|
الاستاذ حسن ساتي يرثي الخاتم عبر صحيفة الشرق الاوسط
|
رفقا لندن.. رفقا بالخواتم والرفاق.. ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها..
بورك في شيخنا حسن البصري صاحب تلك المقولة الحكمة ..
الخاتم عدلان اسم منحوت في ذاكرة السودانيين كرمز للمثقف والثائر المولع بالصمود والتمرد ، عجمته سنوات الدراسة الجامعية كقيادي شيوعي في صرح علمي هو جامعة الخرطوم التي كانت ترفد حركة السياسة السودانية بالقيادات والوزراء والتكنوقراط والأدباء ، أطاع فيها تعليمات حزبه ، فتعمد الرسوب ليقود الصراع المستعر بين حركتي الإخوان المسلمين والحزب الشيوعي في ذلك الصرح ، ليعود ويحرز أفضل النتائج الدراسية متى ما استكمل فرص الرسوب التي تتيحها لوائح الجامعة في كل فصل دراسي ، ونال نصيبه ضريبة أبية من سنوات أودعه فيها نظام جعفر نميري السجن وهو طالب دراسة مثلما فعل معه نظام الإنقاذ الحالي وهو خريج ، وحين أطلق سراحه برع الرفاق في فنون الإخفاء التي يجيدونها، فأخفوه في (سطوح) منزل مجاور لمباني أمن الدولة الى أن نجح وتسلل هاربا ليسلم نفسه الى المنافي ثائرا ومثقفا وممسكا بخضرة الجزيرة التي جاء منها ريفيا بسيطا.
يقول عبد الباسط سبدرات وزير الإعلام الحالي إنه هو الذي جند الخاتم في صفوف الحزب الشيوعي ، ويقول لي الخاتم إنه لا ينسى تلك اللحظة التي تسرب فيها نبأ شيوعيته الى قريته فانفض عنه أهل القرية والحافلة تحمله إليها في أول زيارة له ، وهي التي اعتادت أن تصطف لتستقبل طلائع أبنائها حين يأتون في العطلات رهانا على مستقبل آخر أرادته بالاستبطان تلك القرى المتكلسة في ولاءات طائفية وحزبية ودينية ، ويقول لي الخاتم، الذي رحل عنا، في الأسبوع الماضي ذات مساء بارد في لندن: استقبلني والدي بعد نزولي من الحافلة ترهق وجهه حالة أسى ظاهرة ، وفي المنزل قال لي: هل صحيح أنك أصبحت شيوعيا ، قلت : نعم ، وواصل يسأل: وهل تؤمن بذلك: قلت نعم ، وكانت المفاجأة أن قال: إن كان ذلك عن إيمان فقاتل من أجل مبدئك.
ومضى الثائر اليافع بمبادئه ، وتباطأ في التخرج ليفرخ لحزبه قيادات بديلة في الجامعة ، فلم يصب وظيفة يكافئ بها الأسرة الا في لندن حيث استقر ليعمل مترجما بارعا في هذه الصحيفة، وهي لندن ذاتها التي استقبلت كارل ماركس هاربا من ألمانيا الى أن مات فيها، وهي لندن التي دهست فيها عربة رفيقه في حركة التمرد خالد الكد ، الذي قاد معه الانشقاق ليعلنا في أواخر التسعينات وعبر مؤتمر صحافي انشقاقهما عن الحزب الشيوعي وتأسيس حركة (حق) اختصارا لحركة القوى التقدمية . وهي لندن ذاتها التي تحرك منها بابكر النور وفاروق حمد الله بطائرة بريطانية متجهة الى الخرطوم في يوليو 1971 ليجبرها العقيد القذافي على الهبوط في طرابلس وينزل من على ظهرها قائدي حركة الانقلاب الشيوعي الذي نفذه هاشم العطا لتنتهي المسرحية بعودة نظام جعفر نميري وإعدام معظم قادة الحزب الشيوعي السوداني ، وهي لندن التي أسلم فيها الطبيب الشيوعي عز الدين علي عامر روحه وقد جاءها هاربا من نظام الإنقاذ ، مثلما أسلم روحه فيها أب النضال العمالي علي الماحي السخي ، ومن عجب أن طبيبا آخر هو أمين النور شقيق بابكر النور قد أسلم روحه بلندن قبل أسبوع واحد من رحيل الخاتم عدلان، فإلى هذا الحد تتقصد لندن يا ترى الرفاق من كارل مراكس والى عز الدين علي عامر وعلي الماحي ، وتتقصد حتى المنشقين عنهم فتكون تلك النهاية المؤلمة لخالد الكد بحادث مروري وللخاتم بداء السرطان اللعين ، أم أنها المنافي بتداعياتها التي برع في وصفها شعراء الرفاق الراحلون من ناظم حكمت والى البياتي الذي لخص منشدا:
تمضي السنون ..
وهكذا.. ونحن من منفى الى منفى ..
ومن باب لباب ..
نزوي كما تزوي الزنابق في التراب ..
ومثل لندن لم تحسن أميركا استقباله ، فزارها مشاركا في فعاليات فداهمه ألم المرض هناك فدخل المستشفى وغادرها ليعود الى لندن ليلاقي ربه في شهر ربيع الأول وعلى مرمى من مولد الرسول الكريم الذي شاء عمنا عدلان أن يحمل الخاتم إحدى كنياته المحببة لدى السودانيين.
أكمل الخاتم معظم مشروع الصمود ، ومعظم مشروع التمرد ، ولكن المرض الخبيث حرم السودان من فيوضات مثقف كان يتوق لتقديم مثاقفاته الناضجة في مرحلة يستعد فيها السودانيون لسماع أصوات العصافير وهي تغني للسلام بعد أن بعثرهم الوطن بالحماقات لسنوات في أودية المنافي السحيقة ، مثلما أدمى المرض قلب شريكة حياته تيسير وإبنيه حسام وأحمد فحرمهم من عطاءات أب لم يقنع يوما بما هو دون النجوم.
بورك فيك وتغمدك الله أخي الخاتم برحمته وأحسن عزاء أهلك ومحبيك ، فقد أحزننا كثيرا رحيلك وأعاد الى واجهة الذاكرة فينا مقولة الحسن البصري.
حسن ساتي مقالات سابقة لبنان : كفكف أحزانك.. وانهض! .. وما رأي بن لادن.. ها هي القبور في العراق تصفق..! وداعا سودان ابن خلدون.. ومعه ذلك الماضي الفقير شيوعيو السودان.. حيرة الرفاق.. وثنائية الوطن والعقوق..! السودان والاستهانة بالأزمات .. معايدة سوداء.. من بيت أبيض أسئلة ما قبل الفوز: كيف كنتم.. وكيف كنا؟ قضية دارفور وقمة ليبيا .. رقصة التانجو الأخيرة نساء آسيا.. وحريم الشرق السودان .. مسرحية المكايدة السياسية إبحث في مقالات الكتاب Mail Address العنوان البريدي Articles المقالات Webmaster أمين الموقع Editorial التحريــر The Editor رئيس التحريــر Advertising الإعــــــلان Distribution التــوزيــــع Subscriptions الاشتراكات Enquiries الاسـتفسـار Copyright: 1978 - 2005© H. H. Saudi Research & Publishing Company (SRPC)
|
|
|
|
|
|