|
مقالة مهمة للدكتور التجاني عبدالقادر يقول فيها: الزكام الانقاذي وصل كل بيت
|
أخواننا الكبار... ونزاعاتنا الصغيرة د. التجاني عبد القادر قال أحد قادة الاتحاد الإشتراكى السودانى ذات مرة مفاخرا «أظنه الرئيس النميرى أو لعله أبو القاسم»: ان ثورة مايو قد دخلت كل بيت، يقصد أن الشباب والعمال والنساء والأطفال قد انخرطوا جميعا فى صفوف الثورة، ولم يبق فى المعارضة الا فلول الرجعية وبعض عناصر الأحزاب البائدة، فانتصبنا له فى قهوة النشاط بجامعة الخرطوم، مكبرات الصوت تصم الآذان، وتصفيق الطلاب والطالبات يشق عنان السماء، ليرد عليه ابن عمر «خطيبنا فى تلك الليلة» بصوته الجهير القوى كأنه منذر جيش: نعم، أن مايو قد دخلت كل بيت، يا سيادة الرئيس، ولكنها دخلت كما يدخل «الزكام». وضحكنا وصفقنا وانصرفنا، فقد كنا طلابا ذوى ألسنة حداد نعشق المعارضة، ولم يكن منا من تذوق السلطة يومذاك، أو تصور أنها «كذلك» تدخل على النخبة السياسية التى توجدها كما يدخل «الزكام»، لم يكن منا من تصور أن «زكام السلطة» سيصيب نخبتنا «الإسلامية» الصاعدة كما أصاب النخبة المايوية المتهاوية، وسائر نخب اليسار العربى، ولكنها فيما يبدو سنة ماضية. وقد بدأت بوادر زكامنا، أقصد الخلاف، أول ما بدأت بين أخواننا الكبار، بين الأستاذ علي والدكتور الترابي منذ أوائل عام 1994م، ولكنها لم تطفح إلى السطح، وظلا يعملان معاً في قيادة التنظيم والدولة، وقد ساعد على ذلك النوع من التعاون الخشن تاريخ طويل من العمل المشترك، ومخاطر كثيرة تحدق بهما معاً، وحسابات دقيقة لموازين القوة، وقد تضاف إلى ذلك صفتا الهدوء والصمت اللتين يمتاز بهما الأستاذ علي، إذ أنه من نوع الشخصيات التي تستطيع أن تتجنب المعارك المباشرة دون أن تترك الميدان. ويضاف إلى ذلك أيضاً التقدير الكبير الذي كان يكنه د. الترابي للأستاذ علي عثمان والثقة التي كان يضعها فيه. أذكر في هذا الصدد أني التقيت بالدكتور الترابي في لندن أواخر عام 1988م أو أوائل عام 1989م، وكان فى زيارة خاصة إلى بريطانيا، ولكنه كان يتعجل العودة إلى السودان، وذلك أبان حكومة الصادق المهدي ومعارضة الجبهة الإسلامية لها، وكان يبدو عليه القلق ويتخوف من مقالب السياسة السودانية، ثم ذكر لي أنه لولا وجود الأستاذ علي عثمان لأزداد خوفه وقلقه، ولكن وجود علي عثمان على القيادة السياسية للتنظيم يعيد إليه الاطمئنان، لأنه لا أحد من قيادات الأحزاب الأخرى يستطيع أن يخدع علي عثمان، «وهذا نص حديثه» ثم ذهب يعرض بما وقع للقيادات الأخوانية الأخرى في تعاملها مع الشريف الهندى والصادق المهدى إبان معارضة الجبهة الوطنية لحكومة جعفر النميري في السبعينيات، مفضلاً الأستاذ علي عثمان على تلك القيادات التي تكبره في السن. فقلت له: ألا يرجع ذلك للتجربة التنظيمية الطويلة التي أتيحت للأستاذ علي عثمان؟ فنظر إلى بامتعاض ثم قال: «مش التجربة ، المخ ، المخ» ، وأشار إلى رأسه، أي أن علي عثمان لم يتميز بفضل التجربة التنظيمية الطويلة فحسب، وإنما تميز برجاحة العقل. ولم أجادله في ذلك. ذكرت هذا لأقول إنه قد كانت للترابي ثقة بالأستاذ علي عثمان، مما جعل الخلاف بينهما يظل لفترة طويلة في إطار العتب والجفوة، ثم لا يتجاوز في أحلك الظروف مجال التبرم الخفي والنقد غير المباشر، على أن بداية التحول الكبير في العلاقة بين الرجلين، بدأت تظهر إبان ترشيح الفريق البشير في فبراير 1994م للدورة الأولى لرئاسة الجمهورية. فى هذه الفترة تكشف للدكتور الترابى، أن على عثمان والمجموعة المحيطة به لن تقوم بدحرجة العسكريين الى الخارج وترشيحه لموقع الرئاسة، كما كان متصورا أو متفقا عليه، وذلك لأن على عثمان قد تمت استمالته الى المجموعة العسكرية، فصار يجاهر بتأييده لترشيح الفريق البشير لموقع الرئاسة. بناءً على هذا «الاكتشاف» قام الدكتور الترابى بتعديل فى القيادة، ازاح بموجبه على عثمان من موقع نائب الأمين العام، معبرا بذلك عن سخطه وقاطعا العلاقة التى كانت تربطهما لمدة عقدين من الزمان، ثم قام علاوة على ذلك باسترجاع بعض القيادات السياسية والتنظيمية القديمة، وبتصعيد بعض العناصر الشبابية، ليضع بذلك حاجزا يصد به على عثمان ومجموعته العسكرية عن التواصل مع قيادات التنظيم الوسيطة وقاعدته العريضة. ولكن على والبشير لم يظلا من جانبهما مكتوفى الأيدى، وانما عمل كل منهما بطريقته لزحزحة الترابى عن موقعيه فى قيادة التنظيم والمؤتمر الشعبى، وجره الى رئاسة المجلس الوطنى «البرلمان» الذى تزامنت مواعيد انتخابه مع هذه الحلقة من حلقات النزاع. ولعل تقدير على والبشير كان هو «أولا» ان يوضع الترابى على رأس الجهاز التشريعى، فيتحرك ويصرح ولكن من موقع المسؤولية والمحاسبة، بدلا من أن يترك مستترا بالمؤتمر الشعبى، يلتقى بالسفراء والصحافيين، ويطلق التصريح بعد الآخر عن سياسات الحكومة الداخلية والخارجية دون أن تكون له صفة رسمية، ودون أن يكون محاسبا على ما يقول. وكان تقديرهما «ثانيا» أن يوضع الترابى فى رئاسة الجهاز التشريعى، ليرى بصورة مباشرة حجم وتعقيدات المشاكل الحياتية التى يواجهها الشعب السودانى، فينصرف قليلا من التعلق بالخارج الى التعامل مع الداخل، وكان تقديرها «ثالثا» أن رئاسة الجهاز التشريعى وما يتصل بها من بروتكولات، وما يتفرع عنها من ارتباطات، ستجعل قبضة الترابى على مفاصل التنظيم ترتخى قليلا، مما يتيح فرصة لعلى ومجموعته لاستعادة مواقعهم وتعزيز نفوذهم. على أن الرياح لا تجرى دائما على الطريقة التى يريدها الملاحون، اذ التقط الدكتور الترابى طعم المجلس الوطنى، ولكن بدلا من أن يختنق به حوله الى غذاء يومى له، واستطاع من خلاله أن يتصل فى براعة فائقة بالداخل والخارج معا، وأن يعزز علاقاته مع نواب المجلس من الاقاليم المختلفة، ومع أمناء التنظيم الاقليميين «خاصة أمناء ولايات دارفور فى غرب السودان»، كما أستطاع أن يقدم أطروحته السياسية الجديدة عن نظام «التوالى السياسى» وأن يقوم باعداد وثيقة الدستور الدائم للبلاد بالطريقة التى يريد، وأن يدافع عن آرائه ومواقفه دفاعا قويا على صعيد اللقاءات الجماهيرية العامة واللجان الفنية المختصة. لقد استطاع الترابى من خلال موقعه الجديد، أن يثبت لمناوئيه بأنه سيظل يشكل رقما صعبا لا يمكن تجاوزه حيثما وضع. وعندما تأكد له تماما أن الاهداف التى كان يرجوها من خلال وجوده فى رئاسة المجلس التشريعى قد تحققت، جعل يصرح بين الحين والآخر بأنه سوف يتخلى عن موقع رئاسة المجلس وعن أى موقع تنفيذى، بل لعله قد حدد ميقاتا لذلك. ولكن ذلك لم يكن يعنى أن الترابى كان يفكر فى اعتزال العمل السياسى، بقدر ما يعنى أن خطته كانت ان يتجه الى الجبهة التنظيمية ليتمكن