خراب سوبا ... غياب الشمس فى البحر الى الابد

Quote: الوقائع المفقودة من سيرة الأنج في ليلة نجومها تلمع كعناقيد من العنب المضيء .. فوق سماء سوبا المرصع تنبأت لهم العرافة الامبراراوية بقدوم السيل العرمرم .. العاتي من الجنوب .. ذلك الهجوم الكاسح الذي لا يبقي ولا يذر شيئا خدرت سيد القوم .. ملك الأنج .. حاكم سوبا عاصمة الصعيد والسافل ملك ألوة .. ونبهته الى الهجوم المباغت الذي يقوده الحلف وتحدثت العجائز وعقلاء الانج عما آل الحال في الوة ومن حياة البذخ والثراء الفاحش وحياة المجون في سوى ـ با.. ملأوا السهول والجبال والبراري والمدارى .. وعمروا ما بين الانهار الخمسة .. في تلك السهول الفسيحة اقاموا ملكهم وبزغت الحضارة وبلغت شأوا بعيدا في مملكة الصعيد الوة .. وظهر الثراء والمجد وبلغ البذخ مداه .. ملأوا المكان بايقاع الطبول والرقص وبالاحتفالية الطقسية لها طابع خاص ايام الحصاد والجمع .. ويحتشدون للاحتفال الخالد الذي يستمر اياما .. اياما واليال .. في حفلة من حفلاتهم برزت الفتاة الابنوسية .. مديدة القامة .. ممتشقة القوام اللدن .. صلبة منشية العود .. تتمايل برشاقة واريحية حتى انك تتخيل ان خصرها يكاد ينفصل عن جذعها .. تغنى وترقص .. تنشد نشيدا طقسيا يؤوونه في هذه المناسبة .. تذكرت في تلك اللحظة فتى الهمج (كيلا) الممتطى صهوة جواده الاسود رمزا للفروسية والشهامة انه فتى احلامها .. ساعة للفشق وساعة للروح .. بهذا هو مبدأها في الحياة .. تترنم امام ملك الانج بتلك الترنيمة الطقسية .. من مسافات بعيدة كانوا يتوافدون ويتقاطرون صوب سوبا عاصمة الوة الفرسان على ظهور الخيل والابل من سهول البطانة .. ومن اعالى النيل الازرق ومن تخوم مرتفعات الامهرا .. شبان البرنو والكرالو والبرتا من اعالي الانقسنا .. يتقاطر الفرسان لكى يسمعوا ويستمتعوا بذلك اللحن المنساب عبر المرتفعات والبحار الى حدود السافنا ولكى يشاهدوا بنات الانج .. ذوات الثراء والرخاء بام المدن سوبا وفرسان وشبان الانج يرتدون الملابس الزاهية الملونة لهذا الاحتفال .. ويرصعونها بالخرز والسكسك .. وكانوا يقفزون لاعلى .. اشد ما يكون القفز .. ويلوحون بسياط العنج.. ويعتمد الرقص عندهم دائما بضرب الارض بشدة وهم يلبسون الكشاكيش والعلب الفارغة مع الايقاع تصدر اصوات متناغمة مع الطبل فيحدث ريزم ايقاعى جميل .. وكما يلبس الشباب قرون البقر كتعبير عن القوة الجسمانية .. ومن منافسات هذه الاحتفالات المقامة في ارضهم العاصمة المقدسة سوبا قيام مباريات المصارعة وضرب السوط .. ويستخدمون سياط العنج .. المصنوع من جلد فرس النهر او جلد وحيد القرن .. مدخل آخر : في موسم الفيضات ايام الدميرة .. تكون الارض الزراعية لجة عظيمة مليئة بالمياه .. كان ابناء السليم في وادي الخوى من ارض كاوا يقيمون حفلاتهم الصاخبة في جو من الالفة والمرح ويأخذون بعضا من طقوس اصحاب الارض ـ نوبي كاوا ـ ويأخذون الكثير ونقلوا الكثير عن الانج سكان سوبا .. خاصة في الاحتفال وضرب السوط .. كانوا قوم متعددى المشارب والافئدة .. تجمع شذاذ الآفاق والهاربين من السلطة في كل بلد وبعض مبنتى الاصل الذين لا يعرفون لهم اسما لقبيلة تجمعوا هناك من الشتات في ارض كاوا من غير سابق ميعاد ولا اتفاق على لقاء وكونوا وطنا في ارض لا يوجد من سادتها واهليها سوى مقايرهم وهناك قرب معبد