د. منصور خالد نقلا عن الرأى العام اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (1) نعم: هى ثنائية وللثنائية أسباب اتفاقيات السلام التي يحتدم الجدل حولها هى البرتوكولات الستة التي أُشهرت للعالم في الخامس من يونيو 2004 عبر إعلان نيروبي الذي ذيله بامضائه عن جانب الحكومة النائب الأول الأستاذ علي عثمان محمد طه، وعن جانب الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق دي مابيور. تلك البروتوكولات استقرت على قاعدة أرسيت في ماشاكوس في العشرين من يوليو 2002، ألا وهى بروتوكول ماشاكوس الإطاري الذي وقع عليه من جانب الحكومة الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئاسة للسلام، ومن جانب الحركة القائد سلفا كير مايارديت نائب رئيس الحركة الشعبية، بعد خمسة أسابيع من التفاوض. وسُمي إطارياً لأنه لا يتضمن سوى الأسس التي سينبني عليها الاتفاق، والمعايير الضابطة لمضمونه ومعناه، وقبل ذلك، تحديد عناصر الصراع الراهن وجذوره التاريخية. وكان من الضروري رسم ذلك الاطار حتى لا يكون الحوارُ بين الطرفين حوارَ طرشان. بين التوقيع على الاتفاق الإطاري، واشهار بروتوكولات السلام انقضى ما يقارب عامين، تمت خلالهما اجتماعات شارك فيها مفاوضون وخبراء من الجانبين وكان أغلبها في منتجعات كينية مثل ناكورو، نانيوكي، كارِن، كما تم بعضها في بعض المدن الأوروبية مثل لاهاي ولندن، أو الولايات المتحدة. على أن الحوار اكتسب قوة دفع مهمة عندما تولى قيادة وفدي التفاوض النائب الأول لرئيس الجمهورية، من جانب الحكومة، ورئيس الحركة الشعبية، من جانب الحركة. ومنذ ابتداء المفاوضات على هذا المستوى الرفيع في مطلع سبتمبر 2003 بمدينة نايفاشا، وحتى التوقيع على البروتوكولات الستة في السادس والعشرين من مايو 2004، تمطى الحوار على مدى تسعة أشهر. ذلك زمان طويل أن أخذنا في الاعتبار أن اتفاق أديس أبابا لم يستغرق الوصول اليه إلا قرابة الاسبوعين (16 إلى 28 فبراير 1972) ، وربما سبقته بضعة أشهر من العمل التمهيدي. كما أن عملية صنع السلام التي اعقبت مؤتمر المائدة المستديرة (مارس 1965) وانتهت بتقديم قرارات لجنة الاثنى عشر في مارس 1966 استغرقت عاماً واحداً. وكانت الفترة التي تفرغ المتفاوضون فيها للتداول في قضية الحرب والسلام داخل تلك اللجنة هى الفترة بين بداية يونيو 1965 و 25 مارس 1966، التاريخ الذي قدمت فيه اللجنة توصياتها. العبرة في الجانب العملياتي من صنع السلام ليست في الشهور والسنوات التي تستنهك في التفاوض وإنما في الاهتمام السياسي والفكري الذي يُولى للقضية، والإمكانات التي توفر لتعميق الالمام بجذور المشكل. ومن محاسن تجربة الايقاد أنها هيأت الفرصة للطرفين لتقصي تلك الجذور، وأهم من ذلك، أتاحت لطرفي النزاع، عبر الحوار، الوعي بالنتائج التي قد تترتب على الخيارات التي يدعوان لها. ففي خلال عامي التفاوض (منتصف يونيو 2002 وأول يونيو 2004) تمت، برعاية الايقاد، حوارات على مستوى السياسيين والفنيين المفاوضين، ومشاورات ثنائية وجماعية مع الوسطاء والمراقبين، وورش عمل شارك فيها ممثلون للطرفين من أجل العصف الفكري (Brain Storming) حول قضايا دستورية واقتصادية، وندوات لسماع آراء الخبراء في قضايا اختلفت فيها الآراء مثل النفط والنظام المصرفي. هذه المناشط، التي ربما كان يحسبها بعض المشاركين في التفاوض اضاعة للوقت، أضافت عمقاً للمفاوضات افتقدته كل المفاوضات السابقة. كما أن الحرص الفائق من جانب مفاوضي الحركة على أن لا يتركوا أمراً للصُدف قاد إلى امتداد فترة التفاوض. وعلى من لا يدرك سبب ذلك الحرص الإطلاع على عنوان كتاب أبيل ألير عن جنوب السودان، إن لم يملك الوقت لقراءته. تَطاولُ فَترةِ التفاوض، والسرية التي اكتنفت أعمالها، أديا إلى احتشاد أجهزة الإعلام باخبار اختلطت فيها الحقائق بالظنون، وما آفة الأخبار إلا رواتها. فرغم الجدية التي أقبل بها أغلب الاعلاميين على تناول مفاوضات السلام، إلا أن هواة الاثارة من بينهم كثيراً ما اعتمدوا في أخبارهم على التخرص لا الاستيقان مما كان له مردود سلبي على عملية التفاوض، وتشويش على عامة الناس. وكأن رواة الأخبار هؤلاء رموا وراء ظهورهم القاعدة الذهبية للخبر الصحفي التي تقول "لا خبر دون الإجابة على أسئلة خمسة: ماذا، متى، من، أين، كيف". اتفاقيات السلام التي نشير اليها كتاب قرأ الناس مقدمته، وطُرح عليهم متنه، ولكن لما تدون خاتمته بعد، والأعمال بخواتيمها. ولن تَحسُن الخواتيم إلا إن أخذ كل طرف من الطرفين الموقعين التزامه نحو الاتفاق مأخذ جد، وحمل من معه من الأنصار على ذلك. هذا أمر لا توجبه على الطرفين الأخلاق فحسب، بل يفرضه عليهما الاتفاق نفسه حيث تنص الفقرة 2.12.2 من بروتوكول اقتسام السلطة على ما يلي:- "عند التوقيع، يصبح الطرفان مُلَزمين بالاتفاق وعليهما القيام بكل الالتزامات التي تنشأ عنه، وبوجه خاص الالتزام بتطبيق الاتفاق واعطاء الصيغة القانونية والدستورية للترتيبات الواردة فيه". وتضيف الفقرة 3.12.2 "عند التوقيع يتعهد الطرفان بالتأكد من (أو ضمان) التزام كل الأجهزة، واللجان، والمؤسسات الواقعة تحت سلطتيهما، بما في ذلك إلزام الأعضاء المنتمين لهذه المؤسسات، بنصوص الاتفاق". الاتفاق أيضاً لن يحقق غاياته إن لم يُحط بسياج من التأييد الشعبي الكامل، ولا أحسب أن طرفي الاتفاق في حاجة لمن يبادههما بهذه الحقيقة بعد أن أكداها في ديباجة بروتوكول اقتسام السلطة. فالديباجة تُعلن، من بين ما أعلنت، مبدأين أساسين: الأول هو "العزم على الدخول في عهد مسئول وعادل وشـفاف يقـوده الشعبPeople- Led) ) ويعتمد الاستقامة" (Integrity - Based). والثاني هو "أن التطبيق الناجح للاتقاقية يعتمد لدرجة عالية على وقوف غالبية الشعب السوداني وراءها". السؤال، اذن، هو كيف يعبأ الشعب وراء الاتفاق؟ الرد على هذا السؤال يتطلب حواراً ذكياً وأميناً. ولا يكون الحوار ذكياً إن لم يرتكز على الحقائق الموضوعية، ولا يكون أميناً إن صحبه تزيد أو لحق به استكبار. لقد وجد كثيرون في فاتحة الكتاب ومتنه، والخاتمة لما تدون بعد، ما يصلح لتراجُعِ الآراء بشأنه. وهكذا ولجت باب الحوار كوكبة من المعلقين النابهين والمواطنين المهمومين بشأن بلادهم، ومع هؤلاء يكون حواراً. طائفة أخرى من المعلقين تنكبت الطريق حين ابتنت الأحكام على ظنون، والظن لا يُغني عن الحق شيئاً، بل يستدعى الاستيثاق، وسنأخذ هؤلاء بالوثيقة في الأمر. ما عدا ذلك تشغيب لا يُسمى أصلاً حواراً أو يصلح مدخلاً لحوار. أسماه ـ بحق ـ الدكتور الشفيع خضر "الكلام الدائري"، وله فيه قول. كتب الشفيع للمصور :"من غير الممكن تبرير حالة الحيرة والاضطراب التي أصابت قطاعات واسعة من نُخب السياسة والثقافة بعد توقيع الاتفاقية فركنت إلى الأحاديث الدائرية (النِقْة) وراحت تطرح سؤالاً تلو الآخر يبحث عن اجابات تائهة في حين أن هذه النُخب هى التي من المفترض التوجه اليها بحثاً عن مثل هذه الاجابة حول حاضر ومستقبل الاتفاقية" (المصور 25/6/2004). في مقالاتنا العشر نسعى لتحفيز عقول الذين يفترض التوجه اليهم بالحوار حول حاضر ومستقبل اتفاقيات السلام، وسنترك "النِقْة" لضفادع لا تحفل بسواها. و"النَقَاق" ـ اسم مبالغة من نَق ـ تطلقه العرب على الضِفدع. في هذه المقالات وصف أو تفسير أو شرح لوقائع وأحداث ورؤى وقرارات أملك بحكم قربي من صنعها أن أروي شيئاً عنها. كما فيها آراء حول الماضي والحاضر والمستقبل لا أُحَمِّل غيري مسئوليتها. وفي الحالتين لا بد من التنبيه إلى أن الاتفاقيات ليست هى برنامج الحركة الشعبية، بل هى في مجملها ميثاق تعاهدت عليه الحركة مع الحكومة، والتزمت معها على تطبيقه، وعلى استحثاث القوى السياسية الأخرى للإنضمام اليه لما فيه من مقومات لوفاق أشمل. المقالات العشر تتناول قضايا ليس من بينها واحدة ينبغي أن تُفاجئ، ناهيك عن أن تُفِجع، من يطلع عليها. لهذا أثار دهشتي في بعض التحليلات للاتفاقيات تصويرها وكأنها داهية حلت بالبلاد وفجعت اولئك المحللين شديداً. القضايا هى الجنوب، وحدة السودان وحق تقرير المصير، المناطق المُهمشة، الديمقراطية، الدستور، الدين والدولة، التنمية والاقتصاد، الهُوية السودانية، الدور الخارجي أو ما يحلو للبعض تسميته التدويل، وما يتفرع من هذه القضايا من أمور. قَدَرتُ أن إجلاء ما ورد في الاتفاقيات من نصوص لا يكفي بمفرده للكشف عن الدوافع العميقة التي قادت لاعتماد تلك النصوص، بل لابد من استرجاع الحلول التي ابتُدعت في الماضي لمعالجة نفس القضايا. قَدَرتُ أيضاً أن تَشَوف مآلات هذه الاتفاقيات لن يكتمل دون استذكار التجارب الماضية في التعامل مع قضية الحرب والسلام. العودة للماضي أمر لا مندوحة عنه إذ لن تستقيم قراءة الحاضر، أو استشراف المستقبل، دون تبصر في الماضي. بهذا المنهج تكتمل الاجابة على التساؤلات الموضوعية التي بدرت، ويكون التفاعل الفكري مع المسائل التي طرحت بين يدي القراء. وفي هذا التفاعل نستلهم من الجديد من الآراء ما يعيننا على تطوير رؤانا، ونحمد ما ارتحنا اليه من رأي صائب يثري الحوار، ونبين وجه الخطأ فيما نظن أنه جانب الحق بلا عدوان. وعبر تدافع الرأي والرأي الآخر تنجلي الحقيقة، فليس هناك ما يوهن مصداقية المعرفة أكثر من خلط أحكام القيمة بالوقائع، أو تلوين الوقائع بالاصباغ إما لتتفق مع حكم مسبق، أو لإبراء الذمة. ولكن، قبل تداول القضايا النوعية التي عالجتها الاتفاقيات رأيت من الخير التصدي لموضوعين شغلا الناس، ولربما كانا من أكثر الموضوعات التي ألحف النقاقون في الحديث عنها، وليس للملحف إلا الرد. الموضوعات هما: ثنائية الاتفاق وشمولية الحل. وبصرف النظر عن "النِقة"، فأن التساؤل حول الموضوعين مشروع ولهذا نتناولهما بما يستلزم الأمر من جدية في الاقتراب مع التمييز بين نوعين من التساؤل فيما يتعلق بالموضوع الأول، أي "ثنائية الاتفاق". فهناك التساؤل الإستفهامي الجدير بالرد لأنه يصدر عن عدم المام بما يدور في أروقة السياسة منذ أغسطس 1989 يستوجب السؤال الرد أيضاً حتى وإن كان استنكارياً طالما صدر من صاحب عقل صحيح اختلطت عليه الأمور. فطبيعي أن يتبادر لصحيح الذهن أن استفراد طرفين سياسيين بالبت في أمر البلد كله منكر سياسي قبيح، والمنكر هو ما تحكم العقول الصحيحة بقبحه. فما الذي دفع الطرفين، وبخاصة الحركة الشعبية على ذلك القبيح المنكر؟ سؤال نجيب عليه في هذا المقال. أما شمولية الحل فسنتناولها في المقال التالي انطلاقاً من يقيننا أن أي اتفاق لا يحيطه شمول لن يدوم، واستتباعاً لتأكيد طرفي الاتفاق على رغبتهما في أن يكون الحل شاملاً. وهنا نسأل ونجيب: ما الذي يعنيه الشمول؟ هل هو شمول تمثيلي؟ أم شمول موضوعي؟ أم الاثنان معاً؟ ثم ما هو المنفذ في الاتفاقيات الذي ننفج منه إلى تحقيق هذا أو ذاك؟ في كل هذه القضايا لن نكشف عن أسرار لأن أغلب ما سنلقي عليه الضوء، حتى وان كان فيه ما لا يسعد البعض، مبسوط للقراء أو الباحثين، يجدونه على صفحات الصحف، وبين دفات الكتب، وفي مقرر ات التجمع، وخلال رسائل الحركة أو بيانات النظام. كما ليس فيما نسجل في هذه المقالات ما يوجب الاستبداع، فآراؤنا حول دور التجمع والحركة في قضية السلام أوردناه في كتابٍ الحربُ والسلامُ موضوعه، ونُشر حولاً كاملاً قبل اتفاقيات نيفاشا. نجئ على الموضوع فنقول إن "الثنائية" نتاج لعملية تعود إلى التاسع عشر من أغسطس 1989 حين تم أول لقاء بين الحركة ونظام "الانقاذ"، والنظام وليد لما يتجاوز الشهر من العمر. تم ذلك اللقاء تحت رعاية الرئيس منقستو، ثم امتد إلى نيروبي في ديسمبر من نفس العام تحت رعاية الحكومة الكينية وادارة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر. وكان الهدف من اللقاءين "حل مشكلة الجنوب" ببعدها التاريخي المعروف، واقتسام السلطة بين الطرفين. المفاوضات التي تمت في اللقاءين تحطمت عند صخرة استعصى صدعها يومذاك، وما زال عصياً على الصدع حتى اليوم، ذلك هو اصرار الحركة على توجهها القومي الذي يحتم عليها، فيما ظلت تقول، العناية بأمر السودان كله، وليس الجنوب وحده. لهذا طرح مفاوضو الحركة، كبديل لحل مشكلة الجنوب، علاج موضوع نظام الحكم في السودان كله، وكبديل لاقتسام السلطة تخلي الانقاذ عن الحكم لمصلحة نظام ديموقراطي يقوم على أسس جديدة يرتضيها الجميع. في ذات الوقت أعلنت الحركة ـ كما فعلت مع أنظمة الحكم في الماضي ـ عن استعدادها للتفاوض مع النظام الجديد انطلاقاً من مبدأ ثابت هو الحوار مع الحكـومة الراهنة (Government Of The Day ) أياً كانت. لِما أوردنا من سبب لم تُفضِ محادثات أديس أبابا ونيروبي إلى شئ، فتبعتها محاولات أُخر نَمُر عليها سريعاً، وكانت إما مباشرة أو عبر الوسطاء (الرئيس الكيني دانيال آراب موي ورجل الأعمال تايني رولاند في 1989، مساعد وزير الخارجية الأمريكي هيرمان كوهين في مارس 1990، الرئيس النيجيري اوليسونق اوباسانجو (ولم يك رئيساً يومها) في نفس العام، الرئيس اليوغندي يوري موسيفيني في 23 فبراير 1993). في كل هذه اللقاءات لم يتبدل موقفا الطرفين حول القضايا الجوهرية، وبخاصة حول دعوة الحركة لشمولية الحل. مع ذلك، أسفرت وساطة موسيفيني عن حدث مهم هو ترتيب أول لقاء مباشر بين رئيس الحركة الشعبية وممثل شخصي عن الفريق البشير هو الدكتور علي الحاج. في ذلك الاجتماع قدم رئيس الحركة الشعبية أطروحته التقليدية حول الحل الشامل وضرورة اشراك جميع القوى السياسية في أي حل مرتقب. على ذلك الطرح رد الدكتور علي الحاج بالقول: "نحن لن نتفاوض إلا مع من يحمل السلاح". ومنذ تلك اللحظة أصبح الحوار، سواء كان من أجل حل "مشكلة الجنوب" كما كان يريد الطرف الحكومي، أو من أجل حل "مشكلة السودان" كما كانت تقول الحركة، حواراً بين بندقيتين. وفي 1992 بدأت أول مفاوضات ثنائية مباشرة بين حكومة الانقاذ والحركة الشعبية في ابوجا، نيجيريا تحت رعاية الرئيس النيجيري ابراهيم بابنقيدا وبحضور مبعوث شخصي منه كان يتصدر طاولة المفاوضات. تلك المفاوضات انتهت بعد دورتين (الأولى في صيف 1992 والثانية في ربيع 1993) باتفاق الطرفين على ألا يتفقا. وبعد مبادرات عديدة لفتح قنوات أخرى للحوار اقترح الفريق البشير في سبتمبر 1993 على زملائه في قمة الايقاد التي كانت مخصصة للنظر في مستقبل المنظمة، القيام بمبادرة لإحلال السلام في السودان. فمبادرة الايقاد، على غير ما يظن الكثيرون، تمت باقتراح من حكومة السودان، بل وبطلب من الرئيس نفسه. لذلك الاقتراح استجابت الحركة واستقر الرؤساء على تكوين لجنة تضم أربعة منهم (موي، أفورقي، زيناوي، موسيفيني) تبنوا فيما بعد مشروعاً يتضمن الأسس الهادية للحوار بين الطرفين عُرف باعلان مبادئ الايقاد، ويعود الفضل في صياغة الاعلان إلى الرئيسين زيناوي وأفورقي. وعلى أساس ذلك الاعلان بدأت مفاوضات الايقاد في مارس 1994. لربما كان للجبهة القومية الاسلامية تصور للتحالف مع الحركة الشعبية يتجاوز الاعتبارات التكتيكية الظرفية ذات الطابع الانتهازي، ربما زُين لها أن الحركة الشعبية تسعى لتغيير جذري للكيان السياسي، وأن الجبهة تعمل من أجل تحول جوهري في البلاد، وأن هذا التوافق في الرغائب قد يشكل نقطة التقاء. ليس هذا وهماً توهمته، وإنما هو استنتاج تسنده قرائن. ففي ندوة عقدت في مركز كارتر باتلانتا، أعلن، د.عبد الوهاب الأفندي أحد مفكري الجبهة ـ بل أحد ناشطيها يومذاك ـ أن الجبهة بحكم سعيها لاعادة صياغة المجتمع السوداني هى أقرب للحركة الشعبية التي تدعو، هى الأخرى، لخلق سودان جديد، منها لـ "القوى التقليدية". وكنت قد شاركت في ذلك الاجتماع على رأس وفد للحركة مع ممثلين لفصائل التجمع أذكر منهم مبارك المهدي (حزب الأمة)، التجاني الطيب (الحزب الشيوعي)، والفريق الراحل فتحي أحمد علي (القيادة الشرعية). ما هو موقف القوى السياسية السودانية الأخرى من كل ما كان يدور في ساحة الحل السلمي من جهد ثنائي؟ وما هو موقف القوى الاجتماعية؟ ثم ماذا كان رد فعلها على قول النظام: "لن نفاوض إلا من يحمل السلاح". في طوال الفترة التي سبقت مؤتمر أسمرا 1995 كان التجمع جسماً غير متبلور (Amorphous) وكانت رؤى فصائله شتى حتى في امهات القضايا. مع ذلك، ورغم تفاوض الحركة مع النظام الجديد بمعزل عن القوى السياسية الأخرى من أجل الوصول إلى اتفاق يُتوج بتحالف في الحكم، تواصلت علاقاتها مع القوى السياسية الشمالية التي بدأتها منذ ربيع 1986 في كوكادام بهدف التشاور من أجل الوصول لحل نهائي شامل للمشكل السوداني. ويجدر بالذكر أن مفاوضات كوكادام نفسها استغرقت وقتاً طويلاً للاتفاق على إن كان المشكل الذي يتجه اليه الحل هو مشكل الجنوب، أو ذاك الذي تسميه الحركة "مشكلة السودان". مهما كان الأمر، لم تتبلور إستراتيجية التجمع الوطني الديموقراطي بالنسبة للأهداف الكبرى التي تناضل الحركة من أجل تحقيقها، كما لم تتبلور رؤية الحركة بالنسبة لآليات النضال المشترك (بينها وبين التجمع) لمجابهة الأوضاع الجديدة، إلا في يونيو 1995، أي بعد سبع سنوات من قيام نظام "الانقاذ". ففي ذلك التاريخ عقد التجمع ما أسمى مؤتمر القضايا المصيرية واتخذ فيه قرارات مهمة. وكان لتلك القرارات شقان: الشق الأول نظري تناول الأسس التي سيقوم عليها سودان ما بعد الانقاذ، وسيظل نظرياً ما دام "الانقاذيون" يسيطرون على الحكم، والثاني عملي يتعلق بوسائل تحقيق الشق الأول، أي إسقاط النظام؛ أو كما كان يقول رئيس الحركة لرفاقه في التجمع: "تحقيق الشق الأول رهين باسترداد الفضاء السياسي الذي يسيطر عليه آخرون". على ضوء ذلك، توافقت الحركة مع بقية فصائل التجمع على مشروع متكامل لا سر فيه، ولا في الهدف الذي يبتغيه: استخدام حزمة من وسائل النضال هى العمل الجماهيري، النضال المسلح، العمل الدبلوماسي بهدف "اقتلاع النظام من جذوره". وكان ذلك هو الرد الطبيعي على من قال "لن نفاوض إلا من يحمل السلاح". في ذات الوقت أقر التجمع استمرار الحركة في المفاوضات الثنائية تحت مظلة الايقاد، خاصة وقد رأى أن اعلان مبادئ الايقاد يعالج مجمل عناصر المشكل السوداني رغم أن الهدف الذى كان يترجاه الرئيس البشير من المبادرة عندما طلب من دول الايقاد التوسط كان هو "حل مشكلة الجنوب". ويُخيل لي أن بعض فصائل التجمع، رغم موافقتها على استمرار الحركة في التفاوض، لم تكن تتوقع أن تُفضي المفاوضات إلى اتفاق طالما ظلت الحركة تتمسك بالطرح العلماني، وظل النظام يتمسك بالدولة الدينية. وعلى أي، مضت الحركة في التفاوض دون أن تتوقف لحظة عن استخدام وسائل النضال التي خبرتها ودربت عليها، كما لم يكف النظام هو الآخر، عن المُضي في الحرب في ذات الوقت الذي كان يبحث فيه عن السلام. بدهي أن الحركة كانت تتوقع أن تثمر جهود التجمع في استخدام أدوات النضال المتكامل التي استقر عليها رأيه مما يؤدي إلى إنهاك نظام الانقاذ إن لم يكن اقتلاعه من الجذور، وهذا ما لم يكن، فلماذا؟ ثمة سببان أحدهما أدائي يعترف به التجمع نفسه وهو عجز فصائله ـ لأسباب عديدة ـ عن التفاعل الديناميكي الذي يحقق تحولاً نوعياً يصبح معه ذلك الكيان الجامع لأغلب القوى السياسية السودانية شيئاً أكبر من مجموع العناصر المكونة له. لهذا القصور كانت هناك انعكاسات على الأداء، خاصة في الميادين التي يُكِسب الانتصارُ فيها التجمع قوة، ويزيده منعة إن لم يكن كمقاتل شرس، فعلى الأقل كمفاوض يأبه له الطرف الذي يفاوضه. هذا الحكم لا ينتقص بحال مما أنجز التجمع في معاركه السياسية مثل إفلاحه في توحيد القوى السياسية بما فيها الأحزاب الكبرى والحركة الشعبية والتنظيمات ذات الجذور الجهوية عبر كل الفوارق الأيديولوجية، ، حفاظ هذه الكيانات على سلامة قواعدها وحمايتها ضد محاولات الاختراق الدائمة، الحملات الدبلوماسية لمحاصرة النظام (وإن كان حليف التجمع الأكبر في تلك الحملات هو النظام نفسه الذي تمتع في سنواته الأولى بمهارة فائقة في اطلاق الرصاص على قدميه)، العمل الشعبي المعارض خاصة في أوساط الشباب والنساء دون انتقاص من المبادرات المهمة للجماعات الطوعية من المحامين والطلاب في تلك الأوساط. الذي يعنينا هنا، اذن، هو القصور الذاتي الذي حال دون أن يصبح التجمع، رغم كل انجازاته، قوة يأبه لها من تختصمه، والفشل دوماً يبدأ حيث ينتهي النجاح. السبب الثاني في القصور عضوي، فلأسباب تأريخية ظلت القوى الشمالية تؤمن ايماناً قاطعاً أن الطريق للاطاحة بالانظمة التي تستولى على الحكم بالعنف هو الانتفاضة، وأن للانتفاضة هذه طريقاً واحداً لا ثاني له هو العصيان المدني والاضراب العام، ثم انحياز الجيش إلى الشعب، إما كقوة مساعدة داخل الجيش (أكتوبر 1964) أو بمشاركة مباشرة (أبريل 1985). ولكن منذ البداية كانت للحركة قراءة أخرى لما وقع في السودان في الثلاثين من يونيو 1989، ليس في هذه القراءة، هى الأخرى، سر يذاع، كما أن ليس ما سنرويه هو فصل من كتاب يدوي عن كيف تدبر الثورات. هذه القراءة أبانها زعيم الحركة في بعض رسائله، وخاطب بها الجموع في منابر عديدة منها، على سبيل المثال، اللقاء مع السودانيين في القاهرة في ديسمبر 1997، تلك القراءة تقول: "لا غنى للعمل العسكري عن العمل الجماهيري في المعارضة، فكلاهما يكمل بعضه البعض، إلا أن الظن بامكانية قيام انتفاضة ضد حكومة البشير على النهج المعروف ظن ليس في محله". في تسبيبه لذلك الرأي قال قائد الحركة أولاً الفريق البشير لم يقم بانقلاب عسكري وإنما قاد انقلاباً لمصلحة تيار سياسي له رؤاه وتنظيماته ومراكز ارتكازه الداخلية والخارجية. ثانياً أن البشير، كعسكري قاد انقلاباً ناجحاً وشارك في تدبير انقلابات لم تنجح، يعرف أين مكمن الخطر عليه في الجيش. ثالثاً أن التيار الذي يمثله جزء من الحركة السياسية السودانية الشمالية وكان له دور في الانتفاضات السابقة. لكل هذه الأسباب، انتهى قائد الحركة إلى أن النظام سيتجه أول ما يتجه إلى إفراغ الجيش والدولة ومنظمات المجتمع المدني من كل عناصر الخطر عليه فيها، أو على الأقل شل فاعليتها. أضاف أن الانتفاضات حسب التجارب السابقة كانت تتسم بالعفوية، ولهذا فبدون أن تكون الانتفاضة انتفاضة منظمة محمية فلن تقدر على الصمود أمام قوة جماهيرية أكثر تنظيماً مهما كان حجم تلك القوة. وذكر على سبيل المثال أنه لو افترضنا أن الجبهة لا تمثل إلا خمسة بالمائة من أهل السودان فأن وجود (50) شخصاً قادراً ومنظماً ومسلحاً وسط مظاهرة عفوية تضم ألفاً لكفيل باثارة الفزع بين هؤلاء الألف. لم يلقَ ذلك الرأي اهتماماً، إما للثقة بأن الانتفاضة آتية لا ريب فيها، أو للظن أن الرأي المطروح جاء من رجل عديم خبرة بدروب السياسية في الشمال، أو للقصور الأدائي عن التسخير الأمثل للطاقات التي كانت تهتف في أبريل "مليون شهيد لعهد جديد"، أو لمجمل هذه الأسباب. لقد كان التجمع محظوظاً في أن ارتكازه ـ منذ الوهلة الأولى ـ كان على الحزبين الكبيرين، أياً كان اختلاف الرأي معهما أو حولهما، فلا جدال أنهما أعطياه قيمة اضافية سياسياً ومعنوياً، ليس في الداخل فحسب حيث يواجه التجمع نظاماً يتوسل للسياسة بالدين، وإنما أيضاً في دول الجوار القريب. لهذا السبب قضت ظروف موضوعية بتولي الميرغني رئاسة التجمع، إلا أن الظن بأن تلك القيادة التي تكيف احساسها وتشكل وجدانها بـ "صلاة في سلام في سلام" يمكن أن تتحول إلى قيادة عسكرية ميدانية، أو راعية لعمل عسكري ظن لا يثبت عند الفحص عنه. فلا عجب إن لم تصبح كسلا "مزار شريف" أو تصير جبال التاكا "بورا بورا" السودان. أياً كان السبب، أدائياً أو رأوياً فالنتيجة واحدة: لم يولد نشاط التجمع الكتلة الحرجة التي تمكنه من الانطلاق لإجبار النظام على قبوله مفاوضاً من موقع الندية، دعك عن القدرة على "الاقتلاع من الجذور". ومن المُدهش حقاً أن ميثاق الدفاع عن الديموقراطية الذي أُعد في 17/11/1985 ما صدر إلا تحسباً لاحتمال انقلاب تقوم به الجبهة. فالميثاق الذي مهره ممثلو (1 حزباً واتحاداً بالاضافة إلى المجلس العسكري يتحدث في ديباجته عن الدفاع عن الديموقراطية "في مواجهة بقايا مايو ممثلة في الجبهة القومية الاسلامية". لأجل ذلك دعا الميثاق للآتي: "نرفض رفضاً مطلقاً أي توجه لاقامة دكتاتورية عسكرية" (الفقرة 2)، "نتعهد باتخاذ التدابير اللازمة والعاجلة لمقاومة أي اعتداء على الديموقراطية" (الفقرة 4)، "اعلان الاضراب السياسي العام والعصيان المدني فور الاعتداء على النظام الديموقراطي" (الفقرة 5)، "نتعهد بأن يتحول التجمع الوطني إلى جبهة مقاومة شعبية فور أي اعتداء على الديموقراطية" (فقرة التجمع قبل انضمام الحركة لصفوفه، والتي يفترض أن تكون قد أضافت إلى منعته. يعسر علينا، ازاء هذه الحقائق، ادراك ما عناه الدكتور الشفيع خضر في مقاله الذي أشرنا اليه في مطلع المقال، والذي استهله برأي صائب هو أن "التفاوض، ثم الاتفاق، جاءا نتاج حالة توازن الضعف والإرهاق التي تمكنت من الصراع السياسي في البلاد. والضعف الملحوظ في نشاط الحركة السياسية والجماهيرية داخل السودان رغم استمراريته وتصاعده". الذي يعسر ادراكه هو ما أضاف: "التفاوض بدأ ثنائياً وسينتهي ثنائياً رغم أنف كل الأصوات التي ظلت تنادي بتعديل هذا الوضع الشائه. وهذه هى ارادة القوى الدولية التي تولت قيادة قطار التفاوض حتى محطته الأخيرة، وهذه الإرادة صادفت هوى عند أهل الحكومة، كما لم تجابه بموقف قاطع من الحركة الشعبية التي لا أعتقد أنه كان بامكانها فعل أكثر من مجرد المطالبة باشراك الآخرين". صحيح أن الحركة لم يكن في مقدورها أكثر من المطالبة باشراك التجمع، وقد فعلته. وصحيح الافتراض أن النظام سُيقرُ عيناً ان اقتصرت مفاوضات الايقاد على طرفين، فهذا هو ما نادى به وحرص عليه منذ 1989، كما هو صحيح أيضاً أن التفاوض بدأ ثنائياً، ومن الممكن أن ينتهي ثنائياً، وليت د. الشفيع استبدل حرفاً بحرف، استبدل سين التنفيس في "سينتهي" لأنها تخلص بالفعل لاستقبال حدث لا شك في وقوعه، بحرف يفيد الاحتمال هو "قد". لا أقول هذا تقعراً وإنما لأن وقوع النهاية المحتملة مرتبط بأمر آخر في يدنا نحن، لا في يد غيرنا. هذا الأمر بالقطع ليس هو المناداة بتعديل "الوضع الشائه"، وإنما تحويل موازين القوى بالقدر الذي يفرض به التجمع نفسه على طاولة المفاوضات. وفي السياسة تثقل الموازين وتخف بالارادة. الأستاذ كمال الجزولي كان أقرب للحقيقة عندما كتب يقول: "التجمع ليس لديه ذات المنعة المادية التي للحكومة والحركة أو حتى ما يقاربها. ولكن لديه السند الشعبي الذي يشكل عنصراً يمكن أن يكافئ تلك المنعة ويستطيع في هذه الحالة إرغام اللاعبين الرئيسيين على مراجعة حساباتهما" (الصحافة 29/6/2004). ودقَّ كمال المسمار على الرأس عندما قال "دور التجمع ليس هو ترداد المطالبة: "اشركونا" وإنما تأكيد وجوده "نحن هنا". النقطة الثانية هى الايماء لارادة "القوى الدولية التي تولت قيادة قطار التفاوض حتى محطته الأخيرة" ثم فرضت الاتفاق على الطرفين. لا سبيل للمماراة في أن العنصر الخارجي لعب دوراً مهماً في تحقيق السلام، وسيلعب دوراً أهم في ضمان تنفيذه، خاصة فيما يتعلق بدعم الموارد اللازمة للانتقال من مرحلة الصراع إلى مرحلة البناء. ويخطئ من يظن أن اتفاقيات السلام ستبلغ غاياتها، حتى وأن حظيت بموافقة ودعم كل القوى السياسية، إن لم تتوفر لها الأسباب لحل مشاكل النازحين واللاجئين، وتشييد البُنى التحتية المادية والاجتماعية التي دمرتها الحرب، واعادة تأهيل الجيشين وتوفير فرص العمل المنتج للمسرحين منهم، وقبل هذا وذاك إلغاء الديون التي تثقل كاهل السودان. فالمخاطر الحقيقية من الانتكاس قد لا تكون سياسية كما قال، بحق، الدكتور حسن مكي (الرأي العام 6/6/2004). طرفا التفاوض ادركا هذه الحقيقة ولهذا لم يكتفيا بتوجيه نداء للمجتمع الدولي ينشدان فيه العون، وإنما تعهدا بانشاء صندوق للتعمير تودع فيه المعونات متعددة الأطراف (Multi-donor Trust Fund)، حسب نص الفقرة 5.15 من بروتوكول اقتسام الثروة. كنت سأكتفي بالقول إن الدور الذي لعبته ـ وقد تلعبه القوى الدولية بشأن السلام السوداني ـ لا يختلف كثيراً عن الدور الذي تلعبه نفس الدول لحل المشكل الفلسطيني، ولمعالجة