حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-11-2024, 07:57 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة أحمد الملك(ahmad almalik)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
10-28-2003, 10:56 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 753

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري

    نشرت صحيفة الخرطوم التي صدرت اليوم حوارا كنا اجريناه مع الاستاذ الحسن بكري، لاضاءة بعض جوانب تجربته الابداعية الغنية، ويجدر بالذكر ان الحوار كان قد تم قبل فوز الاستاذ الحسن بكري بجائزة الطيب صالح للاعمال الروائية، وننشر هنا نص الحوار :


    1. نود ان تحدثنا عن البدايات، كيف تسني لك اكتشاف الروائي في دواخلك، هل كانت البداية صعبة، ولماذا لم نرى لك قصصا قصيرة ، هل تركز كل مجهودك الفني في كتابة الرواية ؟

    لا أدري كيف حدث هذا الاكتشاف بالضبط، لكنني أعلم أنني كنت أتوق لسرد وقائع اعتقدت أنها مشوقة. يمتلك الناس الذين نشأت بينهم قدرة عالية على رواية الأحاديث والأنس وإنشاد الشعر والتغني به. من ناحيتي، فقد كنت مستمعاً جيدا فقط، كنت محتشداً بالقصص والنوادر لكنني لم أكن أتجاسر على التمشدق بها بصوت مرتفع. أتذكر جدتي لوالدي وسيل أحاجيها عن المردة والسحرة كما أتذكر عمتي التي تستطيع سرد القصص وارتجالها وتلاوة الأشعار وتأليفها دون انقطاع لساعات متصلة أما والدي نفسه فسيل أحاديثه ما كان يكاد ينتهي إلا ليبدأ من جديد. لذلك فقد علمت منذ وقت مبكر جداً أنني إذا أردت أن أجتذب أي محتفين بقصصي فعليً كتابتها. لا يمكن لأحد أن يستحوذ على الجاذبية التي حازتها تلك العمة، فهي حكاءة وشاعرة ومغنية وماهرة جداً في الإضحاك وإلقاء الملح والطرائف. إذا أردت التميز إذن، فعليك استخدام أساليب لا يجيدها أولئك الناس، لكنك تستطيع فوق ذلك استخدام الأدوات نفسها التي يستخدمونها وربما الوقائع ذاتها التي يسردونها دون أن يلاحظوا أنك تكرر جهودهم طالما أنهم قوم لا يحذقون القراءة والكتابة!
    طبعاً كانت البداية صعبة. كيف لا تكون كتابة رواية عملاً صعبا؟ أليست هذه هي نفسها وسيلة جرير إلى الاستحواذ على ساحة الشعر دون منافسين حين يقدم النصح لهم بألا يجربوا تأليفه لصعوبة صناعته! مهما يكن من أمر، فإن أي عمل إبداعي يحتاج إلى كثير من الصبر والتفرغ. أثناء هذا اللهاث المبرح في مشارق الأرض ومغاربها من أجل كسب العيش، لا يتبقى لنا وقت كبير للكتابة، لذا فالأفضل أن نرمي بأنفسي مباشرة في محيط عمل كبير حتى نتمكن من السباحة لأطول وقت ممكن من أجل نجاتنا دون المرور على كتابات أخرى من أي نوع.



    2. أنت بصفة عامة تستلهم التاريخ في كتاباتك، هل نقول انك ترمي لاضاءة مراحل هامة في تاريخ بلادنا وضعت فيها بذرة الواقع الذي نعيشه الآن بكل تفاصيله أم انك ترمي لاسقاطه مباشرة علي هذا الحاضر ؟.


    لا أرمي إلي استلهام التاريخ فقط، بل أحاول إعادة صياغته، تماماً كما يحاول البعض إعادة صياغة الحاضر، دون تحقيق نجاحات من أي نوع، كما ترى. أحياناً أتصور أن المؤرخين يهدفون في كثير من الأحوال إلى إعتام التاريخ لا إلى إضاءته لذا تأتي نصوصهم حبلى بالتهافت السياسي والآيديولجي. للأسف أنا لا أحاول تجنب أخطاءهم بقدر ما أحاول تكرارها. إنني اختلق الأحداث دون ابتذال كما أسرب الآيديلوجيات دون هتاف من خلال الترويج لقيم تتعلق بالحرية والانعتاق، حرية اللغة في اصطناع المواقف وترميم الأحداث وجلب المتعة، وانعتاق الكاتب من كل قيد سوى ذلك المتعلق بشروط إنشاء النصوص كأدوات للتواصل الحميم بين المرسل والمتلقي.
    ثم أن الماضي نفسه يكتظ بالأحداث التي لا يدعي، غالباً، أحد سدانتها ولا تمتلك حصانة مطلقة تختص بقيم الحق والحقيقة والمصالح، كما هو الحال مع الحاضر مثلاً. يمكن إذن ترطيب وتطويع وقائع الماضي وتقليبها بالشكل الذي يناسب حاجات النص الذي نؤسسه. ثم أن التاريخ يبعث فينا فيوضا من الحنين والإشراق نتجاوز بها فظاظة حاضرنا وواقعيته المقيتة. باختراع التلفزيون وهذا البث الذي لا ينقطع من الصور فقد الواقع رومانسيته تماماً وما عدنا نشهد فقط الأحداث بسلطتها الآنية المرتبطة بمصيرنا ومصير أقوامنا بل أمسينا نشهد الحياة كلها في تبدلها المستمر على مدار الثانية، فلا الوجود يقود إلى الدهشة ولا الموت يؤدي إلى التراجيديا. إنه عصر ابتذال الواقع وإفناء روحه. على أيامنا هذه، لم يعد مجديًا على الإطلاق كتابة القصة على طريقة بلزاك أو ديكنز أو حتى نجيب محفوظ - باستثناء أعماله المتأخرة التي شهدت تبدل أحوال صنعة السرد.



