لمَّا اسْتَحَبُّوا العمى

    على الهدى،

    حسداً من عند أنفسهم، ضَلُّوا

    فَهُمْ في السُّرى،

    لمْ يبرحوا من مكانِهم

    وما ظعنوا في السير عنه،

    وقد كَلُّوا!!
                  

01-19-2010, 05:30 AM

Murtada Gafar
<aMurtada Gafar
تاريخ التسجيل: 04-30-2002
مجموع المشاركات: 4726

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: خلف الله عبود)

    أنا زعيم بأن الأستاذ محمود محمد طه هو أول -من بين صفوة الشمال النيلي - من وضع لبنات السودان الجديد الفكرية والعملية ويتأتي زعمي هذا من الآتي:

    (1) هو أول من دعى للحكم الفيدرالي من خلاله كتابه (أسس دستور السودان) في وقت أغتيل فيه ساسة جنوبيون لمجرد دعوتهم للفيدرالية عشية الاستقلال

    (2) قال فيما قال الأستاذ محمود، وهو من أول القائلين-من الشماليين والجنوبيين- في هذا الصدد بأن حل مشكلة جنوب السودان في حل مشكلة الشمال، وهي جوهر فكر الراحل د. جون قرنق عن السودان الجديد

    (3) في كلمته الرفيعة أمام محكمة المهلاوي قال الأستاذ وهو يسوق مبررات مناهضته قوانين سبتمبر (أنا أعلنت رأي مرارا ، في قوانين سبتمبر 1983م ، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام .. أكثر من ذلك ، فإنها شوهت الشريعة ، وشوهت الإسلام ، ونفرت عنه .. يضاف إلي ذلك أنها وضعت ، واستغلت ، لإرهاب الشعب ، وسوقه إلي الاستكانة ، عن طريق إذلاله .. ثم إنها هددت وحدة البلاد ...الخ)

    أرجو ملاحظة قوله أن قوانين سبتمبر هددت وحدة البلاد، فالأستاذ كان يستبطن الدعوة للمواطنة ويقف ضد التمييز بين السودانيين عل أساس دينهم أو عرقهم أو ثقافتهم وهذا هو السودان الجديد


    له المجد في عليائه وجعل البركة في المركز وفي أبنائه النابهين من الجمهوريين


    مرتضى جعفر
                  

01-25-2010, 06:52 PM

خلف الله عبود

تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: Murtada Gafar)

    شكرا مرتضى على الإضافة القيمة ، فإن الأستاذ محمود ، فعلا هو رائد هذا الفكر المستنير الذي تبلور في توجهات القائد الراحل الدكتور جون قرنق ... وينتظر التطبيق على الأرض ، وقد بدأت بشائره .


    الحلقة الثالثة من مقال د. النور حمد :



    ذكرى الأستاذ محمود:
    ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! (3 - 4)

    د. النور حمد
    [email protected]

    ظننت أن حلقتي الثانية في الإحتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لإستشهاد الأستاذ محمود محمد طه ستكون الأخيرة، غير أن عديداً من الرسائل وصلتني على بريدي الإلكتروني تستزيدني في هذه الوجهة، الأمر الذي حدا بي إلى كتابة حلقتين إضافيتين. والحق أن ما يمكن أن يُقال عن الأستاذ محمود كثيرٌ، كثير. وهو لا تسعه بضع حلقات صحفية، وإنما يحتاج كتاباً كاملاً، وربما كُتباً. ولقد ظللت مشغولاً منذ ثمانينات القرن الماضي، بكتابة كتابٍ عن تجربتي مع الأستاذ محمود. غير أنني ظللت أرجئ الشروع في كتابة تلك التجربة، منتظراً أن تدخل التجربة برمتها أكثر في التاريخ، وتصبح رؤيتها بالنسبة لي أكثر وضوحاً. أيضاً كنت أتحين تغيُّرَ المناخ الفكري والثقافي في السودان، هوناً ما، وانقشاع سحابة التشويش، وانثلام أسنة قهر العقل والوجدان، التي طالما استخدمها الدين الرسمي المؤسسي، في الابقاء على سيطرة الموروث، الراكد والمحنط. فالأمور تسير، في عمومها، بفضل الله، نحو الأحسن. وهي، فيما أعتقد، لا تملك إلا أن تسير نحو الأحسن، كان على ربك حتماً مقضيا. قال الأستاذ محمود، الرجل الذي لم تعرف همته اليأس في يوم من الأيام: ((سيكون يومنا خيراً من أمسنا، وسيكون غدنا، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر!!)). نعم، هناك انتكاسات، وهناك فترات ركود تحدث، هنا، وهناك، غير أنها لا تؤثر في حقيقة أن المسار يظل، في جملته، مساراً صاعدا. روت لي زوجتي أسماء إبنة الأستاذ محمود موقفاً جرى لها في آخر زيارة لها لأبيها في سجن كوبر, قالت إنها قالت له أننا ـ أي الجمهوريين ـ تحركنا بشدة وسط النقابات، ووسط السياسيين، ووسط قادة الرأي، وسائر وجوه المجتمع، وأن ضغطاً على النميري بدأ يتشكل. قالت لي أسماء أنها عرفت لاحقاً أنها حين قفالت ذلك كان التفكير بالأماني طاغياً عليها، وذكرت لي أن الأستاذ محمود نظر إليها نظرةً مركزةً، وهي تقول ما تقول، وأنها لم تدرك مغزى تلك النظرة المركزة في تلك اللحظة، وإنما أدركتها فيما بعد. قالت إنها عرفت لاحقاً أنه نظر إليها تلك النظرة المركزة، ليجعلها مهيئةً لرحيله، متصالحةً معه، فقد أحس أنها ملوءةً أملاً. قالت إنه قال لها عقب تلك النظرة المركزة: ((الناس ما بجوا معاكم في الضربة الأولى!!)). قال لها ذلك، ولم يزد عليه! وقالت هي إنها لم تفهم مغزى تلك العبارة، ساعتها، وإنما فهمتها مع غيرها من الجمهوريين والجمهوريات، لاحقاًً.

