|
فى الذكرى الاولى للخاتم عدلان ...الحزن الاكبر ليس يقال ...محمد الحسن محيسي
|
قام اصدقاء ومعارف الاستاذ الخاتم عدلان باقامة تابين للفقيد الكبير الاستاذ الخاتم عدلان فى يوم اربعين وفاته بالنادى السودانى فى ابوظبي حضره جمع غفير وكان اول المتحدثين صديقه الصدوق الاستاذ محمد الحسن محيسي الذى القى هذه الكلمة المؤثرة تخنقه العبرات .. رايت ان اذكر القراء بها وبهذا اليوم الحزين ونحن نمر على الذكرى الاولى لوفاته
تأبين الأستاذ الخاتم عدلان
في أبوظبي 2/6/2005م
في تذكّر الخاتم عدلان .. محارباً من أجلِ عالَمٍ نَضِير
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&
محمد الحسن محيسي
2/6/2005م في تذكر الخاتم عدلان ... محارباً من أجل عالم نضير
الحزن الأكبر ليس يقال .
ما عساي قائل في أمسية كهذه وقد لفّ الحزنُ الكالُح الناسَ والأشياء . كم يحزنني أن أقف هذا الموقف مؤبِّناً صديقَ العمر ، كم تمنيتُ أن ينعيني هو ، لا أنعِيهِ . إن لديّ تاريخاً عريقاً في العجز عن تأبين أصدقائي ، وكم تمنيت ألاَّ أقف هذا الموقف . وإذا كان الله قد شرّفني بصحبة كوكبةٍ من أنبلِ وأشرفِ أبناء الوطن الميامين ، فقد أبتلاني ، وابتلى الوطن كلّه ، بفقدهم الفاجع وهم في أوج عطائهم ، أذكر منهم عبدالله محسي ، محمد ميرغني نقد ، طه وخالد الكد ، محمد عبدالحي ، عثمان حسن أحمد ، علي المك ، محمود عُكِير ، وهأنذا أودع آخرهم ، الخاتم عدلان، ذلك العقد الذي ينتظم اللاَّليء.
الحزن الأكبر ليس يقال .
وهأنذا عاجزً حتى عن التعبير عن حزني عليه "ثمة معانٍ وأحاسيس لا يمكن أن تعبّر عنها الكلمات" كما قال أفلاطون ، وذلك شأني مع فقد خاتم ومن قبله كرام القوم . واحسرتاه .. واحسرتاه على وطنٍ ظلّ يفقد أبرَّ أبنائه في المنافي حتى يغيبهم الموت فيرجعون إليه في توابِيتَ يلفُّها علمُ الوطن .
خاتم عدلان كان أخاً لي ، وتلك من نِعَمِ اللهِ عَلىْ . عرفته صديقاً حميماً منذ إثنين وأربعين عاماً ، شكَّلتْ ثلاثة أرباع عُمْرَينا ، تخلّلتها سنوات السجن ، والإختفاء ، والمنفى ، لكنها صداقة ظلّت تتعتق كلمّا مرَّ الزمن . ما نكاد نلتقي بعد سنوات الغياب حتى نبدأ من حيث أنتهينا ، كأننا لم نفترق . ذكراه العَبِقَه تعوِّض لدرجةٍ ما ، سنوات غيابه . لقد عشنا حياةً مشتركة منذ السنة الأولى في المرحلة الثانوية . كنا وقتها في بداية تعرُّفنا على الحياة ، على الناس والأشياء . عملنا معاً في الجمعيات الطلابية ، الأدبية والسياسية ، في الثانوي . التحقنا بجامعة الخرطوم معاً ، ذات الكلية – الآداب – وذات الفصل ، بل حتى ذات المواد الدراسية : اللغتان العربية والإنجليزية والفلسفة والتأريخ . نلتقي يومياً كل مساء لتحرير صحيفة الجبهة الديمقراطية . سكنَّا معاً ، ودرسنا معاً ، حضرنا الندوات الثقافية والسياسية معاً ، قرأنا الكتب والمجلاّت معاً ، قرأنا دواوين الشعر ، قديمه وحديثه، تدارسناها ، وحفظنا بعضاً من قصائدها معاً ، خاصة القصائد الوطنية ، قرأنا صلاح عبدالصبور ، أحمد عبدالمعطي