د.محمد وقيع الله: إذا سقطت الدولة ستعود الحركة الاسلامية لسابق وضعها.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 04:06 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة صلاح شعيب(صلاح شعيب)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-29-2006, 00:35 AM

صلاح شعيب
<aصلاح شعيب
تاريخ التسجيل: 04-24-2005
مجموع المشاركات: 2954

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
د.محمد وقيع الله: إذا سقطت الدولة ستعود الحركة الاسلامية لسابق وضعها.

    الدكتور محمد وقيع الله من الباحثين السودانيين الذين توزع نشاطهم بين العمل الاكاديمي بالسودان والولايات المتحدة، وثابر على تدبيج المقالات الصحافية وإنشاء الدراسات النقدية في مجالات السياسة والدين والثقافة والادب. وظل برغم علاقاته بالحركة الإسلامية السودانية بعيدا عن تقلد أي مهام وزارية وما دون ذلك، رغم أنه يعد من أكثر الذين ظلوا يدافعون عن خطاب الحركة الإسلامية، ومن البارزين في مجالات التنظير الفكري. حصل الدكتور وقيع الله على درجة الماجستير من جامعة اوهايو العريقة، والدكتوراه من جامعة الميسيسبي التي لا تقل عنها عراقة محتد. ومجال تخصصه في الماجستير والدكتوراه على السواء هو الدراسات الصينية. وظل بأمريكا التي هاجر إليها منذ ما يقرب الثمانية عشر عاماً يدرُس ويدرِّس في جامعاتها، وكان من ضمن القلائل الذين دعوا لإلقاء المحاضرات عن الإسلام بالأكاديمية البحرية العسكرية الأمريكية، وهي أكبر جامعة عسكرية في أمريكا. وتقلد منصب رئيس قسم الدراسات الاسلامية بمعهد العلوم الاسلامية والعربية بواشنطن، حيث جرى هذا اللقاء الصحفي، وذلك قبل أسابيع من اعلان فوزه بجائزة صاحب السمو الملكي نايف بن عبدالعزيزآل سعود للسنة النبوية والدراسات الاسلامية المعاصرة، وكان عنوان بحثه المطول الذي بلغ 750صفحة (الاسلام في المناهج الدراسية الغربية: عرض ونقد). وتعد جائزة الأمير نايف بقيمتها الأدبية والمادية إحدى أكبر الجوائز العلمية على مستوى العالم أجمع. كان الدكتور وقيع الله من الوجوه السودانية المميزة بأمريكا وظل طوال وجوده فيها يشارك في المنتديات الثقافية والفكرية، ويقدم العديد من المحاضرات الثقافية. وكان أحد أكثر الباحثين الاسلاميين تحمساً في خدمة العمل الاسلامي بالولايات المتحدة، وشارك في كثير من الحوارات الفكرية داخل الحقل الاكاديمي الاميركي ودافع قوياً هادئأ عن الإسلام ودعاته في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر.
    وفي هذه الحوار يتحدث الدكتور محمد وقيع الله عن بعض شواغل العمل الفكري والسياسي ويطرح آراءه المعبرة عن قناعاته الفكرية حول بعض القضايا ويعلق على أداء الرموز السودانية.


    حاوره بواشنطن: صلاح شعيب

    * ما هي علاقتك بالحركة الاسلامية، وما هي المحطات البارزة في درب الحركة الاسلامية السودانية الحديثة؟
    - علاقتي بالحركة الاسلامية ثقافية وليست تنظيمية، لقد كانت فيما يسمى عادة بالنشاط الموازي، أي النشاط غير التنظيمي وغير السياسي. وفي هذا السياق كنت ومازلت ارى نفسي موجوداً في داخل الحركة الاسلامية، وفي ذات الوقت ارى نفسي خارجها. وهذا توصيف قد يصعب على بعض الناس تصوره ولكنه الحق.
    وبعبارة أخرى يمكن أن أقول إنني جزء من العمل الثقافي الاسلامي العام المعلن. وإنني غير موجود في الاعمال التنفيذية والشورية، ولا اتلقى اوامر او محاسبة من أحد، ولا أجد تقويماً من احد، إنما انا منطلق في عملي الإسلامي أؤديه بانسجام مع أي عمل إسلامي صالح فيما أرى، وذلك منذ أن كنت في الحادية عشرة من عمري.
    أما عن الشق الثاني من السؤال وهو عن المحطات البارزة التي شكلت تأثير الحركة الاسلامية على مجمل النشاط السياسي السوداني.. فقد كان طابع هذا التأثير عقائدياً على الاقل حتى الآن.. بمعنى أن السياسة في السودان قد ارتبطت بالإسلام ارتباطاً قوياً جداً، وصاغت الاحزاب السياسية الاخرى التقليدية لإحياء الجانب الوراثي في كياناتها، وهو جانب إسلامي. وأضحت هذه الأحزاب تجاري الحركة الاسلامية في هذا الجانب، خاصة حزب الامة على يد الصادق المهدي، وأما الاحزاب العلمانية الخالصة كالحزب الشيوعي فأمست تخاف من مهاجمة الاسلام، وتأدبت معه بفعل سطوة الحركة الاسلامية فكريا وثقافيا. وأحزاب أخرى حاولت أن تعمل مناورات على الاسلام وتتبنى بعض الشعارات الاسلامية، فهذه تأثيرات بارزة للحركة الاسلامية السودانية على الأحزاب السودانية. وفي الوقت الحالي اعتقد أن الحركة الاسلامية أصبحت تضع الاجندة والمبادرات للعمل السياسي السوداني عامة، هذا الأمر يجري منذ عقد ونصف من الزمان تقريبا، فالحركة الاسلامية السودانية هي صاحبة الشأن الاعلى والجميع يصدرون ردود فعل لما تفعله الحركة الاسلامية، وقلما يبتدرون عملا إلا كرد فعل على اعمال الحركة الاسلامية التي أعتقد أن تأثيرها قوي جدا إن لم يكن ساحقاً على الحركة السياسية السودانية.
    * هذا الحديث يعطي انطباعا بأنك غير منظم داخل الحركة الاسلامية، ونحن نعرف أن المنتمي للحركة الاسلامية هو منظم فيها، هل نفهم انك تجمع خصوصية الانتماء واللا انتماء للحركة؟
    - أنا لست منتظما في داخل الحركة الاسلامية، وإنني أيضا غير منتظم في اي اطار آخراجتماعي رسمي او غير رسمي، وحياتي محورها النشاط والعمل والانتاج الدائم الدائب. وأنا أؤمن بالانتاج فقط ، ولا أؤمن بالاطرالاجرائية. وفي حالتي الخاصة الاجراءات الضيقة معوقة لعملي أيما تعويق، لذلك أصطدم بالناس الذين يعملون معي. ودائما ما أعمل عملاً انفراديا، ولا أحب ان التقي في تعاون أو تنظيم أو تنسيق مع أي شخص. وهذه ميزة يعرفها كل من يعرفني جيداً، فبهذا المعنى لم أكن في انتظام بالحركة الاسلامية بمعناها الواسع ولا في عداء او شقاق او معها.
    * في هذا الخصوص هل يمكنك ان تكون جزءاً من حركات الاسلام السياسي، ويمكنك أن تساعد قاعدة حزب الامة او الجمهوريين وتتناغم ادوارك مع اهدافهم الاسلامية؟
    - أدواري لا يمكن أن تتسق مع ادوارالجمهوريين ولا ادوار حزب الامة، بل حتى في الحركة الاسلامية لا تتسق مع أدوار ومزاجات بعض الناس. وأنا سريع الاحتدام والاصطدام مع الشخص الذي يختلف معي في الفكر والرأي.. لذلك أحب أن أعمل دائما على انفراد كامل حتى في مجال عملي المهني، وهو التدريس، ولا أحب أن اكون رئيس قسم اكاديمي، ولا مسؤولاً عنه، ولا عميداً، وأحب أن أبقى دائماً كمدرس مسؤول امام تلاميذي فقط.
    * وفقا لما تقول هل دخلت في صدامات داخل الحركة الاسلامية؟
    - لا لم يحدث ذلك. ولم توجد مبررات لحدوثه.
    * ولكن ما الذي يمنعك ان تكون مؤثرا داخل الحركة الاسلامية بحيث تدفع بعمل الوحدة الفكرية للحزب، ولماذا لا يكون دورك فاعلا في اطرها العامة؟
    هذا يتناقض مع طبيعتي كما اسلفت القول، إذ انني لا أحب العمل اليومي المنظم الاجرائي الرتيب، بالاضافة الى انه يعرضني الى سوء الفهم والصدامات والاحباطات، ولهذا اهتم بالعمل الثقافي والتعليمي، واكتفي بهذا الدور وهو ليس بالدور اليسير.
    * وهل قبلك الاسلاميون بهذه الشروط؟
    - كيف لا يقبلون؟! إنه ليس لشخص منهم سلطان عليَّ. لقد كان عليهم ان يقبلوني على علاتي. وهم سلفا يعرفون انني اعمل للاسلام بلا مزايدات ولا تطرف ولا حسابات شخصية، فقبلونني كما انا في الحقيقة، ولم يفرض احد منهم عليَّ شيئا، بل لا يستطيع احد منهم ان يفرض عليَّ شيئاً.
