|
صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي
|
أُخرَيَاتُ أَيَّامِهِم!
ضيف على الرزنامة :صلاح شعيب
الثلاثاء: أتابع الرزنامة كلما بزغ جديد صاحبها، أو فرد جناح الضيافة لأصدقائه، أو جسَّر بصفاء المودة بين كتاب من أجيال متباينة بغض النظر عن اختلاف الآراء. ولعل هذا بالذات هو ما جعل أستاذنا كمال الجزولي صديقا للكل من قوي مشروع الديمقراطية والاستنارة في بلادنا. فالتسامح مع المختلف ينهض دليلاً على سلامة الطوية، ورجاحة البصيرة، وسداد صلح الدواخل بما يعزز النظر إليه كرمز فكري وسياسي وقانوني وثقافي وفني لا تحجب اللونية السياسية حباً وفيراً له، من جيلنا على الاقل، كمناضل يتوضأ كل يوم بعشق الوطن، ومتأمل حصيف في ظواهر الوجود، وكاتب يطوع اللغة ويغنيها من سنام المعرفة. لا أرمي، قطعاً، إلى تزكية خصوصية الرجل كرمز وطني، وهو الباذخ في صدق العطاء لبلده قرابة نصف القرن، ولكني قصدت مدخلاً لمشاركتي هذه، والتي ما كان لها أن تتم، بالمناسبة، لولا الدور الذي لعبه أستاذنا محمد المكي إبراهيم في أن ينقل له في التذكير بأفضال بعض المبدعين الراحلين الذين قضيت الاسبوع الماضي بأكمله أقلب في أوراقهم. فعنَّ لي أن أعيد سيرتهم العطرة، من جهة، وأن أكافئ، من الجهة الاخرى، ولو بعض جميل كانوا أسدوه لي في مشواري الصحفي بقبولهم الجلوس معي لمحاورتهم، مما وثق من علاقاتي الانسانية معهم، قبل أن يغيبهم الموت، وأتاح لي الاخذ من جمالهم الوريف، والاستزادة من معينهم الخصب. قائمة هؤلاء المبدعين في حقول الصحافة والادب والفن أطول، بالطبع، ممن اخترت ذكرهم هنا، بأمل أن أعود يوماً لاستكمال الكتابة عن الآخرين أيضاً، فالأدب الذي أرسته الرزنامة، هذه (الحوزة الابداعية) التي منها ننهل ونتعلم، ونسبة القراءة العالية لها، مما يقبل مثل هذه التداعيات الحرة التي تتطلع للوفاء.. وما أقله في هذا الزمن! الاربعاء: في سنوات ما أسماه د. بشرى الفاضل بـ (الصمت الثقافي) كان أستاذنا يتوكأ على عصاه بين التدريس بالجامعة وبين الاسهام في الليالي الثقافية الشحيحة. لم يصرفه الشلل النصفي عن تأسيس قسم الدراسات الانسانية بكلية الفنون التي تولى عمادتها. كنا ينغمس، نهاراً، مع البروفيسور عبد الباسط الخاتم، في التأسيس واستقبال الطلاب والمبدعين الآتين من كل فج في زمن التصحر الثقافي ذاك! وفي المساء يؤانسنا، في مكتبة البشير الريح، بسيرة السودان (القديم)، متوغلاً بنا في تواريخ ممالكه وسلطناته. وإذ نعود إلى بيوتنا آخر الليل يؤانسنا بصوته المضمخ بعبق الثقافة عبر إذاعة البرنامج الثاني. وفوق هذا وذاك كان إنتاجه الفكري عن (السودانوية) ورموزها الثقافية يرفد مجلة (الخرطوم) والملف الثقافي لصحيفة (السودان الحديث). وعلى المستوى الشخصي كنت، كلما ألفيتني بالقرب من مباني الكلية، أسعى إليه لأجد مكتبه مكتظاً بشخوص الاكاديميا والابداع، وأستمتع بحضوره الثقافي البهي من خلال محاضراته لطلاب الدراسات العليا. ملأ البروف أحمد الطيب زين العابدين فراغاً عريضاً خلفته الرموز الفكرية والادبية والفنية بهجرة أسرابها قسراً أوان محاولات "أسلمة" الفنون التي باضت في كل أركان سودان