    تقول إن التاريخ يبعث فينا فيوضا من الحنين والاشراق نتجاوز بها فظاظة حاضرنا. هل يعني ذلك هروبا من واقعنا المرير ولماذا لا نستلهم الحاضر نفسه بكل مراراته، مثلما تفعل الرواية الاوروبية الحديثة ام ان المقارنة غير واقعية كوننا نواجه واقعا مختلفا لم نتمثل تجارب ماضيه؟ .


    قلت أن الواقع فقد قيمته كفضاء يناسب التخييل. في عصرنا هذا الأحداث، كلها مكشوفة ومضاءة، إذ قضت الفوتوغرافيا الثابتة والمتحركة على نضار الاكتشاف وجمال الافتضاح. لذا ما عاد بوسعنا الحصول على سرد خلاب باستلهام الواقع. كيف يمكن لنا ذلك بينما انتقل التلفزيون بمشاهد الحرب إلي غرف النوم تماماً مثل ما انتقل بمشاهد العشرة الحميمة حية إلى تلك الغرف؟ طبعاً، يمكن استلهام الواقع بأدوات جديدة تصفه بشكل يدمره ثم يعيد بناءه، تماماً كما هو الحال، في "الخريف يأتي مع صفاء"، يا أحمد. حيث لم يبق الواقع ساحرا إلا لأنه فقد واقعيته الفظة، المباشرة. روايتي الأخيرة "أحوال المحارب القديم" لا تتوسل التاريخ ولا الحاضر. إنها تحاول استجلاء أزمة النخب السودانية التي عاشت وساهمت في واقع الحرب والدكتاتوريات سلباً وإيجاباً منذ الاستقلال حتى الآن، لكن الرواية وهي تفعل ذلك، تهدم الواقع وتعيد تشييده بحيث لا يحمل من سماته الأصلية إلا بعداً حافلاً بالسحر والخلابة.



    كما تقول أنه في عصر ابتذال الواقع وإفناء روحه لا جدوي من الكتابة علي طريقة ديكنز وبلزاك ومحفوظ. ألا يتناقض هذا مع أطروحة البعض بالعودة للحكاية بصورتها التقليدية البسيطة حيث يرونها مناسبة لإيقاع العصر، حيث لا وقت ولا مزاج نفسي مع هيمنة إيقاع جامد وعملي للحياة اليومية، للتوغل في نص يحفل بالتعقيد ويخلو من البساطة والمباشرة.


    أعتقد إن بلزاك وديكنز ومحفوظ سيبقون روائيين عظماء إلى الأبد. لكن إذا كتب أحدهم اليوم رواية على طريقة تولستوي في "الحرب والسلام" فسيبدو مثل جنرال يخوض حرباً عصرية بعتاد القرن التاسع عشر. حكاية بسيطة لا تناسب البتة جمهوراً يعيش هذا الزمان بكل تعقيداته التقنية، حيث غدت قيادة سيارة مثلاً، تقتضي التعامل مع شبكة معقدة من وسائل ضبط المرور واختراق الأمكنة واجتياز المسافات. ما عادت قصص على شاكلة "قام، سافر, تاه" تجتذب حتى جمهور أطفال ما قبل سن المدرسة الذين هجروا إلي غير رجعة الأحاجي والحدوتات إلى أفلام الرسوم المتحركة بحيلها الفنية والسردية الهائلة التي أتاحتها صناعة السينما الحديثة.
    لكن تبقى القواعد الأساسية للسرد التي طورتها أجيال من الروائيين ضرورية لكتابة هذا النوع الأدبي فلن يفلح روائي يعتمد الموهبة فقط. أعتقد أن فهماً عميقاً لتلك القواعد ربما يتطلب الالتحاق بكورسات أكاديمية منظمة في الكتابة الإبداعية أو معرفة علمية متقدمة بالأدب الروائي فالرواية ليست أحداثاً تبدأ وتتصاعد ثم تنتهي. إنها فن له أصول راسخة وتتطلب ممارسته حرفية عالية جداً.



    الشخوص في سمر الفتنة تبدو وكأنها تغرد خارج المألوف، تموت ثم تستعيد ما يشبه حياة موازية، ينزاح عنها الضوء ثم تبرز فجأة من رماد عتمتها؟ .



    ربما لأن بنية الرواية نفسها غير مألوفة. إنها أشبه بسلم متحرك متعرج يعلو، يهبط ثم يعلو من جديد، فتتقدم الأحداث وتتراجع على نحو مطرد. هذا نوع من لاستخدام المكثف لتقنية الretrospection أو الاسترجاع، إن صحت الترجمة. وكذا يتحقق هذا "البيان والخفاء" نتيجة للشراك التي تنصبها أجوبا أو بسبب اللعنة التي تطارد سوبا وتدفع بها نحو مهلكتها المحتومة.