تهراقا الجديد .. اقاموا واقعهم الجديد .. وهم لا يعرفون شيئا عن تهراقا ولا عن معبده ولا عن جماتون .. وما ان ينتهي حصاد فول السليم والقمح .. ويحل الصيف وتبدأ الليالي المقمرة على تلك الرمال الذهبية اللماعة حتى يبدأ موسم حفلاتهم ورقعهم وسمات من الهمبرير المحمول المعطر برائحة الارض الطمى والبرسيم يهب على المكان يبدأ الموسم باستخدام الدلوكه .. وفي وسط دايره الرقص يقفز احدهم ويخلع لضرب السوط وغالبا ما تأخذ المباريات شكل التنافس .. وكل واحد يريد ان يبرز فتوته ورجولته وبراعته واحيانا يأخذ التنافس شكل الصراع بين الاعراق والاثنيات .. وبعضهم قد يرتب في الدايرة لضرب السوط .. حتى بزوغ الشمس لليوم التالي .. وهو يتناول الضرب باسياط العنج ـ الذي يشق الظهر ـ واحيانا يستخدمون اسياطا مصنوعة من جلد البقر .. وفي كثير من تلك الحفلات يكون العريس هو نجم الحفل .. ودور الآخرين هو ان يرتبوا له بشكل جماعي لكى يلهب ظهورهم بسوط العنج الذي تحمله العريس دائما .. ومعه سيف لكى يطرد الجن وخاصة عندما يكون العريس في الريحة .. وتنتهي الحفلات دائما بسيرة العصر التي تكون الى النيل ويحمل الآخرين جريد النخل وهم يبشرون به .. واحيانا تكون المنافسة بين شخصين .. والذي يرتب للعريس وهو يحمل سوط العنج فهو بلا شك ملك الدايره وفارس الحلبة يخضع له الفرسان ويلاقى الاعجاب من الفتيات ويعبرون عن الاعجاب بالشمبال وهو ان ترمى الفتاة كل شعرها وعلى وجه وكتف ذلك الفارس .. احيانا يأخذ الايقاع شكلا مختلفا مثل ايقاع الدليب الذي يقولون بانه ورد لهم من ارض الشايقية والمناصير .. وهو غالبا للصفقة فقط .. ويضربون فيه الارض بقوة ويقولون مع كل مقطع وآخر .. حمبي .. حمبي .. حمبي .. حمبي *** الفتاة الابنوسية مديدة القامة ذات القوام السمهري واللون الاسمر الفاتن ظلت تنشد حتى بزوغ الشمس وانبلاج الصبح .. في وقفة واحدة لم تتزحزح عنها .. بينما تنشد وترقص كان فتى الهمج المسمى كيلا يبسج بين النجوم المتلالئة في تلك الليالي المخملية الواعدة بالخصب والنماء .. الفتى يتعلق بالثريا مأخوذا بالصعود روحا وجسدا الى الاعالى في رحلة بين الافلاك والكواكب .. بعد ان وانت لهم الارض يبتغون ابوابا للسماء كى تسد الريح .. الملك جالس على عرش المجد المزين بتاج من الذهب والعاج ورثة من لدن شبتاكا وتهراقا عظيم الانج ومن امة الكنداكة مالكة مروى .. تهراقا هو الجد المؤسس وبانى المجد التليد ومؤسس كاوا جماتون والذي قاد جيوشه واخضع حتى الفينيقيين وآشور رنت له بابتسامة تحمل الرضا والاستجابة .. انخلع فؤاد كيلا من مكمنه .. تحسس صدره لكى يطمئن على قلبه من سحر فتاة الانج الصدر الملئ باليناشين من السهام والنبال المصنوعة من اعواد السنط والهجليج والطلج .. وضع مزيدا من ريش النعام على رأسه رمزا للعزة والمنعة .. وبدأ رأسه يشتعل . عندما تحرك امارا بفرسانه .. يمتطون الخيل .. يرعون الماشية تحركوا من الجبال بين التيلين .. من جهات جبل موية وسقدى ولؤل قاطعين نحو الشرق عبر ستار لكى يلتحموا بالرعاة الآخرين من جهات البطانة والاتيراوى والانقسنا .. اغدروا واتخدوا من اعالى الجبال وبطون السهول .. يحركون قطع ماشيتهم امامهم .. قوم من النوبة السود قطعوا ايام وليال وهم يسمعون لصوت اجوبا يتداح عبر بلاد الانج ويصل اطراف السافنا ويملأ المكان عذوبة ولحنا .. عندما نزلوا الوادى بماشيتهم ذات الخوار والبأس .. كانوا الوفا مؤلفة ضاق بهم السهل وتفجر بهم الجبل .. وكانوا ذو قوة ومنعة يأتمرون بأمر رئيسهم امارا .. مثل اندفاع الابتراوى نحو السهول .. لا تصمد امامهم أي قوة .. عندما برزت حسناء دائرية الشكل .. تفتقت وتجلت بمحاسنها في استدارة الارداف .. استدارة الصدر واستدارة العنق .. كل شيء دائري .. لها تمام الصحة والشباب فهم يقولون Sihan Coal او Biyan coal وتعنى فتاة ناضجة جسديا .. فتاة مكتملة النضج والخصوبة دلفت تملأ المكان بالحيوية والجمال .. ويتدفق الشعر والغزل والأدب الخرز الملون على جبينها وفي اطراف شعرها المجدل .. ثوبها عبارة عن رحط من جلد البقر متدلى ومنظوم في شكل سيور اقمت مقارنة بين فتاة الانج وفتاة على الـLBC وهي ترقص وتقدم البرنامج واقمت محطات للمقارنة .. هنالك اوجه الشبه بينهن واوجه للاختلاف من حيث الثقافة .. اللون مدلول الرقص في كلا الحالتين .. حامت الفتاة حول الدايرة .. برائحة حلوة نفاذة .. خلطة بين اعشاب الارض وشجرها .. وصندل من احسن ما انتجته بلاد الهند .. فتى البرتا يستخدم الوازا في عزفه وبدأ يتألق ثم اخذ في التلوى عن فرط الوهج والاعجاب لم يستطع مقاومة رغبة جارفة جانحة للاندماج والالتصاق .. بالجسد المتلوى كحية امازونية .. الابنوسية العاشقة كالخلود وخالدة كالعشق هي ليلتها هذه ليلة من الزنج والسهر بين تخوم النجوم وعناقيد الثريا والاعين النجل والشفاه القرمزية. الفتى الانجاوى المسحور اصابته القشعريرة والرجفة .. وبدأ يزبد من فمه .. كأنها حالة صرع .. وانما هي حالة هوى وعشق .. لان مارآه من جمال وفن تورد اشجع وابرع الفرسان موارد الهلاك والفناء .. فرسان سوبا تحولوا الى عشاق .. وعندما وصلت الحفلات المسائية الصاخبة الى ذروتها .. في الحفلة قبل الاخيرة كان القمر متشعا منيرا .. واستمرت الحفلات ليال ثلاث وانغمس القوم في التكالب على جوائز الذهب التي وزعها الحاكم والقوم مشغولون في خوضهم تلك تركها مداخل المدينة ومحابس الامن ـ ونسوا ايقاد المشاعل والقناديل التي تضيء مساء سوبا الطويل .. في ليلة دامسة الظلام والقوم في ذروة الاحتفال والصوت ينبعث عن الفتاة ذات الدلال والغنج .. في قمة الطقس .. والنشوة المرتبطة بالفرح وهم ينظرون ويحدقون في الاعين النجل والشفاه القرمزية وذوات الجيد التالع والصدور الناهدة والارداف الملفوفة .. عندما تحول الفرسان الى عشاق في الهزيع الاخير من ليل الحفلة قبل الاخيرة هجم من ثلاثة مقاطع من المدينة ـ الحلف ـ الحلف الفونجاوى الدوفانجى ودخلوا المدينة غزاة مسلحين .. شاهرى الرماح والسيوف في اعناق سادة المدنية وحراسها .. واستمرت المعارك شهورا ثلاثة وكانت لظى حروب ضروسة طاحنة .. ولم تكن هناك هزيمة ولكن كان الخراب والتهشيم الذي دق في مفاصل حضارة الانج .. الى يومنا هذا .. بعد تسعين يوما ترجل سيد القوم مفتول العضلات واضح المقاطع صارم القسمات على ظهر فرسه خارجا من سوبا مودعا للمرة الاخيرة .. وتبعه المئات من العشيرة .. وتراجع الانج في طريق طويل نحو الجنوب الغربي .. ليتحصنوا بالجبال العتيدة في اواسط البلاد .. تاركين سوى ـ با وراءهم والتي صارت مثلا للخراب والتهشيم .. فما زال المثل الحى باق وشاهد على ذلك (أجوبا اللى خربت سوبا) د.صابر عابدين احمد * كاتب وباحث سوداني مقيم بالسلطنة