|
ميمونة البنجاوي تقدم الثوب السوداني مطرزا بالتراث والحداثة صلاح شعيب
|
ميمونة البنجاوي تقدم الثوب السوداني مطرزا بالتراث والحداثة صلاح شعيب الفنانة التشكيلية ميمونة عبدالله البنجاوي قفزت بتلويناتها في قماشة الثوب السوداني إلى مراتب عليا من التصميم الأخاذ. هذه التجربة الفريدة التي دامت لأكثر من عشرين عاما دعمتها ذاكرة بصرية زاوجت بين التراث والحداثة. إذ الثوب، بكل تاريخه، يتطور من جانب كونه رداء قديما للمرأة السودانية ليصبح حاضنا ثقافيا لتلاوين سوريالية تارة، ومربعات، ومكعبات، وورود، ودوائر متسقة، ومتناسقة، وأشكال متمايزة تحكي عن ذوق بديع، تارة أخرى. منذ مستهل مشوارها في كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان التي التحقت بها في النصف الأول من التسعينات ظلت ميمونة تائقة إلى التفرد، وتجويده. وبرغم أن الزواج جاء ليعترض مسارها الأكاديمي إلا أنها عادت لتكمل دراستها ثم تخرجت ببكلاريوس في المجال عام 1995. ولكن ساقها القدر، بعد حين، إلى الرحيل إلى سلطنة عمان مع زوجها رجل الأعمال الأستاذ عيسى آدم إبراهيم، وهو يشغل الآن منصب رئيس الجالية السودانية بدولة الإمارات العربية المتحدة. وهناك في مسقط تفجرت قدراتها التشكيلية بأن قدمت معارض فنية للوحات بألوان مائية، ورسومات على القماش في نطاق أضيق. ثم غادرت الأسرة إلى دبي وهناك دخلت ميمونة في مجال تصميم الثوب، وأنجزت في أولى تجاربها تصميما لقرابة الثلاثين من الثياب، ودعت النساء السودانيات إلى حضور معرضها الأولى، والذي لاقى الاستحسان. وهكذا بمزيد من التشجيع من زوجها، وأسرتها الكبيرة، داومت على اقامة عرض أزياء سوداني كل عام، إذ يزداد فيه عدد الحضور، والتجويد، والقبول، إلى أن تمكنت من إقامة أكثر من عشرة من المعارض في دبي. كما شملت معارضها أجزاء واسعة من السودان، وكذلك عرضت في العواصم الغربية مثل لندن، وبرلين، وباريس، وأخيرا واشنطن، وفيلادلفيا. ما كان لتجربة ميمونة التشكيلية في شقها العام، والخاص المتصل بتصميم الثياب، وبقية الملبوسات، أن تتصاعد نحو درجات النجاح لولا البيئة التي نشأت فيها. فهي تنتمي إلى أسرة ثقافية عريقة بمدينة الفاشر، حاضرة إقليم دارفور. فخالها هو الفنان التشكيلي الراحل آدم عيسى إسحق، والذي درس الفنون التشكيلية في بريطانيا في نهاية الخمسينات. ويعود له أول الفضل في رسم شخصية "عمك تنقو" النمطية والشهيرة، والتي كانت تضمها صفحات مجلة "الصبيان" السودانية. وعمل آدم عيسى في مكتب التوجيه التربوي برفقة الأستاذ عوض ساتي، ورسم أغلفة بعض الكتب المدرسية. وشغل خالها كذلك مناصب في مؤسسات تعنى بالشأن الثقافي. أما أشقاؤها الكبار فهناك الاستاذ عبد العزيز البنجاوي، وهو قد تخرج من كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، ويعد من الرسامين، والخطاطين المعروفين في مدينة الفاشر. وهو أيضا عازف لآلة العود، ورياضي مبرز، وتدرج في مجال التدريس حتى صار موجها فنيا. وشقيقها الآخر مبارك البنجاوي هو أيضا من خريجي كلية الفنون الجميلة والتطبيقية. وأقام مبارك بعضا من المعارض في السودان، وسلطنة عمان، والإمارات العربية. وهناك شقيقها المهندس المعماري والتشكيلي محمد البنجاوي. وكذا ابن أختها محمد الحافظ عبد الكريم أحد خريجي كلية الفنون الجميلة بجامعة السودان. في هذه البيئة التي تضج بأنواع ومستلزمات الفنون من أقلام، وأحبار، وجداريات، ولافتات، ولوحات، وعود، وصور لكاريكاتيرات، وكتب قديمة، وخطوط الرقعة، والنسخ، والديواني، والفارسي، وفرش، وجدت ميمونة نفسها متأثرة بمنتجات الفن التشكيلي. وما ساعدها أكثر في تنمية خبراتها البصرية، والذهنية، بهذا الفن أن أجدادها القادمين من صعيد مصر استقروا بمقربة من وادي الفاشر الشهير في حي سمي "أولاد الريف". في