    الشاهد أن الأوضاع آخذةٌ في التبدل، ولسوف يتسارع إيقاع التبدل هذا. ويكفى أن يشير المرء في هذا الموضع إلى أن الذين سبق لهم أن بصقوا على وجوهنا، وسددوا إلي أجسادنا اللكمات، والركلات، وهووا على رؤوسنا بالعصي، في ساحات جامعة الخرطوم، وغيرها من الأماكن، في نهايات سبعينات القرن الماضي، وبدايات ثمانيناته، قد أصبحوا اليوم رجال دولة. وربما أخذ بعضهم، مع تقدم السن، واتساع المدارك، واكتساب الحكمة، يخجل، ويعحب، من صنيعه مع الأستاذ محمود، ومعنا.

    ظللت أحس أن من واجبي تجاه نفسي، وتجاه مرشدي، وتجاه السودانيين، وتجاه تاريخ البلد، وثقافته، أن أكتب كتاباً عن تجربتي في العمل الجمهوري. فنحن قد عايشنا الأستاذ محمود، يوما بيوم، ولمددٍ طويلةٍ، تتفاوت في الطول بين واحدٍ والآخر. وأرى أن هذه المعايشة اللصيقة للرجل تلقي علينا مسؤولية وضع تجربتنا معه بين أيدي الناس. فالأستاذ محمود محمد طه شخص أستثنائي، من أي النواحي أتيته. لم أر في حياتي شخصاً مؤمنا بالغيب، مرتبطاً به بذلك الشكل العضوي، كالأستاذ محمود. ولم أر إنساناً جذاباً، متفهما للآخر، ومتعاطفاً معه مثله. أيضاً لم أر شخصاً متمدناً، متحضراً مثله. كان حاضراً ومحققاً لحالةٍ مدهشةٍ من الجمعية الروحية والحياتية. وصفه أحد زواره من الباحثين الغربيين الذين يأتوت زائرين، بقولهً: He is altogether. وبالفعل، فقد كان الأستاذ محمود شخصاً منجمعاً على بعضه، لبق الحركة، مقتصدها. كان حين يحدثك، يحدثك بكلِّيته، وحين يستمع إليك، يستمع إليك بكلِّيته. رأيته كثيراً وهو يحلق لحيته، فلم أر انساناً كلفا بالتجويد والإحسان مثله. ورأيته مرة يصلح البلاستيك في كرسيٍ تهتك نسيجه، فقد كان يرى أن إصلاح الخلل الذي يطالعه، حين يطالعه، واجباً مباشراً، لا يحتمل التسويف، ولا يحتمل الإحالة إلى الغير. ووجدته مرة يغسل برميل الماء في باحة المنزل، فحاولت جذب البرميل منه ليترك غسله لي، فرفض بإصرار، ولم أملك بعد شدٍ وجذبٍ، ألا أن أتركه له ليكمل غسيله بنفسه! فهو لم يكن يرى أن علمه، أو تحقيقه الروحي، أوسِنَّه، تمنحه مزيَّةً وامتيازاً على أي إنسانٍ آخر!

    من زاويتي التي رأيت منها مشهد الأستاذ محمود، أستطيع أن أقول إن السودانيين لم تتيسر لهم فرصة أن يعرفوه، كما ينبغي. فقد حجبت الأستاذ محمود عن الناس عوامل شتى. وتجربتنا نحن الذين تتلمذنا عليه، لم تُعرف هي الأخرى، كما ينبغي، أيضاَ! هي لم تُعرف حتى من أصدقائنا المقربين، الذين حين رأونا ندير ظهورنا لصداقتهم، بكل ما فيها من مرح الشباب، وطلاقته، وكل ما في الحياة الجامعية من شؤونٍ وشجون، ظنوا أن مسَّاً من دروشةٍ أصابنا!! الشباب الذين أهطعوا إلى مظلة الأستاذ محمود الروحية، اختاروا تلك المظلة، مُفَضِّلين إياها على مشاريعهم الشخصية، وعلى حريتهم الشخصية، لأن حريةً من نوع آخر طالعتهم هناك. حريةٌ من رق العادة، ومن سجن النفس وظلماته وكدوراته. الذين اقتربوا منه تحدوا في اقترابهم ذاك، سطلة الأسرة والأقارب، وما تتضمنه تلك السلطة من مشاريع مرسومة سلفاً، تمثل لدى العقل الجمعي، الوصفة الأبهى، والأكمل، لنجاح الإبن الطالب، والبنت الطالبة. وأكاد أجزم أن فضولاً عارماً ظل يعتمل في نفوس الكثيرين، لكي يعرفوا التجربة الجمهورية من أفواه من عاشوها. أي أن يروا الدائرة الجمهورية بعينٍ داخلية. وما من شكٍ أن رؤية تلك الدائرة من خلال عينٍ داخلية سوف تُجلي الكثير من اللبس، وسوف تسهم في موضعة التجربة برمتها في الإطار الصحيح، الذي ينأى بها عن جنوح التهويمات المتخرصة، ومن شائعات التشويه المتعمد، ومن الغرائبية التي تلف مخيلات الذين تستويهم مناخات الواقعية السحرية.