من اعادة تركيب الهيكل التنظيمى بصورة جديدة، وذلك ما وقع بالفعل، اذ ظل يعمل من خلال الفعاليات التنظيمية التى أحياها، ومن خلال القيادات الشبابية التى صعدها، والقيادات السياسية التى استقطبها من الأحزاب السياسية السابقة «خاصة الاتحاد الاشتراكى وبعض العناصر من حزب الأمة والاتحادى الديمقراطى»، فظل يعمل من خلال تلك الفاعليات فى اتجاه تعديل اللائحة التأسيسية للمؤتمر الوطنى وتعديل هيكله واجازتهما فى المؤتمر العام. لقد كان المراد من تلك التعديلات سحب البساط بصورة نهائية من تحت أقدام على والبشير والمجموعات الموالية لهما. ولكن وبينما كانت هذه التدابير تجرى فى الخفاء، وبينما كانت الجفوة والتوتر يزدادان بين الترابى والسلطة التنفيذية، خلا فجأة منصب نائب رئيس الجمهورية، وذلك بوفاة اللواء الزبير محمد صالح الذى تحطمت به الطائرة فى جنوب السودان، فازداد الأمر سوءا، وتفاقم «الزكام»، وضعف الجسم «التنظيمى»، فعاودته أمراض أخرى كانت غير معلومة. لعب اللواء الزبير محمد صالح دورا أساسيا في مجلس قيادة الثورة لحكومة الانقاذ، وعندما حل المجلس صار نائبا لرئيس الجمهورية، واستطاع من ذلك الموقع أن يؤدى دورا تنسيقيا مهماًً بين قطاع الجيش الذى كان يتمتع فيه بوضع مريح، والجهاز التنفيذى للدولة، والقطاعات الوسيطة في التنظيم، وذلك علاوة على علاقاته الوثيقة مع كثير من القيادات السياسية الجنوبية، مما جعله يمثل عامل توازن مهم في النظام السياسى. ولذلك فقد أثارت وفاته حزنا شديدا لدى قطاعات واسعة من عامة الشعب، كما أحدثت اختلالا فى الأجهزة الرسمية للحزب وللدولة، ولكنها أتاحت من ناحية أخرى فرصة أخيرة للتقارب بين أطراف النزاع، الا أنها خنقت كغيرها من الفرص السابقة تحت مناخ التخوف والتخوف المضاد، والغضب والغضب المضاد اللذين سقط فيهما طرفا النزاع فكيف وقع ذلك ولماذا؟ اجتمع على عجل عدد محدود من «أخواننا الكبار» فى منزل الدكتور الترابى بدعوة منه، للنظر في اختيار خليفة يحل مكان اللواء الزبير، ثم انتقل الاجتماع الى منزل الأستاذ عثمان خالد مضوى، وزاد عدد المجتمعين الى نحو من عشرة اشخاص، ومع أن ذلك الاجتماع لم تكن له أية صفة تنظيمية أو قانونية، إلا أنه قد طلب منهم أن يعدوا قائمة باسم الشخص أو الأشخاص الذين يمكن أن يختار الرئيس من بينهم من يكون نائبا له بعد وفاة اللواء الزبير «من الأسماء التى ذكر أنها حضرت ذلك الاجتماع: عثمان خالد، عثمان عبد الوهاب، عبد الله سليمان العوض، موسى حسين ضرار، محمد يوسف محمد، محمد صادق الكارورى، أحمد عبد الرحمن محمد، عبد الله حسن أحمد، علاوة على الدكتور الترابى وعلى عثمان وعلى الحاج»، اقترح عدد من الحاضرين ترشيح الدكتور الترابى لموقع نائب رئيس الجمهورية، واعترض عدد آخر على ذلك مقترحين قائمة ذات ثلاثة أسماء، أثنان منهما من السياسيين المدنيين وواحد من العسكريين، والأسماء الثلاثة هى على عثمان وعلى الحاج وبكرى حسن صالح، ألا أن هذا الاخير استبعد وأثبت اسم الدكتور الترابى. ثم دار نقاش في ذلك الاجتماع عن تحديد شخص يكلف بتبليغ رئيس الجمهورية بذلك الاقتراح، فتطوع موسى حسين ضرار أن يقوم بذلك، الا أن بعض المجتمعين رفضوا ذلك، واقترحوا أن يقوم الدكتور الترابى شخصياً باخطار الرئيس بذلك، فانبرم الأمر على ذلك الاقتراح على ما فيه من