تداعيات الحرب الأثيوبية ـ الاريترية، ولفض النزاعات في دول البلقان، ولمراقبة الموقف في منطقة البحيرات الكبرى، ولترتيب الأوضاع في قبرص وكشمير. ولن يلقمنا حجراً من يقول أن أمريكا أو الاتحاد الأوروبي، أو أن المنظمات الطوعية الغربية تفعل هذا من أجل مصالحها، فهذا صحيح مائة بالمائة. فكما لدولة جُزر القَمر مصالح لامريكا مصالح، وكما لقبرص اليونانية أهداف استراتيجية فللاتحاد الأوروبي أهدافه، وكما لمنظمة الإغاثة الاسلامية غايات تبتغيها من وراء ما تقدم من خدمات فلمنظمة كاريتاس الكاثوليكية واتحاد الكنائس اللوثرية غايات. نعم كنت سأكتفي بهذا القدر لولا أن اشارة الدكتور الشفيع استدعت إلى الذاكرة مقالات أخرى وتعليقات وبيانات وتحليلات لآخرين حول نتائج المفاوضات. جاءت التعليقات في مقالات لأشتات، فيهم المثقف صاحب القلم، وفيهم الأكاديمي المحلل، وفيهم السياسي المعارض، وفيهم الاسلامي الذي ثبت عنده يقين أن الغرب كله نذر نفسه في هذه الحياة الدنيا لمهمة واحدة هى تقويض المشروع الحضاري وما ماشاكوس ونايفاشا إلا معاول. بين كل سطر وآخر من تلك المقالات تطل عليك كلمات مثل "الحلول المفروضة"،"الحل الأمريكي" "غياب الارادة الوطنية"، وجميعها اشارات توحي أن الاتفاق لم يتم إلا رضوخاً لإرادة خارجية. يدعو للاستعجاب في أغلب هذه الأحكام طابعها الاستكباري، ومن مظاهر الاستكبار الامتناع عن قبول الحقيقة معاندة. فالقوى الدولية المشار اليها، وبخاصة الولايات المتحدة الامريكية، تلعب دوراً مباشراً في السياسة الداخلية السودانية بسبب الحرب في الشمال والجنوب معاً. ففي الجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وشرق السودان تتولى أمر الغذاء والدواء والخدمات الانسانية الضرورية منظمات طوعية خارجية، لا التجمع الوطني الديموقراطي ولا الحركة الشعبية ولا الحكومة في المناطق التي تسيطرعليها، وهى جزء من السودان. هذه المنظات جميعها تنتمي اما للولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي. وفي الجنوب، تتولى الأمم المتحدة، منذ عهد الديموقراطية الثالثة، توفير الخدمات الضرورية، بما فيها الغذاء، عبر برنامج شريان الحياة لمنطقة تبلغ مساحتها مساحة ثلاث دول. وعلى الصعيد السياسي كانت أمريكا هى الضيف الدائم على موائد صنع السلام: جيمي كارتر نيروبي 1989، هيرمان كوهين مارس 1990، ديفيد شين صاحب نظرية سياسة الهبوط الناعم (Soft Landing Pol icy 1966)، هاري جونستون ديسمبر1999، جون دانفورث مايو 2001، بعض هذه المحاولات سبق الايقاد، والبعض الآخر تقاطع معها، ولكن في كل الحالات حُظى هذا التدخل بقبول من القوى السياسية المختلفة، لا ندري إن كان ذلك رِضى عن الحال، أم استكانة له. فلا أذكر اعتراضاً واحداً على كل هذه المبادرات من جانب أي معارض للحكم أو مؤيد، وإنما أذكر بوضوح كيف كانت زعامات الأحزاب، وقيادات منظمات المجتمع المدني، والرؤساء السابقون، والاكاديميون الباحثون، يحرصون على اللقاء مع هؤلاء المبعوثين والحفاوة بهم. أقول الحفاوة لأنني لا أذكر حالة واحدة تسلم فيها أي من هؤلاء المبعوثين انذاراً (شديد اللهجة أو ضعيفها) ضد التدخل الأجنبي في الشأن السوداني. التدخل "الحميد" ـ والتعبير من نحت السيد الصادق المهدي ـ لم يقتصر، فيما نملك من أدلة، على المعونات الانسانية، كما لم يقف الرضى بالتدخل (حميداً كان أو غير حميد) عند حد الاستكانة السلبية لقدر واقع. فقد ظللنا في المعارضة، مثلاً، ومنذ استيلاء الجبهة القومية الاسلامية على الحكم نستعين بهذه القوى، منظمات وحكومات، في حملاتنا الدبلوماسية لمحاصرة حكومة الانقاذ في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي لجنة حقوق الانسان، وفي المؤتمرات الدولية لحقوق الانسان، وفي الندوات العلمية. ولم نكن نحس في أية لحظة أننا نخدم مصلحة خارجية، بل كنا نسعى لتحقيق مصالحنا وإن تقاطعت مع مصالح غيرنا. وبنفس القدر لا نحتسب أن الذين ينددون اليوم بالاتفاق من أنصار النظام، جهاراً أو على استحياء، ويهرفون بنفس القول السخيف عن توغل الخارج في شئون الداخل، لا يعرفون جيداً أن الخارج لم يكن أبداً بعيداً عن صنع السلام، وعن محاربة الارهاب الدولي (والذي هو الوجه الآخر للتطرف بالداخل)، وعن تقويم مسار الاقتصاد. الوعي بهذه الحقائق ضروري حتى يكون التقويم صائباً، ولا يستصاب حكم ابتنى على الذهول عن الواقع ـ إن أحسنا الظن ـ أو التنكر له، إن أسأناه. الدعم الأساس الذي تقدمت به دول الترويكا+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج + ايطاليا) للمفاوضين هو "التيسير" ثم السعي لتقريب وجهات النظر متى ما اشتد الخلاف وحَدِمت حرارته. ما هى مصالح هذه الدول بالذات في السودان حتى يستهمها أمره إلى هذه الدرجة؟ وكما قلنا ينبغي أن نفترض أن لأمريكا والنرويج وبريطانيا وايطاليا مصالح تماماً كما لبوركينا فاسو وجُزر القَمر مصالح عليا تقرر سياساتها على ضوئها. هذه المصالح ليست بالضرورة اقتصادية، فالنرويج، مثلاً، لم تدفعها المصالح الاقتصادية لتبني القضية الفلسطينية حتى انتهت بها إلى مقررات اوسلو، أو تبني قضية التاميل في سيري لانكا، وصراعات أمريكا الوسطى (قواتيمالا ونيكاراجوا). دافعها هو رؤية تتشاركها مع دول اسكاندناوه تتمثل في اقتصار هذه الدول لدورها الأممي في أمرين: المعونات الانسانية وصنع السلام، خاصة عبر الأمم المتحدة. وايطاليا، منذ عهد رئيس وزرائها السابق بيتينو كراكيسي جعلت مركز الكثافة في تعاونها التنموي هو دول الايقاد لعلاقات تاريخية، خاصة مع اثيوبيا واريتريا، واضافت السودان لهاتين الدولتين بحكم تكامله الاقتصادي ومتاخمته الجغرافية لهما. ولعل هذا هو الذي جعلها تتولى رئاسة اللجنة الانسانية لشركاء الايقاد، وهى اللجنة التي تشرف على المعونات الانسانية في ذلك المنبر. أما الولايات المتحدة فتتقاطع المصالح الاقتصادية مع الهموم الأمنية والضغوط السياسية الداخلية والاعتبارات الانسانية في تكييف سياساتها نحو السودان. التيسير (Facilitation) يبدأ بتوفير الموارد اللازمة للسفر والاقامة والاتصالات والاجتماعات، ويشمل أيضاً استجلاب الخبراء وتنظيم المحاضرات وورش العمل. ولكن، رغم ذلك التيسير لم يستنكف الطرفان أن يقولا لا للضغوط الأمريكية متى ما تجاوزت ما حسباه خطوطاً حمراء، وكان لهما من المنطق ما يدعم الرفض. فعلى سبيل المثال نصح المشروع الأول لانهاء الحرب الذي تقدم به السناتور دانفورث الحركة بالتخلي عن طرح قضية تقرير المصير لاحتمال رفضها من جانب الحكومة. الرد على ذلك النصح كان غليظاً إذ أبلغ أحد ممثلي الحركة (اليجا مالوك) السناتور خلال لقائه مع قائد الحركة في رمبيك وهو قادم لتوه من الخرطوم: "إن كان هذا رأيك فلماذا لم تعلنه في الخرطوم وتعود إلى بلادك". مثال آخر هو دعوة الرئيس بوش الطرفين للفراغ من التفاوض قبل بداية الأسبوع الثالث من يناير 2004 حتى يتم اشهار الاتفاق في الكونغرس خلال ادلاء الرئيس بخطابه عن حالة الاتحاد (State Of Union). وكانت الجزرة التي لوح بها الرئيس للمفاوضين هى أنه سيطالب الكونغرس خلال ذلك الاجتماع، والذي وجهت الدعوة لحضوره للبشير وقرنق، باعتماد مليارات الدولارات لبناء السودان. وبالرغم من أن الرئيس بعث طائرة خاصة أقلت مبعوثه الشخصي دانفورث لاصطحاب الوفد فإن ذلك لم يحدث. لم يكن السبب هو الاستهانة بالدعوة، ولا عدم التقدير لمن صدرت منه، وإنما لأن المفاوضات لم تكن قد نضجت بعد في تقدير الطرفين. هاتان القصتان أرويهما لأبين أنه كان لكل من الطرفين حدود دنيا في مواقفهما لم يقبلا التنازل عنها مهما كانت الضغوط. لهذا لم يجانف الأستاذ علي عثمان الحقيقة عندما قال لاحدى الصحف المصرية في معرض رده على سؤال حول دور الضغوط الأجنبية في "فرض" الوفاق: "ليس هناك ضغوط بمعنى فرض مواقف لم يقتنع بها الطرفان. حتى الحادثة الوحيدة التي استشهد بها الناس وهى الموقف الأمريكي الذي قدم حلاً لقضية ابيي بعد تعـذر اتفاق الطرفين حـولها كان مبنياً على عناصر توفيقية بين موقفي الطرفين" (الأهرام 14/6/2004). في حالة الولايات المتحدة كان الأساس القانوني للانفاق هو برنامج سلام السودان، فلا انفاق في أمريكا أو أي بلد تحكمه مؤسسات دون سند قانوني يتمثل في اعتماد يقره البرلمان (الكونغرس) بقانون. قانون سلام السودان وثيقة مطروحة على الملأ، كما أن أوجه الإنفاق التي حددها معلومة، وفي مقدور أي شخص يعرف سبل الوصول إلى قاعدة المعلومات لمجلس النواب الأمريكي أن يصل إليها. أشير على وجه الخصوص لذلك القانون لأنه يورد في مادته الخامسة نصاً حول دعم المناطق التي لاتقع تحت سيطرة الحكومة لإعداد أهلها للسلام والحكم الديموقراطي بما في ذلك دعم الادارة والتعليم والصحة والزراعة والبنية التحتية. تلك كانت إشارة للمناطق التي تخضع لسلطة التجمع، فالاشارة للجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وردت في نصوص أخرى من القانون. وبالرغم من صدور هذا القانون في عهد الادارة الجمهورية الحالية، إلا أن جذوره تعود للادارة الديموقراطية السابقة. فمثلاً، التقت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت في العاشر من ديسمبر 1997 بوفد من التجمع في مدينة كمبالا، وكان ذلك أول اجتماع لمسئول أمريكي، على ذلك المستوى الرفيع، مع التجمع. ولعل من أبرز ما جاء في خطاب اولبرايت الافتتاحي أن أمريكا ستواصل الضغط على النظام لتحقيق تحول سلمي وأساسي يفضي إلى وضع ديموقراطي، وأنها ستقدم للتجمع دعماً سياسياً ودبلوماسياً إلى جانب دعم مادي غير عسكري، وأن درجة هذا الدعم تعتمد على قدرة التجمع على أن يكون بديلاً فاعلاً (Viable) للنظام لأن التجمع (في رأيها) مازال يعاني ضعفاً في وحدته، وأن على التجمع تعميق احترام حقوق الانسان ومراعاة الديموقراطية في المناطق الواقعة تحت سيطرته. هذا كان هو موقف القوى الكبرى من التجمع سبع سنوات قبل نايفاشا، فأن لم نستطع في التجمع، رغم تأييد شعبنا، ورغم المساندة المعنوية والمادية من القوى الدولية أن نحقق ما ترجاه شعبنا، وما كنا نبتغيه لإنفسنا منذ البداية، فان المسئولية تقع على عاتقنا أولاً وأخيراً. يبقى السؤال، لماذا تم الاتفاق الآن وليس في مرحلة سابقة؟ السياسة، كما قلنا في المبتدأ، لعبة توازن بين عناصر القوة، ولا ينتصر في الصراع السياسي إلا الأقوى. وان كان الصراع في ظل الديموقراطية يدار عبر قوة العدد كما تحددها آلية الانتخاب، فأن الصراع السياسي العنيف لا تحسمه إلا القوة المادية، ولهذا حق للامام الصادق المهدي أن يقول في وصفه للاتفاق إنه انتصار البندقية الأطول. اللهم لا حيرة ولا دهشة، فهذا هو حال السودان منذ أن وحده الباشا محمد علي، فعبر ذلك التاريخ كان الذي يحسم الصراع السياسي العنيف فيه، اما البندقية الأقوى أو الحربة الأطول. على أن امتداد الحرب وتمطيها، ثم تصاعد الأعباء المترتبة عليها أدى إلى انهاك الطرفين المتحاربين وخلق ما يمكن تسميته بتوازن الضعف المؤلم. كما أن تزايد المشقة الناجمة عن الحرب بشكل لا يطيقه أهل السودان، ولم يعد محتملاً من جانب القوى الكبرى التي ظلت تحمل العبء الانساني عنهم، خاصة في مناطق الصراع جعل المجتمع الدولي يولي قضية السلام اهتماماً فائقاً. وسواء كان الدافع للاهتمام هو ضغوط المنظمات الطوعية على حكوماتها، أو الوهن الذي اعترى المانحين (Aid Fatigue)، فقد احتل انهاء الحرب الأولوية القصوى في سياسات هذه الدول نحو السودان. وكان من أبرز مظاهر هذا الاهتمام تحول اللجنة الانسانية في مجموعة أصدقاء الايقاد ( تضم اللجنة دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وروسيا واليابان) إلى لجنة سلام. ثم جاء عامل آخر قلب الموازين هو أحداث 11 سبتمبر 2001، ليس في السودان فحسب، بل وفي العالم أجمع. ذلك حدث أفلح النظام أكثر مما أفلح معارضيه في استYلاله بالقدر الذي أخرج به نفسه من العُزلة، وخلق له منبراً دائماً للتواصل مع الولايات المتحدة هو المنبر الأمني. ولئن استطاع النظام أن ينتقل إلى تلك المرحلة من مرحلة "أمريكا قد دنا عذابها" فهذا يكشف عن قدرته في اختيار السلاح المناسب في المعركة المتغيرة. مع ذلك، أشك كثيراً في أن أي من الطرفين المتحاربين كان سيتخلى عن أجندته القصوى لو دار بخلده أنه يمتلك القوة لتحقيق تلك الأجندة. فلو انتهت، مثلاً، حملة النظام العسكرية والمسماة مسك الختام (وللاسم دلالاته) إلى الغاية المرجوة منها، أو ظن أن استقواءه بالبترول سيمكنه من المُضي إلى آخر الشوط في ظل الأوضاع المتغيرة، لما كانت ماشاكوس. ولو استطاعت قوات التجمع التي بلغت "مزار شريف" في وقت كانت تُحظى فيه بدعم سياسي مقدر على الصعيدين الاقليمي والدولي بما في ذلك دعم "القوى الكبرى"، أن تتصاعد بحملاتها إلى مشارف الخرطوم، أو كانت قوى الانتفاضة تتحفز للانقضاض على النظام في مدن السودان الكبرى، لما كانت نايفاشا. وفي الحالتين ما كان أي من الطرفين (إن توقع نصراً قريباً أو فتحاً من الله) ليرضخ لضغوط القوى الكبرى، لا استهانة بها وإنما لتوهمه أن واقعاً جديداً سيفرض نفسه، وسَتُحمل تلك القوى على التعامل معه. لعل في الذي وقع خير، قال الدكتور قرنق في خطابه عقب التوقيع على اعلان نيروبي (5/6/2004): "أن الذي يجعل هذا السلام سلاماً مُبشراً أنه جاء نتيجة لتوازن العجز العسكري بعد إنهاك الطرفين. تلك هى الحالة التي يستبين فيها أي طرفين متحاربين أن كُلفة السلام أقل من كُلفة الحرب مما يحملهما على البحث عن حل لا خاسر فيه. لقد أصبح السلام ممكناً لأن الطرفين أدركا أن القطر كله قد أخذ في التحلل، وأن الدولة كادت تذوي وتختفي ( وأضاف ساخراً) دون المرور بمرحلة التحول التاريخي الذي بشر به ماركس". قال أيضاً: "بدأ السودان القديم الذي عرفناه في الانحدار إلى لُج تشظى لا عودة منه". ومن جانبه قال الأستاذ علي عثمان: "لم ننته إلى الحق المطلق ولكن بلا شك انتهينا إلى واقع متقدم يوفر لأول مرة فرصة حقيقية للدخول في تجربة يمكن أن تُفضي إلى استقرار أفضل يؤدي إلى تأمين وحدة السودان، فالسودان كان ممزقاً بالفعل" (الأهرام 14/6/2004). لقد أدرك الطرفان، اذن، أن السودان كله ينحدر نحو التمزق، بل يشرف على الموت بسبب الحرب. أدركا أيضاً أن ثمن هذه الحرب هو المزيد من الضحايا بين المقاتلين وبين عامة الناس، والانهيار التام للموارد، والقضاء على القليل المتبقي من فرص التنمية. ازاء هذا الواقع يصبح الإصرار على تحقيق أية أجندة قصوى، سياسية كانت أم آيديولوجية، بمثل هذا الثمن الباهظ عملاً عبثياً. فمثل هذه الأجندات ـ أسميتها المشروع الحضاري أو السودان الجديد ـ لا تهدف، بزعمها، إلا للارتقاء بالانسان لوضع أفضل، ولن يتحقق للانسان وضع أفضل بتدميره. تدمير الانسان جريمة أخلاقية، مهما كان الظن بشرف المقاصد. الموقف الذي انتهى اليه الطرفان فيه من الحكمة بقدر ما فيه من النبل، ولن يُغضب إلا من يريد لأهل السودان أن يتضاغنوا إلى الأبد. كما هو موقف لا تجدر فيه الشماتة بصانعيه لما يحسبه البعض خيبة ويظنه بعض آخر بلوى، أو حسدهم من جانب آخرين على نصر فات الآخرون هؤلاء تحقيقه، فليس في الشماتة نباهةٌ ولا في الحسد شرف. "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق". قال الميرغني عند اعلان الاتفاق ومباركته له ودعوته لشمول الحل: "أؤ يد الاتفاق لأنه بلا شك، سينقلنا، إلى وضع أفضل من الوضع الذي نحن عليه الآن". من هنا ينبغي أن نبدأ جميعاً. //////////////////////// اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (2( السلام الشامل ما هو؟ وما هى وسائل تحقيقه؟ بقدر ما نستطيع، حاولنا في المقال السابق إبانة الأسباب التي أدت لأن يكون التفاوض بين الحكومة والحركة الشعبية ثنائياً وينتهي إلى وفاق ثنائي. وقلنا إن تحقيق السلام الشامل لا يتكئ، فحسب، على صدق الارادة السياسية للطرفين الموقعين في تنفيذ الاتفاق الذي تواصيا عليه، وإنما أيضاً على صيانة ذلك الاتفاق بسياج من التأييد الوطني. السلام الشامل، أو الحل السياسي الشامل، تعبير شاع في الخطاب السياسي منذ منتصف الثمانينات، خاصة بعد أن جاءت الحركة الشعبية بأطروحة قلبت المفاهيم هى أن مشكل الجنوب هو مشكل السودان. وكما ذكرنا في المقال السابق استطال الحوار في كوكادام بين الحركة والتجمع الوطني حول إن كان المشكل الذي ينبغي حله هو قضية اقليم محدود (الجنوب) أو قضية الوطن كله. ولعل ذلك الانكار من جانب الطبقة السياسية الشمالية أن الوطن كله مأزوم هو الذي حمل الأستاذ محمود محمد طه في الستينات، حين استبد بالناس الحديث عن مشكلة الجنوب، إلى اصدار كراسة اتخذ لها عنواناً: "...وللشمال مشكلة أيضاً". حقاً، كان الخطاب السياسي يومذاك، في الغالب الأعم، يتمحور في مشكلة واحدة هى مشكلة الجنوب، وفي قضية واحدة هى قضية الديموقراطية. الأولى تذكرنا بها دوماً الحرب الأهلية، والثانية لا نستذكرها إلا عند وقوع الانقلابات أو سقوط الأنظمة العسكرية فنبدأ في البحث عن وسائل حمايتها. أياً كان الأمر، للشمول في اعتقادنا جانبان، جانب تمثيلي وآخر موضوعي. وفي حالة الاتفاقيات موضوع البحث هناك جانب ثالث هو الشمول الأمني. ويتطلب الشمول التمثيلي اشراك القوى السياسية الفاعلة في عملية السلام، خاصة إن تجاوزت نتائج تلك العملية وقف العدائيات وبسط الأمن والاستقرار إلى إعادة صياغة الدولة. أما الجانب الموضوعي فيتناول ـ على وجه التحديد ـ شكل ومضمون اعادة الصياغة هذه: الرؤية والخطط ووسائل التطبيق. نبدأ بالعنصر الثالث في الشمول: الشمول الأمني لنقول إن أية محاولة لاطفاء النار في جزء من الدار وتركها تشتعل في جزء آخر لن يحقق شمولاً أمنياً حتى وإن خمدت النار وطَفئت الفتنة في أكثر مواقع الحرب إتقاداً. هذه حقيقة لم يتعام عنها طرفا الاتفاق، ففي المادة السابعة من بروتوكول الترتيبات الأمنية نص صريح حول وضع ما أسماه البروتوكول "المجموعات المسلحة الأخرى في القطر". الفقرة الأولى والثانية من تلك المادة تعالج أمر المجموعات المسلحة المتحالفة مع الطرفين، في حين تعـالج الفقـرة الثالثة أمـر "المجموعات الأخرى" بهدف تحقيق سـلام شامـل واستقرار في كـل القطـر واحتواء كامــل (Full Inclusiveness) في العملية الانتقالية. هذا النص يلزم طرفي الاتفاق، بل يوفر المدخل الشرعي لمعالجة حالتي دارفور وشرق السودان. ولن يكون هذا إلا بمعالجة الأسباب التي قادت إلى فتنة توقدت والتهبت في الحالة الأولى، واحتقانات دائمة صحبتها انفجارات هنا وهناك في الحالة الثانية. الشمول التمثيلي في عملية التفاوض أمر لا لُبس فيه ولا اختلاط، وقد يفيد أن نضيف إلى ما أوردنا في المقال السابق شيئاً من خبر الجهود التي