|
بغياب سلاح الاغلبية الشمالية: هل تنهي دارفور أسطورة المركز وتسلم السلطة للهوامش؟
|
المرجعية السياسية التي إعتمدتها الحكومة الحالية في التعامل مع قضية دارفور إنما تعبر عن/ وتغذي تاريخ طويل لثقافة المركز في التعامل مع ما يسمي بالهامش, ولعله بالحسابات السياسية البراغماتية فإن حكومة الإنقاذ ــ ولكونها شمولية ـــ ما كان أمامها إلا خيار مرجعية التشويه والتضليل والتخوين إزاء ثورة دارفور أو كما تسميه تمردها, فالثابت هو أن عناصر البراغماتية السياسية المعتمدة علي آليات الاعلام لبث مفاهيم التشويه قد جربناها في كل مراحل حكمنا الوطني في الاختلاف السياسي السلمي والحربي ونجحت ظرفيا ً ولكن فشلت في الناتج العام سواء فيما يتعلق بإضفاء الشرعية علي سلطة أحادية, أو إتخاذ قرار حرب مثلا وللاسف لم تجد الانقاذ في إرثنا السياسي سوي هذه البراغماتية, كما أن جماعة الإنقاذ هم من أنجبتهم الدائرة الحضارية العربسلاموية التي هم بالضرورة يفكرون داخلها من خلال التعقيل السائد ولايفكرون وفق النموذج المثقف لابن حنبل أو ابن رشد أو الحلاج أو الجرجاني .غير إنه, أيضا ً, علي المدي البعيد بقيت هذه البراغماتية وباء ً وبالاً علي مستوي القضايا الوطنية , بل وعلي من سنوا أو قننوا لوائحها, فالآن يدفع رموزنا السياسيين ومعظم الاتجاهات السياسية ثمن براغماتيتهم في الهيمنة الحزبية والوصول بها إلي السلطة وإساءة إستخدامها , السلطة التي تهينهم علي المستوي الشخصي الآن إن كانوا يدرون بذلك أم لا, بينما تدفع جموع الشعب السوداني ثمنا ً باهظا ً لتكاليف هذه البراغماتية السياسية التي إنتهت إلي تهديد أمنهم ووجودهم معا ً. وبحسابات التاريخ فإن الانقاذ التي " أبلت الترابي " وعلي الحاج ببراغماتيتهما فإنها ستنبلي علي طريقة " نكالا ً لما إغترفت أيديهم " ليس هذا بسبب مشكلة دارفور فحسب وإنما بسبب النهج البراغماتي الذي مارسته وفاقت فيه أمريكا, وهذا النهج إستبان علي مستويات التقنين الدستوري لسلطتها غير الشرعية, وطبعا ً الشرعية السلطوية في أي زمان ومكان محكومة بأطر الاجماع القومي وليس بقوة التحايل علي الواقع, ومارست الانقاذ النهج البراغماتي أيضا ًحين سعت لتفكيك المؤسسات القومية وإحلالها بكادر أيديلوجي وتفتيت أنسجة الوئام القبائلي حتي يبدو أن هذه القبيلة تبايع بينما تلك الأخري فلا. أما علي ناحية الجغرافيا والتاريخ السودانيين, فإن السودان بقي محليات معزولة خلقت عظماء نفاق لدي المحليين تنتهي في جيوبهم الريع الضرائبي وشحيح من موارد آتية من جهة المركز, وعلي مستوي التاريخ تم إختزال السودان في سنار في إشارة إلي أن الايديلوجيا الاسلاموية الي تحققت في ذلك الزمان إنما يمكن إعادة إنتاجها الآن لتحقق الرفاه والطمأنة, إن أمكن, لشعب السودان ومن ثم يجدون في سنار الاسطورة المجتمعية الملهمة في ظل غياب الاسطورة السودانية التي من جهة تحفز الذاكرة الاجتماعية لشعب السودان أمام وعثاءات الزمان ثم تلهمهم في العمل والانتاج علي الجهة الاخري . فكر الاسلاميون هكذا برغم أن جغرافيا سنار لم تكن لتشمل إلا تلك الرقعة الضيقة من السودان العريض وأن المهدية بمقارنة المساحة الدولتية والمشاركة السودانية مثلت النموذج المتقدم وطنيا ًعن سنار ولكن لم يرتكز الاسلاميون علي المهدية لصوفيتها وإرتباطها بوجدان غرمائهم الانصار وإنما قفزو بتناقض نحو سنار غير المحروسة أنصاريا ً, وربما يأتي هذا التناقض في أن فكرالحركة الإسلامية يكن عداء ً محكما ً لما هو صوفي وشهدت ممارساتها إصطدامات معلومة مع أركان الحركة الصوفية في السودان التي إستدركت محاولات الاستقطاب والتدجين عبر مؤتمر الذكر والذاكرين الذي إنعقد برعاية الاستاذ علي عثمان محمد طه في النصف الاول من التسعينات. فالاسلام الصوفي لدولة سنار هو من جنس الاسلام الذي يري الاسلاميون أنه قعد المصحف في رفوف المساجد بينما لم يلتحق مضمونه بحيوات وحراكات الناس اليومية, وعليه إنتهي الاسلام طقوسيا ً لافرق بينه والشعائر الكنسية وذلك علي حد قول المنظر الاساس للحركة الاسلامية السودانية. علي هذه الخلفية التناقضية وخلفيات أخري بالطبع, جاءت دارفور بما يعكر صفو هذه البراغماتية الإسلاموية. جاءت في الوقت الذي تنفست الانقاذ الصعداء من حرب الجنوب وبدت وكأنها قد عززت براغماتيتها بست سنوات من الإستمرارية التي تتآذر بمجهودات الحلفاء الجدد. وتعزيزا ً لبدء, إن تلك المرجعية التي اعتمدتها السلطة المركزية في التعامل مع دارفور لم تختلف أو تتعلم اوتتألم من مشكلة الجنوب, والدليل إنه حين بدأ التمرد الجنوبي الاول وكذا الثاني تجاهلت السلطة المركزية آنذاك الاسباب التي خلقت هذا التمرد ولكنها أخيرا ًرضخت لشروط الحل الذي أخذ منها ولم يعطها شيئا ً غير براغماتية الوجود, إن الفهم هو أن المركز, تاريخيا ,ً ظل ينظر لثورة الهامش وتمرده بوصفه أداة لتفتيت وحدة السودان, وفي هذا أهرق حبرا ً كثيرا ً وبرامج إذاعية وتلفازية وإحتشادات ومسيرات لنشطاء إنتهازيين وذلك للطعن في مصداقية قضية هذا التمرد أو ذاك, هذا بغير الإفناء الذي بذله المركز علي مستوي موارد التحشيد وأرواح الفداء, كما أن المركز نفسه قد سعي ليستند علي إرث الدين والعروبة لتجييش عواطف السودانيين ضد التمردين الجنوبيين وتغبيش رؤيتهم والربط إشاريا بإسرائيل, العدو المحوري للمسلمين, والربط كذلك بإفساد قيم المجتمع عبر أهداف التمرد, وهذا الربط يتم رغم أن السلطة المركزية السودانية لم تكن في يوم من الأيام بأفضل من رصيفاتها التوتاليتاريات من الدول العربية والاسلامية التي تآمرت ضد شعوبها والفلسطينيين وتنكبت عن جادة الطريق نحو إرساء قيم الاسلام والعروبة نفسها, إذا ً ما كان للسلطة المركزية السودانية أن تنتصر بشروطها في معركتها في الجنوب ودارفور والشرق لطالما أن المسوغات الحضارية والسياسية والثقافية التي تعتمدها لمحاشاة ما أسمتهم كواسرالنهب المسلح وقوي النصرانية ومدنسي همشكويب لم تكن صادقة حينما نتفحص الخطابات السياسية لحركات التمرد , والتي كان ومايزال مضمونها يدور حول