    جئت إلى الأستاذ محمود، وأنا طالب في السنة الثانية بكلية الفنون الجميلة والتطبيقية، في العام 1972م. ومن يوم أن رأيته، لم أبرح ساحته حتى وقفته المشهودة في الثامن عشر من يناير من العام 1985م. والذي يرى الأستاذ محمود ـ مبغضاً له حين جاءه، أو محباً له ـ لا يخرج منه مثلما دخل إليه. يترك الأستاذ محمود أثراً في زائره، لن يُمحى. فهو ممن تحققوا، دون أدنى ريب، بما قاله السيد المسيح عليه السلام: ((كلمتي لا ترجع إليَّ فارغة!!)). فللرجل جاذبيةٌ روحيةٌ لا تخطئها عينٌ، مهما كان نصيب تلك العين من العمى! فقد وُهب الأستاذ محمود حسناً آسراً من حضرة الجمال، يسبي فؤاد كل صبٍّ، مدنفٍ، منجذبِ إلى عالم الحقائق. كما أن له سطوةٌ باطشةٌ من حضرةِ الجلال، تزلزل فؤادَ كل مُكَذِّبِ ميالٍ إلى الإنكار! وهذا أمرٌ قديمٌ، معروفٌ، متواترٌ ذكره في سير الصالحين، يعرفه كل من مخر بحار الروح، وشم شميم حضراتها القدسية الشَّذِيَّة. وتلك عوالم حُرم من ارتيادها متسنمي الوظائف في هياكل الدين المؤسسي الرسمي، ومن شاكلهم من تجار الشعار الديني.
    قال العارف النابلسي:
    لقد نظرتْ قومٌ بطرفٍ لهم قذي
    فلم يشهدوا إلا حجابَ جمالِ ذي
    وقومٌ لقد شمُّوا شذى روضِها الشَّذِي
    يقولون لي ما العلمُ؟ ما السرُّ؟ ما الذي،
    هو الجوهرُ الغالي؟.. عن البحرِ خبِّرنا!!

    حين جئته كنت شاباً، شارداً، قلقاً، منكوش شعر الرأس، أرتدي بنطلون "جينز" رخيص، صيني الصنع، فوقه قميص مشجر، كان بعضاً من لبوس طلاب الفنون الجميلة، في تلكم الأيام. حين جئته، كانت تمور في رأسي أخلاطٌٌ من أفكار ماركسية، ووجودية، مضافاً إليها كثيرٌ من قلق المشتغلين في حقل الفنون، واغترابهم عن محيطهم. كنت مُسْتَلَباً بالكلية، لعوالمَ أجنبيةٍ متوهَّمَة ـ أعني، عوالمَ فكريةً، وروائيةً، وشعريةً، وتشكيليةً، طفقت أتسلح بها في مواجهة بؤس المحيط وعوزه الفكري، وجدبه الروحي، والوجداني ـ قرأت كتب الرجل، وسمعت بعضاً من محاضراته من الأشرطة في بيت الصديق، عمر صالح، وهو بيتٌ مطلٌّ على النيل الأبيض، في ضاحية اللاماب بحر أبيض. كان يدعونا لجلسات للإستماع وللمناقشة تلك الأستاذ الراحل إبراهيم قرني، ويؤمها معي من طلاب كلبة الفنون، كلٌ من خلف اللله عبود، وحسن موسى، ومحمود عمر محمود، وأستاذنا عبد الله بولا. كانت اللاماب بحر أبيض، حينها، قريةً مبعثرةً تسعى ببطءٍ إلى استكمال هيئتها العمرانية. طالعني فيما قرأته للأستاذ محمود وما سمعته منه في أشرطة التسجيل شئ مختلف. كان في حروفه وصوته نفسٌ مغاير لذلك النفس الفاقد للحرارة، الذي يخنق أنفاسي في حصص الدين المدرسية، التي كنا نعبر أكثرها، ونحن نيام. سلسلة من الترديد الميت الفاقد للحرارة، ظللنا نُجلد بها منذ المرحلة الإبتدائية، وحتى نهاية المرحلة الثانوية. هذا الموات المكرور، هو ما نفَّرني من الدين، وجعلني أدير ظهري له، ولثقافتي، وسائر إرثي الفكري.

    شيء ما قادني إلى منزل الأستاذ محمود في مدينة المهدية، ذات نهارٍ قائظٍ، من تلك النهارات التي تعطيك شعوراً وكأن العالم مقبل على نهايةٍ وشيكة، أو أن كارثةً ما سوف تحل بأهل الأرض. وجدته في بيته الطيني البسيط، الواقع في منتصف الحارة الأولى، وكان بيته من بين البيوت الأكثر تواضعاً في المظهر، مقارنةً ببقية البيوت. كان على جنوب المنزل ميدانٌ ترابي، مثلث الشكل، ومن غربه ميدانٌ ترابي آخر، مربع الشكل. طرقت الباب وجاء شاب في مثل عمري آنذاك، وفتح لي. حدست أن ذلك الشاب من أقارب الأستاذ. أدخلني الشاب إلى صالون البيت المتواضع المؤثث بالأسرة، وبضعةٍ من كراسي البلاستيك. وحين جاءني الشاب بكوب من الليمون، دخل الأستاذ محمود وهو يرتدي عراقي "ساكوبيس"، وسروالاً سودانياً تقليدياً، لعله من قماش الدبلان القطني الشائع لباسه آنذاك. كما كان يعتمر طاقية بيضاء يظهر من تحتها شعره الأشيب. كنت في بداية العشرينات من عمري، وكان في بداية الستينات من عمره. جئته أحمل حمولاً وهموماً وقلقاً وجودياً ناء بثقلها جرمي الغض، وكنت في أمس الحاجة إلى ركنٍ ركينٍ، أُجَبِّرُ به عودي الطري، حتى يطيق ذلك الحمل الثقيل.

