في الوضع السابق كان السؤال عن شيوعيتك أو إسلاميتك مهما. أما الآن فذلك لا يكفي. إذ صار السؤال عن القبيلة التي تنتمي إليها ــ أو لا تنتمي ــ أمرا لازما للسائلين وبعض المسؤولين، والذين ربما كان لغاياتهم وراء هذا السؤال مآرب وخصويات يريدون قضاء وطرها. من الوهلة الأولى، لا يستغرب المرء نهوض السؤال عن القبيلة من جديد، فلكل ظاهرة مرجعيتها في ماضي وحاضر المجتمع. إذن الغريب هو أن لا يختفي هذا السؤال في ظروف يكثر فيها التنظير الحلو والمر عن الوضع المفترض للهويات والظلامات والمساواة والمخاواة. أوان تكثيف السؤال عن القبيلة ليس هناك ما يضر إذا كان الهدف هو إيجاد أرضيات غائصة بين المتآنسين أو المتآنسات. فكثيرا ما أفضى السؤال إلى إيجاد نوع من وشائج قربى، تفرقت بسبب أن الأرض أرض الله، وبالتالي ضرب الأهل في فيافيها ووهادها وفجاجها، ثم إنقطعوا عن الأهل. بغير هذه الحجة فإن الإنتماء للقبيلة/من ناحية الأقرباء من الضرورات، إذ بواسطة هذا الإنتماء تتواصل الأرحام، والحق أنه لا يستطيع أحد منا أن يقطع صلة أرحامه إلا إذا قدر أنه سيجد من هم أفضل من الأهل والعشيرة أولئك الذين يقيلون عثراته، ويشاركونه أفراحه، وأحزانه، ويواسونه الثرى، ويقفون على أمر تلقي التعازي، ثم يحسمون موضوع الورثة. من هذه الزاوية يختلف سؤال القبيلة السوداني عن سؤال القبيلة الأوربي، مثلا، حيث لا يزال مجتمعنا مجرورا بالقبيلة ويحيا بها ولم تصبح القومية السودانية بعد بديلا عمليا لها، كما هو حادث في بعض المجتمعات الأوربية، حيث صارت الإثنيات تحل محل القبائل وقد تصار هذه الإثنيات مرة أخرى نحو مثال قومي يصبح معها السؤال عن القبيلة أو ألأإثنية من مخلفات جيل القرن الماضي. ولكن السؤال عن القبيلة يصبح في السودان مفخخا إذا حمل برواسب وسخائم مسبقة تكمن في مكان ما في يافوخ السائل، هذا على المستوى الإجتماعي. وفي المستوى الدولتي ــ من دولة ــ فإن التساؤل عن القبيلة كان متعلقا فقط بإجراءات إستخراج الجنسية وعلمت مؤخرا أن التقديم لبعض الوظائف في مؤسسات وزارة الطاقة يتضمن اهمية الإجابة على سؤال عن القبيلة في أورنيك العمل، ولا أدري حتى هذه اللحظة الحكمة التي تخفى ورائه. ويأمل المرء ألا يتم تعميم السؤال عن القبيلة في كل أرانيك العمل كما هو حادث في وطني الثاني ووطن أبنائي الثلاثة، حيث إن السؤال عن الإثنية قصد به هناك الجانب الإحصائي لجهة معرفة تطور أبناء الأقليات أو تهميشهم دون الحظو بنصيب في الكعكة الاميركية. سوى أن أخواننا السود ــ وليس أبناء الخالة ــ كثيرا ما شكوا منه، بحسب أنه يمهد لبعض مسؤولي توظيف بيض( إذا كانوا عنصريين) القضاء على فريستهم وإشباع ذواتهم المريضة، محاباة في تعيين من هو أبيض على حساب من هو اسود، أو أسود على حساب الهيسبانيك. بيد أن بيضا نبسوا بأن المتحقق النسبي من إسترداد الحقوق المدنية وضع بعض أبناء العم في خانة مسؤولي التوظيف الفيدراليين والخاصيين..إذن فما الذي يمنع تعنصرهم لماما؟ على كل حال، القبيلة عندنا لا تزال (درعا مغبرا) مركونا في خلفية المنزل، يعود الناس إليها لتحافظ على عنصرهم، ومن الوهلة الثانية لا غبار على ذلك (التحوش الإحترازي) ما دام أن لكل إنسان الحق في توفير مقومات بقائه في حال إحساسه بغياب حماية كل قبائل المجتمع له. ولكن الخوف كل الخوف هو أن ذلك الدرع الذي تحتاط به القبيلة قد يجاوب عليه ذلك الكلاشينكوف من جهة قبلية أخرى.! ولا أعتقد أن اللوم يعود للقبيلة في هذا الأمر الإحترازي. فهي واحدة من لوازم المجتمع الضرورية وسوف لن تنتهي قريبا في مجتمعاتنا وصدق الكريم حين قال "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". إن قبيلة الشلك أو المسيرية أو الرباطاب أو البجا غير ملامة بإطلاق إذا نحا أفراد ينتمون إليها لتكبير كوم كل العشيرة، تكبيرا بدرجة تغيب فيها معايير الكفاءة والتوازن المطلوب في (لمة عرس) القبائل. إن الذي يلام هو المجتمع الذي فشل بشكل عام في تأسيس نظام للحقوق والواجبات، فيه يتساوى الفرد مع نفسه أولا ثم مع مواطنه. والمشكلة أن التركيز منذ الاستقلال كان الهدف منه هو مساواة الفرد بالفرد دون الإهتمام بأن ذلك التساوي لا يتم ما لم يتساو الإنسان مع نفسه أخلاقيا أولا.!! فلا يمكن أن تنخلق المساواة في ظل ضعف الإنسان قيميا، ولا يمكن للوحدة أن تندعم في حال كمون عدم توازن بين تنمية إنسان وآخر، بين تنمية جغرافيا وأخرى، بين تنمية جندر وآخر، بين تنمية سياسي قديم وسياسية تنتمي لحزب جديد، بين ترقية جيل وآخر، إلخ (البينات). من هذا الفشل العضوي في فهم موقع الأخلاق في التنمية السياسية والإجتماعية تحيا القبيلة، أو تكمن زمنا في صدفة المخ حتى إذا تتضافرت عوامل تآكل في هيكلية الدولة القابضة بقوة عاد بعض ناس القبيلة إلى الدرع المغبر ليحفظوا توازنهم. إن لم يكن الإحساس بفقد الوجود ماثلا على الجماعات الذين ينتمون للقبيلة وأن مسوغات موضوعية جعلتهم ينتمون للفكرة وينسون قبائلهم ــ فإن القبيلة لن تكون معينا كما التنظيم الذي يحوي الفكرة. آنئذ يضعني علي الحاج أو الحاج آدم أو محمد الأمين الخليفة في (فرن الاشباح) بينما يمهدون للأستاذ أحمد البلال الطيب تصديقا لإصدار صحيفتين. القبيلة إجمالا بريئة ولكن المجرم الحقيقي هو من يعطيها إلأولوية فيما خص عام كل القبائل. ولهذا يصعب أن تجد القبيلة الواحدة في حزب واحد أو تؤيد بكلياتها حكومة ما. فما نعرفه أن دماء القبائل تفرقت وسط الأحزاب ولكن للاسف فشل قادة هذه الأحزاب أن يذوبوا الروح القبلية السابقة للمنتمين إليها. غير أن ذلك لا يقلل من إهمية القول إن أحزابنا قفزت نسبيا فوق مربع العشائرية. وربما لو إستمرت الفترة الديمقراطية الأولى إلى الآن، وعشنا بعض تنمية متوازنة فإن أحزابنا سوف تصحح لا محالة كل أخطاء الماضي، وإذا كان ذلك الإستمرار قد تمت صيانته بدستور دائم فإن الشئ المتوقع فيه هو أن (مستوى التعليم ومناخ الحرية) سيسهمان في تحقيق المساواة في الوظائف الحكومية التي خلفها الإستعمار لأهل الوسط. ذلك أن الكاتب يعتقد أن (التهميش المناطقي) ملحوظ في كل بقاع السودان بدرجات متفاوتة، ولكن التهميش الوظائفي هو أس الداء إذا عرف أن كل السفراء السودانيين الذين يمثلون السودان في جميع الدول العربية ينتمون إلى جغرافيا واحدة. قد يقول أحد الذين يرمون من يقول بهذا القول بالعنصرية: إنه ليس هناك أحد كفؤ من تلك الجغرافيات الأخرى ليستحق أن يكون سفيرا في السعودية أو الكويت، ولكن السؤال هو ما هو نوع (الدولة) التي تجعل الكفاءة الدبلوماسية محصورة على إثنيات محددة؟! إلى ذلك فإن ابناء قبائل الشمال والوسط تقريبا، بحكم تعليمهم الرائد، إندمجوا تقريبا في كل الأحزاب السياسية. أما أبناء قبائل دارفور وكردفان فقد بقيت رهينة لحزب الأمة، مع التقدير للعلاقة السابقة للمهدية مع قبائل الغرب. أما أبناء قبائل الشرق فقد إندمجت أكثرها مع الحزب الإتحادي. والشئ الملاحظ هنا أن هناك اثرا جهويا