حجازي ، محمد ابراهيم أبوسنِّه ، عبدالوهاب البياتي ، السيّاب ، أما أمل دُنْقُل فذاك شاعرٌ عشقناه ، وحين سُرِّبت إلينا قصيدته التي سمَّى بها أحد دواوينه (تعليق على ما حدث في مخيَّم الوحدات) كان لي شرف كتابتها على بوستر كبير وعلقناها ، خاتم وأنا ، بعد منتصف الليل في مقهى النشاط ، فقد كان ذلك إبَّان طغيان النميري ، أوائل السبعينيات وفي صباح اليوم التالي تجمع العشرات من الطلاب ينقلونها قبل أن ينزع البوستر رجال الأمن. وحفظنا ديوان ود المكي وطالما رددنا قصائده في ليلٍ بهيم ، نقوى بها على المِحَن . عشنا أفراحنا ، وكذلك أحزاننا معاً ، وحين أقتِيد إلى السجن أول مرة كنا نسكن معاً في غرفة فيها سريران في الطابق الثاني من داخلية سوباط ، إحدى داخليات جامعة الخرطوم ، فاستَوْحشتُ بعده .. وظلَّ سريرُه الشاغرُ تذكاراً موجعاً ومقيتاً لغيابه .
لم تكن دراسة خاتم متصلة فقد فصلت بينها سنوات السجن ، وفي المرتين كان خاتم نجم الجامعة بلا منازع ، تغصّ القاعات ودار إتحاد الطلاب بالحضور في الندوات التي يتحدث فيها ، فقد كان لواسع فهمِهِ وقدرتهِ الخارقة على التحليل ، ومنطِقِه السديد ، ولغَتِهِ الجيِّدة السبك ، الدقيقة التعبير ، وَقْعُ السحر في آذان سامعيه ، وهنا بالضبط مكمنُ خطرِه : قوته الهائلة على الإقناع . أما بعد الإنتفاضة فقد لمع نجمُه كما لم يلمع من قبل ، خاصة وقد نضجت تجربته ، وعجمت عودَهُ ابتلاءاتُ السياسةِ والسجن ، لكن ذاك حديثٌ آخر ، أرجو أن يتصدى له من هو أقدر مني على ذلك ، غير أني أستطيع أن أقول حين يكتُب تأريخَ هذا الوطن مؤرخٌ مُنْصِف فلابد أن يتبوأ خاتم مكانه اللائق في طليعة المناضلين الذين ساهموا ، بقدر ما أتاحت لهم الظروف ، في توعية الشعب . حين سأل الطاغية النميري عبدالخالق في التحقيق قبيل إعدامه : ماذا قدمت لهذا الوطن؟ أجابه عبدالخالق : ساهمت في توعيته . ذلك كان أيضاً شأن الخاتم ، وهو شرف لا يناله إلا من أوتى من حبِّ الوطن قدراً عظيماً .
ثم تفرَّقت بنا السُّبُل سنين عددا ، ولكنَّا كنا على إتصال دائم حتى وهو في السجن كنا نتبادل الرسائل : وحين اسرَّ لي في مخبئه بأنه يفكر في الخروج من البلاد توجّسْتُ في نفسي خيفةً ، إذ لا أحد يعرف تَبِعَاتِ فشلِ تجربةٍ كهذه . ولكنه نجح عام 1994م في مغادرة السودان سرّاً إلى السعودية ، فالقاهرة ثم التحق بأسرته في لندن حيث استقر به المقام . وحينما استقال في نفس العام من الحزب الذي انتمى إليه لثلاثين عاماً ، كوَّن حركة سياسية جديدة ، في ظروف شخصية بالغـة الدقـة . وقد كنت أعلم ما قد لا يعلمه الكثيـرون عنـه في هـذه الفتـرة فقد كان يعمل A mini-cab-Driver لمدة ثمانية عشر ساعة في اليوم ليؤمن الحياة الكريمة لأسرته ، ومع ذلك لم تَلِنْ قناةُ نضالِهِ قط ، يكتب في الصحف ، يتحدث في الندوات ، يجري المقابلات في التلفزيون ، يسافر لحضور الندوات والمؤتمرات خارج بريطانيا ، له حضورٌ كثيفٌ وفاعلٌ في كل المحافل المحليّة والدوليّة التي تناقش قضايا السودان الشائكة .