    * هذا يعني إنه بالامكان ان توجه انتقادات داخل الحركة الاسلامية لخطابها او مسارها الحركي؟
    - طبعا. هذا جانب من العمل الثقافي، ومهمة المثقف - ان جاز لي ان أحشر نفسي في هذه الطائفة - ان يعمل الاشياء التي لا يعملها الشخص الذي ينفذ الاعمال اليومية، وفي هذا المجال يستطيع المثقف ان يسهم اسهاما نافعا حتى ولو كان مقيما في برج عاجي. فعمل المثقف هو أن يتكلم وينتقد ويشير ويقدم الاقتراحات العملية التي تهديها اليه لحظات التأمل والتجلي. وأستطيع أن أقول في هذا المنحى أن ركون بعض المثقفين السودانيين والصحافيين منهم خاصة وكتاب الأعمدة على الأخص، إلى النقد الجارف وادمان انتقاد الآخرين نقداً سلبياً مدمرا، وانتقاص جهود الخصوم لا يمثل عملاًً طيباً، ولا يفيد البلاد بشئ. والأجدى من ذلك النظر المتوازن والحديث عن جانبي الكوب الفارغ منهما والملئ..!!
    * وهل قدمت مشروعا نقديا للحركة الاسلامية يبين قصورها مثلا ؟
    - هذا لم يحدث، ولا أعتقد ان لدى الحركة الاسلامية السودانية كيانات تنظيمية كما كانت في الماضي.
    * كيف؟
    - عدم وجود الشئ لا يحتاج الى برهان. والشئ الموجود هو الذي يحتاج الى برهان، فاذا كان تنظيمهم معدوما او غير موجود أو غير مشاهد فهذا لايحتاج الى برهان. ولا أعتقد ان لديهم مثل تلك التنظيمات الفاعلة في الماضي. انهم مشغولون بالدولة اكثر من أي شئ آخر.
    * إذن هل تقصد ان الحركة الاسلامية اختبأت في الدولة؟
    - نعم.. لقد ذابت فيها.
    * وإذا سقطت الدولة؟
    - تعود الحركة الاسلامية الي شئ شبيه بوضعيتها السابقة وتبدأ من وضعية متخلفة جدا.
    * هل حادت الحركة الاسلامية عن مسارها؟
    - لا لم يحدث ذلك.. مضت الحركة الاسلامية في مسارها القديم قدما، وقطعت اشواطا طويلة جدا في الاتجاه المقصود، لكن يمكن القول إن الكثير من افرادها قد تنكبت بهم السبل وضلوا سواء الطريق.
    * هل ماتزال الحركة على ثوابتها؟
    - نعم.
    * إذن نسأل عن ثورة الانقاذ كما سميت؟
    - الاسم غير مهم أبداً. ليس مهما إن يُقال إنها انقلاب او ثورة. والحرص على تحقيق هذه الناحية يأتي من المكايدات السياسية.
    * بهذا المستوي هل يمكن أن نقول ثورة مايو مثلا؟
    - كان منصور خالد بعد انقلابه على نميري وخصومته معه يقول ثورة مايو. هذه التسميات لا غضاضة في استخدامها.
    * هل يعني ان مايو لا ينطبق عليها مفهوم ثورة؟
    - بالتعريف العلمي ليست كلها ثورات.
    * حتى الانقاذ؟
    - حتى الانقاذ.. لأن الثورة بتعريفها العلمي هي الانقضاض التام على القديم وتحطيمه، وبناء شئ جديد ناجح مختلف اختلافا جذريا عنه، وكلها بهذا المعنى ليست ثورات.
    * إنما هي انقلابات؟
    - نعم انقلابات او تحولات او تغيرات في النظام السياسي الفوقي.
    * إذن ماذا كان دافع الحركة الإسلامية من الانقلاب؟
    - الدافع الاول كان أمنيا، وهذا امر له شقان، الاول هو الحفاظ على امن الحركة الاسلامية نفسها، لانها كانت مستهدفة من قبل الجيش والقوي الخارجية وبعض القوى الداخلية. والثاني هو الحفاظ على امن الوطن نفسه لانه كان مستهدفا من حركة التمرد. وقد كان على رأس البلاد آنها شخص ضعيف متردد لم يكن يبالي ان يمزق البلد أو يضيعها. وكان لابد للحركة الاسلامية ان تستلم السلطة.. وكانت هذه تقديرات الحركة الاسلامية لانتزاع السلطة منهم، لا لحب السلطة ولكن للحفاظ على امن البلد من التمزق. واعتقد انهم نجحوا في الحفاظ على وحدة البلد وامنه حتى الآن. وما كان بإمكان أحد غيرهم من الفرقاء السياسيين أن يحافظ عليه مثلهم.
    * حينما فكرت الانقاذ في ذلك هل كانت تستند على مرجعية دينية أم مرجعية ديمقراطية؟
    - ماذا تعني بذ لك؟
    * كما تعلم ان الحركة الاسلامية كانت جزءا من العملية الديمقراطية وارتضت بالممارسة كعهد، ولكنها ارتدت عن هذا العهد، وخططت للانقلاب. أعني على اي اساس استند هذا الانقلاب؟
    - ينبغي ان يوجه هذا السؤال للجميع وليس للحركة الاسلامية وحدها، لان الفائز الاكبر في الانتخابات نفسه لم يكن ملتزما بالنظام الديمقراطي ولا بالفلسفة الديمقراطية.. وقد حاول لسنتين كاملتين ان يجيز في البرلمان تعديلات دستورية يحجم بها حرية الصحافة وحرية الاحزاب، وكان يعمل على شل سلطات البرلمان نفسه وتعطيل تكوين لجانه. والجيش ايضا لم يكن راضيا عن النظام الديمقراطي، والحزب الاتحادي كان يعمل علي تعويق شريكه في الحكم. وانت بلا ريب تذكر الاحتكاكات العبثية الكثيرة بين اهل الحكم، كتلك التي جرت بين ابي حريرة والصادق المهدي، هذا فيما كان البعثيون والشيوعيون يتربصون بالنظام، وكانت حركة التمرد واجنحة كثيرة لها خارجة عن النظام الديمقراطي. واذن فليست الحركة الاسلامية وحدها ينبغي ان تتهم هنا.
    * لكن الآلية التي كان يعتمد عليها الصادق المهدي ديمقراطية؟
    - ماذا تعني؟
    * أعني انه كان يعتمد على التفويض الديمقراطي في التعاطي مع شؤون الحكم؟
    - الصادق لم يكن ديمقراطيا في يوم من الايام بالمعنى الصحيح للكلمة، وهو مايزال غير ديمقراطي الهوى، انك لا تزال تري آلاف الناس يقبلون اياديه، فهل رأيت زعيما ديمقراطيا آخر في العالم يقبل الناس اياديه او يرضي هو بان يقبل الناس اياديه كما يفعل الصادق المهدي؟! انني اتمنى من هذا الشخص ان يمنع انصاره ان يقبلوا اياديه. وهذا الشخص عندما يرضى بأن يقبل الناس اياديه على اساس ديني لا يمكن ان يكون ديمقراطيا، فهل توافق على ذلك؟
    * هل تقصد ان الصادق ليس ديمقراطيا على الاطلاق؟
    - لا، ليس على الاطلاق، إنما ليس كاملا او صادقا في ديمقراطيته.
    * وهل ينطبق هذا على الحركة الاسلامية؟
    - نعم. وهي حركة اسلامية كما وصفت نفسها وليست ديمقراطية، ويصعب عليها ان تكون ديمقراطية.
    * وما هو السبب في ذلك؟
    - هذا سؤال جميل. والسبب في ذلك هو أن الثقافة السياسية للشعب السوداني ليست ديمقراطية، فيصعب على القادة وعلى الاحزاب والحكومات ان تكون ديمقراطية. فالسودانيون في عامتهم تربوا على الولاء الكامل أو شبه الكامل، سواء على مستوى الاسرة او المدرسة أو العمل، فالثقافة العامة للشعب هي ثقافة اتباعية. وفي وضع كهذا فحتى إذا اعطيت الانسان حرية الممارسة الديمقراطية فهو يميل للاتباع والطاعة العمياء أو شبه العمياء، وتأييد القادة بأسلوب حماسي لا عقلاني، ويستثمر القادة سواء في الحركة الاسلامية او غيرها جيدا في هذه الناحية.
    * وهل هذا يعود الى طبيعة الثقافة السودانية؟
    - هذه ليست طبيعة الثقافة السودانية وحدها. وإنما طبيعة الثقافة المتخلفة في السودان وغيره.