    هنالك في المشهد نوبة وعربان، هل حاولت طرح مسألة الهوية في سمر الفتنة ضمن معالجتك لتلك الأسطورة وهل الصورة التي بدت لنا صحيحة من حيث انها تحمل بعض بذور الصراع المستمر بين الثقافات الموجودة في بلادنا، ام انك تطرح شيئا شبيها بالغابة والصحراء ؟



    تقع الأحداث في الفترة التي تسبق قيام سلطنة الفونج من هنا يأتى الحديث عن العرب والنوبة. كان اهتمامي يتركز في الأسطورة ذاتها، إذ تعلو قيمة السرد لدي عن كل ما عداها. لكن تتداخل أسطورة الخراب الذي حل بمملكة علوة باللعنة التي تطبق على واقع السودان المعاصر. إذ تتوالى خيباتنا بشكل يجعل سقوطنا أشبه بالمصيرالذي لا راد له، تماماً مثلما يحدث في التراجيديا الهيلينية حيث تقع سقطة البطل التراجيدي نتيجة لمزيج من تداخل الهفوة الشخصية ومشيئة الآلهة. في كل الأحوال، ينشئ السرد دائماً ثيماته ويكرس مواضيعه.
    أعتقد أن "الغابة والصحراء" قد قدمت نماذج بديعة من الشعر والنثر لكن تبقى مقولاتها النقدية والفكرية رهينة الواقع الذي أنشأها، إنها في ذمة التاريخ من هذه الناحية.



    قرأت مؤخراً تعليقا للقاص عثمان الحوري يقول فيه انه لم ير رواية سودانية منذ التسعينات وان ما صدر منذ ذلك الوقت هو أشباح لروايات، الهيكل موجود ولكن الدواخل فارغة. هل يصبح مصير روايتنا السودانية كمصير أغنيتنا التي لخص مشكلتها احد العازفين بقوله أننا حين حاولنا تحديثها فقدنا المستمع الافريقي القديم ولم نكسب مستمعا عربيا ؟


    أستاذنا عثمان الحوري قاص مبدع، مافي ذلك شك. لا أدري في أي سياق ورد تعليقه، لكن تعليقات أطلقها قاصون آخرون، يشملون نجيب محفوظ، وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم، تقدم تقييماً مختلفاً تماماً لبعض روائينا ولروايات تسعينية سودانية. هذا لا يعني أنني أخالف أستاذنا الحوري الرأي أو أوافق أساتذتنا الآخرين. لكنني أظن أن أي أحكام بهذا القدر من التعميم والاختزال لا يمكن لها أن تحمل على محمل الجد، خاصة عندما يتعلق الأمر بأعمال روائية عديدة.
    وحتى أكون منصفاً لروائيينا، دون تحديد أسماء، فقد قرأت بضع روايات رائعة ومتماسكة صدرت في التسعينات وبعدها. أقول أن الرواية الآن تكتب بأشكال ومقاربات عديدة حتى لتظنن أحياناً أن كل روائي يشكل تياراً قصصياً منفصلاً. أتصور أننا لفرط طموحنا، نعامل إنتاجنا الأدبي والفني بقسوة بالغة. الطيب صالح نفسه تلقى صفعة سودانية ساخنة عندما حاول نشر "نخلة على الجدول" أول مرة! لأستاذنا الحوري التجلة والاحترام على كل حال.



    ما بين تجربتك الروائية الاولي واخر ما كتبت، "أحوال المحارب القديم"، كيف تري التجربة؟ هل ثمة تطور في التكنيك خاصة انك تقول انك لم تلجأ لاستلهام التاريخ في آخر رواياتك وهل استقرت لديك طقوس خاصة لممارسة الكتابة؟ كيف تقيم نظرة القراء والنقاد لاول رواياتك؟



    أظنني أحقق تقدماً. تنشر روايتك الأولى فتكتشف مزالق كثيرة، تمتد ما بين تعدد الأخطاء المطبعية حتى سوء اختيار الناشر ووسائل تقديم نفسك للقراء والنقاد. بالطبع، يبقى التقييم الحق مسئولية النقاد والدارسين. أعتقد أن القاص سرعان ما يصاب بالملل من الطريقة التي أنجز بها آخر قصصه، على الأقل هذا ما يحدث لي أنا بالذات. لذلك فكل قصة جديدة هي مغامرة من نوع جديد، ربما أستصحب خبراتي السابقة وأحاول شحذ أدواتي وتشذيب تقنياتي، لكن تبقى المحاولة جديدة كل الجدة في كل مرة. "أحوال المحارب القديم" لا تستلهم التاريخ ولكنها لا تبتعد عنه تماماً، فثمة وقائع تنتحي منحى تاريخياً في طريقة وقوعها وهندسة سردها دون أن تنتمي بشكل مؤكد لأي ماضٍٍ معروف.
    لاقت روايتي الأولى استقبالاً حسناً من النقاد الذين تناولوها بالنقد أو أشاروا لها، وبعضهم نفر لم ألتق بهم بشكل مباشر حتى الآن، وأضرب مثلاً بالأساتذة محمد عبد الخالق وأحمد عبد المكرم ومصطفى الصاوي.
    أعتقد أن الكتابة غدت الآن أقل مشقة بالنسبة إليّ مما كانت عليه في السابق، ربما لأنني أصبحت أكثر ثقة بقدراتي وأكبر دراية بمهاراتي. فقط أرجو أن لا يقل حماسنا للكتابة، خاصة ونحن نرى المؤسسات الدولية تدبج تقارير مهينة تتعلق بجدوى القراءة والكتابة في عالمنا العربي، مثلما حدث في تقرير الأمم المتحدة الخاص بالتنمية في العالم العربي. أحاول أن أنفذ برنامجاً منتظماً للكتابة لكن يصطدم مثل هذا المشروع غالباً بالظروف الخاصة بعملي، أظن أن الكاتبة الإبداعية الجادة تقتضى تفرغاً كاملاً.
                  