كان خاتم عدلان رجلاً فذَّاً بكل المقاييس ، ومما يثلج الصدر ذلك السيل من المراثي الذي سوَّد صفحات الصحف السودانية والمواقع السودانية المختلفة في الانترنت عقب وفاته ، لكنه أشعرني أكثر بفداحةِ فقْدِهِ ، فإذا كان ذلك حُزْنُ من استمعوا إليه أو قرأوه ، وبعضهم لم يشاهدْهُ قط ، فكيف بأحزان من "استثمر" ثلاثةَ أرباعِ العمر في صداقته؟
وكأنّ خاتماً أحسَّ بدنوِّ أجله ، فقد كثَّفَ نشاطه في السنوات الأخيرة بدرجة فوق طاقة البشر العاديين ، وهل كان هو بشراً عادياً ؟ كان كأنما يسابق الزمن ، يريد أن يؤدي رسالته الوطنية كأحسن ما تؤدّى الرسائل . كان يعمل خمسة أيام في الأسبوع كبير المترجمين بجريدة (الشرق الأوسط) ، يدرِّس الدبلوماسيين الغربيين اللغة العربية في معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن ، يحْضُر دورة تدريبية عن الكتابة الإبداعية باللغة الإنجليزية ، ويكتب مقالاً أسبوعياً لجريدة (الأضواء) السودانية ، يستعرض لجريدة الشرق الأوسط مرة كل أسبوعين أحد الكتب الهامة الصادرة باللغة الإنجليزية لمن لا يتاح لقراء العربية الاطلاع عليها ، يجري حواراً ثرَّاً في موقع (سودانيز أون لاين) مع عدد واسع جداً من ألوان الطيف السياسي السوداني ، حيث وجِّهت له أسئلة غاية في التعقيد حول كافة القضايا الشائكة التي تواجه الوطن .. ومن رأي الكثيرين أن إجاباته كان فيها من قوة العارضة ، وتماسك الحجة ، وسند المنطق ، ما يرفعه لدرجة المفكرين الكبار، لكن ليس هنا مجال الخوض في اسهاماته الفكرية .
خاتم عدلان كان يتميز بحسِّ وطني لا يُعْلَى عليه ، فنحن إزاء رجل ضخم، رجل لم يعمل يوماً واحداً في سوق العمل السوداني ، بأجر أو بدون أجر ، رجل نَذَرَ نفسه وحياته بالكامل لخدمة وطنه وتنوير شعبه ، منذ أن تفتح ذهنُهُ الوقَّاد على قضايا وطنه ، وهو بَعْدُ طالبٌ بالمدرسة الثانوية ، وظلَّ (ذلك دأبَهُ الدهرَ سادراً) حتى لقِىَ وجهَ ربِّه .
على الصعيد الشخصي كان خاتم أباً باراً حنوناً ، لم ينعم بالعيش مع زوجته وأولاده إلاَّ قليلاً . وحين استقرَّ به المقام وذاق طعم الحياة المستقرة ، وهو الذي تَيَتَّم باكراً بفقد أختِه ، ثم أمِّهِ ، ثم جدِّهِ عدلان الذي تسمَّى به ، حين بدأت حياته تستقر ، عَكَفَ على تربية ابنيه النابهَيْن حسام وأحمد على أسس راشدة ، ولأنه يأخذ الحياة بجدِّية في كافة مناحيها ففي مكتبته العامرة رفٌّ كامل يحوي كتباً عن أسس وأساليب تربية الأطفال .. لله دَرُّهْ من رجل ، ولِلَّهِ دَرُّه من أب .