    لاحظت فيه حين جالسته، شيئاً يجمع بين الأبوة والصداقة. فهو من حيث الهيئة، أب مثل سائر الآباء. أما من حيث ما ينشأ بينك وبينه من ارتباط لحظي، وثيق، فهو أقرب إلى الصديق. شيءٌ ما في سمته، وهيئته، يجعلك تتصرف على سجيتك. ويجعلك تخلع عنك ثوب التحفظ الزائد الذي يتلبس الشباب رغماً عنهم، حين يجالسون الكبار. ولقد كنت أحوج ما أكون إلى تلك الحالة التي طالعتني منه. فطبعي يميل إلى النطق بما يدور في رأسي. ولا شيء يرهقني مثل التحدث بخلاف ما أفكر فيه! هالتني بساطة الرجل، واتسعت الشقة في ذهني بين الرجل الذي كنت أسمعه في أشرطة المحاضرات، والذي كنت أراه بين سطور كتبه البديعة السبك، وبين الرجل الماثل أمامي، الذي لا يختلف في شيءٍ، عن أبي، الحاج، محمد ود حمد، المقيم في حلة حمد الترابي! سألني من أي مكان أنا. فقلت له: أنا من حلة حمد الترابي. فتهلل وجهه، واعتدل في جلسته، ومال نحوي، رغم أن عرض الصالون الذي ضمنا، كان يفصل بيني وبينه ببضعة أمتار. فقد كان يجلس على كرسي بلاستيك مستندا إلى الحائط الشرقي من الصالون، وكنت أجلس على سرير يستند إلى الحائط الغربي. مال نحوي في حنوٍ وقال لي باهتمام شديد: الشيخ حمد الترابي جدك؟ فقلت له نعم، فتهلل وجهه أكثر. غير أني استطردتُ قائلاً: جدي المباشر من جهة آبائي هو الشيخ "نَنَّة" الترابي، وليس الشيخ حمد. فالشيخ حمد جدي من جهة أمهات أجدادي. فضحك وقال لي: (كمان دا أكبر!!)، ثم شرع يحكي لي عن كرامات الشيخ نَنَّة وكيف أن الشيخ نَنَّة" هو الذي أخرج بكراماته شقيقه حمد من تدريس الفقه، إلى السلوك في درب التصوف، واستطرد في الحكي، وكان كل ما حكاه مطابقاً لما كنت أسمعه في طفولتي من أبي ، وقد كان أبي راويةً لقصص الأولياء، وكان نسَّاباً حافظا. ولقد حفظت قصصه تلك، ووجدت كثيراً منها مثبتاً في كتاب طبقات ود ضيف الله، بعد أن قرأتها لاحقاً. صدمني الأستاذ باحتفائه بخلفيتي الصوفية! تلك الخلفية التي أدرت لها ظهري تماماً، منذ أيامي في حنتوب الثانوية، ولم أعد أراها سوى بعضٍ من الخرافاتِ المتوارثة لأهلي الذين تغلب عليهم الأمية! وكنت أظن أنه معي على نفس المركب، في النفور من سير الكرامات! وتشعب الحديث بيننا، وأذكر أنني قلت له في منطقة من مناطق تشعب ذلك الحديث العفوي، إنني لا أفهم كيف يطيب لبعض البيوت الطائفية أن تتلقى جوال تمرٍ من إمرأة عجوزٍ، فقيرة، في المديرية الشمالية، هي أحوج ما تكون إلى ذلك الجوال، الذي لا يحتاجه البيت الطائفي الموسر في الخرطوم! صمت لفترة ثم قال لي: ((ما بتفتكر أنُّو الراحة النفسية البتلقاها المره دي لمن ترسِّل الشوَّال ده، أهمًّ ليها بكتير من الشوَّال؟!)). صمتُّ، ولم أجب، وإن كان "شيئاً من حتى" بقي في نفسي لحظتها!

    كانت تلك هي ضربة البداية. رجل يبدو في كتبه، وفي أشرطة محاضراته عقلاً جباراً، ويبدو في بيته مثل سائر الآباء، من غمار السودانيين. ترى في كتبه وفي محاضراته سطوة العقل الحداثي، وجبروته وسيولته، ويقظته، ومهاراته التحليلية التي تفترس القديم والراكد افتراسا. وحين تجلس إليه يحدثك عن كرامات الأولياء بشيءٍ شبيهٍ بما يتحدث به العامة! زعزعني منه ذلك الوجه، الذي ظننته، حينها، وجهاً تقليدياً، وربما مغرقاً في الخرافة، ولكني امتصصت الصدمة، فصورة المفكر المتمكن العارف لما يقول، الواضحة في متون كتبه، طغت عندي على ما صدمني منه في تلك الزيارة، من حديثٍ عن كرامات الأولياء. وبما أنني أميل، بطبعي، إلى التصديق، أكثر من ميلي إلى الإنكار، فقد آثرت أن أفكر في الأمر، وأقلِّب وجوهه. ولقد ظللت أقلب تلك الوجوه طيلة فترة تتلمذي عليه. كما واصلت التقليب حتى يوم الناس هذا. عبر النمو الإدراكي الذي تتيحه التجربة والتقدم في السن، وعبر القراءة المعمقة والموسعة، وعبر الدراسة في الجامعات الأمريكية، خاصة، في مجال الإنسانيات، عرفت، بما لا يدع مجالاً للشك، أن العقل الحداثي، المُنكر للمارورائيات، ليس سوى عقلٍ بسيطٍ، مغرورٍ، متعجل. وعرفت لِمَ كان الأستاذ محمود لا يمل القول بأن العلمانية ليست علمية!! وهذا حديثٌ لا تتسع له مثل هذه المقالات، فمكانه هو الكتب. (يتواصل).
    ( صحيفة الأحداث – 25 يناير 2010)
                  

01-25-2010, 07:57 PM

طه جعفر
<aطه جعفر
تاريخ التسجيل: 09-14-2009
مجموع المشاركات: 7328

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: خلف الله عبود)

    Quote: أي نوع من البشر هذا الذي يخرج لتوه من محكمة حكمت بإعدامه، ثم يظل هادئاُ، وبمثل هذا القدر من الحضور، والسكينة! بل، ولا يفوته أن يسأل شخصاً مثلي، زاره في بيته مرة واحدة، وبشكل عابر، وقبل زمن طويل، عن آلام بطنه المزمنة؟ واستطرد عبد العزيز قائلاً: جئت وأنا مشغولٌ بما هو فيه، فوجدته حين رآني، مشغولاً بما أنا فيه!! قال عبد العزيز: تحركت السيارة، وابتعدت، وبقيت متسمراً في مكاني للحظات، وأنا غيرُ مصدِّقٍ ما جرى بيني وبينه!!