بذلت لتحقيق ذلك الشمول منذ زمان بعيد. إلى ما أوردنا نضيف أن التجمع الوطني الديموقراطي، رغم موافقته على مواصلة الحركة التفاوض منفردة مع النظام تحت مظلة الايقاد، بقى على اتصال دائم مع دول الايقاد وأصدقاء مبادرة الايقاد، وبوجه خاص الولايات المتحدة وبريطانيا وايطاليا. بعض هذه الاتصالات تم على أعلى المستويات (لقاءات رئيس التجمع مع رؤساء كينيا، ويوغندا، وأريتريا، وأثيوبيا)، وبعضها الآخر كان في اللقاءات مع الممثلين الدبلوماسيين لهذه الدول. ثمة هدفان كانا وراء هذه الاتصالات: الأول التأكيد على مركزية قضية التحول الديموقراطي في حل المشكل السوداني لأن ايقاف الحرب وحده لن يحقق سلاماً مستداماً كما يرى التجمع، والثاني هو اشراك التجمع في عملية السلام الجارية. في ذات الوقت ظل الطرف الحكومي في التفاوض ثابتاً عند موقفه في أن تظل المفاوضات ثنائية لأسباب رآها، وكان أبلغ مظاهر رفضه توسيع قاعدة التفاوض في الثامن من أغسطس 2000، التاريخ الذي أوفد فيه التجمع نائب رئيسه الفريق عبد الرحمن سعيد يصحبه وفد ضم، من جانب الحركة، القائد نيهال دينق نيهال (رئيس الوفد المفاوض في نيفاشا فيما بعد) لاجراء حوار مع سكرتارية الايقاد في نيروبي للتفاطن معها حول اشراك التجمع في مبادرة الايقاد. الرفض البليغ لذلك المطلب جاء على لسان مبعوث خاص للحكومة (الدكتور قطبي المهدي) أوفدته الخرطوم ليبلغ سكرتارية الايقاد (السفير سيمبويا) اعتراضها على اشراك التجمع في المفاوضات بأية صورة من الصور، أو كما قال قطبي : "اذا دخل التجمع من باب فسنخرج من الباب الآخر". ذلك كان هو فصل الخطاب إذ لم تلتقِ سكرتارية الايقاد بوفد التجمع حتى للتحية. دخلت من بعد مصر إلى المعمعة بكل ثقلها مع ليبيا التي ظلت تحتفظ بعلاقات حميمة مع الحركة الشعبية، فكانت المبادرة المشتركة. وكما هو معلوم لم تتقدم تلك المبادرة كثيراً لنقص عضوي في المبادئ الموجهة والضابطة للتفاوض، ألا هو افتقاد تلك المبادئ لأية اشارة لموضوع حق تقرير المصير لجنوب السودان. وبما أن مبدأ حق تقرير المصير لا يمثل فقط نقطة جوهرية في مشروع الحركة لمعالجة قضية الجنوب، بل هو أيضاً موضوع توافقت عليه كل القوى السياسية السودانية والوسطاء: الحكومة، والتجمع، والايقاد، كان اغفاله بمثابة قُبلة الموت للمبادرة المشتركة. رغم ذلك، حددت المبادرة المشتركة بشكل واضح الحد الأدنى للوفاق بين التجمع والحكومة مما يجعل من أي حديث يدور اليوم. في مِعرض النقد لاتفاقيات السلام الأخيرة، عن سقف أعلى للتفاوض كان من الواجب على مفاوضي الحركة أن لا يتهبطوا عنه، تزيداً بلا معنى. ما هو هذا الحد الأدنى؟ المذكرة التي صدرت من التجمع في القاهرة في 30/6/2001 للتمهيد للمبادرة المشتركة لخصت ذلك الحد الأدنى فيما يلي:- * اعتبار المواثيق والعهود الدولية والاقليمية المعنية بحقوق الانسان جزءاً لا يتجزأ من الدستور، وأي قانون مرسوم أو قرار أو اجراء يصدر مخالفاً لها يعتبر باطلاً وغير دستوري. * قومية كل المؤسسات وأجهزة الدولة. * كفالة الدستور والقانون للتعددية والحريات المدنية والسياسية وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الانسان. * تشكيل حكومة قومية انتقالية تمثل فيها أطراف الاتفاق السياسي وتنظيم انعقاد المؤتمر الدستوري الذي يضع الدستور الدائم للبلاد. * يتعهد طرفا النزاع بالوقف الفوري والشامل للحرب فور توقيعهما على الاتفاق السياسي. لهذا، فإن أي نقد بعد هذا لاتفاقيات السلام لأنها لم تحقق "تفكيك النظام" كما كانت تنادي قرارات التجمع، أو باقصاء المؤتمر الوطني عن الحكم أو حتى تحجيمه بمعنى عودته ـ أو اعادته ـ للحجم الذي كان عليه قبل انقلاب 30 يونيو 1989 في أية عملية لاقتسام السلطة يصبح إما تزيداً أو "عرضة بره الزفة". فما يتمناه التجمع، أو تبتغيه الحركة، أو يحلم به المعلقون السياسيون، أو ينادي به المناضلون الارائكيون الذين يعيشون خارج الزمان والمكان لا يحدث في موائد المفاوضات، وإنما تحكمه موازين القوى التي حملت الناس على التفاوض ابتداءً. الحد الأدنى الذي أقرته المبادرة المشتركة هو، اذن، ما كان يفترض أن تستصحبه الحركة في مفاوضاتها مع النظام بعد أن قُدر لتلك المفاوضات أن تستمر ثنائية. يفترض المرء أيضاً أن مفاوضي الحكومة لن يَزوَّروا عن الالتزام بتلك الحدود بعد أن رضيوا عنها كمبادئ موجهة للحوار مع التجمع في اطار المبادرة المشتركة. وبهذا الفهم لا يملك أي معلق منصف أن ينكر أن هذه القضايا قد عولجت بوجه أو آخر في المفاوضات. فالذي تحقق في نيفاشا ليس هو الأمثل بالنسبة لأي طرف من الأطراف بل هو الممكن تحقيقه في ظل واقع موضوعي. ولكن لا معدي من الاعتراف أن في الاتفاق خروقاً وفتوقاً وشقوقاً. لهذا يصبح المطلوب هو تطوير ما تم الاتفاق عليه بشأن هذه القضايا، إن كان ثمة مدعاة للتطوير، وسد الثغرات فيه حيثما كانت ثغرات، واستدراك ما هو قمين بالاستدراك باتفاق الأطراف جميعاً. نقطة مهمة نتطرق اليها قبل الولوج في باب الشمول الموضوعي هى قضية المحاسبة، أي محاسبة النظام على الجنايات التي يتهم بارتكابها من جانب معارضيه، أو من جانب من لحق بهم أذى أو ضرر. يدفعنا للاشارة لهذه النقطة ما جاء في بعض التعليقات على اتفاقيات السلام حول الفقرة 7.1 من بروتوكول اقتسام السلطة. يقول النص: "يتفق الطرفان على اطلاق مبادرة شاملة للمصالحة الوطنية والالتئام في كل القطر كجزء من عملية بناء السلام. وستقوم حكومة الوحدة الوطنية بوضع الآليات والوسائل لهذا الغرض". مثال ذلك اشارة للسيد الصادق المهدي تُعَيِّب تلك الفقرة لأنها تتحدث عن المصالحة دون اشارة لضرورة التقصي عن الجنايات التي ارتكبت خلال فترة حكم "الانقاذ" وفق النمط الجنوب أفريقي الذي ربط المصالحة الوطنية باستقصاء الحقائق عما وقع من ظلم خلال حكم الابارتايد. مثال آخر هو ايماءة الدكور الشفيع خضر في مقاله الآنف الذكر الذي جاء فيه "من الممكن أن نرمي كسياسيين وراء ظهرنا كل مرارات وخصومات الماضي. لكن هل يمكن اقناع الجماهير بالتخلي عن مطلبها العادل في مساءلة ومحاسبة من تتهمه بانتهاك حقوقها وسلب أموالها وأموال الدولة؟" الاشارتان لهما ما يبررهما ولهذا لن أقول مشاكسة إن الإشارة للمحاسبة أو البحث عن الحقيقة قد غابت عن بروتوكولات نيفاشا التي وقعت في السادس والعشرين من مايو 2004 لنفس الأسباب التي دعت لتغيبها في مشروع السلام الذي اعتمده التجمع في القاهرة في 30/6/2001، أو في اتفاق جيبوتي الذي وقعه رئيس حزب الأمة مع الرئيس البشير في يوليو1999، أو في اتفاق جدة الذي وقعه رئيس التجمع مع النائب الأول لرئيس الجمهورية في ديسمبر 2003، لن أقول أيضاً تزيداً أو تبرئة للحركة، أن مفاوضيها ثابروا منذ مفاوضات مشاكوس على المطالبة بقيام لجنة للحقيقة والمصالحة على النمط الجنوب أفريقي للتنقيب عن الأسباب التي أدت منذ الاستقلال لكل الإرزاء التي عانى منها السودان وأهله، وهو نفس الموقف الذي ألحفت الحركة على تضمينه في مذكرة التفاهم التي وقعت مع المؤتمر الشعبي في جنيف في فبراير 2002، وتورد الفقرة الخامسة من تلك المذكرة ما يلي: "ادانة النهج الانقلابي لاسهام الانقلابات العسكرية في تفاقم الأزمة الوطنية وفشلها في ادارة السودان وفي ايجاد حل وطني دائم وشامل للصراع. كما ينبغي المحاسبة على كل الفساد والجرائم التي ارتُكبت بحسبانها أمراً ضرورياً لمستقبل الحياة العامة". على خلاف ذلك، أقول يلزم أن يكون الاقتراب من تلك القضية على وجهتين، الوجهة الأولى تتعلق بحقوق الذين انتهكت حقوقهم من البشر، والثانية تتعلق بكشف الحقائق كلها تطهيراً وتعقيماً للجسم السياسي حتى تقوم المصالحة على أساس متين وسليم، فالجُرح الذي يُضمد على قيح لا يبرأ. وفي الحالة الأولى لا أحسب أن أي اتفاق بين طرفين أو أكثر، بل أي قانون ـ حتى القانون السماوي ـ يلغي حقوق الناس، فالله يعفو عن حقه ولكن لا يعفو عن حقوق العباد. روى سفيان الثوري عن رسول الله صلعم أنه قال: "إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد". وذُكر عن أبي بكر الوراق أنه قال: "أكثر ما ينزع من القلب الايمان ظلم العباد". وليس في اي نص من نصوص الاتفاق نداء موجه للأفراد أو الجماهير كيما تتخلى عن حقها في السعي لرد أموالها، أو المطالبة بمحاسبة من انتهك حقها. الوجهة الثانية هى ضرورة اجتهادنا جميعاً في استقصاء جذور المشكل السوداني منذ الاستقلال من أجل الوصول إلى مصالحة تاريخية، فأزمة الدولة السودانية تعود إلى مطالع الاستقلال. والازمة كما ظللنا نقول، تكمن في عجزنا عن التصالح مع النفس، ولن يفلح المرء في الاصطلاح مع الآخر ما لم يتصالح مع نفسه. هذا هو مفهوم لجان الحقيقة والمصالحة التي تعددت تجاربها في العقدين الماضيين، وكل واحدة من تلك التجارب كانت تستجيب للظروف الموضوعية التي أدت إلى خلقها. فمن تلك اللجان ما أنشئ للتحقيق في قضايا محدودة (لجنة البحث عن الحقيقة في موضوع الأشخاص المختفين (الارجنتين في عهد الرئيس راول الفونسين وشيلي في العام 1990). ومنها ما أنشئ للتحقيق حول انتهاكات وقعت في فترة زمنية معينة (لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الانسان في الفترة 1974- 1999، تيمور الشرقية، لجنة الحقيقة والعدالة في الاكوادور في 176 حالة من حالات انتهاك حقوق الانسان خلال 17 