التسعينات. كان ذلك النشاط الجم لشيخ يناهز السبعين، يسابق الزمن، غير منتبه لصحته، ليقول كل ما يعلم، ويكتب كل ما يعرف، برغم ضيق مساحات الحرية، ظاهرة لا تخطئها العين! لكن أحمد الطيب زين العابدين مات قبل أن يكمل مشروعه الفكري السودانوي المستند إلى معرفته الغنية بماضي وحاضر أهل البلاد. وفي ظني أن تأسيسه لمصطلح (السودانوية) عبر تحاليله الفكرية والنقدية لأعمال زملائه التشكيليين ورموز الثقافة عموماً، وفذلكة أصول ثيماتها سودانوياً، وكذا اجتراحاته القصصية (دروب قرماش)، هي التحاليل الأكثر وعياً بإشكاليات واقع السودان الثقافي، والتأصيل الاستراتيجي الاعمق لما يضمن سلامة التساكن. فالسودانوية محاولة لخلق توليفة فكرية للتساكن المجتمعي، رغم محاولات البعض حرق افتراضاته، تارة برميها بـ (العنصرية)، كما ادعى الاستاذ ابراهيم العوام في حوار لي معه، وتارة أخرى بـ (الشكلانية)، كما قال لي الاستاذ عبدالعزيز حسين الصاوي، وتارة ثالثة باجترار الـ (بان آفريكانيزم)، كما ذهب إلى ذلك آخرون! ما أدركته آنذاك أن علاقة الراحل بصاحب الرزنامة امتازت بالعمق والتواصل، وإن أعترتها لحظات فتور كما حدثني أحدهم ذات مرة! وللتأكد من الامر انتهزت سانحة حوار كنت أجريه مع الراحل لصحيفة (ظلال)، وسألته عن الاستاذ كمال، ضمن رموز آخرين، فقال كلاماً طيباً عنه. ولا أدري حتى هذه اللحظة وقع تلك الكلمات على الرجل، وإن كنت لم أقرأ له شيئا عن صديقه زين العابدين، وهو الحفي بالمبدعين الاحياء والراحلين، ودونك (إلياذته) عن صديقه الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى! الخميس: أشتهر عمودا (من الركن) و(حزمة تفانين) بالاثارة، مثلما عُرف كاتبهما بـ (ملك الإثارة الصحفية) على مستوى الرياضة والفن. والحقيقة أن الفضل يعود إلى حسن مختار، شقيق عبد الرحمن مختار، في إرساء أدب النقد الفني، في جزئيته الصحفية، حيث يختلف عن كتابات المتخصصين في معالجة الحراك الفني، ككتابات الراحل جمعة جابر ود. مكي سيد أحمد ود. الفاتح الطاهر والاستاذ أنس العاقب ود. الماحي سليمان ود. كمال يوسف ود. محمد سيف، وأولئك الدكاترة الذين جعلوا الفنان زيدان يسخر من الهرولة نحو إنجاز الدكتوراة فأسمى (المعهد العالي للموسيقي والمسرح) بـ (شارع الدكاترة)، في إشارة ذكية إلى أن الموسيقار مطالب فقط بمراكمة الحان كالتي برع فيها بشير عباس والمرحوم برعي محمد دفع الله وحسن بابكر والطاهر إبراهيم وبابا فزاري والراحل أحمد زاهر وعبد اللطيف خضر (ودالحاوي) والمرحوم سليمان عبد القادر (أبوداؤد). لكن كتابات حسن مختار في الرياضة والفن فقد كانت مثل (البهارات) التي تكسب (الحلة) طعمها! وكان أكثر الذين يخشون أبو علي من أهل الفن أم بلينة السنوسي وعثمان الاطرش! أما رمياته في عمود (من الركن) فكانت تفعل الافاعيل في الوسط الكروي! حسن مختار هو أول من أعطاني وظيفة صحفية براتب لم يتجاوز خمسة وسبعين جنيهاً! لكنه ارتسم لي طريقاً شاقاً في (مهنة النكد)، ثم (الكتابة) التي ليست مهنة! وهأنذا ما زلت أمارس الخطأ والصواب، ولم أجتز، في مشوار الألف ميل، سوى بضعة أميال! غير أن أستاذي الأول مات ولم أوفه حقه بعد.
