|
الخاتم عدلان: الآليات الترابية لاختطاف الدين
|
الآليات الترابية لاختطاف الدين: الخصائص البشرية والحيل الفكرية.
لحظة إكتمال المشروع الشمولي، السياسي الإجتماعي، والذي يمثل الخير المطلق في أذهان أصحابه، هي نفسها، نظريا على الأقل، لحظة تبرير كل الوسائل في الوصول إليه. ولأن ذلك المشروع يمثل الخير المطلق، فإن الواقع الماثل بين اليدين، يمثل الشر بهذه الدرجة أو تلك. وإذا كانت الوسائل المستخدمة في الوصول إلى الخير المطلق، المترائي في الآفاق كإغراء لا يقاوم، تقع في إطار العالم الواقعي، المنتصب كعقبة كؤود أمام تحقيق ذلك المثال، فإنه لا يكون مستغربا أن تنطوي تلك الوسائل على الشر. ومن هنا فإن الفعلة الإجتماعيين من أنبياء المشروع، لا يتورعون عن التورط، بصورة مؤقتة، في شرور يبررونها بالإضطرار، ويعزون أنفسهم بأنهم سيتحللون منها على أعتاب المجتمع الجديد الذي يحلمون بإقامته، فيتطهر الخطاة من خطاياهم، ويغسل القتلة ايديهم من الدماء. ولكن المفارقة الماساوية هي أن المؤقت يابى أن يزول لأنه أصبح طبيعة ثانية، والخطايا تستبد بالضمير وتستعبده، والدماء تعلق بالايادي كما علقت بيدي الليدي ماكبث، لا تغسلها مياه المحيطات ولا تزيل رائحتها كل عطور الهند العابرة للصحراء العربية والقارات. ولأن المجتمع المثالي نفسه لا يخلو من الإبتلاءات الجديدة، الأكثر خطرا من كل ما شهده بناة المشروع في المجتمع القديم، فإنهم يلجأون إلى وسائلهم الشريرة ذاتها، ولكن على مستوى أكبر، وبشراسة تفوق كل ما سبقها. ولا يفعلون ذلك من أجل الوصول إلى حلم يظل نقيا، مهما تورطوا هم في الأوحال، بل للدفاع عن وضع قائم تظهر خطاياهم بارزة على جبهته كما كانت تظهر أفعال وخطايا دوريان غراي، على وجهه، في مسرحية أوسكار وايلد الشهيرة. وربما يكون هذا مدخلا مناسبا للبحث في الآليات التي استخدمها حسن عبد الله الترابي، وحركته، خلال اريعين عاما من المسيرة الدموية، المدفوعة ظعائنها بالحداة الكاذبين. وليس ثمة إدعاء بأننا قادرون على إحصاء هذه الآليات كلها، والوقوف على تجسيداتها المحددة في الواقع، إذ أن هذا جهد جماعي أنجز بعضه وبقي معظمه. وربما تكون أولى الآليات وأهمها هي إعادة صياغة الإنسان نفسه وتأهيله لخدمة المشروع. ولا يوجد تنظيم سياسي في السودان إستطاع أن يعيد صياغة وتشكيل الطينة البشرية الوافدة عليه، مثل تنظيم الترابي المتعدد الأسماء. وقد صار ممكنا الإشتباه في كون الشخص أخا مسلما، أو جبهة إسلامية، بمجرد رؤيته، ولكن الشك يصبح يقينا بمجرد شروعه في الكلام وتعاطيه في لغة الجسد. وتتداعى حينها سلسلة كاملة من الأفعال والأقوال التي يمكن أن تنسبها إليه بهامش صغير من الخطأ لا يتجاوز هوامش الأخطاء في أفضل إستطلاعات الرأي الحديثة. هذا لا يشمل بالطبع المجموعات الصغيرة التي يرسلها التنظيم للغوص في التنظيمات الأخرى وكشف الثغرات التي يمكن نحرها بالإستناد عليها، فإولئك يصاغون في قوالب مختلفة، أكثر إتقانا ودقة، من القالب العام. وبمجرد إكتمال اليقين لدى الوافد الجديد بأنه انخرط في خدمة أعظم المشاريع فإن ترسانة من الوسائل الناجعة تعرض عليه. ولا تستمد هذه الوسائل، قيمتها من ذاتها ، بل من عظمة المشروع، ومن وضاعة القوى التي تحاربه. ولعل أنجع هذه الوسائل على الإطلاق هي العنف، تهزم به الحجج الأقوى التي تبتدعها الشياطين، وثانيتها الأكذوبة، لتجعل الحقيقة هي ما نقول وليس ما نكتشف، و الإفتراء لتصوير العدو في الصورة التي نريد، وليس في الصورة التي تظهره عليها الوقائع، والابتزاز لإحراج الآخرين بالدين، ووضعهم