10-28-2003, 10:58 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 753

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    الفصل السابع من "أحوال المحارب القديم"

    غسلوا ماريا لي، بحسب الفتيات. قالت كاقو أن ماريا نفسها هي من أعطت الغسيل وصفه. فكي هارون أراد أن تستعيد روحها وقعها الموسيقي الأصلي، ذاك الذي ورثته عن جدتها، لنتنا، ثم غسلها وتدشينها وتسميتها لتحمل فوق وقع لنتنا، جل خصائص الجدة وسائر نعوتها.
    روت كاقو التفاصيل يعلو وجهها الحبور. فيما فكي هارون يزعم أنه قد رأي قلوب الفتيات لدي، فإن كاقو تذكر أنهم قد عثروا على قلب ماريا فاقد الاتجاه بسببي:
    "تصور، قلب متكئ بالكامل ناحية اليمين، علامة ميل خطرة جداً، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بهوساوية من جهة الجدة للأب. فقدت دقات قلبها دوزنتها، يا هاجو. عوضاً عن ضربات فتية، مموسقة على إيقاع تل تل – تلل تلل تلل – تتل تتل – تل تلل تتل، كان قلبها يصطفق كيفما اتفق. فكي هارون، جرى دمعه كما لم يجر من قبل. في البدء قال أن فوضى قلبها لها علاقة بمشيئتك وأشواقك، يا هاجو؛ أسفارك المؤجلة، وحكاياتك بهرطقاتها التي لا تنتهي، وحرب التحرير التي ما أن تضع أوزارها حتى تدور رحاها. جراحات الرضية غائرة بسنام القلب، طرفه الأعلى، مثوى الخير. الملازم وحسين الطاهر يتجاذبان الأوامر الهادرة عند القاعدة، سكة الآلام الطويلة.
    أخذنا القلب، طيّبناه بعطور الصندل والمسك الممزوجة بنقيع المحلب المعتّق من نوع "ثلاثمائة عام". قليلاً، قليلاً، صابرين على وجع رؤيتها بتلك الحال، أعدنا ضبط القلب فوازنّا وجيف صماماته وأزلنّا تراكم الثمالات ببطيناته وسلّكنا الأبهرين وتأكّدنا من استقامة الميل وانتظام الوقع. ثم نصب فكي هارون سماعة البرونز المروية عند الحواف وبين التليلات وعلى مدى الانحدارات فألفاه قلباً سليماً، نقياً لكنك كنت هناك، تتأبى أن تزول. فكي هارون، باكياً، قال أنها المرة الأولى التي تتقاطع فيها بركاته بشكل مدمر. هاجو، كنت تجري من قلبها مجرى الدم، تستبدل نقاء بنقاء. وإذا شاءت الإرادة لنا أن نشتبك هكذا بأقدارك فتلك هي علامة فنائنا دون ريب."
    تخرج ماريا وقد أضحت لاري. بدلوا اسمها. ليلة البدر شهدت فكي هارون يخطب بهوساوية القرن السادس عشر. تزيا بقبعة حمراء عالية وجلباب أزرق غامق وانتعل خفي جلد قط زباد. جلس فوق بغلته وخطب:
    "لا ماريا لدينا من الليلة فصاعدا.
    فقط لاري. من لا يصدّق فليسأل السدرة.
    من أصوله نزعناه فؤادها
    جلوناه بالرمال، بهّرناه بملح عوينات وطيّبناه بالجلاد
    نفخنا أنفاس، لنتنا، ونفثنا بركات، دان حياتو
    وحده هاجو منصور ظل عالقاً بروحها
    فإن جاءت باكر تقول:
    ما غسلتموني، أنا ماريا من تدلّهت بهاجو منصور
    فاشهدوا أننا غسلنا وغسلنا
    لكن بقت البنت أسيرة الولد الغريب
    أخذت اسمها لاري
    غدت نقية، أشهدوا
    تطهر قلبها، آمين"
    جاءوها بطبول غير طبول البدر القديمة. طبول أعرق، من سكوتو أيضاً. بدأت ضربها بالصغيرة الرقيقة تلتها بالمتوسطة الدقيقة والمتوسطة الرقيقة وقليلا،ً قليلاً غادرت صوب الكبيرة الداوية. تلك الليلة اختل رقص فتينا. نادتني قبيل انفضاض السمر وجرتني وراء الخلوة. شفتاها مزمومتان، متحديتان وعيناها، براقاتان، متوثبتان. قالت:
    - أنا من وهبتك الحياة.
    هززت رأسي مسلّماً:
    - آه. صحيح.
    سألت:
    - هل سمعت ما قال فكي هارون؟
    سمعته كما لم يسمعه قومها. أنا من تعلمت الهوسا كما لم يتعلمها منهم أحد.
    - أجل، قد سمعت.
    مدّت يدها إلي خصرها فاستلت مدية من غمدها. قفزت متراجعاً. قالت:
    - لا تقفز. لا تفزع.
    عرّت صدرها من جهة القلب ووخزت بالسكين. رأيت دمها يبرق إذ يستقبل ضوء القمر. قالت تنهنه:
    - تعال. شم، شم. لا تخف.
    قربت أنفي من صدرها وألصقته بدمها وكرفت بعمق. كانت رائحتي، أنا هاجو ود منصور العنجي، تفوح من دمها المتدفق. مسحت أنفي فجففته ثم ابتعدت عدة أذرع منها فألفيت رائحتي تنهمر فائحة كما تفوح رائحة النحاس من أفعوان.