عاماً)، ومنها ما أُلحق باتفاقيات السلام مثل لجنة الحقيقة في السلفادور التي انشأتها الأمم المتحدة في العام 1992 كجزء من مشروع السلام الذي رعته. لجنة الحقيقة والمصالحة التي طالبت بها الحركة، ودعونا لها قبل التوقيع على بروتوكولات نايفاشا ( أهوال الحرب وطموحات السلام ص 1034 - 1035) ربما اتخذت من التجربة الجنوب أفريقية نموذجاً يحتذى. تلك التجربة كانت مبادرة من رجلين نبيلين، نلسون مانديلا ودزموند توتو ارادا بها تطهير النفس، والسمو عن المواجع، واستشراف المستقبل بدلاً من التلبث عند الماضي. تكونت اللجنة بعد وفاق بين المؤتمر الوطني الأفريقي (حزب مانديلا) والحزب القومي (حزب ديكليرك) تضمن تبني الحزبين لقانون صدر في العام 1990 (قانون تعزيز الوحدة والمصالحة الوطنية)، وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة عنصراً مهماً من عناصره . من تلك اللجنة انبثقت لجنة قانونية مستقلة يترأسها قاض من قضاة المحكمة العليا للنظر في حالات الانتهاك الخطير لحقوق الانسان يُقر فيها المذنب بذنبه في جلسة علنية ويعفو فيها المجني عليه عن الجاني. فالهدف من العملية كان هو ابراء الذمم وضمد الجروح، وكان القانون حكيماً إذ نص على أن تقوم الدولة، في كل الحالات التي تستدعى تعويضاً مادياً ولا يكفي فيها رد الاعتبار المعنوي، بتعويض الضحايا. هناك أيضاً تجربة أخرى جديرة بالنظر هى تجربة المغرب في عهد الملك محمد السادس، تتمثل في هيئة الانصاف والمصالحة الملحقة بمجلس حقوق الانسان. الحركة، سواء كان في ما اقترحته على مائدة المفاوضات منذ ماشاكوس، أو ما تواصت عليه مع المؤتمر الشعبي في مذكرة التفاهم، ظلت تنادي بقيام لجنة تجتهد في التفتيش عن الحقيقة منذ الاستقلال لأن التعفية على الماضي لن تعين على مداواة أوصاب الحاضر، ناهيك عن وضع الأسس السليمة لسودان المستقبل. هذا النمط من البحث عن الحقيقة لا يتعسف طلب العدل القصاصي (Retributive) وإنما ينشد العدالة التعميرية (Restitute)، وذاك لعمري جهد يتطلب غوصاً في الذات، وصدقاً مع النفس، ونبلاً في الطبع. أجئ إلى الشمول الموضوعي زاعماً، في المبتدأ، أن الأسلوب الذي أقبلت به المفاوضات الأخيرة لمعالجة مشكلة الحرب لم يَقتفِ أثر الاتفاقيات النمطية التي درجنا عليها منذ مؤتمر المائدة المستديرة، والتي لم ينجم عنها ـ حتى حيثما أفلحت إلى حين في تهدئة الأجواء ـ غير اعادة انتاج الأزمة. ولا ريب في أن التلكؤ في، إن لم يكن الاحجام عن، الحل الشامل لمشاكل السودان المتعددة والمترابطة هو سبب الوهن الذي انتاب الجسم السياسي السوداني وأدى إلى تآكله الداخلي. وإن كان التلكؤ تعبيراً عن أن هذه القضايا لم تكن تحتل موقعاً رفيعاً في قائمة هموم الحاكمين، فإن الاحجام يعود في الأساس لهيمنة الماضي على عقول النُخبة الحاكمة وكان ذلك دوماً أمراً اختيارياً بحكم التجاهل العمدي لخيارات عديدة ممكنة، نعود اليها في المقال الرابع. وكما يقول برنارد شو إن "تجاهل المستقبل، والاصرار على ذلك التجاهل، هو الشئ الوحيد الذي يكرس تأثير الماضي على أفكارنا". لهذا أصاب التجمع الوطني الديموقراطي المرمى عندما وصف بروتوكولات السلام بأنها "خطوة مهمة في طريق انهاء الحرب الأهلية ومعالجة جذور الأزمة السودانية المزمنة. وهى بالتالي تشكل نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة لتحقيق التحول الديموقراطي وترسيخ السلام .. وتوفر أساساً لإعادة هيكلة البناء الوطني الموحد على أسس تختلف عن الأسس القائمة منذ الاستقلال". (بيان حول موقف التجمع الوطني الديموقراطي من بروتوكولات السلام، أسمرا 21/7/2004). أنا زعيم بان مثل هذا الاقتراب من الازمة السودانية لم تعرفه أية محاولة لعلاج مشكل الحرب من قبل اتفاقيات السلام الراهنة، حتى وان اعتورها قصور. وسنتناول في مقالات تالية كيف أقبل المتفاوضون على هذه القضايا؟ وما هى الحلول التي اقترحوها؟ وكيف تناولت السياسة السودانية في الماضي نفس القضايا؟ وما هى الحلول التي توصلت اليها، إن كان ثمة حلول؟ هذا أمر ضروري لأن أي تحليل أو نقد لما اتت به بروتوكولات نيفاشا من نظم ومؤسسات وسياسات دون مقارنته مع، أو مضاهاته بالتجارب الماضية، يصبح منقوصاً منهجياً ومعيوباً فكرياً. ولعل أول محاولة للانعتاق من الأسلوب النمطي في التعامل مع الازمة السودانية هى مقرارات أسمرا التي تناولت قضية الوحدة الوطنية من منطلق جديد إذ اعترفت بقضايا الهامش والأطراف، وأكدت مبدأ الوحدة الطوعية وحق تقرير المصير، وأقرت ضرورة اعادة النظر في منهج التنمية الاقتصادية الموروث منذ عهد الاستعمار بحسبانه العامل الرئيس في تكريس الفقر في الأطراف. وباعتماد هذه المفاهيم أصبح للديموقراطية ـ والتي هى موضوع مركزي في خطاب التجمع، وفي الخطاب السياسي منذ أكتوبر ـ معنى عند الجنوبي والبجاوي والنوباوي الذين لم تكن ضالتهم أبداً هى الحقوق المدنية. مواثيق أسمرا، بدون شك، تمثل خطوة متقدمة عما ورد في ميثاق الانتفاضة (أبريل 1986) الذي طغت عليه إما النمطية الموروثة منذ أكتوبر 1964 أو الثوابت الايديولوجية، وللموضوع نعود في مقالات تالية نكشف فيها عن تراجيديا الفرص الضائعة في السياسة السودانية.
الاهتمام بهذه القضايا في اتفاقيات السلام هو الذي أكسبها شمولاً موضوعياً. ولو توقف البحث عن التحول الديموقراطي عند القضايا التي لا تعني الكثير لأهل الأطراف. لما حُلت مشكلة الجنوب، ولا مشاكل التهميش السياسي والاقتصادي، ولا استقرار الحكم في اقاليم السودان في الشمال والشرق والغرب. أهل الأطراف لا يستخفون بهذه القضايا لعدم أهميتها ولكن لأنها لا تحتل أولوية في قائمة همومهم التي تتعلق بالوجود، ولهذا تحتل درجة أعلى من قضايا مثل التعددية الحزبية، الحقوق المدنية، الانتخابات. نعم، لو أقام المفاوضون عند القضايا التي كنا نَلبِدُ (نلزق) بها عقب الانتفاضات لما أصبح للتحول الديموقراطي معنى. فبقاء الاحتقانات السياسية في الأطراف، وعدم الاكتراث للعُطب السياسي في المركز سيقود، طال الزمن أم قصر، إلى الانفجار. لهذا يليق بالباحث او الناقد أو المحلل، اذن، الاعتراف أولاً بأن هذه هى المرة الأولى منذ الاستقلال التي تتم فيها معالجة الازمة السودانية معالجة شاملة تناولت نظام الحكم، وهيكل الاقتصاد، وتوزيع الثروة، وتحقيق التمكين السياسي للمستضعفين سياسياً. الباحث أو الناقد أو المحلل الذي يستبين هذه الفروق هو وحده الذي يُستحب له ابانة أوجه القصور في جملة الحل ومفرداته. يتبدى لنا أيضاً من بعض ما اطلعنا عليه من نقد أو تحليل للاتفاقيات اختزال قضية الشمول في المشاركة في الحكم وقسمة السلطة. فبروتوكول اقتسام السلطة على المستوى القومي قبل الانتخابات البرلمانية يخصص النسب التالية: الحركة الشعبية 28% المؤتمر الوطني 52%، والقوى السياسية الشمالية 14% والقوى السياسية الجنوبية 6%. في حين يخصص للحركة الشعبية، على مستوى برلمان الجنوب 70%، والمؤتمر الوطني 10%، ولبقية القوى السياسية الجنوبية الأخرى 10%. ومن المفهوم أن النسبة التي حُددت للمؤتمر الوطني في الجنوب سيذهب جلها للجنوبيين المنضوين تحت لواء ذلك التنظيم. بلا مماحكة، هذه قسمة ضيزى، وفي هذا الاطار نفهم النقد القارص للاتفاق من جانب السياسي الجنوبي المحنك بونا مالوال عندما كتب يقول: "حَرُصَ الطرفان على أن تكون اتفاقية السلام آلية لاقتسام السلطة بينهما أكثر منها آلية لحل النزاعات وحسم المشكلات كما توقعتها أغلبية السودانيين" (الشرق الأوسط 10/6/2004). أنا مثل بونا مواطن سوداني نال حظاً من المعرفة وقضت ظروف أن يتوغل في السياسة. من خلال تلك المعرفة وذلك التوغل أملك أن أقول إن أغلبية السودانيين في الشمال وفي الجنوب تنشد السلام، وأن المظلوم من بينهم يتمنى رد ظلامته في السلطة كان ذلك أو في الثروة، كما يطمح مجروح الكرامة إلى استرداد كرامته وضمان توقيرها، ويطمعون جميعاً ـ متى ما استردوا حقوقهم وكرامتهم ـ في العيش كبقية شعوب العالم، تتطامن نفوسهم ويُسترغدُ عيشهم. ولعلني أزعم أن اتفاقيات السلام الراهنة تمهد الطريق لتحقيق هذه الغايات للمرة الأولى منذ الاستقلال، دون إدعاء أنها ستحسم المشكلات بشكل مطلق. أزعم أيضاً أن الاتفاق الذي يؤكد حق تقرير المصير للجنوب، ويمنح ولايات السودان عبر القطر سلطات واسعة لم تُحظَ بها منذ الاستقلال، ويقسم الثروة بصورة غير مسبوقة، ويمنح كل ولايات السودان سلطة لم تتمتع بها من قبل لمراقبة المركز عبر مجلس للولايات، فيه ما هو أكثر من التمهيد لحل النزاعات والمشكلات. فإن كان الزعم صحيحاً، أولا يحسن بنا البحث عن وسائل الارتقاء بهذا البناء الغض الطري، بدلاً من الانتقاص منه، بله انكاره. أما اقتسام السلطة فلعل ما يستهم فيها الصديق بونا بقدر أكبر هو استئثار الحركة الشعبية بالسلطة ـ ليس طوال الفترة الانتقالية ـ بل خلال السنوات الثلاث الأولى. ففي النصف الثاني من تلك الفترة ستقرر "أغلبية السودانيين" بمحض ارادتها من الذي يحكمها. أو كما قال الأستاذ فاروق أبوعيسى في حديث لهذه الصحيفة "في الاتفاقية عيوب لو تمت معالجتها لكان الاتفاق أكثر قوة وعدالة.. وبعد ثلاث سنوات الحشاش يملا شبكته" (الرأي العام 15/6/2004). السنوات الثلاث هى التي ستقرر مصير الاتفاق. فما لم يتم تنفيذ الاجراءات الأمنية بصورة تُنهي الاحتراب، وتزيل كل بؤر