دائما في مواقع الدفاع، أو إدخالهم قسرا إلى زرائب الكفر، والأنانية لأن الشخص الرباني أجدر بنيل نعم الله من الشخص الشيطاني، واقرب لأن يوظفها في خدمة الخير وبسط العدالة. وإني لأزعم أن شخص حسن عبد الله الترابي كان هو التجسيد الأكمل لهذه الصورة التي رسمتها في هذه السطور. دعونا نتأمله في لقطة قديمة ترجع إلى عام 1968، أي قبل ست وثلاثين وسنة. كان وقتها يجلس على نصر كبير حققه عن طريق الإبتزاز الديني لزعماء ذلك الزمان، الذين حركهم كالدمي في جريمة حل الحزب الشيوعي ودحر الديمقراطية الثانية، وكان يوشك أن يمرر، عن طريق آلية الإبتزاز الفتاكة ذاتها، ما سماه حينها بالدستور الإسلامي. دار حينذاك هذا الحوار معه بوصفه ممثلا لللجنة الفنية للدستور: السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة عن الدستور الإسلامي في صفحة 7 أن يكون رأس الدولة مسلما، أود أن أسأل هل لغير المسلمين الحق في الإشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟ الدكتور حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم. الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين. السيد فيليب عباس غبوش: أود أن أسأل يا سيدي الرئيس، فهل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيُختار ليكون رئيساً للدولة؟ الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح يا سيدي الرئيس، فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلاً، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية. السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى. السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين - فقط هذا الكلام بالعكس - فهل من الممكن أن يُختار في الدولة - في إطار الدولة بالذات- رجل غير مسلم ليكون رئيساً للدولة؟ الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس. (انتهى النص) كان الترابي يتحرك على أرضية ثابتة عندما أجاب على سؤال الراحل موسى المبارك، لأن السؤال لم يكن ينطوي على خطر كبير، وهو هل يشارك غير المسلمين في إنتخاب الرئيس المسلم؟ أي هل من حقهم أن يختاروا من يتكفل بقمعهم؟ أجاب الترابي على السؤال بالإيجاب، ثم حاول أن يكسب لدستوره ما لم يكن ينطوي عليه، وهو أن الدولة تعتبر كل سكانها مواطنين، موحيا بمساواة لم تكن سوى وهم. ولكن الأب فيليب عباس غبوش، وقد انتبه لخطورته منذ وقت مبكر، يساله سؤال المواطنة الحقيقية، وسؤال الحقوق والمساواة: هل من الممكن للرجل غير المسلم ( غابت النساء عن وعي الرجلين، وهذه قضية أخرى) أن يكون رئيسا للدولة؟ ويقول الترابي أن الجواب واضح، وان هناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة... الخ. أي أنه يذهب ليعدد صفات أخرى لم يكن السائل مهتما بها، ليصرف إنتباهه عما يهمه بالفعل. ولكن الرئيس يدرك حيلة الترابي فيطلب من الأب غبوش تكرار السؤال، ولا يملك الترابي حينها إلا أن يقول: لا ياسيدي الرئيس. هذه آليات في الخداع والمكر والتفادي والتضليل ظل الترابي يجودها طوال العقود وقد وصلت إلى قمتها في مسرحية الأسر والقصر، ثم بدأ السحر ينقلب على الساحر في جبرية لا ترد. ويهمنا في هذه المسألة كذلك أن الترابي عندما أجاب فإنه كان يزعم أن ذلك لم يكن رايه هو بل هو راي الإسلام. ودعونا نقفز ثلاثين عاما لنقرأ المادة السابعة والثلاثين في الدستور الذي كتبه الترابي، والذي ما يزال قائما في السودان، حول نفس الموضوع الذي اثاره الأب فيليب غبوش عن الدستور الإسلامي:
شروط أهلية الرئيس في الدستور: المادة37: يشترط للترشيح لرئاسة الجمهورية أن يكون المرشح: أ- سودانيا ب- سليم العقل ج- بالغا من العمر 40 سنة. إختفت هنا إسلامية الرئيس. ولكن الترابي ظل ينطق باسم الإسلام في الحالتين. وليس غائبا علينا بالطبع إعتقاد الترابي بأن الأغلبية المسلمة لن تنتخب رئيسا غير مسلم، وأن إثبات الإسلام ليس سوى تحصيل الحاصل كما يقول في كتابه الجديد، ولكن المسألة هي مسألة الترشيح، التي يمنعها الدستور الإسلامي الأول، يبيحها الدستور الإسلامي الثاني، والناطق باسم الإسلاميين هو نفس الشخص. إختطاف الإسلام من قبل الترابي وحركته: وفي الحقيقة فإن اختطاف الإسلام، كنز الرأسمال المعنوي الذي لا يدانيه كنز، قد صار منهجا مكتملا لدى الترابي وحركته، ووصل إلى درجة التغيير الجوهري في شروط الإنتماء الإسلامي ذاتها. فإذا لم تكن تعمل على سيادة الإسلام السياسي، وإذا لم تتبن رؤية الترابي في ذلك ، فأنت لست مسلما. وقد حاول الترابي أن يحقق ذلك من خلال آليتين، أولاهما الخلط بين الدين والتدين، والثانية، وهي مشتقة من الأولى ومترتبة عليها، تحويل العمل السياسي كله إلى عبادة. يقول الترابي في كتابه قضايا التجديد: نحو منهج أصولي: الدين والتدين: وليس الدين إلا محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء، وواقع الإبتلاء الظرفي القائم في الأرض، فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هي صميم الإبتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما حتى تدار الحياة بظروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد في كل حال. فالمحاولات تتقلب مع تقلب الظروف والإبتلاءات، وصور التدين بسبب هذا العنصر قد تتقلب لتضمن ثبات جوهر الدين. ص 238 قضايا التجديد نحو منهج اصولي. في هذا التعريف ليس هناك أي فرق بين الدين والتدين من حيث كونهما محاولة لتوحيد المثال والواقع. وكان يمكن أن يكون كلام الترابي مقبولا لو تصالح هو مع أشكال غير محدودة من التدين تناسب تعددية الرؤى في المجتمع البشري. ولكنه لا يقبل ذلك بل يقول أن تدينه هو التدين الوحيد، ويحكم كما رأينا، من نصوص أوردناها ويمكن أن نورد العشرات من أمثالها، بكفر كل الآخرين، الحاضرين منهم والغائبين. ولكننا نصدع الترابي بالقول الثقيل التالي: ليس هناك مثال ديني سياسي! ليس هناك مثال ديني للدولة، وليس هناك مثال ديني للحكم، وليس هناك مثال ديني للاقتصاد، وليس هناك مثال ديني لحل المشاكل الوطنية، وخاصة مشاكلنا السودانية الماثلة. ليس هناك مثل هذا المثال بالنسبة لنا، وهذا واضح لأننا نقوله هنا، ولكن ليس هناك مثل هذا المثال بالنسبة لك ايضا وهذا ما سنقيم عليه الدليل من اقوالك المثبتة وأفعالك المشهودة.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الخاتم عدلان: الآليات الترابية لاختطاف الدين (Re: Amjad ibrahim)
|
الأخ أمجد إبراهيم
نحيي مثابرة الخاتم على فضح الترابي رمز المشروع الحضاري الآئل للسقوط الحتمي ، وبالطبع في فضح الترابي فضح للمرتكزات الفكرية ومرجعيات الجبهة الإسلامية بشقيها وسلطتها. ما يحيرني كيف سمحت السلطة التي لديها حساسي مرضية ضد الحقيقة أن ينشر هذا اللذي يصب في هدم مرجعيتها الفكرية وأساسها النظري-لو كان هناك فكر/نظر والسلطة مدججة بالقوانين المقيدة للحريات والمكممة للأصوات. هل يا ترى غاب عن ذهن السلطة الملتأث ذلك ، أم ان رغبتها الدفينة في تصفية الترابي أعماها عن انه الروح وهي جسد المشروع الحضاري ، وكيف ينهض الجسد بعد خروج الروح ، وما يليق به سوى الستر؟!
| |
|
|
|
|
|
|
|