    تحضرني هذه الابيات
    هاديء كان اوان
    عاديا تماما
    كالذي يمشي بخطو مطمئن كي ينام
    و تسامي .. و تسامي


    لا اعرف شاعر هذه الابيات المنبنية علي الصواب، احب هذه الابيات لانها تقول ان اصحاب الهامات العالية لا يقتلهم الموت، بل به يحيون الي الابد الاستاذ محمود لم يمت موتا مجانيا بل مات بثمن باهظ و غادرنا و و نبوءات الشيخ فرح ود تكتوت ما تزال ماضية

    يجيكم زمن تمشو بالبيوت و تتكلموا بالخيوت

    الان نتكلم عبر موجات كهرومغناطيسية نبث خلالها نفيس النفس الي الاحباب

    حملتك الرياح للذري
    يا عالي الاكتاف
    في المدينة الصدي
    علا آذاننا الصرير


    مقطع مما كتبته تحية للاستاذ عبد الخالق محجوب و الاستاذ محمود محمد طه.. سبب ايراد اسم الاستاذ عبد الخالق محجوب قبل اسم الاستاذ محمود هو أن الاول تم قتله اولا، كلاهما في الذري العالية شديدة السمو يرفلان في العلو لانهما شهيداء فكر اكارم خلوقين
    ارسل محبتي العميقة للاستاذ خلف الله عبود و بقية المتداخلين خاصة مرتضي اخي. و محبة عظيمة الي الرسام العظيم النور حمد .. الذي يلون ثقافتنا بالمقالات زاهية الالوان عظيمة الشأن
    لكم محبتي و شكري علي هذا الجمال..

    طه جعفر
                  

01-29-2010, 09:20 AM

خلف الله عبود

تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: طه جعفر)

    مرحبابالصديق العزيز طه جعفر الذي فقدنا صحبته وحواره الخصب في ندواتنا غير الرسمية في مجالس نادرة ...

    الموت عند الأستاذ كما وصفه هو : ميلاد جديد في حيز جديد ، وهوهنا لدي هذه القامة الشامخة ميلاد وجود كامل يشمل الأحياء والاشياء ...

    نرجو أن نلتقي بك في السودان ... ومازالت أسرتي تنتظر زيارتك أنت والمبدعة إلهام .
                  

02-05-2010, 08:23 AM

خلف الله عبود

تاريخ التسجيل: 05-06-2009
مجموع المشاركات: 529

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: في ذكرى الأستاذ محمود محمد طه : ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! / د. النور محمد حمد (Re: خلف الله عبود)