    **

    ظهيرة يوم النهر فكي هارون رأى غير ما رأيت. قال أن الرضية والملازم كانا يسبحان عكس اتجاه التيار. وقال أنهما كانا بالفعل عاريين لكن الحب لم يكن يخطر لهما على بال. يشتد خلافنا حول حقيقة ما جرى فيجادل فكي هارون بفصاحة وجبروت. الفتيات ناصرن رؤياي بادئ ذي بدء بل أن فتينا سردت أحداث النهر بتفاصيل تزيد دقة عن تفاصيل أقصوصتي. روت أن الملازم والرضية قصدا النهر في موسم تكاثر أسماك البلطي مما جعل محبتهما المائية أكثر سلاسة، إذ انسابا أسفل النهر تحيطهما أسراب السمك المنهمكة في مغازلاتها، ذكورها تصب سوائل اللقاح وإناثها تعرض بيوضها، على امتداد النهر. ذكرت فتينا أن شذا الحب النفاذ جعل روائح الطمي والأشجار تبدو خفيفة، واهنة.
    لأيام متتالية عديدة يتجنب فكي هارون محادثتي فتكلمني كاقو بإسهاب عن اعتقاده الذي لا يتزلزل في تفوق قدراته الروحية وعن ثقته المفرطة في مهاراته كأفضل من يبصر الخفايا التي تضمرها الصدور. في مرحلة لاحقة يزعم فكي هارون أن جواد الملازم خصي الأمر الذي لم أجد له تبريراً لديّ. قلت:
    - الجواد ليس خصياً.
    قال فكي هارون:
    - بل هو كذلك.
    - ألم تره يكرف شهوة فرس الرضية؟
    فتينا ردت:
    - بلى قد فعل.
    قال فكي هارون:
    - لم يفعل.
    أؤكد رأيي:
    - أنا أعرف ذلك الجواد. هو جواد فحل.
    يغضب فكي هارون فيقول:
    - ذاك ليس الجواد الذي تعرف إذن.
    طبقاً لما رويت فالجواد الأصهب كان ذلك النهار مكتظاً بالشهوة، يرفع عنقه في اتجاه الريح، فارجاً شفتيه وموسعاً منخريه يشمشم عبق الحب المنبعث من الرضية والملازم. لاحظت الرضية اشتداد شبق الجواد فأصدرت أصوات إلفة متتابعة تعزيه وهي تدلك صلبه. قالت للجواد:
    - إهدأ، إهدأ. كلها يوم أو يومين وتنتهي المعارك، عندها سيتبقى لنا وقت طويل للحب.
    حمحم الجواد. صهل:
    - يوم أو يومين؟ ستين سنة أخرى على الأقل!
    بعدها كنت أبصر الجواد يواصل شمشمته، فالت الرغبة.
    فتينا كانت غائبة الروح حين جاءت بقول جديد:
    - الجواد خصي بالفعل.
    ما برحت تحدق في الأفق الصعيدي وتستنشق عبير المساء ثم تستطرد أقوالها:
    - جواد بلا ذرة فتوة، هامد الشهوات.
    عادت لفكي هارون ابتساماته العتيقة بإشاراتها المترادفة لتذكرني بأنه سيد المعرفة، من لا تخيب له أخبار ولا تكذب نبوءات. تغيب روح فتينا وتعود:
    - جواد أصهب، أجل، لكن حوافره متثلمة، أرجله سمينة مترهلة، وبطنه لا يناسب جواداً فحلاً البتة. حوض بالغ العرض، وظهر منحني إلي الداخل، جهة الكرش المتدلية. ذيل طويل لكنه متفرق الكثافة، باهت، ينبي عن تاريخ طويل من العزوف الجنسي. أسنان متشققة، متهدمة وصدئة بفعل وجبات لا تنفد من الذرة الفتريتة القديمة، العاولة. حبال صوتية متهتكة لجواد واضح أنه لا يصهل؛ لا شكايات غلمة ولا نداءات شبق ولا أرق هيام.
    سمعت فتينا تتلو أنباءها بحضرة فكي هارون المقهقه سعادة بتأييد رؤيته النهرية المتناقضة. يرى أثر الهزيمة علي عينيّ فيلقي برؤيا قاسية، جديدة:
    - أما الرضية نفسها فهي عذراء!
    أكاد أفقد صوابي. أصيح:
    - الرضية عذراء؟ أنت تهرّف دون شك.
    البنات الثلاث هتفن بصوت واحد:
    - كذّاب! أفّاك!
    قال:
    - أجل عذراء. قوام مشدود وجسد فتي متماسك، مثل كرة تيوة. تلك امرأة ما افتضت.
    تتفقد الفتيات أجسادهن من أسفل وأعلى ومن الأمام والخلف بقلق نساء عذراوات. تنتابني الهواجس فأسأل كاقو:
    - وقصصي يا كاقو؟
    تلتفت كاقو إلي فكي هارون تتساءل:
    - وقصصه؟
    أسأل كاقو:
    - وغرفتي وباب السيال وبرمة؟
    تسأل:
    - وبرمة؟
    - ورحلات الصيد وغيرتي وأشواقي للبايتور؟
    فتينا تهتف سعيدة:
    - لا، لا ما افتضت.
    كنت تلك الأيام أطل من عينيّ ماريا، ألوح بقسماتها وأمتزج بدمائها، لكنها كانت لا تزال ماريا القديمة، عازفة الربابة، صانعة الغناء. هي أيضاً بدت سعيدة بأخبار فكي هارون المتهافتة لكنها ظلت ساكنة تدوزن ربابتها، تشد أوتارها إن نظرت إليّ وترخيها إن أشاحت عني. يقول فكي هارون:
    - الخريف القادم سيأتي بالمعارك الأكثر هولاً منذ اشتعال الحرب. سيطحن القتال الصعيد كما لم يفعل لستين حولاً.
    أسأل، ولا أزال في خيبتي وكدري:
    - وسفري يا فكي هارون؟
    - ستسافر هاجو، ستسافر.
    - ومعاركي وغزواتي ومديتي، مدية دان حياتو؟
    - ستعارك وتغزو.
    يمد رجله ثم يتناول لوحاً وقلماً ودواة. يسوّد فكي هارون ألواح عديدة وتظل أقوال تتناقض مع أقوالي طيلة نهارات الصيف برمضائها الملتهبة. كاقو تستمع إليّ رغم كتابات فكي هارون المحمومة. وفي انتظار رضائه عني لا أملك إلا أن أشرّق وأغرّب أتذكر مغامرات اللبايتور الحميمة أو أحلّق أقتفي آثار الرضية وهي تضرب في الآفاق تحمل البريد للجبهات العسكرية المتناثرة.