وفي خاتم وفاءً نادرٌ وأصيل ، ففي لقاء مع إحدى صحف الخرطوم ذكر أنه كوَّن صداقات منذ المدرسة الثانوية لا تزال بعد أربعين عاماً تعيش معه ، ولا يزال يعتز بها ، بل وسمّى بعض أولئك الأصدقاء . وفيه دماثة خلق ومودة تنثال منه بصورة طبعية آسِرة ، يشهد بذلك كل من عرفه ولو للحظات . كتب أمين موقع sudan-for–all.com كلمة قصيرة ولكنها غاية في الرصانة ودقة التعبير عنه ، أشارت ، فيما أشارت ، لهذه المِزْية ، إذ قال : "وعلى الصعيدين الإنساني والإجتماعي كان للخاتم مزايا آسرة ، فهو يتميز بقدرة عالية على الاحتفاء بالآخرين من حوله ، وبحُسنِ إصغائه لمحدّثيه ، وبقدرةٍ صادقةٍ على إشعار كلِّ واحدٍ وواحدةٍ من جلسائِه وأصدقائِهِ وصديقاتِهِ ، بأنَّهم وأنَّهُنَّ محطُّ إهتمامٍ خاصٍ لديه ، وقد كان حضوره قوياً ومؤثراً بين كل من عرفوه بفضل إمتلاكه بالذات لهذه المزايا القائمة على مبدأ سخاء الذات السامق إزاء الآخر" . ذلك الرِّباط الإنساني الخاص الذي كان يشُدّ الناس للخاتم كان رباطَ طبيعة ، لا يتصنَّعَهُ خاتم ، وهو رباطً يعلو على فوارق العمر والدين والجنس والسياسة والتعليم والمهنة والثراء وغيرها ، مما يُغْرِى بالتفريق بين الناس . خاتم كان براءً من كل ذلك .
كان خاتم متواضعاً ، نشأ نشأة عادية ، في أسرةٍ عادية كسائر الأُسَرْ في قرى مشروع المناقل ، ولكنه نال من التعليم والثقافة العالية الرفيعة والشهرة ما يؤهِّلهُ لأن يتعالى بها على العالمين ، كما تفعل صِغَارُ العقولِ عند صِغار القوم ، ولكنه لم يفعل ذلك فقد كان له (إرْثٌ من الحكمةِ والحِلْمِ وحبِّ الاخرين) بكلمات صلاح أحمد إبراهيم ، وكان له من الفطنةِ وسَعَةِ الرأي ما يعصِمُهُ من الزَّلل .
ولعلي لا أضيف شيئاً لو تحدثت عن ذكائه الحاد وذهنه الوقَّاد ، وبديهتِهِ الحاضرة دوماً ، وتلك كانت أمْيَزَ صفاته ، بجانب (قدرته المذهلة على النفاذ لجوهر الأشياء) كما لاحظ بشرى الفاضل . وقد ساعده كثيراً أن درس الفلسفة والمنطق ، وعكف على تثقيف نفسه بدأبٍ ومثابرة . ومع أنَّ الدراسة الأكاديمية لم تكن أولى إهتماماته إلاَّ أنه كان دائماً طالباً مُبَرِّزاً . كان يَدْرُس فقط في الأسبوعين السابقين للإمتحانات ومع ذلك يحرز أعلى الدرجات ، فلا غرو أن تخرج ببكالوريوس بمرتبة الشرف في الفلسفة ، وكان يؤدي بعض الإمتحانات وهو في السجن .
وكان للخاتم وَلعٌ طاغٍ بالإطِّلاع والدرس وتحصيل المعرفة . ذكرت له ذات مرة كتاباً إسمه (How Ideas Work) أي (كيف تعمل الأفكار) وقلت له إن ذلك كتابٌ هام ، ذو مَنْحَىً فلسفي ، وكنت أعرف ولَعَهُ بالفلسفة ، ووعدتُه أن آتيه قريباً بنسخةٍ من الكتاب . شكرني على ذلك ، غير أنه فاجأني بعد أسبوع واحد بأنه طلب الكتاب وحصل عليه ، وسيكون ذلك باكورة ما يستعرضه من كتب في صحيفة (الشرق الأوسط) ، وقد تمَّ ذلك بالفعل ، ربما يعرف هذا من كانوا يتابعون كتاباته .
وبعد ، فقد فقدت بلادنا بغياب الخاتم مفكراً ضخماً يملك كافة مقوّمات القائد العظيم لو أمهلته المنيّة ، وفقدتُ بغيابِهِ صديقَ العمر ، وأقرب أصدقائي إلى نفسي على الإطلاق ، وحين شرّفني د. صدقي كبَلوَّ بأن وصفني بأني (توأمُ روحِه) لعله لم يجاوز الحقيقة .