    * وما هو دور القيم الاسلامية في مكافحة هذه المثالب والعيوب؟
    - لست ادري ان كنت استطيع أن اجيب على هذا السؤال. ولكن القيم النظرية والشعارات العامة ليست بشئ كافٍ لاحداث النهضة. فمن الناحية النظرية إن نظام التعليم ينبغي ان يكون رأس الرمح في عملية النهضة والتقدم، ولكن من الناحية الواقعية نرى أن هذا النظام قائم هو الآخر على الاتباع والتلقين. إن مناهج التعليم لا تزال كما العهد بها مثالا مطلقا في السخافة والعقم . فهي لا تعطي للطالب ادنى فرصة لكي يفكر او يناقش او يعبر عن نفسه أو يطبق الكلام النظري على واقع محدد. والاستاذ يمثل سطوة مخيفة ومرعبة علي الطلاب، وهذا الامر عام في بيئاتنا الحياتية، فالسياسي نفسه لا يعترف بحريات الناس وحقوقهم ولا يحترمها، ومعظم قادة الاحزاب إنما هم حلقة أو شلة قديمة متقادمة لا ترضي بزحزحة نفوذها أو خلخلته، وهكذا فإلى حد كبير نرى أن الشعارات والقيم السياسية شئ والممارسة السياسية شئ آخر. وأما الحل أو المخرج من هذا الواقع فليس سهلاً ولا متاحاً للتو واللحظة. إننا نحتاج الى حلول تدريجية تنقلنا خطوة خطوة، ونحتاج إلى عشرات السنين حتى نصل الى تشرب هذه القيم الديمقراطية أو الشورية بالأحرى.
    * ولماذا بعد هذه السنين الطويلة منذ مجئ الاسلام تظل احوال المسلمين متخلفة على مستوى البنية الاجتماعية والسياسية؟
    - المسلمون خرجوا من حلبة الحضارة والتاريخ منذ زمان مديد. وبتعبيرالدكتور محمد إقبال، رحمه الله، فإنهم قد سقطوا من مكان عالٍ جداً. والذي يسقط من مكان عالٍ لا ينهض إلا بعد زمن طويل يداوي فيه كسوره والجراح. وإذا كنا نتحدث عن الجانب السياسي ففيه أكثر الجراح والآلام. ولكن في الجانب التربوي والقيمي هنالك تفوق كبير على القيم الإنسانية وقيم الثقافة الغربية وآدابها واخلاقياتها.
    * هل نحن محتاجون الى استيراد قيم سياسوية؟
    - لا اعتقد.. من جانب آخر أعتقد ان دراسة وتمثل الموروث الشوري الاسلامي القديم وفهمه بنضج متقدم يكفي في حد ذاته. لكن لا مانع من الاستزادة بالتجارب الديمقراطية العظيمة المتطورة في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية. وليس من واجبنا ان ننظر إلى أميركا على انها فقط مؤسسات سياسية في شكل الكونغرس والاحزاب، علينا أن نستلهم نماذج التدريس في المدارس ونتعلم من نظم التعليم الديمقراطي، وحكومات المدن والأحياء ومجالس الولايات. وهذه البلاد تمارس فيها الديمقراطية ممارسة حقيقية حية وقوية وناضجة وشريفة، كذلك يمكن ان نستهدي بآليات ترشيد العمل الديمقراطي كمراكز البحوث ونظام اللجان البرلمانية في الكونغرس أو في مجلس العموم البريطاني، فهذه الاشياء مهمة لتنمية العمل الديمقراطي، فالعمل الديمقراطي لا تقويه المناقشات والمجاذبات وخلافات في الرأي، وإنما تقويه الدراسات الناضجة التي تقدم الحلول القوية للمشاكل الملحة.
    * ولكن هذه القيم التي تتحدث عنها أتت وفق مرجعية علمانية؟
    - لا ليست علمانية. كما أن العلمانية ليست كلها ضرر. وهذه اشياء علمية وعالمية وكامنة في التراث الإسلامي وروح الإسلام ومقاصد التشريع. ومع أن المسلم مكلف بأن يستصحب أي شئ نافع في الحياة ، إلا أنه في هذه الحالة بالذات قد لا يحتاج إلى استصحاب أصلا، لان كل ذلك كامن في التراث الاسلامي إذا قرأناه قراءة ذكية وعميقة ومتقدمة، ولا سيما إذا كانت قراءة مقارنة مع التجارب الليبرالية الحية.
    * هل ما يزال المشروع الحضاري للدولة السودانية قائماً؟
    - نعم مازال قائما ومتقدما للامام فيما ارى من بعيد.
    * وماذا حقق على المستويين الاجتماعي والاقتصادي؟
    - انا لست موجودا في السودان منذ ستة عشر عاما حتى اقدم اجابة علمية صحيحة، واعتقد ان للمشروع تأثيرات كبيرة على الواقع السوداني الذي اذا قارنته من زاوية اسلامية بواقع ما قبل الانقاذ، سترى أن المجتمع كله تحول نحو الالتزام بالقيم الاسلامية، والمؤسسات كذلك متقدمة اي نحو الاسلام، وهذا قد لا يُعزى أثره إلى دولة الإنقاذ أو عناصر الحركة الإسلامية وحدهم، وإنما كذلك للتأثير السلفي لأنصار السنة وغيرهم، ولجهود الأفراد المسلمين المستقلين، وأداء المعلمين بالمدارس النظامية والمدارس القرآنية.
    * نشرت بحثا قبل فترة عن الاستاذ محمود محمد طه ولكنه اثار جدلا كبيرا؟
    - أعتقد أن محمودا كان من كبار المتأملين الفكريين في السودان، وكان يعيش أحلاما كبيرة خطيرة، وهذه هي التي صنعت منه مفكرا كبيرا. اقول هذا رغم انني اختلف معه في كل شئ كتبه فيما عدا حروف الجر والتسكين والنصب. وهذا الكلام ينطبق بالذات على كتابه التأسيسي ذي الاطار النظري المكين وهو الموسوم بـ «الرسالة الثانية من الاسلام»، ولا شك ان هناك مبدعين غيره أكثر إبداعاً منه مثل الدكتور عبد الله الطيب الذي هو من أعمق الناس وأكثرهم إنتاجاً وأشدهم إخلاصاً لقضية الفكر والثقافة، ومن أكثرالادباء والمفكرين مقبولية في الاوساط السودانية والعربية، وقد كتب بكثافة وأثر في أجيال من الطلاب وانتشر على مستوى العامة، ولكن اكثر الاوساط الفكرية لا تهتم به وتبذل اشد اهتماما اكبر بمحمود لانه يساعد البعض في مهمة تجاوز الشريعة.
    * لكن ألا ترى أن تفكير محمود كان عميقاً في كتاب «الرسالة الثانية من الإسلام»؟
    - كان فكره عميقاً، لكنه كان متحاملا اشد التحامل على الاسلام الذي نعرفه ويعرفه سائر الناس. وأنا شخصيا أعدُّ نفسي مدافعا عن الاسلام، واتحفز لمهاجمة من يهاجمونه أياً كانوا. ورسالتي الشخصية في الحياة هي الدعوة إلى الاسلام ، وأنا حساس تجاه أي إنسان يمس ثوابت الاسلام أو يعمل علي تحريف الاسلام أو يعادي الاسلام مهما يكن متفوقاً ثقافياً. ولا أقبل المساس بكلام الله سبحانه وتعالى او سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
    * لماذا لا تنظر لمحمود محمد طه كمجتهد أكثر من انه يمس ثوابت الاسلام؟
    - لا. لم يكن محمود مجتهدا في إطار الإسلام، وإنما أتي بشئ جديد مختلف عن الاسلام.
    * أليس في الاجتهاد مشروعية للخطأ والصواب؟
    - الاجتهاد عمل ايجابي غرضه التطوير لا التدمير. إنك لا تستطيع تجديد عمارة أو تطويرها بتقويض أعمدتها لأن البنيان كله سينهار. ومحمود محمد طه بدأ اجتهاده بتقويض الصلاة وهي عمود الاسلام الأكبر، ورفض الحج، وانكر شرعية الزكاة، وغير شرع الاحوال الشخصية، ونادى بالغاء سلطة القرآن المدني لأنه ملئ بالتشريعات، ودعا للاكتفاء بالقرآن المكي حيث تقل التشريعات، فهذا كله لا يمكن ان يعد تجديدا وانما هو شئ يستهدف صميم الإسلام.
    * هل كل ما ذكرت موجود في كتب «الرسالة الثانية»؟
    - نعم. هذا هو أقل ما في كتاب «الرسالة الثانية» الذي يقوم على آي القرآن المكي فقط. ومحمود لم يعترف بالقرآن المدني، فهو بالتالي خارج على الاسلام ، وهو في اعتقادي واعتقاد الكثيرين شخص غير مسلم.
    * لكن لايستحق عقوبة الردة؟
    -لا هو مرتد طبعاًً.. هذه هي الردة بعينها ولا توجد ردة اكبر منها. والانسان المسلم إذا أنكر معلوماًً من الدين بالضرورة ، فهو بالضرورة شخص مرتد.
