|
تصريحات البشير الهوجاء حول عناصر الهوية صلاح شعيب
|
تصريحات البشير الهوجاء حول عناصر الهوية صلاح شعيب في واحدة من تصريحاته الجوفاء التي تبين خلو ذهنه من المعرفة، وعدم صدقه، وقلة حيلته، خرج علينا الطاغية البشير بتصريح يحكي عن عمق محنته. إنه مؤخرا أشار إلى ان هناك استهدافا للإسلام، واللغة العربية، وكامل تراث الاستعراب السوداني. وإن كان ذلك التصريح هو تجديد لأحاديث أنفقها الرجل من قبل لإضفاء صبغة دينية وعرقية في موقفه، فهو بذلك لا يخدع إلا الذين يرون أن نظامه يمثل حائط الصد الأخير الذي تتكسر عنده مقاومة من يسميهم بالمتآمرين والمرتزقة. وما أسهل الارتزاق عند نظام المؤتمر الوطني الذي يوفر كل الاسباب للذين يسعون إلى تراكم الثروة، والإفساد بالمال العام، والخاص معا. الحقيقة أن لا شئ قد عرض تياري الثقافة الإسلامية والاستعراب إلى الخطر - أثناء فترة ما بعد الاستقلال - أكثر من أفعال خدامهما أنفسهم، هؤلاء الذين سيطروا على السلطات السيادية، والقضائية، والعسكرية. ولعل هناك بعض فرق بين الذين يتمثلون القيم الإيجابية لهذين التيارين وبين الذين أرادوا تطويرهما والحفاظ عليهما بروافع الاستبداد، والقمع، والاستئثار الاقتصادي والتجاري. وهذا التفريق ضروري لإعادة البناء الوطني، وتصحيحه. وضروري، كذلك، في وقت يخلط فيه بعضنا بين رؤى الذين يتبنون هذه القيم الإنسانية سلميا وبين سياسات السلطة المركزية تاريخيا. فتراث اللغة العربية، ومجمل الاستعراب الثقافي المنبجس من الممارسة العامة، والإبداع السوداني، والشعور الفردي، من أهم المشتركات الثقافية التي تجمع بين السودانيين الآن. وكانت قبلا تجمعنا هذه المؤثرات الإنسانية، بمستوى من المستويات، مع شعب دولة جنوب السودان المستقلة حديثا. ولا نظن أن هناك إمكانية لنهوض البلاد معافاة، وموحدة، من دون هذه المشتركات الثقافية البارزة بمنتجاتها، وتأثيرها الضارب في كل مجال. وحتى إن لم تسعف البلاد بالوحدة فإن الذي سيربط بين سكان أي إقليم من الأقاليم السودانية هو ثقافة الاستعراب في تيارها الأقوى الذي أنجزته عوامل تاريخية، واقتصادية، وتجارية، ومصاهرات، وأنظمة ثقافة، وتعليم، ودعوة، وفن، إلخ. ومهما تعاظم الدور السلبي الذي وظفته الحكومات المركزية المتعاقبة في استغلال هذا التراث القيمي لتحقيق رغبات المسؤولين لديها، فإن من ضمن هذا التراث نفسه تنظمت مسيرات المقاومة بنماذج الثقافة العربية والاسلامية في السودان. الأكثر من ذلك أن ضحايا الدولة المركزية هم أنفسهم الذين طوروا هذا التراث في جوانبه الدينية، والصوفية، والإبداعية، والأكاديمية، والفنية، والفكرية، إلخ. والملاحظة الأخرى أن أكثر المتشددين في الدفاع عن نماذج الإسلام والاستعراب في البلاد هم أكثر الفئات العاجزة عن تحديث البرامج السياسية، والمنتجات الفكرية، والابداعية. مثلما أن المؤسسات الجامعية مثل أمدرمان الإسلامية، وجامعة أفريقيا العالمية، وجامعة القرآن الكريم، وكل المراكز الثقافية، والموصلات الإعلامية، التي امتطت هذه الفئات المتشددة ظهرها لتعبر عن سلطة تمكين الاستعراب بالاستبداد، هي