لقد شقَّ نَعْيُ الخاتم على كل من عرفه ، أو قرأ له ، أتفق معه أم اختلف ، شقّ نعْيُهُ حتى على ابني (خالد) الذي بالكاد يكمل عامه الخامس عشر ، وكان أوَّل من عزَّيتُه فيه ذاكراً له أننا ظلَلْنَا صديقيـن لمدة اثنين وأربعين عاماً ، كان ذلك بُعَيْدَ سماعي للنبأ العظيم بحـواليْ عشريـن دقيـقـة فقط ، وأنا بين مكذِّبٍ ومكَّذب ، فجاءني في E-mail ردٌّ فوريٌ من إبنـي يقـول فيـه : "You had your share in him, it is now God's turn"
وظني أنه أوجَزَ فأعجَزْ .
وبرغْمِ البكاءِ المُمِضْ ، والحزن الذي رأيناه وسمعناه من أصدقاء الفقيد وزملائه ومعارفه وأصدقائه فقد كان لأهل قرية الفقيد وسيلةٌ أخرى للتعبير عن حزنهم ، فقد استقبلوا جثمانَهُ بقَرعِ (طبولِ النحاس) ، وطُبُولُ النحاس في الثقافة السودانية تقرع للفرسان ، وعند المُلِمَّات والأحداث الكبرى ، فرحاً أو حزناً .. ولا شك أن أهل (أم دكَّة الجعليين) كانوا يعرفون قَدْرَ الفارس الذي يستقبلون ، وإن كان جثماناً مسجَّى يلفُّه علمُ الوطن ، ولعلَّهم أيضاً كانوا يدركون أن وصيَّتَهُ كوصيةِ ذلك الفارس لبلاده ، (في شعر محمد ابراهيم أبو سنة) إذ قال :
"فإنْ أتاكِ نعْيىَ الحزينْ لا تملئِ عينيك بالدموعْ لا تتركي النساء يُعْوِلْنَ في جنازتي وإنما يزِفَّنَّي الفِرسانْ وَلْيَصدَحِ الغناءُ خلفَ النَّعْش فَلَسْتُ نادماً ، لأنني أفنيتُ عمري القصير محارباً من أجلِ عالمٍ نضِير"
وبالفعل ، فقد أَفْنَى صديقي ، بل توأم روحي ، عمرَهُ القصير محارباً من أجل عالَمٍ سودانيٍ نضير .. سوى أني لن أعمل لا بوصيَّته ولا بوصيَّة الشاعر ، وسأظل أبكيه ما بقيت فيَّ شئون تذرف الدمعَ السخين ، فليس ثمَّةَ من أو ما يمكن أن يعزّيني في فقده .. فوداعاً يا صديقي ، فأنا وأبناء الوطن المخلصين ، ذاكروك طويلاً وذاكروك جميلاً ..
نَمْ وادِعاً فلقد تقَرَّح ناظري سهراً ، ونامت أعينُ السُمَّارِ .
محمد الحسن محيسي
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: فى الذكرى الاولى للخاتم عدلان ...الحزن الاكبر ليس يقال ...محمد الحسن محيسي (Re: هميمة)
|
أي عقل انطفأت جذوته؟!!أي قلب توقف عن الخفقان؟!!