    الحلقة الرابعة والاخيرة لما كتب الدكتور النور محمد حمد عن الأستكان الأستاذ محمود روحانياً بمعنى الكلمة، غير أن روحانيته لم تكن روحانيةً محلقةً في الأعالي مذهولةً عن الواقع المحيط بها، وإنما كانت روحانية تعتمد في أدق التفاصيل، مفهوم أن الدنيا مطية الآخرة. لم يكن إيمان الأستاذ محمود بالغيب إيمانا عقلياً، وإنما كان يقيناً مجسداً في الدم واللحم. والذين يبلغون تلك الرؤية التي تنتظم فيها العوالم من الذراري إلى الدراري في وحدة واحدة، كما أشار هو في كتابه "الإسلام"، ويحققون تلك المراتب من اليقين، لا يشغلون أنفسهم بالحسابات التي عادة ما يشغل بها الناس أنفسهم. فالدنيا والآخرة تصبح لدى أهل ذلك المشهد شيئاً واحداً. وأهل هذا المشهد هم الذين تحرروا من الخوف، ومن الطمع، وحققوا العبودية. والعبودية الحقة هي أن ترضى أن تضعك المشيئة الإلهية حيث تريد. كان الأستاذ محمود منسجماً انسجاماً مذهلاً مع جزيئات بيئته الزمانية والمكانية، وتعبير ((الانسجام مع جزيئات البيئة الزمانية والمكانية)) تعبير أخذته من أدبياته التي كتبها. ظل الأستاذ محمود ملازماً لحجرته عبر الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته. ولم يكن يبرحها إلا لعيادة مريض، أو السير في جنازة. حين يدخل المرء عليه في حجرته تلك الغارقة دوماً في دخان البخور، يحس وكأنه قد ولج عالماً آخر. في حضرته، تبهت في نداءات المشاغل اليومية، ويدخل زائره في جمعيةٍ تستغرقه من جميع أقطاره. تلك الجمعية الداخلية بعض قبسٍ من عيش الآخرة؛ أعني، حالة الانسجام والاتساق الكلي مع المحيط. كان الأستاذ محمود منحصراً في لحظته الحاضرة، وانحصاره لمن النوع الذي يتعداه ليُعدي جليسه. والصوفية يقولون: ((الحال العامر يُعدي))! كان لا يشكو من أمرٍ نقص، أو لم يتم، أبداً. ولا عجب! أليس هو من نبه في كتابه "لا إله إلا الله" إلى الحديث القائل: ((لاتزال لا إله إلا الله تدفع سخط الله عن العباد، ما لم يبالوا ما نقص من دنياهم، فإذا فعلوا ثم قالوها، قال الله: كذبتم! لستم بها صادقين)).
    ظل الأستاذ محمود يعيش في بيته المبني من الطين ولم يكن في حمَّامه "دش". عاش في ذلك المنزل حوالي العشرين عاماً ظل يستحم عبرها بالطست. ولقد انثقب ذلك الطست مراراً من طول الاستخدام، ولكن الأستاذ محمود لم يكن يطلب طستاً جديدا، وإنما كان يرسله مع ابن أخيه إلى حدادٍ ليرقعه. وفي واحدةٍ من حوادث الانثقاب المتكررة تلك، طلب الأستاذ محمود من ابن أخيه مختار أن يأخذ الطست إلى الحداد، وكان في الغرفة بعضٌ من أهله. فدنا منه ابن أخيه مختار، وهمس في أذنه، حتى لا يسمع الحضور ما يقول: ((يا أستاذ الحداد المرة الفاتت، قال لي: الطشت دا تاني ما تجيبوه لي))!! وضحك الأستاذ محمود من قول الحداد. وروى عنه الدكتور الراحل خليل عثمان، وقد كان معتقلا معه في أحد بيوت الأمن في منطقة الخرطوم شرق، أنه ـ أي الدكتور خليل ـ رمى بكوزٍ كانا يستخدمانه معا للشرب. وكانت أسرة الدكتور خليل قد جاءت إليهما بكوز جديد. فافتقد الأستاذ الكوب القديم الذي اختفى، وسأل عنه الدكتور خليل. فقال له الدكتور خليل أنه رماه حين تسلم الكوز الجديد. فطفق الأستاذ محمود يبحث حول جنبات المنزل عن الكوز القديم والدكتور برفقته، حتى وجداه. فغسله الأستاذ محمود ودق مسمارا على الحائط علقه عليه، وقال للدكتور خليل: ((الكوز ده دحين ما خدمنا كتير؟!)). ولقد ظل الدكتور خليل عثمان يروي قصصاً كثيرة عن فترة ملازمته للأستاذ محمود في المعتقل. ولا عجب أن انتحب الدكتور خليل عثمان انتحاباً مراً، حين سمع بتنفيذ الحكم على الأستاذ محمود، وهو في لندن في معية الدكتور منصور خالد وآخرين، كما روى الأخير.
    لم يكن للأستاذ محمود دولاب ملابس في غرفته. وإنما كانت له شنطة جلدية من طراز قديم ظل يضعها تحت عنقريبه. كان أقرب ما يكون شبهاً في عيشه في غرفته تلك بطلبة الداخليات. لقد كان الأستاذ محمود متجرداً بشكل لا يُصدق عن نزعة التملك، ونزعة الاحتفاظ بالحيز الخاص. لقد كان في هذه الدنيا عابر سبيل، لا أكثر. كان يرتفق بالأشياء فقط، ولم يكن له أدنى إحساس بملكية شيء. شنطته الجلدية التي كان يضعها تحت عنقريبه، هي ذات الشنطة الجلدية التي سلمتها إدارة سجن كوبر إلى أسرته، عقب إعدامه، ولم يكن فيها سوى جلباب وعمامة وشال وعراقي وسروال ومركوب أبيض و"سفنجة". وكان ذلك هو كل ما يملك من متاع الدنيا، حين ذهب إلى لقاء ربه، راضياً مرضيا. رأته إحدى قريباته وهو في انتظار التنفيذ في سجن كوبر وهو يرتدي عراقي وسروال السجناء المصنوع من قماش الدمورية الخشن، فدمعت عيناها، فطيب الأستاذ محمود خاطرها، وقال لها: ((هذا أشرف لباس ألبسه في حياتي)).
    عاش الأستاذ الخمس عشرة عاماً الأخيرة من حياته في غرفته تلك التي كان يدير منها الحركة الجمهورية التي تكثفت في عقدي السبعينات وبداية الثمانينات وأصبحت إدارتها تستغرق اليوم كله، منذ الفجر وحتى منتصف الليل. ولم يكن الزوار ينقطعون عن منزله، منذ الصباح الباكر جداً، وحتى منتصف الليل. لم يكن الأستاذ محمود يعتذر قط عن لقاء أحد. كان يحتفي بكل من يزورونه، ويعطيهم من وقته، ومن اهتمامه، بلا تفريق بينهم. كان لا يفرق بين علية القوم وعامتهم، متعلميهم، وغير متعلميهم، ذكورهم وإناثهم، أو شيبهم وشبابهم. كان يودع بعض زائريه أحياناً، بالمشي معهم حتى شارع الثورة بالنص، الذي يبعد عن منزله حوالي نصف الكيلو متر. وهذا تقليدٌ صوفيٌ قديم. جاء في كتاب الطبقات أن الشيخين الشقيقين ننة وحمد الترابي، وهما ابنا خالةٍ للشيخ دفع الله العركي، كانا يسيران حافيين مع الشيخ دفع الله، من قريتهما شمالي الكاملين إلى أبو عشر. كان الشيخ دفع الله يذهب في زيارات متكررة إلى مقام الشيخ إدريس ود الأرباب. وفي طريق عودته إلى أبو حراز، كان ينزل عند ابني خالته، ننة، وحمد. وما أن يهم بمغادرتهما، حتى ينهضا، ويتمنطقا بثوبيهما، ويمسكا برسن دابته، ويسيرا أمامه حافيين، حتى يوصلاه أبو عشر (حوالي العشرين كيلو متر)، ثم ينقلبا راجعين!
    كانت غرفة الأستاذ محمود معتمة على الدوام، إذ لم يكن يفتح نوافذها إلا نادرا جداً. كان لا يشكو من الحر ولا يضيق منه. وسمعته مرات يقول: ((الطقس طقس داخلي))!! كنا في غرفته ذات مرة وكانت الغرفة مكتظة والطقس حار جدا حتى أننا أخذنا نتصبب عرقاً. فقام بفتح النافذة، وقال فيما يشبه الاعتذار عن تأخير فتحها: ((معليش، أنا إفريقي، لا أضيق بالحر)).