الجمعة: حين علمنا بحضوره للسودان من باريس خلال الايام الاولى لانقلاب الانقاذ، وقمع المعارضين في أوجه، استغربنا فكرة (العودة) في ظروف لم تكن لتسمح للمبدعين بحياة طليقة تحت وطأة ذلك الضغط السياسي. فذهبت إليه في منزل الاسرة بالعباسية بأم درمان، برفقة زميلي عبد السلام حمزة، عاشق (غضبة الهبباي) الذي لا أدري أين موقعه في صحف الخرطوم اليوم، وهو الصحافي والكاتب المجيد. استقبلتنا شقيقته فاطمة التي سبق أن اشطاطت غضبا من سؤال كنت وجهته لها عبر حوار عاصف في بعض صحف الديمقراطية الثالثة! لكنها رحبت بنا، وجلست معنا، وكان هو وقتها يحادث هاتفياً الملحق التجاري بسفارة السودان بباريس على ما أذكر. بعد أن انتهى من محادثته سلم علينا، وحمدنا له سلامة العودة، ثم طلبت منه حوارا للقسم الثقافي بجريدة الشرق الاوسط، فاعتذر بأنه سيغادر في الصباح الباكر. ولما كان سيل الضيوف يتدفق فقد اكتفيت بأن عرضت عليه أن أكتب له خمسة أسئلة فقط راجياً أن يجيب عليها ويرسلها لي، فقاطعني بأنه سيبذل قصارى جهده للفراغ منها "ولو في الهزيع الاخير من الليل"، كما قال، على أن أعود في الصباح لأجد من يسلمني الاجابة. فودعناه وانصرفنا. ولما أتيت لمنزله في الصباح كانت تنتابني الوساوس بأن الوقت، حتماً، لم يسعفه ليفي بوعده، خصوصاً وأنني زدت عما كنت التزمت به بخمسة أسئلة أخرى! لكنني فوجئت بمن سلمني أجوبته في مظروف، فكدت أطير فرحاً بهذا الصيد الثمين. كيف لا، والشاعر هو.. صلاح أحمد إبراهيم! أسرعت إلي مكتب الشرق الاوسط، والارض لا تكاد تسعني، وأرسلت الحوار في ذات اليوم. ولم يمر أسبوع إلا وكان منشوراً بكامله على الصفحة الثقافية مع صورة حديثة لصلاح. وحين عاد، مرة أخرى، في منتصف التسعينات تقابلنا في التلفزيون، وشكرني على الحوار، فطمعت في آخر، خصوصاً وأن مواقفه تجاه الانقاذ قد خلقت بلبلة وسط المثقفين في الداخل والخارج. وعدني بأن نلتقي بفندق المريديان عند السادسة مساء. هيأت نفسي وذهبت إليه برفقة زميلتي بمكتب صحيفة الحياة اللندنية، هذه المرة، القاصة مها بشير التي اختفت في الزحام، هي الاخرى، ولم أعثر لها على أثر صحفي أو أدبي بعد زواجها من الاستاذ جمال الشوش، ومبلغ علمي أن الاستاذ كمال حسن بخيت كان قد وظفها لفترة مراسلة لصحيفة القدس اللندنية. وصلنا متأخرين بنصف ساعة، لكننا وجدناه منتظرا، وأذكر أنه قال لنا ضاحكاً: ـ "إنتو شباب لازم تشربوا لبن.. أما أنا فالسكري هدَّاني.. حأشرب شاي بدون طعم"! واجهته باتهامه بأنه يهادن السلطة في مجيئه وذهابه المفتوح، فرد بأنه ما جاء لوظيفة أو جاه، وإنما لينصح البشير! وحدثنا عن قصيدة وردي، والحياة في باريس، والمعارضة، و(حركة التمرد) كما كان يصر أن يسمي (الحركة الشعبية)! أثناء الحوار حضر الشاعر محمد المكي إبراهيم، وشهد جزءاً منه، ثم أخذ صلاحاً معه بعربته. وفي ما بعد علمت أن ود المكي حدثه بشأن بعض المبدعين المعتقلين، فسعى صلاح، لدى لقائه مع مدير الأمن، في إطلاق سراحهم بعد أن كذب عليه الانقاذيون بأن ليس ثمة مبدع في المعتقلات. صلاح، كما قال عنه الاستاذ الطيب صالح، أكثر "الناس سودانية"، ومهما اختلفنا معه حول مواقفه في السنوات القليلة التي سبقت وفاته، فإن ما قدمه لوطنه من إبداع يستحيل أن تنطفئ جذوته، ولو لم يقدم سوى (الطير المهاجر) و(مريا).. لكفاه!