الباقر العفيف ... لندن
إلى اللقاء أيها الصديق الوفي لم يخطر ببالي أبداً أنه سيجيء يوم أقف فيه مثل هذا الموقف. لم يخطر ببالي أبداً أن أعتلي منصة في لندن وليس إلى جانبي، أخي وصديقي وشقيق روحي وأحد أحب خلق الله إلى قلبي، الخاتم. خل عنك أن يكون هذا يوم تأبينه، وأن نتكلم عنه بصيغة الماضي، وبضمير الغائب، وهو الذي في القلب ساكن، وهو الذي يملأ كل مكامن الشعور بحضوره المكثّف القوي. لم يخطر ببالي أبداً أن أراه يضوى ويزوى، ويتألم، ويغذ الخطى بعيداً عني يوماً إثر يوم، وأنا أقف أمامه عاجزاً، لا أستطيع أن أدفع عنه الأذى، أو أقاسمه الألم .. لا أستطيع أن أفديه بنفسي، أو أشد قبضتي وأصفع القدر. لم يخطر ببالي أبداً. فالخاتم إنسان نادر المثال. يعرفه الناس كثروة قومية، كمفكر أصيل، وسياسي ضليع، و مثقف لا يشق له غبار، رحل عنا وهو في قمة نضجه وقمة عطائه، وفي وقت نحن في أشد الحاجة إليه. فأمثاله تنكّس لهم الأعلام، ويعلن عليهم الحداد العام. بيد أن الخاتم، هذا الإبن البار بشعبه، لم يجد من حكومات بلده الغابر منها والحاضر، سوى السجن، والتشريد، والمنفى، و بخلت عليه أجهزة النظام الحالي بمجرد خبر يعلن وفاته، و تدخلت أجهزته القمعية لتعرقل تعبير الشعب عن حبه لابنه، وإن استطاعت منع فجيعته فيه لكان قد فعلت. و إن كان من عزاء فهو أنه عندما يبرأ الوطن من سقمه، ويوم تُنصب معايير القيم، وتُعرف أقدار الرجال، سيجئ الخاتم في طليعة من تقام لهم النصب التذكارية، وتطلق إسماؤهم على شوارع المدن، وقاعات المحاضرات، ومراكز الثقافة، تلك المواقع التي أطلقت عليها أسماء القتلة والمجرمين، أسماء أناس ساموا الشعب العذاب، ولم ينشروا سوى الخراب. أناس ساقوا شعب السودان بالسوط والنوط وأشاعوا ثقافة الموت. كان الخاتم داعية حياة، كان محباً لها، مبشراً بها، ساعياً لتحسين العالم من أجل تمكين أكبر قدر من الناس أن يستمتعوا بها، وأن يتذوقوا الجمال فيها. كم مرة سمعته يقول "الله الحياة جميلة" Life is beautiful. قال لي مرة وأنا جالس قرب سريره في المستشفى وقد كنا وحدنا: "يا باقر أنا بحب الحياة، ومتمسك بها، وغير متهيء للرحيل الآن لأن لدي الكثير من المشاريع التي أريد إنجازها، ولكني في نفس الوقت لست جزعاً من الموت". قلت له: "أعرف ذلك". لقد تعرفت على الخاتم عن قرب مؤخراً جداً، في العشر سنوات الأخيرة من حياته. كنت أعرفه من خلال نشاطه العام، ومن خلال كتاباته. و أول مرة رأيته فيها عياناً كان في عام 1986، عندما ألقى كلمة إبان الذكرى الأولى لاغتيال الأستاذ محمود محمد طه. جاء إلى المنصة وفي مشيه تحفز وإقدام، وفي عينيه بريق وأحلام. وما زلت أذكر كيف تمكن و من أول وهلة أن ينسج تلك الخيوط السحرية التي تربطه بمستمعيه، وتشدهم إليه. دارت الأرض دورتها، وحملتنا الشواديف من هدأة النهر وألقت بنا في أرض غريبة، لنلتق ثانية في عام 1994، في مدينة ليدز، حيث جمعنا مؤتمر عن "جنوب السودان ما بين الوحدة والإنفصال"، كلانا قدم ورقة فيه. هناك عرفته بنفسي، وتبادلنا الحديث، وأذكر بأنه أعطاني الانطباع بأن ورقتي لم تعجبه، فقد اعتبرها تصب في خانة دعاة الانفصال. وبعد فترة من ذلك اللقاء، استمعت لمؤتمره الصحفي الذي أعلن فيه هو و ثلاثة من رفاقه، هم الدكتور الراحل خالد الكد، والدكتور عمر النجيب، والدكتور أحمد