    سمعت الأستاذ محمود كثيراً وهو يقول إن الموت ليس سوى ميلادٍ في حيز جديد! وسمعته مرات يشبه انزعاج الناس من الموت بصراخ الطفل، حين يولد. يقول ذلك، مستصحباً رمزية صرخة الميلاد، التي يفسرها المتصوفة، بأنها احتجاجٌ على القدوم إلى الدنيا، مبعثه الجهل. فالرمزية المطوية في صرخة الميلاد، إنما تمثل احتجاجاً على الخروج من الرَّحِمِ الضيِّق، وظلمته، تفضيلاً للضيق وللظلمة على سعة الحياة، ونورها! وبما أن الإنسان عدو ما يجهل، وبما أنه يتعلق بما يألف، وبما يظنه، جهلاً، حيزاً مريحاً comfort zone، فإنه يندفع غريزياً إلى مقاومة التغيير، وإلى رفضه، حتى لو كان ذلك التغيير يقوده نحو الأفضل. ويمضي الأستاذ محمود في تبيان تكاملية الموت مع الحياة، فيقول إن الموت لا يختلف عن الانتقال من مدينة، إلى مدينة أخرى جديدة! سمعت منه هذا مراراً، قبل سنوات عديدة من وقفته الشامخة الأخيرة التي عرفنا منها أنه كان متحققاً وعائشاً لكل ما يقوله.
    ما يقول به الأستاذ محمود، وهو يصور لنا الموت بتلك الصورة العادية، ظل يمثل بالنسبة لي، مجرد إيمانٍ عقلي، شيء أستطيع تصوره، واستملح فهمه. فتيسير أمر الموت على ذلك النحو، يمثل مخرجاً نظرياً من الخوف من بهموته المرعب. غير أن مجرد الفهم لا يمثل في أفضل الأحوال سوى حلٍ عقلي للمعضلة. ومثل ذلك الحل العقلي، لا يصمد أمام التجارب والابتلاءات. لأنه لا يعين كثيراً على التحرر من الخوف. أعني تحرراً ينعكس برداً، وسلاماً، وطمأنينةً، في تفاصيل الحياة اليومية، كما ينعكس رضا بالابتلاءات. فإن تعقل الشيء، ليس مثل أن تستيقن ذلك الشيء! وعموماً فلدى الابتلاءات الكبيرة، كلُّ مُدَّعٍ مفضوح! كان ما يقول به الأستاذ محمود في خصوص الموت، وهو يحاول أن يغير الصورة المترسبة في عقولنا عنه، يقيناً راسخاً لديه. كان يتحدث حديث المطَّلِع، المُشاهِد، العارف لما يقول، في حين كنا نسمع ونفهم فقط! فعقولنا كانت في جهة، ونفوسنا وأجسادنا كانت في جهة أخرى! لقد كان الأستاذ محمود يعد نفسه طيلة عمره لوقفته الأخيرة. فهو رجلٌ، عابدٌ، زاهدٌ، كثيف الحضور مع ربه، وقد مرَّ بتجارب وابتلاءاتٍ عديدة، اجتازها جميعها، بنجاحٍ باهر. ولذلك لم تكن وقفته الأخيرة سوى تتويج لسلسلة من الابتلاءات السابقة المتسلسلة. فيقينه بربه يقين تشرَّبه الجسد، وصار فيه العقل والجسد متسقين اتساقاً تاماً. يقول الأستاذ محمود إن الأجساد عارفة، ولذلك فهي طائعة. فالعقل هو سبب النزاع، لأن الخوف ممسكٌ بناصيته، كما أن للخوف بعضٌ من وجودٍ على حواشي القلب، في المنطقة التي تلي العقل. أما سويداء القلب فلا مكان فيها للخوف. غير أن تلك السويداء محجوبة، وما العبادة والسلوك ودوام الحضور مع الله سوى الوسيلة التي ترفع تلك الحجب الكثيفة، وتجلب من ثم ذلك الاتساق، وذلك السلام، وذلك التسليم.
    من الكتب التي قرأتها للأستاذ محمود، عند بداياتي معه، وأنا طالب في كلية الفنون، كتابه المُسمى "لا إله إلا الله". في ذلك الكتيب، الذي كان محاضرةً سبق له أن ألقاها على جمعٍ من الناس بلغة الكلام، ثم تم تحويلها إلى كتيب صغير، تصدرته مقدمةً باللغة الفصحى، تحدث الأستاذ عن الابتلاءات التي جرت لسيدنا إبراهيم، عليه السلام. أورد الأستاذ محمود في ابتلاءات إبراهيم الآية الكريمة: ((وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمهن)). كانت تلك الكلمات اللواتي أتمهن إبراهيم، ابتلاءاتٍ كبيراتٍ، متتاليات، قادت إبراهيم من الإيمان إلى الإيقان. فقد أُمر سيدنا إبراهيم بذبح ابنه، فامتثل للأمر الإلهي، ولم يتأوله، ففَُدي الابن وفُدي معه الأب بذبحٍ عظيم. ثم أنه ترك زوجته مكرهاً تبيت في فراش الفرعون، موقناً أن الله سيحميها منه، وقد حمى الله زوجة إبراهيم من الفرعون. ثم جاءه الأمر بأن يترك زوجه وولده بوادٍ غير ذي زرعٍ، وغير ذي ماءٍ، ففعل، وانبثق نبع زمزم. أما الابتلاء الأكبر، فقد كان قذفه بالمنجنيق في النار التي أعدها له النمرود بن كنعان، فلم تأكل النار سوى وثاقه!
    يتضح من ابتلاءات إبراهيم التي جعلته مسلماً، كامل الإسلام، ((إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين))، أن التدين ليس خطباً، طنانةً، جوفاء. وليس دعاوى يدعيها المدعون، وإنما هو تحقق عملي بالكلمة "لا إله إلا الله". ولقد فسر المفسرون "لا إله إلا الله" بـ ((لا معبود بحق إلا الله))، وذلك تفسيرٌ صحيحٌ، في بابه، وفي نطاقه، ولكنه تعريفٌ منحصرٌ في مجرد التصديق، والتصديق ليس أكثر من ضربةٍ للبداية. أما الأستاذ محمود فيفسر "لا إله إلا الله" في مستوى العمل، والسلوك المفضي إلى التحقيق وإلى الإيقان، بأنها تعني أن يعي الشخص أنه: ((لا فاعلَ لكبيرِ الأشياء، ولا لصغيرها، إلا الله)). ويمكن أن نقول بعبارات مستحدثة، أن التحقق بـ "لا إله إلا الله" إنما يعني أن يتسع وعيك ويصبح متسقاً مع مركز الوجود، ومع تياراته المنطلقة في أطراف الكون، علويه، وسفليه، فينعكس ذلك يقيناً بأن كل ما يأتيك، شراً كان أم خيراً، إنما هو خيرٌ محضٌ لدى المحصلة النهائية! أكثر من ذلك، أن تكون حياة المرء خيراً وبراً بالأحياء والأشياء. أما بدايات هذا المستوى فليخصها الأستاذ محمود بقوله: ((أن تكون نفسك منك في تعبٍ، والآخرون منك في راحة)). هذا يعني أن تروض الوحش الذي بين جنبيك، وأن تقضي على الأنانية السفلى التي لا تأنف من أن تحوز كل شيء لنفسها، على حساب الآخرين.
    يركز الأستاذ محمود، في المجال العملي التطبيقي اليومي في السلوك، على أن محك الصدق في التحقق بلا إله إلا الله، إنما هو المال. فإن أردت أن تعرف مقدار ما لدى المرء من "لا إله إلا الله"، ومن توحيدٍ، فلا تنظر إلى كثرة صلاته وكثرة صيامه، على أهمية كثرة الصلاة والصيام في الدلالة على التدين، وإنما عليك أن تنظر، وبقدر أكبر، إلى علاقته بماله. إلى أي مدى هو حريصٌ على ماله، خائفٌ من إنفاقه، كانزٌ له. يقول السيد المسيح: ((حيثما يكون كنزك، يكون قلبك)). ويقول نبي الإسلام العظيم: ((لو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً، ولعلمتم العلم الذي لا جهل بعده)). من يشوهون الأستاذ محمود لا يعرفونه، حق معرفته، بل ربما هم لم يعطوا أنفسهم فرصة ليعرفوا حقيقة ما يتحدث عنه، وحقيقة ما يدعو إليه. ولو أنهم عاشوا معه يوماً واحداً فقط، ورأوا الدين مجسداً في اللحم والدم، في كل حركة وسكنة، لبلعوا ألسنتهم، مرةً، وإلى الأبد.