السبت: الحوار مع الراحلة ليلى المغربي فيه من البوح المنثور ما يطرب، ومن جزالة العمق تجاه الآخر الابداعي ما ينز بالوداد، ولعل ذلك من زكاة روحها الجميلة ونفسها الفخيمة. تعرفت إليها مطلع الثمانينات بمباني الاذاعة. وأذكر أنها كانت في الاستديو تحاور الفنان على إبراهيم اللحو. وحين تتوقف الدردشة، ويمسك بعوده مغنياً، كانت تطرب ببراءة فائقة، وتعيش لحظات النغم بشعور دافق. إنتظرتها حتى خرجت من الاستديو، فطلبت منها حواراً صحفياً، فسألتني عن اسمي. وبعد أن عرَّفتها بنفسي فاجأتني بأن قالت إنها تقرأ حواراتي مع الفنانين والشعراء، وأن عندها ملاحظات عليها.. فأسقط في ذهني! ثم طلبت مني أن أرافقها لمكتب أظنه للاستاذ معتصم فضل. وهناك سألتني إن كنت تناولت إفطاري، وكان الوقت يقترب من الواحدة ظهراً! شكرتها مندهشاً، فأخرجت سندويتش واستأذنتني لتفطر، ثم قالت لي: ـ "يا صلاح مشكلتك بتركز في حواراتك على الشعراء والموسيقيين وما بتشوف ناس المسرح والتشكيل.. صفحتك الفنية لازم تخرج عن النمط ده"! وأذكر أنني عملت بنصيحتها، فحاورت بعدها خورشيد والفاضل سعيد وقاسم ابو زيد ويحيي فضل الله وهاشم صديق وياسين عبد القادر وعلي مهدي ومحمد السني دفع الله ومحمد شريف علي، بالاضافة إلى عشرات التشكيليين. خرجت منها، ذلك اليوم، بحوار مطول. ثم إني حاورتها، بعد ذلك، مرتين. وتطورت علاقتي بها، فكنت غالباً ما أزورها في المكتب الذي كان يضمها مع الاستاذ عثمان جمال الدين في الهيئة الوطنية للابداع. بعد صدور الالبوم الذي غني فيه الثلاثي وردي ومصطفي والموصلي رائعتها (طفل العالم الثالث) سرت شائعة بأن القصيدة ليست من بنات أفكارها، وأنها لا تستطيع أن تكتب مثل هذا الشعر! وكنت كثيرا ما أضحك لهذه المزاعم، فليلى واحدة من أديبات السودان اللائى شغلهن المايكرفون عن إصدار مؤلفات عديدة في الشعر والنثر. وكانت قارئة نهمة للشعر والادب، وساعدتها مهنتها في تطوير رؤيتها الثقافية. وكانت تعد برامجها بنفسها، ولا تحتاج لمن يدلها على مواطن الجمال في النصوص الشعرية أو النثرية، فذائقتها الرفيعة كانت خير معين لها في جمال إختياراتها. كان برنامجها (صباح الخير) بمثابة كبسولة النشاط الصباحي للناس، حيث كان صوتها ينساب برداً وسلاماً عليهم، وكانت مختاراتها شاحذاً للهمة الوطنية. شق عليَّ كثيراً خبر وفاتها مع شقيقتها المذيعة الشاعرة هيام في الاراضي المقدسة، بل كان وقعه كالصاعقة على كل أهل السودان الذين تعودوا أن يناموا ويستيقظوا على صوتها الرخيم المميز بغنته النادرة. وكانت قد قالت لي إنها تعتبر رجاء حسن حامد خليفتها. لكن ليلي رحلت إلى رحمة الله، ورجاء أصيبت بفقدان البصر، لها مني، وهي تعاني في وحدتها، باقات التحايا والتقدير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأحد: زرته، يوماً، بمنزله ببحري. كان ملازماً سريره لا يتحرك، وساقه اليمنى قد زملها الجفاف تماماً، وبقيت روح