الأضعف في نواحي تطوير مواريث الإسلام، وتيار الثقافة العربية في السودان. بل إن الضعف يلازم أيضا إضافاتهم الفكرية والإبداعية. فكثيرون يعرفون أن هذه الجامعات والمراكز الانتاجية ليس لديها منشورات بحثية مؤثرة لتسهم في تجديد التفسير الديني، أو ترقية الأدب ، أو تطوير الإعلام، أو حتى انتاج فن إسلامي يلبي عموم رغبات الوجدان السوداني. والغريب أن كلية الصحافة والإعلام في أمدرمان الإسلامية لا أثر لها في سوق العمل الإعلامي يوازي تاريخها الذي قارب الأربعين عاما. فأهل المهنة يعرفون أن "الإسلامية" لم تقدم رئيس تحرير ناجح يبني في تراث عبد الرحمن مختار، وبشير محمد سعيد، ومحجوب محمد صالح، أو تبرز كاتبا صحافيا متميزا، أو مخرجين للعمل الإعلامي بكافة ضروبه، أو مذيعين ينافسون نجوم الحقل الإعلامي. وصحيح أن هناك استثناءات هنا وهناك، ولا نتجاهل أن بعض خريجي هذه الجامعة نجحوا أيما نجاح. ولكن في المحصلة العامة فإن غالبية رؤساء التحرير، والصحافيين، والكتاب الصحافيين والاعلاميين، في الصحف، والمحطات الإذاعية، والفضائيات، لم يتخرجوا في جامعة أمدرمان الإسلامية. وإذا قارنا دورها في النشر الثقافي بجامعة الخرطوم، أو مركز الدراسات السودانية، أو دار عزة، أو دار مدارك، فإنها رغم قدمها لم تقدم إلا بعض منشورات ضعيفة في محتواها الفكري والثقافي. ولنا أن نقيس تأثير نخبة أمدرمان الإسلامية، في المشهد الثقافي الآن. فقليلون جدا من خريجيها يزاحمون في القمة. ولكن ظل اسهام خريجي الجامعات السودانية الأخرى، والخارجية، هو الأقوى في مجال الأدب، والشعر، وفن التشكيل، والنقد الأدبي، والرواية، والمسرح، والقصة، والصحافة الثقافية. -2- لقد ضلل البشير واركان نظامه بعض النخبة حول الموقف من الهوية الفكرية لأعدائه الذين انطلقوا لمحاربته في ميدان الفكر، والثقافة، والإعلام. كما ضلل بعضهم في ما يتعلق بهوية القوى السياسية التي تحمل السلاح لتكف شر حروب النظام في الأطراف. ولقد نجح النظام في الربط بين هذه النضالات المشروعة للدفاع أمام حملاته العسكرية التي يحاول بها قهر شعوب وبين ما يسميه باستهداف الإسلام والعروبة بواسطة الأطراف. وللأسف وقع بعض المعارضين في هذا الفخ العرقي، والثقافي، ليحققوا للنظام رغبته في تحويل الصراع السياسي إلى منصة لتصفيات عرقية بواسطة القدرات اللوجستية للدولة. إن استهداف الإسلام بحسبه معتقد لغالبية السودانيين، ومتساوق مع تراث الاستعراب، مشقة لا حدود لها. كما أن تيار الثقافة العربية الذي تشكلت عبر قرون سيظل قاسما مشتركا في أوساط الشعوب السودانية لا قبل لأحد امتلاك القدرة اللوجستية لتعويقه. وفي الحقيقة ليس هذ التيار الثقافي قاصرا على الشمال النيلي وإنما يتنوع في كل الأمصار السودانية ضمن تياراتها الثقافية الأخرى. بل ونجد في مناطق خارج مركز السلطة والثروة في العاصمة، وحواضر الأقاليم، قيما إنسانية، وإبداعية، رفيعة، وهي أكثر قدرة على الإفصاح في التعبير. بل لدى هذه القيم ديناميات لصيانة الوجود هناك بشكل أفضل مما تفعله الدولة المركزية نحو بواديها التي تعاني التهميش. الأكثر