ذلك الوادي الذي تمتلك فيه أسرة البنجاوي مزارع متسعة المساحات كانت ميمونة تخزن في ذاكرتها، عند ذهابها إلى الوادي في العصر، طيوف الخضرة، والفراشات في أسرابها، والتربة الطينية الخصبة للوادي، والرمال الفضية عند انحسار عمق الوادي. وتتابع ذلك التدرج في ألوان الجروف، وشجر الصمغ، وألوان المحاصيل، والخضروات التي تتعرض إلى لون الشمس فتزيدها تدرجا هارمونيا في الالوان. وكذلك هناك تتلمس حركة العصافير، وهي تتنقل من مكان إلى آخر. وزاحمت ذاكرة الطفلة الصغيرة المرحة زيارات إلى قصر السلطان علي دينار في الفاشر، إذ تتعدد المحتويات في ذلك المتحف، من جبة للسلطان مزركشة، وكرسيه الأحمر، والسيوف الفضية، والذهبية، والبرونزية، ونحاسه، وعملته المعروفة بمنقوشاتها الصغيرة، وبقية من أرث دام لأربعة قرون لسلطنة الفور. فضلا عن ذلك فإن هذه الذاكرة البصرية استجمعت إرثا روحيا لوالدها، إذ كان يملك خلوة لتدريس القرآن الكريم وتدريب الطلاب على الشرافة واللوح في ذلك الحي، وعمها فكي محمود الذي درس الكاتب في خلوته. ولذلك ليس مستغربا أن جاءت تصميمات ميمونة للثياب، ولوحاتها آخذة من طلاسم الشرافة، وأفانين قلم البوص. إنك تكاد تجد خاتم سيدنا سليمان مجسدا في ثيابها ببعض التحوير. وهناك المنمنمات الذاخرة بالنقش الذي ينم عن صبر في تجويد الأثر الفني. وميمونة ترى بأن البيئة هناك "ميزت مواطنها بأن جعلته أكثر فنا، ومنحته سندا من الأشكال التشكيلية مثل المندولة، والمشاط، والأطباق، والودع، والبروش، والشمل، وألوان الطعام، والوشم، والتفصيد في الوجه والبطن..وزركشات ملابس أبناء قبائل الأمبررو، والسبح، والقرع." وتضيف: "كان الأهل هناك لا يقيمون الفن التشكيلي..إنهم يعدونه مجرد "خربشة وشخبطة" رغم أنهم يتعايشون معه كل لحظة.. ولا أنسى جلابية شيخ الطريقة الصوفية ود مجوك المزركشة..وطبيعة مدينة الفاشر في الليل. الحقيقة أن أي شئ في دارفور هو فن تشكيلي قائم بذاته..ودارفور خامة ثرية للتشكيل، وتملك تربتها ألوانا طبيعية لم تستفد منها كلية الفنون التي تستورد الأحبار. وكان يمكننا صناعتها من المادة المحلية وتوفير العملات الصعبة. والغريب أن بعض الأسر ترفض تخصص أبنائها في دراسة الفنون.." غير أن ميمونة تعود وتقول إن هناك بعض وعي الآن أخذ يعيد الاعتبار إلى الفن التشكيلي، وكل الفنون، في دارفور، والسودان عموما. لكن ميمونة البنجاوي ما فتئت تحلم بانطلاق تجاربها الفنية الي الآفاق العالمية، وبشكل أكثر تنظيما، وذلك بعد الانطباعات الطيبة التي عبر عنها ضيوفها الأجانب الذين حضروا معارضها السنوية. فمن ناحية تسعي بمساعدة زوجها الاستاذ عيسى آدم الذي يدعمها من خلال كل المعارض الي تكوين مؤسسة تعني بمجمل التراث السوداني، وتوثيقه. ذلك تزامنا مع حملات محلية ودولية للحفاظ علي الثقافات المحلية أمام تيار العولمة الجارف، ولتعزيز الثقة في إبداعية الذات الوطنية. وهنا تقول ميمونة إن اللباس السوداني عموما الخاص والمتنوع في البيئة السودانية يشكل حيزا كبيرا من اهتمامها بثقافة بلادها. ومن ناحية أخري تحاول الفنانة التشكيلية جاهدة ألا تأخذها تجربة تعاملها مع تنقيش الثوب السوداني بعيدا دون الالتفات إلي لوحاتها التي مثلت مدخلا الي هذه الدرجة من النجاح. فميمونة ما تزال تختزن، ذهنيا، وبصريا، الكثير من تراث البيئة التشكيلي المحلي، والذي تنوي إنجازه من خلال رسومات تبين للرائي عمق المعطيات الفنية السودانية. إن اهتمام ميمونة بالثوب السوداني في هذا العصر الذي تتداخل فيه الثقافات بشدة ما يؤثر ذلك علي المنتوج المحلي ينبع من إيمان عميق بضرورة التأصيل الثقافي كما تعتقد. وفوقا عن إظهار ملكتها الفنية في تصميمات الثياب البديعة والموحية، فإنها ترى في الثوب السوداني عاملا مهما للتوحد القومي. ومن هذه