الدعابة الحلوة وحدها تقاوم آلامه! كانت مسبحته هي المسلي له في وحدته التي يخترقها أحياناً أصدقاؤه والمقربون إليه. كانت حالته مأساة تحكي إهمال الدولة السودانية للمبدعين (ملح الأرض).. على قول صديقنا محمد عكاشة. لم أجد من يعايش طقس الغناء كما خضر بشير. فنان نسيج وحده. تذوب نفسه في الاغنية. يظل يحلق فيها وبها، فيكسو وجوده الإبداعي بقلق الأداء. ثم ما يلبث أن يعود فجأة إلى وجوده الثاني حين يصمت تاركاً لجوقة العازفين تكرار مقدمة أو لازمة أو صولة من صولات عربي أو محمدية أو الخواض. لم ينل من التعليم ما يكفي للمشاركة في جدل السلم السباعي ومقاماته التي جعلت العاقب ينادي، بعد عودته من مصر، بتوجيه أغنيتنا نحوه بحسب أن الخماسي ضيق المقام! ولم يكن ليأبه حتى بعقد الجلاد حين سألته عن الجيل الجديد! وحين سألته عن البلابل أطلق ضحكة صاخبة وقال: ـ "ياخي ديل بنات صغار! والله العظيم زمان لامن كنت أقرا القرآن في المدرسة كان الناظر بيقول للمدرسين وقفوا التدريس خضر بيقرا"! وحين سألته عن السلم السباعي رد باستهجان عظيم: ـ "ها.. ها.. يعني عايزين غنانا يكون زي بتاع اليمانية"؟! لم استغرب إجاباته، فهو من جيل لم ير حاجة للبحث عن (متصورات) تفت في عضد موسيقانا ذات الخصوصية! وربما لم ير خضر حاجة أصلا لإثارة موضوعة التجديد ما دام لا خلاف على أن ميلوديتنا السودانية ظلت تتجدد تلقائيا منذ أن وضع إطارها (البايونير) كرومة، ثم انسرب السيل الفياض. وربما ذهب خضر إلى السماوات العلا قانعاً بألا حاجة لتوليد المفاهيم التي ينشغل بها الموسيقيون الجدد أكثر من التطبيق، كما حدث لبعض نقادنا الادبيين البنيويين أو دعاة (الشكلانية الروسية) الذين يقضون سحابة يومهم في تفجير شبه انتحاري للمصطلحات والاصطدام بها وحولها، بينما يشكو ابراهيم اسحق وعلي حمد وعبد القادر محمد ابراهيم وبثينة خضر مكي ونفيسة الشرقاوي وسعادة عبد الرحمن وعبد الإله زمراوي من عدم التفات النقاد لكتاباتهم، بما لا يتقصد إلا موضعة بوحهم داخل الابداعية السودانية. الحالة المأسوية التي انتهت إليها صحة خضر وأحمد الطيب وأبو آمنة وحسن مختار وآخرين لا تطرح فقط سؤالا عن دور الدولة في رعاية المبدعين بشكل مقارب لما هو حادث في مصر مثلا، وإنما أيضا عن دور المبدعين أنفسهم في رعاية أنفسهم ما دام الثابت طوال تاريخ الدولة المركزية أن علاقتها بالمبدع إنما توطنت على شرط (شيلني واشيلك).. تريدهم ممجدين لها حتى تغدق عليهم مما يحتاجون إليه! أفما آن الأوان، إذن، كي يقوم المبدعون أنفسهم بتكوين صندوق للضمان الاجتماعي، يغذونه بإشتراكات شهرية معقولة، فيرفقوا بأنفسهم من همِّ وتحزين الوقوف بأبواب السلاطين، واستنزاف حيائهم في أخريات أيامهم؟! لم ينس خضر بشير أن يقول لي إنه ظل يقسم العام إلى أربعة أزمان: ربع لقراءة القرآن، وربع لصيد السمك، وربع لتشجيع المريخ، ثم ربع لمواصلة الارحام.. عسى ذلك يثقل من ميزان حسناته.
الإثنين: ما طربت ولا ضحكت في حوار مع مبدع، طوال مشواري الصحفي الذي تجاوز العقدين بقليل، قدر ما طربت وضحكت أثناء حواراتي العديدة مع أبو آمنة حامد! قصدت داره في اليوم التالى لإشاعة وفاته التي جعلت زميلنا الأستاذ موسى يعقوب يسطر له نعياً فخيماً بصحيفة (الانقاذ الوطني)، مستنداً في ذلك إلى نعي وزير الثقافة والاعلام له عبر التلفزيون! طرقت الباب، فأتاني أبو آمنة بنفسه مرحباً! قلت له: ـ "صحفي يا رسول الشعر"! فأجابني قائلاً: ـ "مرحب.. أنا لا زلت حياً.. لا تخف.. أنا لست عفريتاً.. أنا لست أمير مؤمنين أو الدكتور اللواء الركن حسن عبد الله الترابي رضي الله عنه"! وأشار إلى عنقريب بسام المحيا كي أجلس. بدأت التساؤلات الحرى عن شعوره حين تلقي خبر موته، فقال لي: ـ "علي الطلاق الانقاذ دي حتكتلكم كلكم وتمشي في جنازتكم! تصور الناس جو بعد إذاعة الخبر عشان يكفنوني.. فتحت ليهم الباب بنفسي.. نطوا خطوتين تعظيم وغير تعظيم للوراء.. قايلني بعاتي.. وعشان أجنب الأسرة الحرج قلت أمشي أحوم في سوق بحري لغاية ما ينتهي العزاء! هناك لقيت اصحابي وناس كثيرة منزعجة للخبر.. فكنت لما يقربوا مني أرفع يدي أشيل معاهم الفاتحة علي روحي"! ثم ينفجر بالضحك. تآنسنا كثيراً. وأتينا، لا أدري كيف، على سيرة الشمس، فقال لي: ـ "نحنا البجا نتلقى الشمس بجباه شماء ونبوسها"! ثم توقف، فجأة، وسألني: ـ "إنت من وين"؟! ـ "من دارفور"! ـ "يعني الشمس بتجيكم عزابية يا غرابة"! ثم أطلق قهقهقته المشهودة، وشبك أصابع يديه الاثنين خلف رأسه متوسداً حافة كرسيه العتيق. كان أبو آمنة، بخلاف قرض الشعر والهيام بالهلال، من ظرفاء المدينة الذين ترجلوا عن صهوة الحزن، تاركين التجهم للآخرين! كان هو وعوض دكام وخرستو وكمال آفرو وكمال سينا والهادي نصر الدين ومؤمن الغالي يبذلون جهداً خرافياً لتعويض الناس ومحو التجاعيد عن جباههم بما يلونون المجالس من ضحكات وقفشات! وسوف ننتظر زمنا طويلا حتى (يفزعنا) شخص مبدع وساخر ورياضي وصحافي ودبلومسي وناصري وبجاوي و.. ضابط شرطة! ـ "كنت في البوليس، وأرسلوني يوماً على رأس سرية من الباشبوزق في كومر شان نقمع مظاهرة لطلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم.. لكنني لما رأيت الطالبات يانعات كالورود نطيت من الكومر، وصرت إزاء المتظاهرين وجها لوجه، فخافوا، لكنني طمأنتهم وهتفت معهم "تسقط.. تسقط الحيكومة"! فما لبثوا أن التفوا حولي، وحملوني على أكتافهم، وهم يرددون الهتافات ورائي، بينما الباشبوزق قد ألجمتهم الدهشة.. ومن يومها طرت من البوليس"! سرعة البديهة المغلفة بالواقعية السحرية كانت موهبته. ويوم سألته عن ليلى المغربي، رد فوراً: ـ "أحب الليالي المغربية.. وين الشعر ده"؟! ثم جلجلت ضحكته تشرخ ليل الخرطوم بحري.. لكن ها هو الآن، ويا للوعة، قد لفه الصمت الكثيف.. للأبد! * صحفي مقيم بأمريكا
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: shabaka)
|
الأستاذ صلاح .. حين رست أحرفك البهية.. بمحمول أسلوبها الجزل (التريان ).. وشائق سيرّها المتنوعة لنفر من أعلامنا .. عند ( مشرع ) الأستاذ كمال .. أيقنت عندئذن بلوغها( الميس).. وليتك أضفت .. أن من أساطير جيل صاحب الرزنامة .. أنه الجيل الذي تعلم العطاء وفي جيبه عوز .. وهتف للحرية وأياديه مصفدة .. وغني للوطن وقادته يركلونه بين جدران أربعة.. .. شكرا modi علي هذه السانحة .
| |
|
|
|
|
|
|
ٌRe (Re: modi)
|
modi استمتعت بالرزنامة من الثلاثاء للاثنين وترحمت على جميع المبدعين الذين رحلوا و سألت الله ان يطيل فى عمر الاحياء
تخريمة: بس ملاسى ما يشوف البوست دة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: modi)
|
زميلنا محمد شبكه
كيف تبدو الايام عندكم ونحن لم نلتق منذ تلك اللحظات التي جاءت سراعا ولم تسعفني بالبقاء كثيرا لمتابعة ذلك المهرجان وإن قرأت عنه .أشكر لك تقديرك نحوي ونحو مادة الروزنامة وهذا هو الاجتهاد لا أكثر أو اقل في التعبير عن أولئك الذين رحلوا عن دنيانا بعد أن لونوها بالنغم والحرف والقفشات..و..و..و. وتجدني شاكرا مرة ثانية ونتمنى التواصل..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: صلاح شعيب)
|
الزميل محمد علي طه الملك
شكرا للمداخلة المعبرة.. بحروفها الندية الصادقة..ويا ليت جيلنا هذا أقدر على النهل من ذلك الجيل الذي قدم من عطاء الكتابة ما يخلد..ولتكن الروزنامة مساحة لتواصل الاجيال ومجالا لصحفيي وأدباء وروائيي السودان.فيها يتضامنون..وبهايتجملون..مع تقديري لك وأتمنى ألا أخيب ظنك في ما أكتب وأنت الكاتب المجيد أيضا..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: صلاح شعيب)
|
Quote: شكرا الأديب مولانا كمال لتبادل الحوار مع الأجيال |
الزميل عمرو كمال إبراهيم
تجدني شاكرا لمداخلتك التي أحاطتني بما أتمنى أن أوكن أهلا له..وصدقت فإن استاذنا كمال الجزولي إنما لعب وسيلعب دورا مهما بين الاجيال ويكفي مجهوداته العظيمة في تأسيس اتحاد الكتاب واتاحته المجال لنا عبر الروزنامة لنطل على قراء عشقوا مادة كتابته..ونأمل أن يكون هذا هو دور كل الاجيال في التجسير بينهم.ولك كل التقدير
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: صلاح شعيب)
|
صلاح شعيب .....
ظللت من المتابعين لكل ما يكتب منذ (حواراته) الرفيعة بجريدة ظلال بحجمها (التابلويد) ومادتها الدسمة .. وما زلت أتابع (مساهماته المختلفة) والتى تقارب مواضيع مختلفة تشى بتنوع إهتماماته ككاتب وصحفى .. ولا أملك فى مواجهتها غير المحبة والإحترام.....
له الود
عبد الرحمن قوى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: صلاح شعيب يكتب رزنامة متميزة ضيفا على كمال الجزولي (Re: صلاح شعيب)
|
الأخ صلاح
روزنامتك في في غاية الإمتاع .
لكن غايتو عندنا واحد اسمو ملس لو ما في البكري أسي بيكون راقد في العناية المركزة.
Quote: أتابع الرزنامة كلما بزغ جديد صاحبها، أو فرد جناح الضيافة لأصدقائه، أو جسَّر بصفاء المودة بين كتاب من أجيال متباينة بغض النظر عن اختلاف الآراء. ولعل هذا بالذات هو ما جعل أستاذنا كمال الجزولي صديقا للكل من قوي مشروع الديمقراطية والاستنارة في بلادنا. فالتسامح مع المختلف ينهض دليلاً على سلامة الطوية، ورجاحة البصيرة، وسداد صلح الدواخل بما يعزز النظر إليه كرمز فكري وسياسي وقانوني وثقافي وفني لا تحجب اللونية السياسية حباً وفيراً له، من جيلنا على الاقل، كمناضل يتوضأ كل يوم بعشق الوطن، ومتأمل حصيف في ظواهر الوجود، وكاتب يطوع اللغة ويغنيها من سنام المعرفة. .. |
شفت زي دا ياهو البيجيب البلاوي لملس. معليس ما عايز أخرب البوست لكن مداراة على صحة أخينا في البور ملس كتبت الكلام دا.
| |
|
|
|
|
|
|
|