    * لكن العلماء الذين ناقشوه مثل صلاح أبو اسماعيل وصلوا لطريق مسدود معه وإن لديه رؤية وفكرا؟
    - أعتقد أن هذه مجرد إشاعة. وأنا لا علم لي بمناقشة صلاح أبو اسماعيل بالذات. لكن أي عالم شرعي يستطيع بسهولة ان يستنتج ان محمود شخص مرتد.
    * طيب أنت قلت إن الترابي لا يستحق أن يُقام عليه الحد. أليست هذه ازدواجية معايير، إن محمود كان يفكر ويجتهد والترابي يفعل الشئ نفسه الان؟
    محمود لم يكن مجتهداً، والترابي نفسه في تجديفاته الاخيرة لا يعد مجتهدا، وأكثر ما قاله اخيرا قالته الفرق الغالية قديما، وبعضه موجود في تراث محمود محمد طه.
    * طيب ما هي إيجابيات محمود محمد طه؟
    - لقد شق طريقا في التأمل في الوسط الفكري السوداني الخامل. واستفاد في ذلك كثيرا من فتوحات محيي الدين ابن عربي. ولمحمود بعض المساهمات الاصلاحية المحدودة في الزواج الجماعي. وكان محمود ثابت الجأش في المحكمة، وحتي في قتله كان ثابتا. وعلى فكرة كثير من الخارجين عن الاسلام بدوافع الجذب والشطح والايمان بالاشياء الغامضة، واجهوا مصيرهم بمثل هذا الثبات والابتسام. والحلاج صلى ركعتين قبل قتله، وهناك آخرون صدقوا مع أنفسهم. ولكن الصدق لا يعني الصحة والصواب بالضرورة.
    * هناك أيضا من يرى أن الهدف من محاكمته كان سياسياً وليس دينياً ؟
    - قد يكون.. لكن هو أيضا لم يكن بريئاًً من التآمر السياسي ضد خصومه. وقد تآمر مع حكومة نميري والشيوعيين ضد الانصار، وأيد ببيانات كثيرة ضرب الانصار يوم ضربوا في الجزيزة أبا في عام1970م، وظل يردد تأييده لضربهم سنين عددا، ولو راجعت الموقع الالكتروني لحزبه لوجدت هذه الاقوال لا تزال مثبتة في ادبيات الحزب.
    * هناك حديث حول أن قضاته كانوا أقل تأهيلاً عنه؟
    - القاضي هو قاض ٍ . فأنا مثلا لو كنت بروفيسوراً وجاء أحد تلاميذي لمحاكمتي، فهل أقول إنني أشد تأهيلاً من القاضي.
    * لكن يا دكتور لابد أن يكون القاضي مؤهلا ً في النظر لهذه القضايا الدينية؟
    - القضاة الذين حاكموا محمود كانوا مؤهلين بلا شك، وبعضهم كانوا يحملون درجات أكاديمية عليا. والعلامة هنري رياض الذي راجع الحكم ، وهو من كبار فقهاء القانون في السودان، وكان قاضيا في المحكمة العليا، قال إن محاكمة محمود صحيحة من حيث الاجراءات القانونية، وقد كان هنري رياض من ضمن القضاة الأربعة الذين صوتوا أن المحكمة صحيحة في مقابل الخمسة الذين قالوا بعدم صحتها.
    * هناك حديث من البعض أن الصادق المهدي يعد مفكراًً أكثر منه سياسياً.. كيف تقومه أكاديمياً؟
    - لقد جمعت كما ضخما من نصوص الصادق المهدي، وأنا في سبيل اجراء بحث تحليلي نقدي شامل في مضامينها اهتداءً بمنهجية «تحليل محتوى» ولا أريد الآن أن أسبق النتائج، لكن انطباعي العام من قراءاتي لها يفيد بأن الصادق مجرد ملخص نصوص وليس مفكراًً كما يقال. بمعني ان الصادق لا يلتزم بنظرية معينة في المعرفة، ولا يملك أصولاً ثابتة للفكر، ولا يمتلك الصدق الذي كان لمحمود محمد طه مثلا. إنما هو يجمع نصوصاً من هنا وهناك بطريقة cut and paste غير الالكترونية. إن هناك خللاً منهجياً كبيراً في كتابات الصادق. ولا أريد أن أفيض في هذا الأمر الآن، ولكن هذه بعض نقاط التركيز في الدراسة الشاملة التي أتمنى أن أنجزها في المستقبل عنه. وعموماًً لا أعتقد أن الصادق مفكر، رغم إنه مشهور جدا بأنه مفكر أكثر منه سياسياًً.
    * هل تعني انه كاتب؟
    -نعم هو مثقف وكاتب متوسط أو فوق المتوسط؟
    * هل تعني إنه مسنود طائفياً؟
    - لا . هذا لا دخل له في الموضوع . هذا امر يتعلق بطبيعة الصادق المهدي الشخصية. إنه لا يملك الصبر الكافي لاتقان أي شئ يعمله. وهو يكتب مقالاته ودراساته بسرعة شديدة، ولا يربطها بمجمل أفكاره السابقة، ولا يؤسسها نظرياً، ولذلك لا تخفى على القارئ المدقق كثرة التعارضات في افكاره، كما تبدو له مظاهر العشوائية واضحة فيها، والفكرالجاد لا يحتمل العشوائية والتعارض. وبخصوص الصادق المهدي فإن الشخص القارئ البسيط يعتقد ان الصادق مفكر عميق لانه يطرق قضايا كثيرة، ولكن من يقرأ افكار الصادق بذهن فاحص يدرك جلية أمره.
    * يقول الكثيرون في الصراع الفكري بين جماعة صادق عبد الله عبد الماجد والترابي، أن جماعة صادق أكثر صدقا؟
    -الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد، حفظه الله، من أكثر الناس الذين أحببتهم في السودان، والحبر يوسف نور الدائم ، حفظه الله، أستاذي في السنة الأولى بالجامعة الإسلامية، ودرسني تاريخ الفكر الإسلامي، لكن هذين الشيخين الجليلين لم يتمكنا من بناء حركة إسلامية قوية.
    * الدكتور عبد الله علي ابراهيم قال إنه عندما انهزم التيار التربوي داخل الحركة الاسلامية، قلت القيم الروحية والاخلاقية داخل الحركة؟
    - والله أنا بعيد عن السودان، ولم أقرأهذا القول المنسوب للبروفسور عبد الله علي ابراهيم في سياقه الذي قاله فيه حتى أفهمه على حقيقته وأقول فيه بشئ. ولكني من ناحية عامة اعلم أن البروفيسور عبد الله علي ابراهيم إنسان حصيف، ويقول كلامه باحتراز العلماء وجدهم.
    * إذن أسالك بصيغة أخرى عن الحالة التربوية.. ألا ترى أنها انتهت حين دخل الاسلاميون السلطة؟
    - الإسلاميون يحرصون على تربية أنفسهم وأولادهم تربية إسلامية صحيحة، بغض النظر عن وجود حركة إسلامية مننظمة من عدمه. والقول عن الحالة التربوية بأنها انتهت فيه مبالغة شديدة، حيث أن معدلات التربية الإسلامية في وسط السودانيين على مختلف مشاربهم عالية، وهي في علو وتنامٍ مستمر.
    * أنا أقصد على مستوى الدولة؟
    - على مستوى الدولة لا أستطيع أن أحكم . وارى أن معظم أعضاء الحركة الاسلامية يستصحبون قيمهم الدينية الإسلامية، وإن كان القليلون قد أهملوا هذا الأمر.
    * سؤالي يتجه بالأساس إلى توظيف الاسلاميين للدعم العربي والاسلامي الاقتصادي لصالح ثرائهم وتورطهم في مسألة الغلاء؟
    - طبعاً هذا يحتاج لتدقيق وتمحيص وتحقيق، فأنا لا أريد أن ألقي الكلام على عواهنه وأكون مسؤولا عنه أمام الله سبحانه وتعالى، وبالتالي لا أستطيع أن أعلق على هذا الموضوع.
    * لكن أنت كباحث إسلامي تحتاج للبحث عن هذه الاتهامات ومعرفة الخطأ والصواب في الممارسة السياسية للاسلاميين. ألم تسمع بمحاولات تخزين العيش لبنك فيصل الذي يديره إسلاميون مؤثرون في الحركة؟
    - في مسألة تخزين العيش أتذكر أن هذا الاتهام قال به الفاتح بشارة وكان حاكما لكردفان ايام نميري، فرفع البنك قضية ضده واضطر لسحب كلامه، وبنك فيصل هو بنك اقتصادي وليس هو الحركة الاسلامية.
    * فلنأتِ إلى الدولة التي يسيطر عليها الاسلاميون حالياً.. ألا تري أن الفساد الذي أحدثه الاسلاميون في كل مناحي العمل العام ليس خافياً على أحد؟
    - الفساد موجود في أي بلد، هو أمر مستنكر، ولا أحد يدافع عن الفساد، والمهم ألا يبالغ الناس في الحديث عن الفساد، لأن ذلك يعطي مشروعية للفساد في النهاية، ويخفف من وقعه المنكر على القلوب، ولو انبرى البعض لمواجهة الفساد قانونيا لأرعب بذلك المفسدين ولو بنحو جزئي، ولطامن من جرأتهم الفادحة على ارتكاب الاعمال والبيوع الفاسدة والمفسدة. والفساد حتى لو حدث حتى من أخي - لا سمح الله - فهو عمل غير صحيح ولا استطيع ان ادافع عنه، لكني في الوقت نفسه لا استطيع ان ابالغ واعمم وألقي الكلام بصورة جزافية في اتهام الناس بالفساد. وفي كل الأحوال ينبغي أن يُقال إن الفساد موجود في كل مكان في العالم، وأن لنا من ذلك بعض النصيب.