    بدأ الأستاذ محمود حياته العملية مهندساً، وكسب من الهندسة مالاً وفيراًً، أنفقه عن بكرة أبيه. لقد كان يكسب المال لا يجد به لنفسه مكانةً أو جاهاً بين الناس، أو ليوسع به على نفسه، وإنما ليحل به مشاكل الآخرين. فالمال لم يكن يعني بالنسبة له شيئاً، إلا بمقدار ما يعين على حل مشكلة آخر! فهو قد حرر نفسه من رقِّه، منذ زمان طويل! يحكي عنه من عاصروا فترة عمله كمهندس في مشاريع النيل الأبيض الزراعية أنه عرف ذات مرة أن امرأة فقدت زوجها، وكان لها منه عدد من الأطفال، فتكالب عليها أهل زوجها يريدون بيع المنزل ليتقاسموا قيمته، غير عابئين بالمرأة الأرملة ومصير أطفالها. فطلب الأستاذ محمود من بعض معارفه في مدينة الجبلين بأن يشتروا البيت، ويعطوا الورثة قيمته، وكتب لهم شيكا بتلك القيمة حتى تبقى المرأة في بيتها ولا يتشرد أطفالها. فاستمرت المرأة وأطفالها في العيش في البيت. ولم تعرف تلك الأسرة أن الأستاذ محمود هو الذي دفع ثمن البيت، إلا بعد أن تسرب ذلك من بعضهم بعد زمن طويل. وما لا نعرفه عن الأستاذ محمود في هذا الباب، أكثر بكثير مما نعرفه! الشاهد، أن الأستاذ محمود لا يمكن أن يرى مشكلة، أو يعرف بها، ثم يتعامل معها بلا اكتراث، بذريعة أنها لا تعنيه. لقد كان يتعامل مع القهر والضيم والعوز والمسغبة التي تقع على الناس بأنها أمور تعنيه. وكان يرى في النكوص عن حل مشاكل الآخرين نقصاً في عبوديته. فالتقاعس عن حل مشاكل الآخرين يعني بالنسبة له نقصاً في علاقته بربه، ونقصاً في تدينه. فما بال الأقوام الذين ملأ حب الدنيا، وحب المال، وحب الدعة، وحب الجاه، قلوبهم، يطعنون في دين الرجل الذي ظل يرعى ربه في كل ما يأتي وما يدع، بما لا يمكن أن يتصوروه مجرد تصور؟! .
    كما أشرت سابقا، لا تسع بضع مقالاتٍ لكي يعرف الناس أبعاد وزوايا هذه السيرة العطرة النادرة. فذلك يقتضي، كما سلفت الإشارة، كتاباً كاملا. وهو ما أعكف على إعداده الآن. فهذه المقالات لا تحتمل التوسع الذي يمكن أن يغطي موضعة فكر الأستاذ محمود، وسيرته كمثقفٍ مسلمٍ، مختلف عن مألوف المثقفين، ومألوف من يحلو لهم أن يسميهم الناس "رجال الدين". أعني، تغطية فكره وسيرته وما يمكن أن نستخلصه منهما من ذخيرة تعيننا على الوقوف في مواجهة القضايا الكثيرة الشائكة المحيطة بنا اليوم، على المستويين المحلي والكوكبي. هذه الجوانب، وغيرها، هو ما أرجو أن أنجح في عرضه في كتابي الذي أعكف على إعداده الآن. اذ محمود محمد طه :
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de