المجري، استقالتهم من الحزب الشيوعي. ولقد توقفت عند ذلك الحدث طويلاً. فأولاً تلك هي المرة الأولى حسب علمي التي يعلن فيها سياسي سوداني استقالته من حزبه في مؤتمر صحفي. وثانياً، استوقفني خطاب استقالته، فقد احتوى على مرافعة رفيعة المستوى، في جوانبها الفلسفية، والسياسية، واللغوية، شعرت معها بسعادة معرفية، و بمتعة فكرية، فعزمت أن أشكره عليهما. وثالثاً، استوقفني في ذلك السلوك ما يعكسه من صفات في الرجل: الأمانة مع النفس، والشجاعة الفكرية، وصراحة القصد، واستقامة اللسان. قلت في نفسي هذا إنسان متسق النفس، كبير العقل، سليم الوجدان، استطاع أن يقرب الشقة بين فكره وسلوكه، وبين سيرته وسريرته. إنسان لم يأسره تاريخه، ولم يتوقف نموه. إنسان منفتح على العالم مقبل عليه بعقله، وقلبه، فهو مستمر التكوين، دائم التعلم. إنسان مثل هذا سوف يأتينا منه خير كثير. إتصلت به تلفونياً، وقلت له شيئاً من هذا القبيل. طلب مني رقم تلفوني، وعنواني. وبعد فترة أرسل لي كتيب الحركة السودانية للديمقراطية والتقدم، وطلب مني تعليقاً و نقداً. استمرت الاتصالات بيننا متفرقة متباعدة، كنت أسأله عن كيف تسير الحركة، إلى أن أخبرني بأنهم يخوضون محادثات مع حركات أخرى مشابهة بغرض توحيدها جميعاً في حركة واحدة. وعندما تعثرت تلك الجهود، عرضت عليه التوسط بينهم، من موقع الحياد والصداقة المشتركة مع الأطراف المختلفة. ولقد أثمرت تلك الوساطة عدة اجتماعات تمخضت عن الإجتماع التأسيسي لحركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق) و التي وضع فيها خلاصة تجربته السياسية، ووظف لبنائها كل جهده، وصحح فيها جميع أخطائه السابقة في مجال الفكر والممارسة السياسيين، حيث جعل أعمدتها الديمقراطية وحقوق الإنسان، والعدالة والمساواة وحرية الاختيار، وجعل رهانها على المعرفة ووسيلتها الاستنارة. فهي تمثّل قمة نضجه السياسي. تلك كانت المناسبة التي جمعتنا، و البوابة التي من خلالها عبرنا إلى تلاقي الروح، وإلى أفق الصداقة غير المشروطة. و من أبرز سمات الخاتم أنه وفي لأصدقائه، يتحدّث عنهم بحب وبود كبيرين. وكان أكثر ما يؤلمه تنكر بعض من كان يعدهم في الأصدقاء له نتيجة مواقفه السياسية، وكان يحاول فلسفة ذلك السلوك المؤلم، فقد كان ديدنه فلسفة الأشياء، ومحاولة فهم سلوك البشر. كانت تظلله سحابة من أسى وهو يقول لي: ولكن واضح أنها من جانبهم لم تكن صداقة، بل كانت تحالفاً سياسياً بين أفراد. فمثل هؤلاء إن ابتسموا في وجهك فإنهم في الحقيقة إنما يبتسمون لموقفك الذي يتسق مع مواقفهم، فكأنهم يبتسمون لأنفسهم المنعكسة لهم منك. أي أنهم لا يبتسمون لذاتك الإنسانية، بل لفائدتك الوظيفية. فإذا غيرت موقفك استنفدت صداقتك. وكان يفرح ويسعد كلما انتصر الناس على ضعفهم ونقصهم، وارتفعوا لإنسانيتهم. جئته مرة فبادرني قائلاً: "اتصل بي الحاج وراق وأنا أكبرت فيه الحاجة دي"، وفي مرة ثانية قال لي: "اتصل بي عبد الله علي أبراهيم، وأنا أكبرت فيه هذا الأمر، وقلت له يأخي الخلاف في الرأي يجب ألا يفسد للود قضية"، ومرة ثالثة قال لي، "نقد اتصل، يأخي ده راجل عظيم". كان مرض الخاتم محكاً برزت فيه جوانب من شخصيته العظيمة. التماسك غير المفتعل، و القدرة الخارقة على تحمل الألم. كان يحرص على الرد على المكالمات التلفونية المتعاقبة
| |
|
|
|
|
|
|
|