    * ولكن محاسبة الانقاذ تتم بالمعيار الاسلامي، لانها طرحت نفسها هكذا ثم أتت بأهل الثقة؟
    - لكن الاسلام نفسه لا يمنع أن تأتي بأهل الثقة ليكونوا عوناً لك لا عليك.
    * لكن ليس على حساب العدالة؟
    - ما خلاص، إذا هم تجاوزوا العدالة فهم على خطأ. ولكني لا أستطيع التأكد مما إذا كانوا قد تجاوزوا العدالة أم لا، لكن من حيث المبدأ هذا الفساد موجود في كل العالم، وموجود في السودان من قديم، ولم تأتِ به الإنقاذ.
    *دكتور وقيع الله .. قلت إن المشروع الاسلامي للدولة السودانية لا يزال قائما، لكن هنالك من يقول إنه لا توجد قيم ومعاييرعليا تضبط ممارسته ، كما ان الظروف الاجتماعية في السودان صعبة جدا. ماذا تقول؟
    - المشروع الذي جاءت به الإنقاذ هو المشروع الوحيد الذي يجري تنفيذه في السودان. وهو مشروع إصلاحي لا ثوري، أما المشروعات الثورية كمشروع السودان الجديد فقد أصبح مجرد هراء أترع أتباعه بالحماسة له والتبشير به وعجزوا عن تنفيذ فقرة واحدة منه على أرض الواقع. وأما حديثك عن القيم والمعاييرالعليا التي تضبط تنفيذ المشروع الإنقاذي فهوحديث فضفاض، وأجيبك عنه بقول فضفاض، وهو أن هذه القيم والمعايير إسلامية. وأما الظروف الاجتماعية فماذا تعني بها؟
    *أعني ظروف المعاش. وذلك على اعتبار ان الحكومة لم تقدم البدائل الجيدة في مجال الإقتصاد، ولم تحقق التنمية المطلوبة من قبل الشعب. الأمر الذي ادى الى مشاكل جمة في الغرب والشرق أضيفت إلى المشاكل الكثيرة التي أصبحنا نعاني منها الآن ولم تكن موجودة في الفترة الديمقراطية الاخيرة؟
    - كلامك هذا لا يتفق مع الواقع الذي شهده سودان الثمانينيات. كل المشاكل التي تحدثت عنها كانت موجودة بكثرة وبحدة بالغة قبل قيام الانقاذ، فكان هناك الفقر والمجاعات والحروب الاهلية والعطش والجهل وكانت هنالك الأحزاب كذلك. وهذه في مجملها هي الآفات التي اشتكى منها العباسي في شعر مبين رصين أنشده بنادي الخريجين في الأربعينيات يقول: ( جهل وفقر وأحزاب تعيث به... إلخ) . واعتقد أن حكومة الانقاذ ساهمت الى حد كبير في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وفي علاج هذه المشكلات . وانا اراجع دائماً تقارير البنك الدولي، وصندوق النقد العالمي، وكتاب المؤشرات الاقتصادية السنوي الذي تصدره وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وهذه المصادر متفقة على أن السودان يحقق منذ أكثر من عشرة أعوام معدل نمو إقتصادي سنوي لا يقل عن سبعة بالمائة، بمعنى أن الإقتصاد الكلي السوداني يتضاعف مائة بالمائة خلال سنوات قليلة. وهذه نسبة نمو غير مسبوقة في تاريخ السودان. وفي تقارير البنك الدولي هناك ذكر للمشاريع التي قامت في عهد الانقاذ منها بناء الطرق وتشييد الجسور واستخراج البترول وغير ذلك. إن هنالك طفرة اقتصادية واضحة في السودان لا ينكرها إلا من يجرؤ على انكار مشهد الشمس في نهار القيظ. وقد جذب المناخ الاستثماري كماً ضخماً من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما وصل إلى بلايين الدولارات خلال الخمس سنين الأخيرة. هكذا تقول الإحصاءات. وهذا التقدم في الوضع الاقتصادي لا يعني ان الانقاذ قد فعلت كل ما هو مطلوب لتجد التزكية الكاملة مني أو من غيري من المراقبين. وانما اعطيها فقط ما تستحق من الثناء، ولا أبخس أحداً أعماله، وأحاول أن أكون منصفاً لا غير، ولو تحقق ما تحقق من تقدم للاقتصاد السوداني على يد أي حكومة أخرى لقلت فيها ما قلته في انصاف الإنقاذ، فإني لست مدفوعا في هذا بالحب ولا بالكره، ويؤسفني أن أقول إن معظم الكلام السلبي الذي يقال عن الوضع الاقتصادي في السودان إنما تمليه الدوافع الحزبية الضيقة ويقال من باب العداوة السياسية المنكرة التي تتنكر للغة الأرقام.
    *ولكن إن ما تقوله ليس لديه مؤثرات واضحة على حياة الناس، وذلك بدليل الهجرة التي تمت بأعداد هائلة وهناك تقارير تقول ان بين 70 و90 في المئة من الكوادر المؤهلة والمدربة توجد الآن خارج السودان. إضافة لهذا فان الدولة اصبحت مجرد ضيعة خاصة لاعضاء الحركة الاسلامية الذين تغولوا على كل الوظائف ولم يتركوا للآخرين سوى الفتات؟
    - عفوا إن الارقام التي قلتها ليست صحيحة. وإنما يتحدث الناس بها بصورة عفوية وانطباعية. وأنا اسمع الناس يتحدثون عن الهجرة بألفاظ تعميمية وأرقام تتراوح تراوحاً شديدا، ولم أقرأ مثل هذه الأرقام في أي مؤشر أي مصدر اقتصادي ذي اعتبارية علمية. والأمر الأقرب للتصديق أن يقال إن عدد الكوادر المؤهلة والمدربة قد تضاعف مراراً عدداً في السودان، لأن الجامعات السودانية خرجت عشرات الآلاف من المهندسين والصيادلة والبياطرة والزراعيين والأطباء والمتخصصين في الكومبيوتر والتقنيات الحديثة. وأنا شخصياً لا يستهويني الحديث عن ضعف مستوى خريجى الجامعات في هذه الأيام، وأعتقد أن من يتخرجون في هذه الأيام يكونوا قد تعرضوا لمعارف وتقنيات أحدث لم تتح لمن تخرجوا قبلهم. وبالتالي يكونون أفضل تأهيلاً منهم، ويحتاج القدامى إلى أن يطوروا أنفسهم ليلحقوا بهم. ولكن السابق يكون أفضل من ناحية الخبرة والممارسة بالتأكيد. وهكذا فلكل فضل. هكذا يقتضينا الإنصاف والتجرد أن نقول. وفي هذه الناحية ارجو من الأفاضل الذين يدمنون إصدار هذه الأحكام السلبية على التعليم وخريجيه أن يتدبروا هذا الأمر قليلا ويقيموا له البينات والأسناد إن كانوا جادين فعلا في شأنه. وأنا من جهتي مهتم جدا بمناقشة هذا الأمر سواء من ناحيته الموضوعية الصرفة، أومن الناحية العاطفية التي تتعلق بمشاعر أبنائنا المتخرجين حديثاً من الجامعات، والذين نستعد نحن لنورثهم ما ورثنا من علم أو خبرة عن الأسلاف الكرام.
    وأما حديثك الذي يفترض أن الهجرة عمل سلبي ضار، فالرد عليه أن الهجرة في حد ذاتها ليست دليلا على سوء الاحوال الإقتصادية لقطر من الأقطار. فبعض الأقطار المستقرة اقتصادياً والتي تعد أوضاعها أفضل بكثير من أوضاع السودان، يهاجر أبناؤها للعمل بعيداً عنها، وبعضهم يستقرإلى الأبد في الخارج. انظر إلى لبنان كمثال حيث يعيش ثلث أبنائه خارج لبنان. وانظر إلى مصر تجد الملايين من خيرة مواطنيها المؤهلين تأهيلاً ممتازاً يعملون بأصقاع الدنيا المختلفة. وفي هذا المجال تقدم اليونان، وتونس، والصين، والهند، ودول أمريكا اللاتينية نماذج أخرى. إن مسألة الهجرة تحتاج إلى أن ينظر الناس إليها نظرة علمية صحيحة، فالإنسان عندما يخرج من بلاده يخرج منها حتى ولو كان مكرما فيها. ونتائج الهجرة كثيراً ما تكون إيجابية وتقود بشكل مباشر إلى تحسين أوضاع المهاجر، وبشكل مباشر أو غير مباشر إلى تحسين اوضاع البلد الذي هاجر منه.
