|
Re: مقال رائع عن د.إشراقة مصطفي في صحيفة "الشرق الاوسط" (Re: صلاح شعيب)
|
إشراإشراقة مصطفى: المرأة التي انتزعت «جائزة التمازج الثقافي» من النمسا
الخرطوم: شذى مصطفى
لم تكن إشراقة مصطفى تعلم أن القصة التي كانت في مكتبة أبيها، وأخذت تعيد قراءتها مرة تلو الأخرى، وهي ما زالت طفلة صغيرة بمدينة كوستي وسط السودان، ستعيش جزءاً من احداثها باللحم الحي. فالقصة عن فتاة نمساوية تحارب وتناضل لأجل وطنها، وإشراقة ستحملها الظروف إلى النمسا لتناضل وتكافح من أجل حياة أفضل لآلاف المهاجرين هناك، وتفوز بـ«جائزة الدولة للتمازج الثقافي» في فيينا، بداية أكتوبر الماضي. وما بين قراءة القصة وانتزاع الجائزة عاشت إشراقة مغامرات نضالية ومعرفية يمكن أن يقال بأنها استثنائية.
عند خروجها من السودان بداية التسعينات، كانت إشراقة مصطفى تمثل نموذجا لملايين الشباب السودانيين المهاجرين الى الخارج، الباحثين عن حياة أفضل، وتعليم وكرامة ومساواة بعد انقسام المجتمع الى فئتين: فئة موالية للحكومة تحظى بكل الامتيازات وأخرى هي ما تبقى من الشعب حيث الفقر والتفرقة. كان لا بد من الهجرة بعد تخرج إشراقة من كلية الصحافة والإعلام من «جامعة أم درمان الإسلامية» وقد عانت ما عانت من ظروف اقتصادية قاسية. وكان أن اختارت النمسا للسفر، تحملها أحلامها الكبيرة للتحليق عاليا طلبا للدراسات العليا، بينما واقعها يجرها لأسفل. عملت إشراقة في النمسا، موزعة إعلانات وخادمة فى إحدى المنازل فى الفترة الصباحية لسداد رسوم دراستها التي تبدأ فى المساء، بينما هى محاصرة بأسئلة الهوية ومرارة العنصرية ومعضلة الانتماء بمختلف أشكالها. وهي المعضلة التي ستصبح مستقبلا مجال عملها ودراستها واهتمامها. ومع ذلك لم تكن إشراقة مستكينة تعاني الغربة وتئن بالشكوى، بل ساهمت فى أنشطة المجتمع الجديد. وكان أول نشاط لها هو معرض أقيم عام 1995 بعنوان «حماية البيئة لا تعرف الحدود» قدمت فيها أشعارا عن حماية البيئة بمشاركة سيدة ألمانية.
ولكن الطريق أمامها طويل وهى تصارع لتجد «الهوية الإنسانية» كما تسميها التي تحررها من القوالب الجاهزة التي كانت تجد نفسها كل حين في واحد منها. فقد كتبت: «قصتي هي قصة امرأة من بلاد بعيدة موغلة في أدغالها وفقرها وتخلفها. هكذا وجدت صورتي في مرآة الغرب!». وعندما أنشأت جمعية مع نساء عربيات فى فيينا واصدرت مجلة بعنوان «بلسم»، سألتها امرأة عربية: «وما شأنك والعرب؟! أنت تبدين كالصوماليات والإثيوبيات!». ولذلك ربما أسست بعد ذلك جمعية مع نساء أفريقيات بعنوان «وانجا». وعندما سألتها إحدى المشاركات الأفريقيات عما يعني الاسم أجابتها: هو اسم بطل لرواية عربية. فردت عليها السيدة الأفريقية «أنت عربية وما شأنك بالأفريقيات. لا نريد عربا معنا». اما أهل النمسا فيرون فيها مواطنة عربية من شمال السودان، يقع عليها وزر الحرب الأهلية ضد الجنوبيين المسيحيين. ومواجهة أخرى انتظرتها مع مواطن سوداني جنوبي استجار منها بالمسؤولين النمساويين فى إحدى جلسات المحكمة العليا باعتبارها شمالية عربية مسلمة، ستشي به للحكومة السودانية.
انه سؤال الهوية الذي يعيشه ويعانيه كل السودانيين، حين يتبرأ منهم العرب بسبب اللون، ويلفظهم الأفارقة بسبب اللغة والثقافة العربية، ما دفع بجيل الستينات من المثقفين بالمناداة بما يعرف «بالسودانوية»، باعتبارها مفهوما ثقافيا إثنيا مختلفا. ولكن أنّى لإشراقة مصطفى تبني السودانوية، وشرحها فى تلك البلاد البعيدة؟ فكان أن وجدت ضالتها مع الجيل الثاني من المهاجرين الذين يمثلون نموذجا مصغرا للسودانيين.