    **

    أمسى صعباً إقناع كاقو بالاستمرار في الاستماع إلي حكايات اللبايتور بعد مزاعم فكي هارون التي تركت أثراً مروعاً علي تماسك روايتي. حاولت كاقو مرة أو مرتين مجاملتي والتظاهر بالانتباه لأحاديثي عن الرضية والملازم لكنها لاحقاً أضحت تسرح بخيالها أو تكافح نوبات ثؤباء متصلة أو تتشاغل بالنظر إلي أعنابها النضيرة المتدحرجة في نمو هائج صوب السفوح. سأستسلم إلي حين وأقترح إنشاء مزرعة للنعام مما سيعود علي بسيل متدفق من الأحاديث والأساطير التي ربما تحقق أحلامي في السفر أو، علي الأقل، تزيديني قرباً من الفتيات.
    قلت لكاقو نستطيع إقامة مزرعة نعام على قرار مزرعة حسين الطاهر التي أقامها قبل أن تودي الحروب بخططه التجارية المسالمة. شرعت في سرد وقائع من سيرة حسين الطاهر المبكرة:
    "عاش حسين الطاهر طفولة عادية؛ لعب بدمى الصلصال وهجرها للاستغماية وشليل ثم تعلم التيوة؛ صفق الكرة بالقرجة أو رميها باتجاه الصافق أو العدو بسرعة عِجل يافع." لاحظت أن كاقو لا تولي اهتماماً بما وقع لحسين الطاهر بقدر اهتمامها بما وقع للتيوة فغيرت خطة سردي. أدرك مشقة الحديث باسهاب عن النعام والمزارع دون الحصول على خيط ما يصلها بذكرياتي باللبايتور فأحاول ما وسعتني الحيلة استعادة أمجاد الرضية.
    سأبدأ حديثي عن مشروع إنشاء المزرعة بطرفة يكون غرضها تيسير المغامرة بتحويلها إلي مهزلة وفي نفس الوقت استدرار عطف كاقو تجاه أقوامي بعد أقاصيص فكي هارون المدمرة. "جلب حسين الطاهر فرخ نعام واحد من دار فور. كان الفرخ صغيراً وجميلاً، ذا عينين أهدابهما طويلة؛ ذاك هو أول طائر برموش يؤتي به للبايتور فلا عجب إذن أن قدم أعراب من كافة بقاع البطانة لرؤية فرخ النعام. كلاب كثيرة أيضاً جاءت لمشاهدة الوحش الصغير الجميل.
    بعض شعراء البطانة ممن ظنوا أن الفرخ أنثى نظموا أشعارًا تغزلوا فيها به أو شبهوه بمحبوباتهم. أما الكلاب فقد كان الأمر مختلفاً معها. بعضها انتهز فرصة وجود كلاب كثيرة فبدأ بشن ملاسنات حادة تحولت في بعض الأحوال إلي مناوشات سريعة ثم تطورت إلى معارك محتدمة. جد برمة الكبير، بارود، في غمرة الفوضى استطاع اختطاف الفرخ والركض به مما أدى إلي تدفق صياح بشري عالٍٍ مصحوب بنباح هائج وثغاء متواصل وصياح ديوك ونهيق؛ بالجملة شرعت كافة الحيوانات في اختلاق ضجيج فظيع بلغ مداه عنان السماوات وقد تم تخليص الفرخ المسكين من أنياب الكلب بارود بعد جهد جهيد.
    لم ينس الفرخ ما جرى له من مرمطة بين أنياب الكلب. إزداد حجم الظليم على نحو سريع وما أن بلغ عمره سنة حتى أصبح عملاقا ليس له من شاغل إلا مطاردة بارود على مدار الساعة بكل النواحي وفي كافة الأزقة إلى أن تمكن منه ذات مره ففقأ عينيه وكسر فخذه ليقضي الكلب بقية عمره أعرجاً، كفيفاً. سيورث بارود لعنته أجيالاً من الجراء التي ستولد بعد التحرير، يا كاقو.
    سعد الظليم بإنجازه لبعض الوقت فقط، إذ سرعان ما لاحظت الرضية آلام الوحدة التي أمست تعصف به بعد نهاية عهد مطارداته للكلب بارود فاستعطفت حسين الطاهر بإلحاح لجلب نعامة من أجله:
    - لابد للظليم من نعامة، لابد.
    - نعامة تزوزيك، يا بنت الكلب! مالك أنت وهذه الأمور؟
    - نعامة طويلة، رشيقة من أجله يا شيخ حسين. وحياتي عندك يا شيخ حسين، نعامة، نعامة، نعامة.
    - لكن قولي، نعامة من أين، من أين نأتي بنعامتك اللعينة؟
    - من أين؟ من دار فور، من دار شلك، دار حامد . ليس مهمًا من أين. نعامة وكان الله يحب المحسنين.
    تعيي الرجل الحيلة، فكل يوم ولا حديث للرضية غير النعامة. تصوم أحياناً عن الأكل إذا لم تحصل على وعد بجلب نعامة للظليم المكتئب المسكين. يبعث حسين الطاهر من يجلب النعامة وفور وصولها يشرع الظليم في ملاحقات على شاكلة مطاردات بارود لكنه ما أن يظفر بالنعامة حتى يكتشف الفرق بين الحب والحرب. في بضع سنوات ينجب زوج النعام عشرات الفراخ ويؤسس حسين الطاهر مزرعة النعام التي عصفت بها حرب التحرير فيما بعد."

    **

    في انتظار استعادة الفتيات حماسهن لأساطير اللبايتور، سأقص على كاقو وقائع أسفاري المؤجلة وسأسرد تفاصيل بطولاتي المؤودة. أثناء كل ذلك ستغدو توسلاتي لفكي هارون بخصوص رحيلي أكثر إلحاحا وتواتراً. من ناحيته سيبدو فكي هارون أقل اهتماماً بمصيري فيرد علي تحياتي بشكل مقتضب ويردف ردوده بعبارة ثابتة مكررة: ليس بعد، يا هاجو، ليس بعد.
    تزدهر مزرعة النعام عند سفح جبال موية فنمتلك قطيعا يزيد على الألف نعامة. اشترينا جوادا وثلاث أفراس عربية أصيلة من احد أعراب المعاليا وبدأت تدريب الفتيات على فنون الفروسية بينما سعيت إلى رفع لياقتي البدنية استعدادا للانضمام إلي كتيبة اللبايتور حالما أكمل أسفاري بالصعيد الشرقي، جهات باو والرصيرص والكرمك.
    أقضي ساعات متصلة في شحذ مديتي، مدية دان حياتو، وأصقلها وأرمم سيور غمدها، وأقوم بتدريبات شاقة على فنون القتال بالأسلحة البيضاء. فمثلا سأخرج على صهوة جوادي العربي وأقصد دغل السدر حيث يجري فكي هارون طقوس شق وغسل الصدور وأقوم بمبارزة أشجار السدر الباسقة، ذات الأشواك المسننة، المنحنية على شكل صنارات.
    - فارس تركي ملثم؟
    أتساءل راعداً، شارعاً في أحدث مبارزاتي.
    بحسامي أطعن، مجرباً الحيل الحربية الكثيرة التي أتقنتها على عهد إقامتي باللبايتور أو تلك التي تدربت عليها بجبال موية. أتراجع ثانياً كوعي إلي الخلف ثم أدفع الحسام إلي الأمام بسطوة ومكر فارداً ذراعي حتى النهاية. أكرر الطعن وأتبعه بضربات رأسية صاعقة من أعلى إلى أسفل، من أسفل إلى أعلى، من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار. أكر وأفر، في مبارزة سريعة، متصلة، منتظمة، واقفاً على صهوة جوادي طوراً وجالساً طوراً. أهبط من الفرس خفيفاً ثم أقفز فأعتليه برشاقة صقر، وأثناء كل ذلك يتطاير الفارس التركي الملثم بزيه العسكري الأخضر أشلاء فأزعق زعيق المنتصرين وأقهقه قهقهة الفائزين، جباراً، عزيمتي لا تلين.
    أربط أغصان السدر اليانعة إلي حبل وأحزم سيقان النال، التي تساقطت جراء ضراوة قتالي، في حزمتين كبيرتين أحملهما على ظهر الجواد. أقفز على الجواد المحمل بالنال فنمشي الهوينا إلي البلدة وقد غطسنا في دوامة الغبار الكثيفة التي يثيرها السدر الذي نسحبه خلفنا.
    عند مشارف البلدة ستلتقيني فتينا. تهتف:
    - هاجو، يا للمقاتل المسكين.
    تراني، أشعث أغبر، لا أزال غارقاً في جبروت نزالي، قد غطى زبد الهياج شفتي فتصيح:
    - يا للصنديد.
    بمنديل دمور تزيل الدرن عن وجهي وتمسح الزبد عن فمي. تسأل:
    - إلي متى تتوقف عن أحلامك؟ إلى متى؟
    أجدها أمامي، عيناها تغصان بحبي. الجواد ملتفت ناحيتنا يحدّجنا، وأشلاء السدر والنال مكومة حولنا، سآخذها بين ذراعي، وأنا في كامل عدة الحرب. ستنتفض كعصفورة في أحضاني فأجذبها إليّ بشدة محارب أريب وأستغرق في تقبيلها ثم أطلقها فتستنشق الهواء بعمق تسترد أنفاسها قبل أن تطيح متهالكة تحت قدمي. تنتصب ثم تنفلت راكضة تجاه الخلوة في طرف البلدة.
    أعتلى الجواد وأمضي متقدماً أجر السدر وأتفخذ النال يغمرني الغبار الذي تثيره عودتي العاصفة. من بعيد، من تحت كتاحتي، أستطيع تمييز لاري تعدو جهتي، نظيفة، نقية، حديثة عهد بالغسل والجلي.
    ستنادي:
    - مسكين، قالت فتينا إنك غارق في الأتربة.
    أقول:
    - أجل، غارق فيها، قد عاركت وبارزت وطاعنت.
    - واضح أنك قد فعلت، مسكين.
    - مسكين؟ بل قولي أني مارد.
    أهبط، لا أزال مهتاجاً، مختالاً فتتراجع لاري. تصيح:
    - قف عندك، يا معتوه.
    سأتقدم ناحيتها فتولي مهرولة. أعدو خلفها قد نسيت حبل كومة السدر المربوط علي ساعدي فأسقط أرضاً مثيراً عاصفة ترابية جديدة. أنظر إلى الجواد فأراه يحدق ناحيتي يهز عنقه، يحمحم، يكتم ضحكة قبل أن يصهل مطلقاً العنان لضحكته الصادرة من القلب.
                  

10-29-2003, 01:40 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 753

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    ***
                  

10-29-2003, 02:19 PM

almohndis
<aalmohndis
تاريخ التسجيل: 05-05-2002
مجموع المشاركات: 2663

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    آخى احمد الملك
    معي الفصل الأول عبر الصحافة تحت الأعداد
                  

10-30-2003, 09:38 AM

Remo
<aRemo
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 269

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    ألف شكر لهذا المجهود يا سيدي أحمد
    تحياتي موصولة لأخونا الحسن
    و جاييك راجع يا حبيب
                  

10-30-2003, 12:13 PM

nassar elhaj
<anassar elhaj
تاريخ التسجيل: 05-25-2003
مجموع المشاركات: 1129

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: Remo)

    رائع أن يذهب الروائيين احمد الملك والحسن بكرى مساءلة تجاربهم بهذا الشكل العميق من استنطاق المحيط الروائي وتراكماته ومبررات حدوثه في اطار الوعي بالتجربة وممارستها والامساك الحقيقي بمفاتيحها اذن هي ليست حوارات سهلة وليست اجابات سهلة، هو دخول عميق في صلصال الكتابة الروائية وأسئلتها من خلال أرضية واحدة تجمع الأثنين، ربما تتقاطع المصادر نأيا واقترابا وهذا ما يمنح تجربة هذه الحواريات قوتها وجدواها وليتكم يا احمد والحسن تستمرون في انجاز مشروع مشترك كهذا لمساءلة تجارب روائية من هذه الأرضية التي تتحركون عبرها ويمكن ان يتسع هذا العمل ليشكل كتابا، ايضا سيكون اضافة لمكتبتنا الثقافية .
                  

10-30-2003, 01:25 PM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 753

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    شكرا احبتي المهندس والطيب برير ونصار الصادق علي المشاركةالكريمة .
    نصار نتمني ان نوفق في السير في اقتراحك الذي اعتقد انه يمكن ان يكون شاملا ويشمل كل مبدعيناويوثق للكثير من التجارب الابداعية، وبانتظار مزيد من الاراء حول هذا الاقتراح .
    لكم شكري وامنياتي الطيبة .
                  

10-30-2003, 10:29 PM

الحسن بكري

تاريخ التسجيل: 06-17-2003
مجموع المشاركات: 0

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    الأصدقاء الأعزاء الملك، المهندس، الطيب ونصّار،

    نشكر لكم هذا التواصل.

    فيما يتعلق باقتراحك عزيزنا نصار فهو اقتراح جيد. لكن الأمر يحتاج لمشاركة أوسع. مثلاً، يمكن لمجموعة من الكتاب اختيار موضوع أو أكثر ومناقشتها على مدى أسبوع مثلاً (حتى لا يستغرق الحوار وقتاً طويلا). رغم مشاركاتي القليلة بالبورد أحس، بصراحة، أنه بدأ يصرفني عن التركيز في القراءة والكتابة!! هذا لا ينفي ضرورة التواصل الحميم بين المبدعين على مختلف الصعد.

    لكم خالص الود.
                  

11-01-2003, 00:24 AM

ahmad almalik
<aahmad almalik
تاريخ التسجيل: 04-03-2003
مجموع المشاركات: 753

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: حوار مع الاستاذ المبدع الحسن بكري (Re: ahmad almalik)

    ***
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de