|
تاج الدين الحلو ... آخر الشهداء الذين عرفت
|
انا لله وانا اليه راجعون (من مات دون ماله فهو شهيد) لقد احزنني خبر استشهاد الاخ العزيز تاج الدين احمد الحلو قبل ايام قلائل وهو في طريقه من نيالا الى برام، فقد كان رجلا طيب القلب، حاضر الذهن، لطيف المعشر، لا زالت صدى ضحكاته الطيبة ترن في اذني رغم طول الزمان وبعد المكان. اسأل الله يوسع مرقده وان يغفر خطاياه ويبدله دارا خيرا من داره. الطيبون دائما يمضون سريعا. لم تكن تربطني بالاخ تاج الدين علاقة سوى المعرفة و السلام الذي نتبادله في دروب مدينة نيالا او تجمعات اهلها في منتصف السبعينات. يقولون من فوائد الاسفار معرفة معادن الناس. اذكر انني وصديقاي محمود محمد محمود ( مليجي) و حماد برشم الناشيء قررنا ان نمضي جزءا من اجازتنا في الخرطوم، عاصمة السودان، التي تقع بين النيلين وبها حديقة الحيوان و سينما النيل الازرق، نروح عن انفسنا و نحاول الاغتراب. كان ذلك في عام 1978. و بالصدفة تقابلنا مع الراحل تاج الدين وكان وقتها عضوا بالبرلمان فطلب منا ان نزوره، وكان البرلمان وقتها في مبناه القديم. ولما لم يكن لدينا ما يمنعنا فقد عرجنا اليه في يوم ما بعد ان قضينا نصف نهارنا امام شبابيك وزارة الخارجية (المبنى القديم) نحاول بشتى الطرق توثيق شهاداتنا وكان الرد ان التوثيق موقوف. لاول مرة ندخل البرلمان، كنا نستشعر الرهبة و تاريخ المكان. امضينا معه بعض الوقت الممتع، واكرمنا بمشروبات باردة ثم ساخنة. كان يرحمه الله يجيد الحديث الطيب الودود. المهم شاهد المظروف في يدي وسألني فرد عليه مليجي ذهبنا الى الخارجية ووجدنا التوثيق موقوف. فقال لنا: ما تقولوا ولا كلمة .. تتغدوا معاي يوم الجمعة وحتلقوا شهاداتكم موثقة. اشهد الله انها كانت وليمة وليست دعوة غداء عادية. لا زلت اتذكر كرمه يومها معنا رغم ان العلاقة كانت ضعيفة بمعنى الكلمة. ولكن لانه اصيل و كريم و شهم فقد اخجلنا. عزائي لاهله و اصهاره آل الناظر علي الغالي و لمعارفه و اصدقائه. لقد ابتليت دارفور، فما من يوم يمر الا ويموت العشرات من الناس بالحق او بالباطل و تصك مسامعنا الدعاية الاعلامية الهائلة ان كل شيء تمام وان الامن مستتب في دارفور. يقولون ان الحديث عن عدم استتباب الامن ما هو الا دعاية غربية و تشويه سمعة من الدولة الصهيونية. كأنما الصهيونية فرغت من مشاكلها العالمية و صار همها ترويج الاكاذيب عن شعب السودان ( الطيب ). في المدن الكبرى، في الامسيات تسمع زخات الرصاص ولا يشغل الناس انفسهم بمعرفة ما حدث الليلة الفائتة الا اذا جاءت الانباء باصابة قريب او شخص معروف.النهب داخل المدن لم يعد كما كان، حرامي يتسلق الحائط، ثم يهرب، تلك صارت لقطة بدائية. الان قصص يدمي لها الفؤاد. و الدولة في بهرجتها و زينتها و اكاذيبها التي لا تنتهي. لقد فقدت بعض زملائي و معارفي خلال سنوات القتل العشوائي الذي مر بدارفور ، اخر الشهداء كان تاج الدين الحلو وقبله بشهور قليلة في حادث مشابه تماما حدث بمدينة الجنينة، شهر بعضهم السلاح في وجه الاستاذ محمد زين عزالدين (كلتس) طالبين منه تسليم السيارة ولكنه رفض فاردته الرصاصات امام زوجته و اطفاله واخذت السيارة. عشت مع محمد زين بعضا من ايام العزوبية الاولى وكان دمث الخلق، لاكثر من ثلاثة اعوام عشناها معا لم اره غاضبا من اي زميل بل كان يبتسم في احلك المواقف ويهديء اعصابنا الهائجة. كان لا يرى اي مبرر لانفعالنا احيانا ضد بعضنا. كان يرحمه الله حكيم ميزنا. اذكر انني كنت اخر المغادرين للسكن في احدى عطلاتنا القصيرة و بسبب العجلة لم انتبه ان قطة كانت داخل الغرفة وعندما عدنا بعد اسبوعين وجدناها حية انهكها الجوع ولكنها عاثت فسادا و لوثت بطانية الاخ محمد زين. اعترفت له بخطيء و قررت ان اشتري له بطانية جديدة بدل التي افسدتها القطة ولكنه رفض اعتذاري معتبرا ان الامر بسيط. اشترى هو البطانية مازحا ان القطة اتاحت له فرصة التخلص من القديمة. فقد الهبانية قبل سنوات بعض ابنائهم (منهم وكيل الناظر و شقيقه ) في معركة مع حركة تحرير السودان فصبروا واحتسبوا. ولا اظن ان الصبر سيغلبهم الان، فقبيلتهم اشتهرت بسلوكها السلمي ( قبل نيران الانقاذ)، اتمنى من عقلاء القبيلة ان لا تدفع بهم الامور الى ظلم قبائل الجوار او اخذ الحق باليد. دارفور عاشت محنة حقيقية و ستكتب الكثير من القصص المؤلمة التي تجسد غياب العقل.
اسأل الله ان نخرج من هذه المحنة كما يخرج الذهب بعد تجميره، صافيا و نقيا.
لقد احترقنا جميعا فكفى.
|
|
|
|
|
|