تحقيق مثل العدالة الإجتماعية والتنموية لا شئ خلافهما, ولعل الدليل الأكبر علي ذلك هو أن إتفاقات السلام التي تحققت وستتحقق فيما بعد لم ولن تحتوي علي بند واحد يتعلق بضرورة إزالة قيم الاسلام أو إجتثاث علامات الثقافة العربية أو طرد العرب أو ضرورة التعاون مع إسرائيل أو تجذير المسيحية في شمال السودان أو فتح أجهزة الاعلام أمام العري الغربي. إن الحديث عن دارفور ــ ثورتها أوتمردها أو مهما إتفق للسلطة ــ ينبغي ألا يرتبط بإدانة سلطة الانقاذ وحدها, وإنما إدانة التفكير التاريخي لهذه السلطات المركزية حول الهامش, فمنذ الاستقلال كان هم السلطة المركزية هو تجفيف المواعين الفكرية لمنظمات مجتمع الهامش, إن سعت قوي الطائفية إلي هزيمة أو إستقطاب التيارات العلمانية والتحديثية التي تهدد مصالحها في المستقبل إنما سعت أيضا ً إلي هزيمة وإستقطاب رموز هذه المنظمات , فماتت جبهة نهضة دارفور وإتحاد جبال النوبة وإتحاد البجا وبالتالي حرمت الساحة السياسية من منظمات مدنية للرقابة وترتيب أولويات الهامش والحس بأوجاعه وإسماع صوته وصون حقوقه وربط هموم المواطنين بمن هم في الجانب التشريعي والتنفيذي في المركز والتنسيق معه علي جهة المصالح, علي إنه بطبيعة حال الانظمة الشمولية فإنها وظفت كوادر الهامش في أجهزتها التنفيذية وقتلت أية إمكانية لهم للدفاع عن مناطقهم ولم تسمح بوجود جيوب فكرية تعبر عن قضايا الجغرافيات البعيدة, وإن وجدت فإنها أصبحت بوقا ً للسلطان, والغريب أن السلطة المركزية ظلت علي الدوام تصر علي قوميتها, في الوقت الذي يقوم فكر المركز وممارسته علي جهد إتجاه سياسي بعينه ويضم نخبا ً لا يمثلون كل تيارات المركز حتي وإنما قسما ً آيديلوجيا ً واحدا ً, فكيف تكون سلطة المركز قومية بأحاديتها التي تقضم كل خيارات الجماعة, ثم ماذ لو إنشقت هذه السلطة نفسها, علي نحو ما رأينا في تجربة الانقاذ, لتحرم نصفها المنشق عن ضرورة الحياة و" الكسب" وحق التعبير وتنتهي ــ وفقا ً عليه, أي الانقاذ ــ إلي سلطة تيار من آيديلوجيا العربسلاموية, وهو التيار الذي أنهي قومية الحركة الاسلامية وظل يخلط بين فكر الايديلوجيا والاثنية. والحق يقال إن مثقفي دارفور أمثال يوسف تكنه وعلي الحاج وشمار ومسار وعبدالله صافي النور وأمين بناني وابراهيم سليمان واللواء صلاح الغالي كانوا أدوات طيعة لمن خدموهم, حتي أن قادة الحركة أمثال د. خليل لعبوا دورا ً في خدمة سلطة المركز ووظفتهم الحكومات في قمعها العام للصوت المعارض من أبناء دارفور وابناء السودان الآخرين ولاتعصمنا ثورية د.