ــ فوق القبائلي ــ غير منكور داخل حزبي الأمة والإتحادي والشيوعي. فرصيد عضوية حزب الأمة في الغرب وليس في الشرق أو الجنوب أو الشمال. ورصيد الحزب الإتحادي في الشمال والشرق وليس الغرب أو الجنوب. أما الحزب الشيوعي فغالبية رصيده في الوسط وليس في بقاع الشمال أو الغرب أو الشرق أو الجنوب. إذا تفحصنا التكوين الإثني للجبهة الإسلامية القومية، ما قبل الإنقلاب، فإننا نجد أن رصيدها في كل بقاع السودان تقريبا وهي الحزب الوحيد الذي أعطى الجنوبيين مواقعا قيادية لم يسبق لأي حزب شمالي أن يوفرها لهم. وبرغم ذلك فإن عضوية الجبهة في الجنوب أضعف مما نتصور. كل هذه المجهودات السابقة للحزبية السودانية لتذويب دم القبائل في حوش السياسة القومية تكاد تضيع الآن هدرا إذا لم يحدث إختراق سياسي يعالج دمامل السياسة السودانية التي أنهكت كثير من الناشطين السياسيين وغير الناشطين. ولهذا "نبل" السؤال عن القبيلة والذي لحقني في غير ما مرة، خصوصا بعد إستعار حرب دارفور. وأذكر أن أحدهم قابلني لأول مرة في واشنطن فكان أول سؤال له هكذا: من وين يا صلاح، فقلت له أنا سوداني. ولم يدرك رسالتي، وحين إستخدم حيلته القصوى ولاحقني قلت له أنا من دارفور، وزاد يا صلاح إنتا أهلك من الجنجويد ولا الزرقة.؟ فرديت له بهذر بأنني أصلا جلابي. ــ ياتو جلابة؟ ــ جلابة شندي ــ ومنن ناس شندي ديل؟ ــ ناس (محل الرهيفة تنقد). وحينها عرف أنني كنت مغتاظا من طريقة تساؤله، فمضيت إلى حال سبيلي! والحقيقة لا باس أن يكون سؤال القبيلة واردا بين السودانيين إذا كان ذلك يقرب ويعرف السودانيين بعضهم البعض، ولكن أن تكون أولى أسئلتنا الموجهة لمن نتعرف عليهم في الملمات الإجتماعية عن أصولهم وقبائلهم فذاك هو نوع من (سرعة الإيقاع) التي تتطلب التبطئة. فما يكفينا عند بدء التعارف في المناسبات العامة هو أننا سودانيين في المقام الأول، وإذا إمتد هذا التعارف فيما بعد وأصبح معرفة قبيلة أحد منا شيئا مهما ويؤجى منها، فمن واجب السائل عن قبيلة الآخر أن يعرفه أولا بقبيلته.! وماذا إذا رفض المسؤول التقرير بشأن قبيلته؟ أما وقد أصبح سؤال القبيلة أو الجهة، على المستوى السياسي، أمرا لا مفر منه، لدواع تتصل بالحوار حول قضايا الهوية أو تحقيق التنمية المتوازنة، فلا بأس من أن ينبني على اسس موضوعية بعيدة عن تخوين القبائل هنا وهناك، ما دام أنها لم تعقد مؤتمرات جامعة، من خلالها ترسم سياستها نحو التعامل مع الواقع. صحيح أن نخبا هنا وهناك كونوا روابط قبلية لتحقيق منافع إجتماعية وإقتصادية وسياسية لأعضائها ولكن يبقى ذلك التمثيل القبلي نسبيا، ولا يمثل إلا هؤلاء المكونين لهذه الروابط وأولئك الذين أقنعوهم بالإنضمام إليها، فالشاهد أن الشئ الذي يحقق للفرد منا مصالحه الحقيقية ليست الروابط القبلية وإنما طبيعة العلاقات الإجتماعية التي تحكم الفرد بواقع حياته داخل السودان أو خارجه، وهذا يعني أنه مهما ناصر أفراد قبيلة ما حكومة أو حزب بعينه لأجل تحقيق تلك المصالح فإن المنطق يقول أن عوامل بقاء القبيلة أكبر من بقاء هذه الحكومة أو ذلك الحزب. أتمنى أن نسترد الأوضاع الإجتماعية التي كنا فيها نعرف جهة أو قبيلة المرء من خلال أو لهجته لباسه أو شلوخه أو غناءه أو حينما يتبرع لنا بذلك. أما الظلم الذي يحيق بالهامش في مناطق السودان المتخلفة دون إستثناء ينبغي أن يحرك الأقاليم جميعها للمطالبة السلمية بحقوقها.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة