|
Re: دعوة للخروج عن الصورة النمطية للمثقف السوداني (Re: emadblake)
|
تحليل المثقف أو جدلية السلطة والمال والفكر:
ثمة خط شائع في مقولات "ما بعد الحداثة" أن "الشرائح الاجتماعية التي تمتلك قوة السلطة، أو قوة المال، أو قوة الأفكار تسمي النخبة. وهي بهذه القوي تؤثر في حياة الناس علي كل المستويات. و المثقفون هم الشريحة التي تستمد مكانتها من قوة الأفكار". إذن نحن أمام مثلث له ثلاثة أضلاع: السلطة، المال، الأفكار. وهذا المثلث في النماذج الأكثر حداثة في عالم اليوم للمثقف تتكامل بشكل جذري، لأن الأفكار تكون قادرة على صناعة المال والسلطة، في حين أن صورة المثقف النمطي السوداني هو ذلك الفقير، المدقع، الذي لا يملك قوت يومه أحيانا. كما أن صورة السلطة كثيرا ما يتعامل معها على إنها إطار ضدي للثقافة أو المثقف وهي نظرة كلاسيكية آن الأوان لإعادة التفكير فيها. وقد لعبت النماذج التأسيسية في الثقافة السودانية دورا في هذه الصورة التي ما تزال قائمة. سأعود لنموذج مفارق قبل "فجر التحديث السوداني" وفي تقديري وحسب المقياس الزمني – وقتذاك – هو النموذج الأكثر شفافية للمثقف بشروط زمنه، وهو الإمام محمد أحمد المهدي، الذي استطاع أن ينطلق بقوة الفكر (ضلع المثقف في المثلث) ليعيد بناء الحياة السودانية، ليكسب الضلعين الآخرين، السلطة بنجاحه في إقامة دولة (بعيدا عن الإخفاقات التي صاحبتها فيما بعد – وهو موضوع خارج نطاق التحليل هنا)، والمال بنجاحه في تمديد سطوة مالية بثروة تراكمية ما تزال حية في إرث آل المهدي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دعوة للخروج عن الصورة النمطية للمثقف السوداني (Re: emadblake)
|
استطاع المهدي أن يوظف قوة الفكر الصوفي والثقافة الدينية في زمنه ليخرّجها من القوقعة التقليدية لها إلى مفهوم النضال والبحث عن الإنسان السوداني الجديد، وبعيدا عما اصبغه المهدي على نفسه من صور "فوقطبيعية" فإن هذه الصور يجب ألا تقرأ بمعزل عن إطارها الزمني، كما نقرأ ابن عربي اليوم، ونجد التأويل لشطحاته، أو كما نقرأ الحلاج أو غيرهم. لست بخصوص تحليل البنية الذهنية للمهدي ولكن أتعامل فقط مع الإطار الكروكي العام لبناء شخصية المهدي وكيف نجحت في جعل طاقة الفكر تندغم في السلطة والمال. وهذا لا يعني أن هدف المثقف أن يكون كائنا متسلطا ثريا، ولكن ما أعنيه أن هذه الدوائر تتشغل بطريقة معقدة بحيث يصعب الفرز، من أن يبدأ الضلع المعين لينتهي الضلع الثاني أو الثالث. وبمراجعة بسيطة للتاريخ الإنساني سنجد أن فكرة الإسلام أو المسيحية بدأت في حدود ضيقة كرغبة في إعادة تشكيل التاريخ بمركزية فكرية، ومن ثم مع توالي الزمن تحولت هذه المركزية الفكرية إلى طاقات أخرى سلطوية وثروة تراكمية. يجب التمييز في العصر الراهن في مفهوم الانتلجنسيا، الذي يماثل النخبة، بين المثقف التكنوقراطي والمثقف الروحاني – مجازا – أي رجل الدين، وهذان النموذجان حاضران في السودان، ويبدوان أكثر تجليا في المجتمع الإيراني الحديث. وهنا نواجه بصورة تداخل غريب بين الدين والعلم، المعرفة والبراغماتية النفعية والروحانية. هو تداخل مشروع إذا تم وفق حضور معرفي فاعل على مستوى المعاش والعام، ولكن إذا قام التداخل فقط ليصل إلى مجرد هدف محدد هو التسلط، هنا ينهار مشروع المثقف سواء كان تكنوقراطيا أو روحانيا. هذا الخلط موجود لدى النمط الكلاسيكي السوداني، حيث أن الروحاني يهمين في أحيان كثيرة لدرجة أنه يقوم بإلغاء التكنوقراطي أو العكس.. وبالتالي تصبح الأنتلجنسيا إما باحثة عن السلطة باسم الدين والروح، كما في النموذج الكنسي في العصور الوسطى أو نموذج الإسلام الأموي أو ترابي السودان، أو باحثة عن السلطة باسم المعرفة السلبية، وهو مشهد واضح في المثقف التكنوقراطي السوداني كما في نموذجي منصور خالد وعبد الله على إبراهيم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دعوة للخروج عن الصورة النمطية للمثقف السوداني (Re: emadblake)
|
يحلل داريوش شايغان - فيلسوف ومفكّر إيراني معاصر – أزمة المثقف المعاصر في البلدان العربية والإسلامية ودول العالم الثالث بشكل عام، بتركيزه على إيران، وإن كانت كثيرا من إحكامه تصلح للتطبيق على الواقع السوداني بحيث يمكن الاستفادة منها. وسأطرح هنا بعض من نمط تفكيره في إعادة التفكير في صورة المثقف ودوره الفاعل. في النظر إلى المثقف سواء عند شايغان أو أركون وآخرين، لا يمكن الفرز بين مساحتي الأيدلوجية والسياسية، فالمثقف كما أشرنا إعلاه نسيج (معرفي علمي وروحاني وتكنوقراطي)، لكن المشكل الذي يواجه به مثقفنا باستعارة شايغان في هذا الجانب من تداخل المساحات أن "المثقفين يبدون عندنا كأنهم صليبيون ذاهبون إلى محاربة طواحين الهواء، أكثر مما يظهرون كمفكرين حكماء يتأملون بهدوء وراء طاولة عملهم". ويمضي للقول: "أن يكون المرء مثقفا في عالمنا معناه أولا معارضة السلطة. وهذا أمر ممكن فهمه لأن الأنظمة القائمة هي اما قمعية او شمولية صراحة. ولكن مما يؤسف له أن هذه المعارضة تظل بدائية وحشوية. فهي لا تترافق مع تحليل نقدي ولا مع نظرة الي المستقبل، ولا مع موقف ابتعادي عن السلطة". وهنا يمكن الانتباه لمفاصل مستقبلية في إمكانية تشكيل مثقف نوعي فاعل، تتعلق هذه المفاصل بأدوات لابد منها منها: النظرة الناقدة للأشياء – لكن هذه مشروطة كما سنرى لاحقا – أيضا النظر الدائم إلى المستقبل، بمعنى التفكير الاستراتيجي وليس مجرد مشي المكب "أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم". وإذا استعرنا الآية في فهم دلالة ما تقدم، سنجد أن المثقف النمطي السوداني هو "مثقف مكب" لا "سراطي".. والسراط هنا يعطي دلالة الانفتاح على المستقبل والرؤية إلى أبعد مدى ممكن. بالرجوع إلى شروط التحليل النقدي أو النظرة الناقدة للأشياء سنجد أن أول هذه الشروط، كما يرى شايغان أن الخروج عن "السلطة" أو "السائد" أو "النمط" الخ... من مفردات، كل ذلك لا يعني "التمرد على الأب والأم والقديم"، بقدر ما يعني "أن تؤخذ هذه الثيمات التأسيسة في السياق الثقافي للسلطة"،وفق بشروط حديثة.. وقد أوضحت ذلك أعلاه في نموذج المهدي، إذ أن إعادة التفكير في مشروعه بطريقة جديدة بعيدا عن "القوالب النمطية" من شأن ذلك أن يجعل فكرة "المهدية" ذات دور جديد في الحياة السودانية من حيث المستوى التنظيري لا المستوى السياسي الفاعل، لأن شروط سياسة القرن التاسع عشر ليست هي شروط الألفية الثالثة، وهو ما يحاول الصادق المهدي فعله ولكن باجتزاء ونقصان في شروط الوعي المعرفي الخلاق. فالتمرد أو الظهور بشكل دون كيشوت ومصارع الطواحين هي صور غير مجدية، لأنه لا وجود للأبطال الحقيقيين إلا في حيز المعرفة الفاعلة، وفي حيز السياق الثقافي والاجتماعي مع استيعاب شروط هذا السياق وإعادة قراءته ذهنيا ومن ثم تطبيقيا على مستوى الواقع.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: دعوة للخروج عن الصورة النمطية للمثقف السوداني (Re: emadblake)
|
إن التأمل بعمق يكشف لنا أن مفاهيم "المثقف والسلطة والثروة" تندغم في نسيج السودان على أنها ذات هدف واحد، هو "التعالي على التاريخ".. أيضا على المنجز المادي والاجتماعي.. والمفارقة أن أي نوع من التعالي يؤدي في النهاية إلى ثقة بالذات غير مؤسسة على نحو عارف، ما يعني ترك الآني والتركيز على أفق بعيد مقدس، على أنه خلاص إنساني، وهذا غير صحيح إلى حد ما، لأن البعيد رغم أنه يجب أن يوضع في القراءة، إلا أنه لا يمكن الذهاب إليه دون العبور بسلالم المتواليات الآنية. وحيث لا دستور مدني ومشروعية عليا تلزم الجميع وتتيح التداول السلمي للسلطة، فإن أزمة المثقف هي الحرية التي تمكنه من العمل بعقل مفتوح، في إطار دائرة المجتمع بشكل مباشر بعيدا عن تصدير الثقافة من المهاجر. وهذا يتطلب وفقا لداريوش شايغان أن يتعامل المثقف "مع الحقيقة"، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الواقع المشروط يجب أن يكون محل اعتبار إلى حين الانتقال لمحطة جديدة تدريجيا. وهذا أيضا يجب أن يفهم بعيدا عن ما أشرنا له أعلاه بـ "النظرة الاستبدالية" أي "إزاحة النظام" بـ "نظام جديد". كلاهما مثقف السلطة ومثقف المعارضة هما أسرى البراغماتية النفعية، وقد تأثرا إلى حد بعيد بالنموذج التكنوقراطي السيء جدا. وهنا نحتاج إلى سياق ينتج مثقف مفارق للنموذجين .. مثقف حر "حقيقي" قادر على التحليل الكلي والتخارج من فكرة الحقائق المقولبة والجاهزة، كالنموذج الذي يطرحه نصر حامد أبو زيد وهو يفرق بين خطاب المثقف الحقيقي، أي المنتج للوعي، وبين خطاب مثقف السلطة المنتج لخطاب السلطة بالقول (وكذلك المعارض رافد السلطة بشكل غير مباشر): " ان خطاب المثقف الحقيقي خطاب مفتوح، أي غير دوغماتي. بمعني انه لا يرى انه يمثل سلطة. انه خطاب مفتوح لأنه نقدي في بنيته وقادر علي تجاوز نتائجه، وذلك علي عكس خطاب المثقف الآخر، مثقف السلطة، فهو خطاب مغلق دوغماتي اطلاقي، يتضمن مفهوم امتلاك الحقيقة المطلقة في كليتها وشموليتها". وفي نظرية أبو زيد أن مثقفي وخطابي السلطة والمعارضة يدعمان بعضهما بطريقة "سرية" أي ببنى غير مرئية في القراءات المسطحة.
| |
|
|
|
|
|
|
|