من ذلك فإن المقامات العربية الموسيقية لا توجد في عموم الشمال، وإنما في غرب السودان، وأجزاء من شرقه. فكيف يمكن استهداف العروبة من الأطراف والتي تتفوق على المركز في قدرتها على المحافظة على السليقة العربية، والوجدان الغنائي العربي. كما لا ننسى أن أكثر السلطنات الإسلامية في الأطراف سابقة للدولة السنارية. وظلت تهتدي لقرون بالإسلام، وتلهج بالعربية. ولم يكن للمركز أي فضل في ذلك التأسيس الإسلامي. إذ أن الإسلام السوداني الصوفي الطابع لم يأت من السعودية، أو مصر. فمعظم الطرق الصوفية أتت بواسطة الحزام الأفريقي الذي يبدأ من السنغال وينتهي إلى شرق أفريقيا. الرئيس البشير، في الحقيقة، لا يفهم في مسائل الهوية هذه وطوابقها المتراصة زمانيا، ومكانيا، وحساسيتها القصوى التي تتطلب حذرا عند التصريح بشأنها. ولعل نتيجة هذا الفهم المغلوط في تصريحات البشير حول ما خص الهوية وعموم الشأن السوداني ظاهر للعيان، ولا يحتاج إلى كثير بحث. فسياسات النظام التعليمية حطت بمستويات الطلاب في اللغة العربية، وأفقدتهم فرص تعلم اللغة الإنجليزية التي بواسطتها يكتسبون المعرفة، والقدرة على استنباط أساليب جديدة في التعبير. والأنظمة الثقافية للإنقاذ أخفقت في إتاحة الفرصة للمبدعين لتطوير تراث العربية في السودان، والذي أنشأه مبدعون أمثال محمد سعيد العباسي، والتيجاني يوسف بشير، ومعاوية محمد نور، وعبدالله الشيخ البشير، وجمال محمد أحمد، والطيب صالح، ومنصور خالد، وعبدالله الطيب، ومحمود محمد طه، ومحيي الدين صابر، ومحمد المدي المجذوب، ومحمد عبد الحي، وعبدالله علي إبراهيم، ومحمد المكي إبراهيم، وإبراهيم إسحق، وجيلي عبد الرحمن، وتاج السر الحسن، وصلاح أحمد إبراهيم، والنور عثمان أبكر، وعالم عباس، ومحيي الدين فارس، وأبو آمنة حامد، وصديق مدثر، وكمال الجزولي، ونخبة أخرى من السودانيين، غالبيتهم من غير المنتتمين للإسلام السياسي. ولعل رئيس البلاد المفروض عليها لو قرأ لهؤلاء الكتاب حقا لسأل نفسه عن دور نظامه في تشجيع الإبداع في مجال اللغة العربية. ولكن ليس في عقلية البشير فهما نيرا بتراث العربية في السودان، وإلا قرر إعادة طباعة ابداعات هؤلاء الرموز حتى تكون في متناول أيدي الباحثين، والطلاب، ومتلقي الإبداع. -3- ومن المؤسف حقا أن يتحدث البشير عن استهداف الإسلام والعروبة في السودان في تصريحاته بينما هو نفسه لم يقدم إلا الأسوأ من نموذجي الإسلام والعروبة. ولسنا هنا في حاجة لتبيان المسخ الفكري، والخيبة الفقهية في تفسير الإسلام المعتقد والتراث. فهناك العديد من الدراسات، والكتابات، التي تناولت دور نظام البشير في تشويه الإسلام، وتوظيف العروبة لإثارة الفتنة العرقية في أرجاء البلاد. والسؤال هو لماذا يستهدف تراث العربية في السودان، والذي يمثل هامش الثقافة العربية على المستوى الإقليمي بينما العلاقات بين المراكز الثقافية العربية والعالم الغربي تنبني على وشيجة قوية مؤسسة على تبادل المصالح. وإذا كان البشير واعيا بحجم احتفاء الغرب بآلاف المساجد، والمراكز الثقافية، والعربية الخاصة المقامة هناك لأدرك