عشوائية غريبة. لم يكن الرئيس البشير «فيما يبدو من ظاهر الوقائع» على علم بذلك الاجتماع ولا بخلفيات أصحابه وأهدافهم. فأخطره الدكتور الترابى الذى اجتمع به حاملا اليه الاقتراح، أن مجموعة من «الاخوان» يقترحون عليه أن يختار واحدا من ثلاثة ليكون نائبا له. والثلاثة هم: حسن الترابى، على الحاج، وعلى عثمان، على هذا الترتيب. صمت الفريق البشير لفترة وأخذ يفكر، ولعل الأسئلة التى كانت تجول بذهنه: من هم هؤلاء «الأخوان» الذين اجتمعوا؟ ولماذا لم يترك الموضوع ليناقش في المجلس القيادى، ولماذا بعثوا اليه الترابى شخصيا ليبلغه بذلك وهو- أى الترابى- أحد المرشحين؟ وهل يعتبر الموضوع برمته حلقة أخرى من حلقات الصراع. ولا أحد بالطبع يعلم يقينا نوع الأسئلة التى كانت تدور فى ذهن الفريق البشير، ولكن من المتصور أنه قد استقر في نفسه أن المجموعة المناوئة له أرادت أن تنتهز الفرصة لتدفع بالترابى الى موقع نائب رئيس الجمهورية، كخطوة تمهيدية تستبق الاستيلاء الكامل على رئاسة الجمهورية. وبناءً على هذا التصور استجمع الفريق البشير أفكاره واعتدل في جلسته، ثم قال للدكتور الترابى حديثاً يمكن تصويره على النحو التالي: «والله يا شيخ حسن أنت شيخى وشيخ الحركة الاسلامية كلها، وأنا لا أقبل بحال من الأحوال أن أكون رئيساً عليك، ولكن أرى أن تكون أنت نائباً، ثم استقيل أنا عن رئاسة الجمهورية فتصير بذلك رئيساً». لم يكن الترابى يتوقع مثل تلك الإجابة، ولعله أيضا راح يقلب أفكاره ويسأل نفسه عما يترتب عملياً على استقالة الفريق البشير من رئاسة الجمهورية، ثم لم يلبث أن ابتسم ابتسامته المعهودة، وقال للبشير: بل تبقى أنت في مكانك رئيساً. وبهذا يكون الترابى قد انسحب مؤقتاً من المعركة تاركا المجال مفتوحاً للفريق البشير ليتقدم خطوة أخرى قائلاً: أما اذا كان هذا هو رأيك فأرجو أن تسمح لى أن أقول إن الاخ على الحاج غير مناسب لموقع النائب الأول، ولا أستطيع أن أعمل معه بسهولة، أما المرشح الثالث، الأخ على عثمان فأعتقد أنه الأنسب، خاصة وأنه يصغرنى سنا، وأستطيع أن أكلفه وأحاسبه بصورة طبيعية. وانتهى اللقاء «أو التمثيلية» على هذا الشكل، حيث استطاع الفريق البشير أن يضرب عدة عصافير بحجر واحد: استطاع أن ينتزع موافقة بضرورة بقائه في رئاسة الجمهورية، واستطاع أن يبعد الترابى وعلى الحاج من موقع النائب الأول، كما استطاع ثالثا أن يرفع على عثمان وهو أحد أهم أعوانه ليجعله نائبا لرئاسة الجمهورية، وكل ذلك دون أن يقوم بتحركات أو تعبئة أو اعداد كما كانت تفعل المجموعة المساندة للترابى. أما بالنسبة للأخير فقد تأكد له بما لا يدع مجالا للشك أن كل الطرق المؤدية الى القصر قد أغلقت بوجود على عثمان والبشير هناك، كما تأكد له من ناحية أخرى أنه لا خيار يبقى أمامه غير خيار «المركزية التنظيمية» الذى يمكن عن طريقه محاصرة وتحجيم كل المواقع العليا في الدولة، وقطع كل القنوات التى تصلها بالقواعد التنظيمية والأقاليم الجغرافية. فاذا ظن البشير أنه قد حقق فوزا، فإنه سيكون واهما، وسيجد نفسه معلقا في الهواء، فالشيخ لن يترك له من السلطة شيئا، اللهم الا «الدراجات التى تجرى أمامه» كما روى عنه. وما تزال الدراجات تجرى، والشيخ يجرى، وكوفى عنان يجرى، و«الزكام» قد بلغ الرئتين، ولا غالب الا الله. نقلا عن الصحافة
|
|
|
|
|
|