الزاوية تخالف ميمونة كل الروايات حول أصل الثوب السوداني وتصر أن المجتمعات في موريتانيا، وتشاد، ومالي، والنيجر، تلك التي تستخدم الثوب، هي التي استعارته من ثقافة المرأة السودانية. وخلافا لما أثير حول ضعف حشمة الثوب السوداني فميمونة ترى أنه ساتر، ويتماشى مع البيئة، وعملي في حدود توظيفه، ويعطي المرأة أداة جمالية لا غنى لقوامها عنه. الفنانة التشكيلية ميمونة تمتلك مرسما داخل المنزل، ويحتوي على الالوان، وخامات الحرير، و"طاقات" التوتال السويسري وغالبا ما يأخذ منها تصميم الثوب الواحد المطرز ثلاثة ايام حتى تقتنع بروعته قبل التقرير بشأن عرضه. وأحيانا تحتاج إلى يوم واحد بالنسبة للثوب الذي تجمله برسومات الالوان المائية التي تحتاج إلى سرعة حتى لا تذوب الألوان في بعضها بعضا. وتستطرد: "..الثوب السودان غنى له المغنون، ويمثل الحشمة..وأصله سوداني. والآخرون أخذوه منا. النساء التشاديات يلبسنه بالجهة اليمني ونحن باليسار..الرجال قد لا يلاحظون هذا، ولكننا ندرك الأمر من الوهلة الأولى. وتعاملت مع تشاديات من بينهن زوجات الرئيس التشادي إدريس دبي (سعاد) وهي من زبائني الدائمين، ومؤخرا اقتنت أربعة من ثيابي المطرزة والمائية. وزوجات الرئيس السوداني عمر البشير أيضا حظين ببعض ثيابي. في دبي سنحت لي فرصة للالتقاء بمختلف الجاليات في موسم الموضة، إذ خصص لهذا الغرض أسبوع بحاله. وصارت ثقافة الموضة منتشرة هناك.. لقد استفدت من هذا الجانب بسبب عمل زوجي. وحضور معارضي يأتي من مختلف الجنسيات والقنصليات، وكل طبقات المجتمع. وأقدم في تلك العروض تصميمات لثياب يتراوح عددها بين خمسين إلى سبعين من الثياب. ومن العارضات أبنتي زمردة وزميلاتها اللائي أحببن هذه العروض، وتعودن على كيفية لبس الثوب وعرضه، وتنسيقه مع ألوان الفستان المصاحب. حقا النساء السودانيات يعشقن الجديد، ولذلك يلبين دعوتي كل مرة.. وانطلاقا من النجاحات التي أعاني الله على تحقيقها في هذا المجال حضرت في كثير من معارضي سيدات السلك الدبلوماسي في الإمارات اللائي اقتنين بعض الثياب. ومن المفارقات أن سيدة بريطانية اقتنت ثوبا، وقالت لي إنها ستسعى إلى تفصيله ليكون فستانا لها..وهناك سيدة صينية قالت لي إنها ستقتني ثوبا لكي تعرضه كلوحة ورغم فرحتي بهذا إلا أن الذي كان يفرحني هو اراتدائهن لثيابي. وعلى كل حال هذه خيارات الناس..وأقدرها..وما يكفيني أنهم وجدوا شيئا جميلا ليمتلكوه." وتضيف ميمونة "ثوبنا زي مميز وعريق والتحدي الذي يواجهني في الاعتزاز به هو تجويد إبداعي في التطريز، والرسم..والهنود لهم تجربة في تطريز ثيابنا ولكن المشكلة تكمن في أن ذوقهم لا يناسبنا. والثوب السوداني عندي موظف للمناسبات. فكل تصميم اقوم به له حاجته. فهناك ثوب للزفاف، وآخر للمناسبات الحزينة. وكذلك هناك ثياب للمناسبات المفرحة، وهكذا.. والجميل أن هناك سيدات طرقن في هذا المجال، وهذا من مصلحة المرأة..فالكثير من المتنافسات في المجال يرقي جمال ثوبنا ويتيح لسيداتنا اختيار الأفضل..." في زيارتها الأخيرة بدعوة من منظمة دارفور للتنمية والسلام، قسم المرأة برئاسة الأستاذة هدي عبد الرحمن الشريف وبالتضامن مع المنظمة الافريقية لسرطان الثدي ومقرها في واشنطن برئاسة الأستاذة حنان صلاح محمد. وجاء الحضور غفيرا قارب عدده الثلاثمائة من النساء وقدمته الإعلامية صفية العريفي، كما شاركت في العرض المغنية سميرة أحمد، وكان الأستاذ عبد الكريم الكابلي من ضمن الحاضرين وعدد كبير من نشطاء المجتمع المدني. وقدمت ميمونة عرضا آخر في مدينة فيلادلفيا بالتعاون مع الإخوة السودانيين في المدينة ولاقى قبولا كبيرا. وكانت تلك الزيارة فرصة للاحتفاء بتجربة ميمونة البنجاوي في أوساط السودانيين في المنطقة وحظيت بنقاشات كبيرة حول راهنها ومستقبلها.
|
|
|
|
|
|