خليل وجماعته من القادة المناضلين من التذكير بإسهامهم الضارعبر مشاركتهم مع الانقاذ. ولا أعتقد أن إعتذارا واحدا ً صدر من هؤلاء الثوار حول دورهم الماضي بعد أن إكتشفوا خطل الإنقاذ , وهذا مايقلقني ويقلق جموع كثيرة من أبناء دارفور خصوصا ً والسودان عموما ًالذين تشردوا في المنافي أثناء ما كان بعض هؤلاء الثوار حكاما ووزراء داخل سلطة الانقاذ. وسأعود إلي موضوع الاعتذار عبر مقال خاص عن ضرورة إعتذار إسلاميو دارفور الثوريين عن مشاركتهم في الإنقاذ كأمر ضروري يرتبط بأخلاقية الثوريين. إلي ذلك, فإن الانقاذ فقدت ورقةً رابحة في أزمة دارفور, وهي ورقة الدين والعروبة, فخلفية دارفور الثقافية لم تكن خارج المحيط العربسلاموي الذي تقتات منه سلطة الانقاذ, ومامن شك أن المركز لم يشكل هذه الخلفية ولم يستطع أن يصبغها ببراغميته, فدارفور شكلتها هجرات تاريخية من شمال أفريقيا وغربها وإرتبطت بمصاهرات وعلاقات مصالح وقبائل لاتفصل بين الافريقية والعروبية بالطريقة الحادة التي سعي المركز لتجذيرها, وربما يري المرء أن دارفور قد لعبت دورا محوريا ً في تشكيل المركز وأسهمت في خلق جينات التكوين الاولي للسودان عبر جهاد أبناءها للتحرر من نير الإستعمار, كما إنه تجدر الاشارة أن سلطنة الفور ظلت قبل وجود السودان الحالي تتبني قيم الاسلام والثقافة العربية وتحاول تبيئتهما لاكثر من خمسمائة عاما وإن قبائلها العربية لم تكن من إنجاب المركز وإنما إمتدت تخومها من شمال أفريقيا وتشاد فيما نجد أن قبائلها الإفريقية الجذور لم تجد غير العربية لسانا ً للتخاطب مع رصيفاتها العربية ونشأت علاقات مصاهرة معها للدرجة التي يصعب فيها إستخدام مفهوم القبائل العربية والافريقية بالصورة التي رسختها السلطة والاعلام العالمي, إذ أن القبائل العربية نفسها لم تطرح يوما ً مفهوما نقيا ً لعنصرها لتستعلي به أو تنعزل في علاقاتها, ولا يبقي نتاج هذه الفتنة التي دفعت بها الحكومة في دارفور إلا صراعا ً عابرا ً يعيه مثقفو دارفور تماما ً ومن هم حملوا السلاح. أن المتوقع الذي يمكن أن تضيفه ثورة دارفور إذا ما أفضت إلي تحقيق نتائجها هو أن تنهي أسطورة المركز السوداني ومما هو مسرب من أخبار المفاوضات يلحظ المرء أن السلطة ساعية لإشراك دارفور في المركز عبر سلطات واسعة, ولو خرج الشرق بمفاوضاته بنصيب مماثل من قسمة السلطة العادلة فإن السلطة المركزية تتدرج شيئا ً فشيئاًتكون سلطة هامش, الهامش الذي يقرر وينفذ جنبا ً إلي جنب مع الجنوب والشمال ــ ولكن الشمال الانتهازي وليس الشمال الأغلبية. فالواقع هو أن الصمت المطبق لسلاح الأغلبية الشمالية المتضررة في الجزيرة وعطبرة وشندي والدامر ودنقلا وغيرها من مدن أهلنا الشماليين الصابرين لا يتيح لها مجالا ً لأخذ حقوقها من فك أسد السلطة, فهذه الاغلبية الشمالية من جهة لم تنتخب هذه السلطات الشمولية ولم تحرر لها صك لممارسة شؤونهارغم أن أنتهازيو الشمال يفوقون إنتهازيي الهامش في التمثيل داخل وظائف السلطة المركزية تاريخياً , ومن الجهة الثانية أن النضالات التي قدمتها أغلبية الوسط النيلي بالتضامن مع أغلبية الهامش ضد المركز نفسه لم تنجب إلا بعض إنتهازيين علي مستوي الأحزاب والحكومات وقادة سلطة لا ينفكون من التصريح أنهم لايفاوضون إلا من حمل السلاح.
(عدل بواسطة صلاح شعيب on 02-20-2006, 11:28 PM) (عدل بواسطة صلاح شعيب on 02-21-2006, 01:02 AM) (عدل بواسطة صلاح شعيب on 02-21-2006, 01:15 AM)
|
|
|
|
|
|