    *لكن يمكن أن تكون الهجرة واحدة من أسباب الازمة؟
    - يجب النظر لأمر الهجرة نظرة دقيقة ويجب أن تدرس دراسة وافية قبل الوصول إلى استنتاج كهذا.
    وكيف تسير الدولة في ظل غياب الكادر المؤهل؟
    اذا اخذنا مجال الطب مثلا نجد إنه عندما قامت الإنقاذ كان هناك حوالي 1100 طبيب في السودان. وأعتقد أننا نمتلك الآن عشرات الآلاف من الأطباء. وربما تكون معلومات هؤلاء الأطباء الجدد أحدث من معلومات الأطباء القدامى لأنهم درسوا الطب على مناهج أحدث وعلى كتب أحدث. وهذا الكلام اقوله ولي معرفة لا بأس بها بشؤون التعلم والتعليم ، وهذا ينطبق على الكوادر المؤهلة في اي مجال. فالعمل الصحافي كمثال آخر يبدو الآن ارقى مما كان عليه في الماضي البعيد أو القريب. إن الصحافة في عهد الاحزاب كانت الصحافة هامشية وضعيفة جدا. وأنا الآن اقرأ الصحف السودانية بمختلف أطيافها وتوجهاتها على الانترنت، وأعتقد أن مستواها من النواحي الفكرية والمهنية أفضل بما لا يقاس مما كانت عليه الصحافة في أي عهد مضى من تاريخ السودان الحديث.
    * .. لننتقل إلى ناحية أخرى. كيف تنظر للظروف الصعبة التي تواجهها الحكومة السودانية الآن، فهناك جبهتا حرب ملتهبة بالغرب وبالشرق، وهناك ضغوط دولية كثيفة على البلاد. ما المخرج من ذلك ؟
    - هذه المشاكل لا تحل إلا بالحوار مع الذين أشعلوا الحرب، والحل الوحيد يتأتى من الجلوس مع هذه الجهات في حوارات مكثفة كتلك التي تمت مع حركة التمرد الجنوبية. وهذا هو السبيل لحل المشاكل مع العالم الخارجي أيضاً. لأن العالم الخارجي مرتبط بحركات التمرد كما هو معروف ومعلن. وحمل السلاح ليس فيه مصلحة لأحد ( باستثناء الجهات الخارجية طبعاً)، وسيؤدي لاضعاف الحكومة واضعاف الحركات المسلحة وإضعاف الوطن في خاتمة المطاف .
    وأما الحوار الحر الصادق فهو يؤدي إلى بلورة الحلول، وله تأثيره النفسي الإيجابي في تحفيز المتفاوضين للتفكير وتنسيق الأفكار ووضع الأجندة في أولويات صحيحة ولائقة. خذ مثالاً في حركة التمرد في دار فور حيث لم تكن لها مطالب واضحة محددة، ولم يكن لها أي خطاب موضوعي. وقد اعتمدت لغة صاخبة متوترة متكبرة واكتفت بدعم الإعلام الصهيوني لها. وقد أحزنني جدا أنهم في المفاوضات كانوا يطالبون بمناصب فقط، ونسوا اهليهم وأهلينا الأحباب الكرام في دارفورالذين تعذبوا طوال هذه السنين الاربع، فكأنما كان أهلونا الأحباب الكرام بدار فور يتعذبون ليسعد هؤلاء الثوار بالسلطان. إن حركات التمرد تؤدي الى تدمير البنية التحتية وإضعافها وإضعاف الحكومة والاساءة لسمعة السودان وإضعاف الاهل جميعا، ولا مفر في نهاية المسعى من التفاوض لحل المشكلة،وقد أخطأت السلطة بترددها في التفاوض مع المتمردين منذ الايام الاولى .
    *دعنا ننظر إلى الحركة الاسلامية السودانية. كيف تنظرإلى الخلاف المستفحل فيها والتداعيات التي افرزته وتأثيره على الحالة العامة؟
    - أتمنى ان تنقل كلامي هنا بدقة شديدة لأنني لست طرفا في هذا النزاع ولا جزء من هذا الشق او ذاك. وبنظرتي هذه من بعيد أعتقد ان الحركة الاسلامية السودانية قد برهنت للمرة الثالثة على نضج كبير جدا لانها حافظت على قوتها وثباتها بعد ان خرج شيخها الأكبر حسن الترابي عليها. لقد خرجت الحركة الاسلامية السودانية من قبل على شيخها الأستاذ علي طالب الله، رحمه الله، أو هو كان قد خرج عليها. واستمرت الحركة الاسلامية السودانية مندفعة بنفس قوتها لم تضعف أو تتراجع. ثم حدث هذا الامر نفسه عندما خرجت الحركة الاسلامية السودانية على مراقبها العام الأستاذ الرشيد الطاهر بكر، رحمه الله، أو عندما خرج هو عليها. واستمرت الحركة مندفعة بنفس قوتها لم تتوقف ولم ينحسر تيارها الموار. والآن خرجت الحركة الاسلامية السودانية على شيخها حسن الترابي او ربما كان هو الذي خرج عليها، ومع ذلك واستمرت قوية تحافظ على اكثر عضويتها ومكاسبها. من هنا فإنني اتمنى أن تواصل الحركة الاسلامية السودانية خطها هذا المبارك في التخلص من الشخصيات المهيمنة فيها، فالحركة الاسلامية ليست حركة شيوخ ولا شخصيات كبرى ولا قيادات سيادية طائفية، وإنما هي حركة احتساب لله سبحانه وتعالى.
    *هل تعتقد ان الخلاف كان شخصياً أم تمحورحول برامج الحركة الفكرية والسياسية ؟
    - الخلاف كان ومايزال شخصي المنشأ والطابع.
    ولكن بعض المحللين السياسيين يقولون إن الخلاف جرى حول البرنامج السياسي، وذلك بدليل أن مذكرة العشرة المشهورة طالبت بإقرار الشورى وتنفيذها، وذكر كتاب المذكرة أن الترابي كان يستحوذ على السلطة السياسية بكاملها من دون أن يشرك معه الباقين في مسألة اتخاذ القرار.
    المذكرة كانت إجرائية فقط. ولقد كانت هناك شللية وتبعية طائفية ومسائل استلطاف وتقريب واستبعاد من مفاصل السلطة والقيادة العليا، والذي حدث بعد ذلك هو ان هذه الامور تبلورت وانكشفت بشكل جلي واضح واصبح الصراع سافراً حول السلطة ومغانمها. وأما البرنامج السياسي فقد كان هو البرنامج السياسي ذاته ولم يتغير جوهرياً. وحتى الآن يمكن القول إنه ليس هناك خلاف يذكر في البرنامج السياسي الأصلي بين ما يسمى بالمؤتمر الوطني أوالمؤتمر الشعبي، كما يمكن القول إن الانقاذ في جوهررسالتها الكبرى وفي برنامجها الفكري والسياسي هي الانقاذ ذاتها قبل خروج الترابي عليها. وعموما لا أرى ثمة خلاف يستحق الذكر حول البرنامج الفكري والسياسي للإنقاذ، وإنما يتركز الخلاف بكامله حول المكاسب الشخصية الوضيعة.
    *وهل هناك إمكانية لتوحيد الحركة الاسلامية ثانية ؟
    - لا.. ليست هنالك أدنى إمكانية ولا بصيص أمل في توحيد شراذم الحركة الاسلامية مرة أخرى.
    *لماذ تصر على كلمة (لا)؟
    - لأن العناد قد بلغ مداه الأقصى. وإذا توحد هؤلاء الناس فسيعودون إلى مربع الخلاف الأول من جديد وسيكون خلافاً أعنف وأشد عُراماً وفساداً من ذي قبل. والأفضل لهؤلاء الغرماء أن يبتعدوا جداً عن بعضهم البعض. في العلوم السياسية نظريات تتحدث عن حلول لحالات مستعصية من هذا القبيل. فإذا وجدت عناصر متنافرة للحد الأقصى وهي تعيش مع ذلك ضمن إطار جغرافي أو مؤسسي واحد، فالافضل أن تفصل هذه العناصر عن بعضها البعض ويحال بينها وبين أن تلتقي على أي صعيد!
    *لكن هنالك محاولات ما تزال تبذل للتقريب بين أتباع الوطني والشعبي!؟
    - الذين يقومون بهذه المحاولات أناس حالمون وغير واعين بمدى خطورة هذا الخلاف ومدى تجذر أصوله في هوى النفس وطغيان الأنا الدنيا.
    *لا يزال الترابي مؤثرا ويمسك بالكثير من اسرار السلطة، وصرح من قبل عن محاولة أديس ابابا وقال ايضا إنه يستطيع ان يحل مشكلة دارفور في ساعات معدودات؟
    - جوبهت الانقاذ بتحديات اكبر من هجمات الترابي عليها وتجاوزتها جميعاً، وحسن الترابي يحب أن يتحدث عن قدرته على اطفاء حريق دار فور وينكر أي دور له في إذكاء لهيبه!
    *وكيف تنظرلاطروحاته الجديدة فيما يتعلق بجوازإمامة المرأة لصلاة الرجال؟
    - هذه الاطروحات لم يفصح عنها الترابي بشكل علني من قبل. وربما كانت في الجزء المسكوت عنه من أفكاره، وافصاحه عنها الآن وتناديه به ربما كانت له علاقة بوضعه السياسي الحالي، وربما أفصح عنها الآن في سياق محاولته لمغازلة الغرب المدبر عنه. وهذه الأطروحات الشاذة وغيرها مما يصرح به الترابي الفينة بعد الفينة كفيل بتحويل ما يسمى بالمؤتمر الشعبي إلى نِحْلة جدلية نظرية مشغولة بمسائل غير واقعية. وكل ما أخشاه هوأن يتحول تنظيم المؤتمر الشعبي إلى تنظيم مغلق كتنظيمات الرافضة والقرامطة والجمهوريين.
    *ولكن هناك ( مادة مسوغة) يمكن أن تهضم في أطروحات الترابي الجديدة؟
    - له المتسع من المحاولة في فروع الفقه ويمكن أن يكون مجدداً مجيداً في الفقه السياسي والدستوري منه بوجه خاص، وفي ماضيه قال الكثير النافع المجدي في هذين المجالين، وإذا تفرغ لتفصيل أطروحاته في مجال النظرية السياسية لكان ذلك أجدى من ممارسته للعراك السياسي وهو قد ناف على السبعين من العمر. وكتابه الكبير الذي صدر مؤخرا مجرد تجميع لأقواله النظرية الأصولية السابقة وليس فيه التفصيل الأكاديمي المنشود. والترابي اذا تفرغ لانتاج أعمال علمية وفقهية مفصلة فهو أكثر من مؤهل لأداء هذا الدور. ولكنه أُغرم بأصول الفقه وادراج كل شيئ تفصيلي أو جزئي فيها. وذلك مع أنه في المجال العملي التطبيقي تكون الفروع والجزئيات أهم من الأصول. وأخيراً آثر أن ينتقل إلى الحديث في العقيدة ليأتي فيها بالشطط الذي لا تحتمله.
    *هل هذا يعني أنك لا توافق فتاويه الاخيرة التي تتطرق لمسائل في العقيدة؟
    - قطعا إنني غير موافق عليها وهذه الفتاوى ليست مفيدة ولا مطلوبة، ومسائل العقيدة لا تطرح للاجتهاد بلْه الجدل العقيم الذي غايته الإثارة وإغاظة الخصوم ومخالفة الجمهور.
    *ولكنه سماها اجتهادات؟
    - هي ليست اجتهادات. وهذه الأطروحات موجودة كلها في كتب السابقين، قالها أناس قبله كثر ولم يتفرد هو بها. قلب كتب الشهرستاني وابن حزم والبغدادي تجد أنهم رصدوها لقادة الفرق الضالة وأوسعوها رداً تفنيدياً حاسماً. وعموما لا اريد الخوض في هذا الأمر ولا أبغي الجدل في مسائل الاعتقاد.
    * إذن دكتور محمد ، بعد هذه السنين هل تعتقد أن الترابي سيظل مفكرا أكثر منه سياسيا؟
    - هو اصلا مفكرسياسي عظيم، ثاقب النظر، لكن لا ادري ما الذي حدث له.
    *وهل هو سياسي بذات مستوى رؤيتك حول فكره؟
    نعم. هو سياسي عظيم ايضاً .
    *ولكن كيف حدث له ما حدث؟
    - لا أدري. ولكنه اغتر بانتصاراته العديدة على خصومه، وظن أنه منتصر أبداً، وغامر مغامرة فادحة باعتماده على بعض أنصاره ممن لم يكن يجدر به أن يعتمد عليهم، واستهان بقوة بعض أنصاره ممن لم يكن يحسن به أن يستهين بهم. وفقد جزءاً كبيراً من مصادر قوته وعظمته ومجده .. وعندما يكون الإنسان عظيماً أو قوياً ويفقد قوته..." ياخي خلينا نخرج عن الموضوع دة ..."
    *حسناً، أين موقفكم من الصراع السوداني ويلاحظ إنكم تمارسون صمتا حيال هذا الأمر؟
    - أنا بصراحة كما قلت لك في بداية هذا اللقاء لست جزءاً من العمل التنفيذي أوالعمل الشوري الإسلامي.ولا يشاورني احد ولا يطلب مني احد أن انفذ شيئا، ولذلك فإن الكلام الذي اقوله ليس له تأثير عملي على الأمور. إنني لا أوالي ولا أعادي إلا في الله. وأؤدي العمل الثقافي الذي اراه نافعا دون أن يشغلني عنه الصراع السياسي الكثير في أوساط الإسلاميين.
    *لكن ربما تكون وجهة نظرك أفيد حول هذا الصراع بطريقة ما؟
    - إذا قلتها - أي وجهة نظري - فإنها تتم في إطار علمي وليس في اطار الجدل السياسي الدائر.
    *ولكن هناك إسلاميون ينتقدون الواقع المتصل بتنظيمهم؟
    - كل إنسان مؤهل في جانب معين يستطيع أن يعمل في إطاره. وهؤلاء كلهم اقرب مني لما يجري في الواقع.
    *دكتور محمد بوصفك أحد المتبنين للثقافة الاسلامية ـ العربية يقول البعض بأن هناك هيمنة أثنية على القوميات الاخرى في السودان وإن هناك محاولات فرض للغة العربية على غير العرب؟
    - نعم الهيمنة موجودة، ولكنها ليست عرقية وإنما ثقافية، وهي تتم برضا الإثنيات الاخرى، إن المقصود من هذا السؤال هو هيمنة الثقافة العربية الإسلامية، وهذا واقع موجود مشاهد لا ينكر، وهويتم بنجاح لأن كل إثنية في السودان تحاول أن تتكلم اللغة العربية لانها اللغة المتفوقة بامتياز، ولأنها اللغة الأعظم والأفضل بلا خلاف، ولأنها لغة التعليم، ولأنها لغة شريفة محايدة وغيرعنصرية، وتمنح الجنسية العربية والهوية العربية لمن يتحدث بها، هذا ما قاله سيد العرب - وسيد العجم كذلك! - محمد صلى الله عليه وسلم. وهذه اللغة متفوقة من حيث حمولتها العظمى من التراث والعلم، ومن حيث عدد الذين يتكلمون بها، حيث يتكلمها أكثر من ثلاثمائة مليون انسان، وهي اللغة الرسمية لاكثر من عشرين دولة0 وبهذه الوضعية المتألقة فطبيعي ان تكون اللغة العربية لغة مهيمنة اكثر من اللهجات الهامشية السودانية ( التي نحترمها بالطبع مع ذلك، فاللغات واللهجات هي من بعض أعظم معجزات الخلق كما جاء في القرآن الكريم). إن اللهجات المحلية كلهجات الدناقلة والمحس والفور والحلفاويين وغير ذلك من لهجات أهلنا الكرام في نواحي السودان المختلفة، لا تقوى على منافسة اللغة العربية التي وسعت آي التنزيل، ومن ثم أقبل أهلوها على تعلم اللغة العربية برضا واختيار. ومن الأخبار السارة التي سمعتها مؤخراً ان أهلينا ومواطنينا الجنوبيين الكرام الذين يعيشون بأنحاء العاصمة غدوا يتكلمون العربية بأفضل مما يتكلمها الشماليون في خارج العاصمة. (وهؤلاء الإخوة والأبناء الجنوبيون يتكلمون العربية قطعاً بأفضل مما يتكلمها أبنائي الأربعة الذين وصلوا حديثاً إلى السودان، فهم أكثرعروبة بالتالي منهم!) . إن هذا الواقع الذي لا يماري أحد في حقائقه يطرح هذا السؤال: ترى هل فرض أحد على هذه الأقوام السودانية أن تتعلم لغة الضاد أم أنها أقبلت على تعلمها اختيارا لا اضطراراً؟! والإجابة العلمية المحايدة تقول إن هؤلاء الناس تعلموا العربية لانهم أحبوها. وأن ذلك هو السبب في إنتشار اللغة العربية في السودان وفي غيره من أصقاع الرقعة الجغرافية للعالم الإسلامي وما تاخمه. فالاقباط مثلا يقيمون قداسهم الديني باللغة العربية ويتحدثون العربية في حياتهم اليومية ولا يتضجرون ولا يشتكون من أن اللغة العربية قد هيمنت على حياتهم كما يتضجر ويتشكى من ذلك بعض مثقفينا ( النخبويين!)!! وهؤلاء المثقفون لا يقدمون لنا بديلاً عملياً عن لغة الضاد، ولو من اللهجات القديمة التي يتظاهرون بالحرص عليها والعمل على حمايتها، والغريب أنهم هم أنفسهم لا يتكلمون بهذه اللهجات ولا يدرسونها. إن واقع الحال يقول إن هذه اللهجات في طور اندثار. فأهلها قد اهملوها وكأنما تواطأوا على قتلها استغناء بلغة الإسلام.