كمسلمة كانت إشراقة تتوقع أن تجد تعاونا من النساء التركيات المسلمات عند تأسيس جمعية نسوية، ولكنهن كن معها فى حال لا تحسد عليها، بينما النساء الصربيات اللواتي نمطتهن السياسة المتأججة فى منتصف التسعينات، إبان حرب البلقان كن خير عون لها. وما وجدته من عراقيل ومعوقات من النساء أكثر مما وجدته من الرجال، وإن كانت تظن أن الجندرة تمثل سندا لها في خضم كل تلك التعقيدات. كانت إشراقة تحاول أن تلملم ذاتها أمام شظايا مرآة الهوية المتكسرة، وتسبح محاولة أن تصل الى بر الإنسانية العذراء الذي بدا قصيا جدا.
وما كادت تخرج من تلك القوالب حتى سقطت في حفرة التمييز على مستوى ثان، فكان الاضطهاد الذي لاحظته بسبب حجاب النساء المسلمات، وما يعنيه للغربيين من عبودية وانغلاق. ثم مسألة الختان وما تتعرض له المهاجرات من ازدراء وتعال بسببه فى المستشفيات، ثم ملاحظتها لمحاولة تسريب الثقافة الأوروبية بقوة إلى داخل الأسر الأفريقية والعربية المهاجرة، بحيث أن أقل شجار يقع بين الزوجين المهاجرين تأخذ المؤسسات الاجتماعية في حث المرأة بالذهاب الى المحكمة لطلب الطلاق، حتى ولو لم تكن المرأة مقتنعة به. تلك الجمعيات تهدف إلى الطلاق وتشجعه بالدرجة الأولى، بغرض تحرير نساء العالم الثالث من قيودهن الثقافية القديمة. وقد علّقت أمامها امرأة نمساوية قائلة «أنت كامرأة اكتسبت هذه القوة بسبب العيش بيننا، وإلا لكنت ستعانين القهر طيلة حياتك بسبب ثقافتك الأولى!».
ونظرا لعملها الاجتماعي ودراساتها العديدة التي قامت بها عن وضع المرأة الأفريقية والعربية المهاجرة والقضايا التي تواجهها من تعليم وسكن ولغة، وما عايشته من أزمات في واقعها اليومي، منذ أن وصلت أرض النمسا، فازت إشراقة بجائزة المرأة الفاعلة من الحركة النسائية الكاثوليكية عام 1997، ثم أعدت رسالتها لنيل الدكتوراه في العام 2001 بعنوان «تسييس الهوية للنساء المهاجرات»، لتعمل بعدها محاضرة بجامعة فيينا بكلية العلوم السياسية.
أما ولوج إشراقة مصطفى مجال الكتابة التي لم تكن جديدة عليها باعتبارها خريجة كلية الصحافة، فقد كانت مكان تنفيس عن صراعاتها الداخلية مع الهوية والتنميط كامرأة مهاجرة في مجتمع جديد. فهي لم تكن تتعامل مع الكتابة الإبداعية بجدية كما تقول، ولكن لتعزيز وجودها الإنساني وتماسكها الروحاني. وعندما قامت بطباعة مؤلفها الأول، وهو رواية بعنوان «ثلاثة وجوه مفرحة تتجاوز الحدود» عام 2002 تتناول جوانب من حياة النساء المهاجرات، فازت الرواية بجائزة «ليبولد إشتيرن» الأدبية. ولم تكن تتوقع أن تلقى تلك الحفاوة من الشعب النمساوي الذي يعيش في أبراجه العاجية ونادرا ما يهتم بمعاناة الآلاف المهاجرين في بلاده، مما حدا برئيسة البرلمان النمساوي أن تستدعيها لتسألها «ماذا فعلتن فى الهجرة وماذا استفدتن منها؟»، ثم بدأ الإعلام يسألها «ومتى الكتاب الثاني؟ وماذا تعدين من مشاريع للمستقبل؟»، فوجدت أنها ملتزمة أمام جمهور ولا مناص لها من الكتابة الاحترافية، فأخرجت ديوان شعر باسم «ومع ذلك أغني» باللغة الألمانية التي أجادتها، واختير الديوان ضمن أفضل 15 كتابا صدر بفيينا للعام 2003. كما اصدرت ديوانين بالعربية وهما «ذاكرة المطر» و«لعنة الحنين» وترجما الى الألمانية. وشاركت إشراقة فى معرض كتب لايبزغ باسم وطنها الأول السودان، وأسست بعدها مع نساء نمساويات جمعية باسم «أنثى الأنهار»، ترمز لنهري الدانوب والنيل والخصب الذي يتجاوز اللون والعرق واللغة والدين. وأقامت ندوات بمشاركة جامعة قطر بعنوان «نحن والآخر»، وبعدها زارت قرى أسيوط بمصر بمعية أعضاء الجمعية لمحاولة النهوض بالمرأة الريفية التى تتشابه معاناتها مع النساء الريفيات فى كل مكان. وشاركت فى الكثير من الأنشطة الاجتماعية التي تمتزج ببعدها الثقافي لتنال بعدها جائزة الدولة للاندماج الثقافي بالنمسا عام 2007.
| |
|
|
|
|
|
|
|