|
وليمة لظل اليهودي
|
هشام آدم نبّهه الآخرون إلى غياب ظلّه، فأحس بالفقد الشديد. كانت تلك مأساته التي لم يجد لها عزاءً من أحد، كل ذكرياته مع ظلّه العزيز تتضاءل أمام عينيه لينحصر في لحظة لا مقياس لها حين رآه آخر مرّة ولم يكن سعيداً. كان يمشي وراءه متهدّل الهامة، منكسر الهيبة باهت اللون، طعنته عشرات المُديات البارزة من شرفات المباني ذات الطابق الواحد، وأدمت قدميه حصوات الطريق التي يستغلها الصغار في لعبة السيجا. تذكّر أنه كان قاسياً معه في الفترة الأخيرة، وأنه لم يجلس إليه طوال حياته سوى بضع سويعات لم تكن كفيلة لمعرفة تاريخ ألمه الشاحب.
كانت آخر مرّة قبل عام، وتذكر –بأسى- كيف أنه ضاع منه ذات يوم بين عشرات الظلال الواقفة وهو يركض وراء حافلة ركاب مُسرعة ويقفز نحوها برشاقة لا يتمتع بها ظلّه. غادر بسرعة الحافلة وترك ظلّه هناك، ولم يفتقده إلا عندما وقف أمام جدار منزوٍ في إحدى أزقة السوق العربي ليتبوّل واقفاً، الآن فقط يتذكر أنه كان غالباً ما يتبّول على ظلّه عند ذات الجدار، ولكنه اختفى ذلك اليوم.
إحدى المواقف الساخرة التي يتذكرها مع ظلّه؛ عندما تحدّث مع فتاة متبرّجة تقف أمام إحدى كافتيريات الخرطوم الجديدة مرتدية قميصاً قطنياً مغرياً لم يحتمل نفور صدرها فبرزا كبيوض أسطورية مهولة بينما كُتب على قميصها جُملة بالإنكليزية: "إن لم تكن واثقاً من نفسك فلا تقترب" تبادلا الأحاديث البذيئة التي تعشقها كثير من الفتيات، واضطر لدعوتها على مشروب غازي ثم انزوى بها في جانب ما من الكافتيريا المُخصصة للقاء العُشاق والمراهقين وحاول تقبيلها، لكن ظلها بقي وحيداً دون أن يتفاعل مع الأمر، ففزعت وغادرت على الفور، بينما ارتفع صوته بالضحك. قال: "دائماً يخذلني ظلّي! ليته كان هنا الآن، لقد فوّت على نفسه لحظة قد لا تتكرر قريباً"
لم يكف عن الشكوى والتضجّر من ظلّه المزاجي الذي لا يكف عن المخالفة: فتارة يتماهى معه، وتارة يتضاءل وتارة يتطاول، وتارة يختفي تحت قدميه كالمستجير من الرمضاء بخف صاحبه! تذكر ذلك اليوم الذي رأى فيها ظلّه وهو يتسلّق جدار غرفته باهتة الإضاءة فضحك وقال: "إنه يُشبهني وأنا في حفلة تنكرية"
ذلك اليوم الذي جلس فيه مع بعض الرفاق يحتسون الخمر التقليدية في بيت صديق غائب، تحدث كثيراً عن البغاء والسياسية، وحينما تلفت من حوله لم يجد لظلّه أثراً، بينما كانت بقية الظلال متوجّمة خلافاً لأصحابها السُكارى، وحكا له رفاقه عن قصص دامية لظلال أقدمت على الانتحار فيما تلا انقلاب 1989م العسكري، فيما ظلّ أصحابها يرتقون سلالم السُلطة يانتهازية تجدر الإشارة إليها.
لم يعتد أن يختفي عنه أكثر من يومٍ وليلة، ولكنه يفتقده الآن منذ أكثر من تسعة أيام، راح يسأل عنه في كل مكان: على جدران غرفته، وفي أزقة الحي، وفي بيوت الرفاق المجاورة، وفي حانة الخمر التقليدية، وبين كل عامودي إنارة، وخلف كل شخص، وفي ملهى الظلال الليلي حيث تستريح ظلال الآدميين بعد نهار شاق ومُضني؛ ولا وجود له في أيّ مكان. وللمرّة الأولى في حياته يستشعر الفقد والوحدة. يرى العابرين في الشوارع نهاراً برفقة ظلالهم، فيغبطهم على ذلك ويُطلق زفرة مُثقلة بالندم.
أيام ثقيلة تمر، ويفقد الجميع ظلالهم واحداً تلو الآخر في هذه المدينة الكئيبة، لاحظوا أن الظلال بدأت تختفي شيئاً فشيئاً وتتخلى عن رفقائها دون سابق إنذار. بدأ الجميع يُراجع حساباته القديمة: ماذا فعلوا لظلالهم جعلها تختفي هكذا؟ وللمرّة الأولى يشعر أهل المدينة بالخوف. قال أحدهم: "ماذا يعني أن نسير بلا ظلال؟ أنا أشعر بالخصوصية الآن" فانتهره الجميع ووصفوه بـ"عديم العُشرة" حتى الكلاب افتقدت ظلال الجدران والأشجار التي كانت تقضي فيها قيلولتها.
ذلك اليوم مرّ بالمدينة بائع متجوّل ذو ظل، أفزع الناس جميعاً، أستوقفه أحدهم ورحّب به كثيراً قبل أن يسأله عن ظلّه الذي كان يجرّه خلفه في خيلاء بينما وقف الرجال تحت أسقف المحلات التجارية، والنساء على شرفات المباني، والأطفال على الطرقات الضيّقة. لم يكن من الصعب أن يتعرّف الجميع إلي كنه هذا الرجل؛ لاسيما وأنه كان يرتدي طاقيته التي تُفشي بأصوله اليهودية:
• أنا قادم من أمدرمان، ولي عشر ظلال تتبعني هناك، هذه إحداها؛ وإن كنتم تبحثون عن الظل، فعليكم أن تصلّوا من أجل ذلك سبعين يوماً.
شعر الجميع بحنين غريب تجاه ظل اليهودي وأرادوا إكرامه، وأبى؛ فأصرّوا. وراح الجميع يُعدّون له مجلساً في بيت أحدهم، وراحت النساء يشمّرن عن سواعدهن السمراء ويجتهدن في إعداد وليمة لليهودي وظلّه الذي أعاد الفرحة في قلوب المئات من سُكان المدينة المفجوعين في اختفاء ظلالهم منذ أسابيع. لم يسأل أحدٌ اليهودي عن اسمه، فاليهود أقاموا أحياءهم الخاصة منذ قرون، ولم يكن احتفاؤهم به لشخصه بقدر ما كان لظله ولبشارته التي كان يحملها معه.
صادف الأمر هوىً في نفس إحداهن فألقت جثتها أمام اليهودي في استعطاف خاشع: "اليوم يبلغ ولدي الثالثة من عمره، وأبيتُ عليكَ إلا أن يُختن تحت ظلك المُبارك، فوقف وفرّ عباءته ككاسرٍ على وشك التحليق، وفرشت القابلة على ظله السجاد والمهد الأسفنجي ووضعت الطفل وختنته على الفور وسط زغاريد النسوة وتهليل الرجال؛ قلّة من الأطفال من كانوا يتناوبون على الوقوف في جزء من ظل عباءة اليهودي الذي روّج لبضاعته وأثقل جيبه بالنقود وانصرف على الفور، ومنذ ذلك الحين لم ينقطع أهالي المدينة عن الصلاة، ولم تعد الظلال بعد.
|
|
|
|
|
|