    *كأنك تختلف مع أصحاب الطرح المتردد عن مشكلة الهوية في السودان؟
    - لا توجد أزمة هوية في السودان. وهذه مجرد شقشقة لمثقفين متبطلين يريدون أن يجروا الناس للحديث عن هذه الأباطيل وتوهم وجودها والشعور بمعاناة معينة منها، وهذه وذلك محض أوهام واختلاقات. والشعب السوداني لا يعاني ضياعاً ولاتمزقاً ولا مشاكل في الهوية، وهو شعب منسجم إلى حد بعيد. وإذا رأيت السودانيين في أي مكان في العالم تراهم منسجمين مع بعضهم البعض، بغض النظر عن قبائلهم والإثنيات التي انحدروا منها. وهكذا فإذا وضعت الأمر على مستوى الواقع لا ترى ثمة مشكلة تذكر. وأما إذا نقلته إلى مستوى النقاش النظري فهنا يختلق المثقفون(إياهم!) ما يهوون من الأوهام. وبجانب هؤلاء هناك جهات مستأجرة، وهم دكاترة في بعض الجامعات السويدية والإفريقية يعقدون المؤتمرات المشبوهة حول التعددية الإثنية وخطورة الوضع الإثني في السودان ويجعلون من ذلك ستاراً لأغراض أخرى تتعلق بمحاربة الإسلام في السودان، فهم أعداء الإسلام بالأصالة والعروبة بالتبعية.
    *هذا الأمر يقودنا إلى مشروع التعريب الذي طبق في الجامعات السودانية، فماذا تقول في هذه التجربة؟
    - التجربة ممتازة . هذه اروع تجارب الانقاذ، فأنا متحمس جدا لثورة التعليم العالي ، وأعتقد إنها أتاحت فرص التعليم لاكبر عدد ممكن من الطلاب. وهؤلاء ما كان يمكن لهم أن يتعلموا تعليماً جامعياً على الاطلاق لا في السودان ولا في خارجه، فزاد عدد الطلاب عشرات المرات، والآن يوجد في أي أسرة سودانية طالب جامعي أو أكثر، ويحدثك الآباء والأمهات عن أبنائهم وبناتهم بالجامعات بفخر وتشعر معهم بالفخر. وهذا كله لم يكن متاحاً بالماضي. اما بالنسبة للاخفاقات والنواقص فهذا شئ طبيعي ولا يتوقع الانسان ان تكون هناك ثورة ضخمة في التعليم وارتفاع هائل في عدد الطلاب ويكون هناك في ذات الوقت تحسن في الجودة.لا بد ان نزيد عدد الطلاب المتعلمين في الأول وعلى المدى البعيد نناضل لتحسين النوعية ونجتهد في ذلك ولا نشتكي. فالشكوى لا تحل مشكلة. ولا يمكن ان يكون هناك توسع في التعليم بدون تعريب، ولايمكن ان تزيد عدد الطلاب بهذا الحجم وندرسهم بالانجليزية. فالناس لايمكن ان يتكلموا اللغة الانجليزية كلهم. في الماضي كانت هنالك نخبة صغيرة في جامعة الخرطوم تتعلم بالانجليزية وتتكلمها بصعوبة. والآن لا لزوم لتعليم الطلاب بلسان أعجمي.
    *حتى الطب..؟
    - نعم حتى الطب، فالطب يمكن تعلمه بالعربية، مثل ما أمكن تعليمه باللغات الشرق- أوروبية الصغيرة. وبعد أن يتعلم أبناؤنا الطب بالعربية، يمكن ان يتعلموا الانجليزية لكي يتزودوا من مراجع اخرى، ولكيما يفهموا ما يقال في المؤتمرات العلمية، ويمكن ان تقام دورات تقوية وتجويد لهذا الغرض. وقد شاهدت هنا في امريكا أن من أشهر الاطباء السوريين وهؤلاء درسوا الطب باللغة العربية وقادهم ذلك للتمكن في الطب، لانهم درسوه باللغة التي يجيدونها وبذلك استوعبوا اكبر قدر من المعلومات وبأعمق ما يكون. وعندما أتوا لامريكا وبريطانيا تعلموا اللغة التي يتعاملون بها في هذه البلدان ولم يجدوا صعوبة في المواءمة، ونقل محصول العلم الذي تحصلوا عليه سابقا إلى اللغة الجديدة.
    * ماذا تقول عن منبر الشمال يا دكتور؟
    ليس لدي معلومات كافية عنه. لكن إذا اردت رأيي الشخصي فأنا لا أنسجم مع الفكرة الانفصالية سواء جاءت من الجنوبيين او الشماليين، فقدرنا هو أن نعيش مع بعضنا البعض وأن يساند بعضنا بعضاً وأن نحل مشاكلنا بطريق سلمي نراعي فيه مشاعر الأخوة ونراعى فيه كرامة الكل وحق الوطن.
    *لكن ألا تحس من دعاية منبر الشمال أن قيادته قد يئست تماماً من امكانات الوحدة؟
    - لا أعتقد أن الانفصال هو الرأي الذي يسود. حتى إذا ساد أعتقد أن ذلك من حق الجنوبيين ان يقرروا الانفصال ويأخذوا الفرصة لكي يقوموا تجربتهم بأنفسهم. فإذا كان الانفصال مجديا بالنسبة لهم فليستمروا فيه. وإذا ارادوا العودة لاحضان الوطن فلهم حق العودة.
    *ولماذا لم يكن هذا الرأي منذ زمن يطول؟
    - إذا لم يحدث ذلك (من بدري) دعه يحدث الآن.
    *وما هي الاسباب التي لم تسمح بحدوثه في السابق و تسمح بحدوثه الآن؟
    - الخطأ وارد دائما في الماضي أو في الحاضر. وإذا حدث خطأ في الماضي فالمهم ألا نسمح بتكراره في الحاضر أو المستقبل، وألا نعطيه الشرعية، ولا نقول إنه ليس بخطأ. ولا ينبغي بعد ذلك أن نجلس ونحاسب الناس الذين ارتكبوه وهم قد مضوا إلى امر الله.
    *لكن الحركة الاسلامية أعلنت على ضوء ثوابتها الجهاد من قبل على (المتمردين) والآن أعطتهم حقوقهم..وبعد موت الكثير من شبابها وشباب السودان؟
    - ما هو الخطأ في الجهاد؟! الجهاد ليس خطأ، فبالجهاد تحمى الأوطان، ولولا أن جاهد المسلمون لكانوا قد اندثروا من قديم. والجهاد هو أنبل ممارسة لحماية الحرية والوحدة وصد المؤامرات، إن البعض يريد أن يصور الجهاد على أنه ارهاب، ولكن الجهاد الحقيقي لا علاقة له بالإرهاب. وشباب الحركة الإسلامية وشباب السودان الذين ماتوا هم الذين هيأوا المناخ الصالح لإجراء المفاوضات والصلح.
    *لماذا كل هذا؟
    - ربما لأننا لم نحتكم منذ البداية إلى العقل. ولأنه كانت هناك أصابع أجنبية كانت تريد إزهاق أرواح الطرفين.
    *لكن الاصابع الاجنبية ( دي) يا دكتور موجودة في أي صراع؟
    - كانت بارزة جدا في الصراع الجنوبي ـ الشمالي.
    *ولماذا لم نصل معهم لسلام منذ ذلك الحين ؟
    - إن الحركة الجنوبية كانت رافضة بتعنت وتنطع للحوار، أي حوار. وذلك منذ عهد الصادق المهدي وأيام الجزولي دفع الله . فالخطأ الأكبر في هذه الناحية أتى من ناحيتهم.
    *هل أنت من المبشرين الآن بالوحدة؟
    - نعم.
    *هل هناك ما يبشر أن الوحدة ممكنة؟
    - إذا أرحنا أعصابنا من التوتر وألجمنا ألسنة المهيجين وشرعنا نفكر تفكيراً هادئاً لوجدنا كل شئ يبشر بالوحدة والسلام.
    *دعنا نتحدث على مستوى عالمي الآن، وهو مستوى صراع الحضارات، ماذا تقول في أطروحة هنتنجتون حول هذا الموضوع؟
    - هذا القول له صلة بما كنا فيه. ويزعم هنتنجتون أن الصراع الحضاري العالمي انطلق من السودان. وبالتحديد من جنوب السودان. والذي يعيد مطالعة مقالته المشؤومة التي نشرت بمجلة (الشؤون الخارجية) في صيف 1993م، بعنوان( صراع الحضارات؟) يلاحظ أنه ذكر أن صراع الحضارات قد استعر بالفعل، وأن شرارته الأولى جاءت من حرب جنوب السودان. وغرض الأطروحة برمتها التهيئة لصراع عالمي يحمي هوية الغرب التي أخذت تهترئ. ويخطئ المسلمون وأصحاب الحضارات السبع الأخرى التي عددها لو استجابوا لدعوة هنتنجتون لصراع غيرمتكافئ مع الغرب.


    نقلا عن الصحافة
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de