تناقض حديثه مع الواقع. إن حديث البشير لا يعدو، في الواقع، إلا أن يكون جزء من الاعتماد السهل على نظرية المؤامرة التي تستخدمها بعض الأنظمة العربية، والأفريقية للمحافظة على ذاتها. وهنا ندرك أن معظم هذه الأنظمة المتشددة ظاهريا تتعاون استخباراتيا مع الغرب، وتنقاد إليه في سبيل كف أذى بعضها. ونظام البشير كما هو موثق قد بلغ تعاونه الاستخباراتي مع الغرب مدى كان مثار دهشة بعض الأنظمة الغربية نفسها. صحيح أن جانبا من مركبات الهوية يفرض قسرا على ذات الإنسان، وواقعه، ويتشكل إحساسه وفق ذلك. وتشكيل الهوية أمر بنائي. أي ينبني فترة إثر فترة، وأثر إثر أثر. ويتم وفق عوامل خارجية وداخلية. ولعلنا اكتسبنا هويتنا السودانية نفسها بالتقسيم الاستعماري الذي حدد لنا وضعنا الجغرافي ضمن أقطار افريقيا. وهذا أمر نحن غير مسؤولين عنه. ولكننا مسؤولين عن التخلي عن هويتنا الجغرافية، ومكوننا الإنساني الجنوبي، حين فشلنا في معالجة قضايا الحرب والسلام بالشكل الأمثل نتيجة للأنانية، والتطرف، والادعاء. وهنا تظل مسؤولية البشير، وقادة نظامه، في إدخال الهوية الإسلاموية في أتون الصراع الناشب بين طرفين سودانيين بسبب اختلاف في تسيير أمور الدولة، لا أكثر. وإذا جردنا الإخوان المسلمين من سلاح الدولة، والتأثير الاقتصادي، والإعلامي الذي يملكونه الآن، فإنهم سيظلون إخوانا برؤية أيدولوجية، إذ لا ميزة وطنية، أو أخلاقية أو تعبدية، أو إثنية، يتفوقون بها على الآخرين. فقط حين يدلي البشير بتصريحاته الفقيرة المحتوى عن الهوية والعروبة فإنه يستبطن وصاية استبدادية على الآخرين، واستعلاء أجوفا على فهومات من تحكم عليهم بالجهل. ومن ناحية أخرى ليثير الفتنة بين الذين يتبنون قيم الثقافة الإسلامية والعربية بالتطرف، وبين هؤلاء الذي يريدون إصلاحها، والتعامل معها كتيار هوية يتكامل مع تيارات هوية أخرى. وهذه الفتنة التي حقق البشير جانبا منها هي التي ظلت تمدد فترة امتيازاته كرئيس يقود تيارا ايدلوجيا لا يملك فكرا متسامحا لتطوير الهوية الإسلامية، والعربية، والأفريقية للبلاد. بل إن كل ما فعله البشير هو أنه دمر تياره الإسلاموي بذاته، والذي هو الأكثر تشددا في سبل تطوير معطيات الإسلام والعروبة في البلاد. ومن ناحية ثانية قوض أثر القوى الحزبية التقليدية الرئيسية والتي لديها رؤى معتدلة - بالقياس إلى الإسلام السياسي - حول مسائل تطوير الهوية السودانية. وكذلك قوض قدرات النخبة الحداثية في الوسط النيلي والتي ظلت تاريخيا هي الصوت الأعلى عند الحديث عن الإصلاح السياسي القائم على شرط الديموقراطية، والحرية، والمساواة. وهكذا فإن البشير بحروبه الجهادية، وتعامله الاستعلائي، أعطى المبرر لشعب الجنوب للانفصال. وربما لو استمر قليلا في سلطته الاستبدادية فإنه سيعطي كامل التبرير لشعوب دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الازرق، للتخلي عن الهوية الجمعية للمركزية السودانية، وتكوين أقطارها وفقا لقاعدة من التسامح الاجتماعي، والتراضي، وبعيدا عن الهوسين الديني، والعرقي، واللذين صبغا فترة حكمه الاستبدادي.
|
|
|
|
|
|