الانفجار المحتملة، وتبني للسودان ـ في الشمال والجنوب ـ جيشاً عقيدته حماية الوطن، وتوفر الحل لمشكل كل جندي حمل السلاح، فلن تكون هناك ديموقراطية مستدامة أو غير مستدامة، ولن يكون هناك سلام عادل أو غير عادل. هذه أمور لا يقدر عليها إلا من يملك زمام التحكم في القوى الضاربة مما يجعل الطمع في أن يتخلى "العسكري" جون قرنق دي مابيور في الجنوب، و"العسكري" عمر حسن أحمد البشير في الشمال عن موقعيهما حال توقيع الاتفاق ليحتلهما من هم أكثر جدارة بالحكم، طمعاً في غير مطمع، بل ربما يكون وصفة لتقويض الاتفاق. أقول هذا مستنطقاً الواقع بعد استنفاد كل الاحتمالات، وخسران كل الرهانات المبنية على الوهوم لا لأنني "مارشال" يريد أن يُنَمِرَ هذا، أو يُقرنق ذاك، أو كما قال. من الناقدين للقسمة الضيزى الدكتور حيدر ابراهيم، كتب في مقال لجريدة المصور يقول: "يصاب المرء بالحزن والخوف من المجهول حين يتذكر الطريقة التي اقتسم بها الطرفان السلطة والثروة". ثم يتساءل "هل هذا الذي يتم تقسيمه بالنسبة وطن أم غنيمة ذبيحة. ولكنها بالفعل شركة مساهمة وليست شراكة سياسية كما يروج لها الطرفان" (المصور 18/6/2004). مرة أخرى، الاشارة هنا لاقتسام السلطة في الجزء الأول من الفترة الانتقالية رغم أن تلك الفترة، بموجب الاتفاق، ستشهد انفتاحاً يمهد الطريق لتحول ديموقراطي واسع ظل الدكتور حيدر (كما ظللنا) يتمناه منذ أن دعا للمصالحة التاريخية مع النظام قبل بضعة أعوام. لا شك أنه من حق القوى السياسية الشمالية، كما من حق القوى السياسية الجنوبية، أن ترى في تلك النسب استصغاراً لها، ومن حقها أن لا ترضى بها. وفي هذا ما ظلم السيد الصادق المهدي عندما قال "المشاركة ستكون ضمن التحول الديموقراطي وضمن ما تعطيك من فرصة للتأثير على القرار، أما الاشتراك كمردفين فهذا غير وارد" (الحياة 8/6/2004). ولكن، كما ألمحنا، فإن هذا الوضع غير الطبيعي طبيعي بلوازمه، وعلى رأس اللوازم موازين القوة. ولعلنا نعرف جميعاً من معارفنا في الرياضيات أن اللازمة نتيجة تتبع بالضرورة حقيقة ثابتة بالبرهان. كان الأمر ليصبح مدعاة للاستنكار ـ بل المجابهة ـ لو لم تُقر الاتفاقية مبدأ العودة للشعب خلال الفترة الانتقالية. كما يحق لكل القوى السياسية الإصرار على توفير الضمانات بأن تتم الانتخابات في الموعد الذي حددته الاتفاقيات، وأن توفر لها كل الضمانات الوارد ذكرها في تلك الاتفاقيات. الخوف من المجهول بسبب هذه القسمة هو الذي يبعث على الحيرة في حديث د. حيدر. فلئن كان مبعث الخوف هو طراوة الاتفاق، أو اعتماد نجاحه على متحولات غير منظورة، أو لأسباب لم يحسب لها الطرفان حساب لفهمناه، أما أن يكون بسبب القسمة فتلك نتيجة لا تبيحها المقدمة. فالجميع يعرف أن السياسة السودانية قد درجت على أسلوب في اقتسام السلطة في الفترات الانتقالية منذ أكتوبر 1964 يعتمد دوماً على أوزان القوى التي أحدثت التغيير. فما هو ،مثلاً، الوزن العددي مقارنة بالأحزاب، لجبهة الهيئات التي سيطرت على الحكم بعد سقوط نظام عبود؟ أوليس دورها في اسقاط النظام هو الذي فرض تحكمها في مفاتيح السلطة يومذاك حتى لم يَعُد للأحزاب في حكومة أكتوبر الانتقالية غير وجود رمزي. وما هو الوزن العددي للجيش والتجمع النقابي، بالنسبة للأحزاب، الذي أهلهما لتولي الحكم خلال الفترة الانتقالية بمعزل عن الأحزاب عقب سقوط نميري؟ أوليس ذلك بسبب دورهما الحاسم في اسقاط حكومة مايو؟ ثم أولم يقرر التجمع الوطني الديموقراطي فترة انتقالية تمتد لخمس سنوات (لا ثلاث) ، إن قدر له اقامة النظام الذي كان ينتوي اقامته، يختار حكومتها وبرلمانها من بين فصائل التجمع؟ ورغم أن التجمع تنظيم شامل لأغلبية الفعاليات السياسية (بما فيها حزب الأمة بحكم ما كان)، أوليس صحيحاً أنه لا يضم أحزاباً وجماعات خرجت عن تنظيماتها ولهذا حُرمت من عضويته مما كان سيخرجها من "مولد" الفترة الانتقالية التجمعية "بدون حُمص"؟ هذه المقارنة قد تكون عسيرة على الهضم عند البعض لأن أحد أطراف الشراكة المرتقبة في الحكم هو الحزب الذي كانت الحركة تحاربه، وما انفك التجمع يعاديه. ولكن الذي نحن بصدده هو ضرورة اتخاذ عيار محدد أساساً للمقارنة وامتحان المكائيل، فعيار الاقتسام في حالات النصر ليس هو نفس العيار في حالات الهزيمة، وعيار الاقتسام في حالات التصالح من مركز قوة ليس هو نفس العيار في حالات التصالح من مركز أقل قوة، كي لا نقول أضعف. وعلى كل، فبصرف النظر عن الأسباب الموضوعية التي قادت للقسمة الضيزى فان تخيل وجود مسطرة حاسبة (Slide Ruler) في السياسة تقاس بها الأوزان (عدا الانتخابات) خيال لا يسنده برهان أو تثبته قرينة. أن تكون لأغلب الناقدين لُبثة عند حديث القسمة باعتباره هو المبتدأ والخبر في قضية التحول الديموقراطي أمر مؤسف، وكأن كل عناصر التحول الديموقراطي التي تضمنها الاتفاق مثل الاحتكام للشعب بعد ثلاث سنوات، واعتماد مواثيق حقوق الانسان بصورة لم يعرفها أي دستور سابق بل تجاوزت ما أقره التجمع (وكان طرحه متقدماً على ما أوردته كل دساتير السودان السابقة)، ونقل السلطة فعلياً لا رمزياً للولايات بحيث سيصبح الحكم فيدرالياً بحق وحقيقة، وتأهيل أجهزة الأمن لتصبح أجهزة مهنية تحكمها ضوابط تتفق مع الأعراف وتخضع للدستور والقانون، كأن كل هذه أمور يستهان بها في معرض تحليل عناصر الانتقال من الشمولية إلى الديموقراطية التعددية. هذه هى المبادئ التي لا تقبل القسمة والتي يجدر الاهتمام بها. من جهة أخرى ينطلق التلبث عند قسمة السلطة، فيما هو بين، من حالة ذهنية لا صلة لها بالواقع الجديد الذي سيتولد من الاتفاقيات، مما يجعل من الجدل عراكاً في غير معترك. ففي بروتوكول اقتسام السلطة أصبحت وحدة القسمة هى الولاية لا المركز، ولهذا لن تبقى السلطة المركزية على ما كانت عليه، لا من ناحية السلطات، ولا الحجم، ولا النفوذ، ولا الموارد المتوفرة لها. الاقتراب السليم من قضية التحول الديموقراطي كان من جانب محلل سياسي نابه هو الأستاذ محمد الحسن أحمد. كتب في مقال ناقد للاتفاق يقول إن: "أكبر مكسب في مجمل هذه الاتفاقات على الصعيد السياسي هو التأكيد على إجراء انتخابات ديموقراطية في كل البلاد وبمراقبة دولية، وحتى تكون الانتخابات نزيهة وحرة ينبغي أن تكون الحريات متوفرة ومعززة والفرص متكافئة للجميع. واذا يُسرت كل تلك المتطلبات فانها بلا شك تجعل من نسب التوزيع في السلطة الانتقالية أمراً غير ذي بال بالنظر إلى أن برنامج الفترة الانتقالية هو برنامج تراضى عليه الجميع بل هو جماع اتفاقات السلام المفضية بعد سنوات إلى بناء السودان الجديد اذا أحسن الجميع تنفيذها. وبالتالي فان على القوى الحزبية أن تتهيأ للتنافس في الانتخابات القادمة بعد ثلاث سنوات" (الشرق الأوسط 10/6/2004). ليت التحليل والنقد اتجه إلى كيف يطور الاتفاق إلى واقع ملموس، وكيف تُحكم الضمانات لتنفيذه، وكيف يؤطر دستورياً ميثاق الحقوق الذي ورد في البروتوكول (الفقرة 6.1)، وكيف تتم المشاركة في اللجنة القومية للدستور التي يتحدث عنها البروتوكول (الفقرة 12.2)، وكيف تُكَّون اللجان الرقابية المستقلة مثل: لجنة الانتخابات، ولجنة حقوق الانسان، ولجنة الخدمة العامة، واللجنة القومية للخدمة القضائية؟ فاتفاقيات السلام ليست حدثاً (Event) وإنما هى عملية (Process)، والعملية هى جملة أعمال تنشأ من مركز انطلاق واحد ثم تترى وتتفاعل. في خطابه عقب التوقيع على اعلان نيروبي (5 يونيو 2004) قال رئيس الحركة: "برغم أن الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني سيصبحان الشريكان الرئيسان في المرحلة الأولى للفترة الانتقالية إلا اننا نفهم هذه الشراكة كعملية لا تُقصي أحداً، ولهذا نسعى لضم كل القوى السياسية لعملية السلام، وعلى رأس هذه القوى الأحزاب المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديموقراطي. لهذا السبب اقترحنا وضع عقد اجتماعي ينعقد عليه وفاق شامل ويلتزم باتفاقيات السلام، كما يوضح بجلاء محددات الحكم الصالح، وأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية خلال الفترة الانتقالية. يتضمن العقد أيضاً التزاماً اخلاقياً بالقيم التي لا يستقيم الحكم الصالح (Good Governance) دون الالتزام بها، على أن يكون ذلك في مدونة سلوك يلتزم بها اللاعبون السياسيون". هذه النظرة للمشاركة تنشد الارتقاء بها إلى آفاق تتجاوز الصراع على السلطة (بمعنى كراسي الحكم) إلى صراع حول الأهداف من الحكم، وتحويل الامتثال الاجرائي بقواعد الحكم الصالح إلى التزام أخلاقي بهذه القواعد. عَملٌ صالح أن تتجه القوى السياسية داخل القطر لانشاء تحالف لتحويل الاتفاق من صفقة ثنائية إلى اتفاق قومي. وأكثر صلاحاً الاتجاه بهذا العمل إلى القضايا التي تتناول جوهر الحكم، والوسائل التي تتيح مشاركة فاعلة في صوغ السياسات، ومراقبة التحول الديموقراطي. وقد كان للتجمع، بلا مشاحة، اسهام كبير في بلورة أفكار الحركة نفسها حول التحول الديموقراطي. وإن كان أحد طرفي الاتفاق (الحركة الشعبية) والذي هو عضو أصيل في التجمع الوطني الديموقراطي قد أبان الخطوط العامة لجوهر المشاركة، فقد أعلن أيضاً الطرف الحكومي رأيه واضحاً في بيان مشترك مع التجمع خلال زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية للقاهرة ولقائه مع قيادات التجمع. ذلك البيان تحدث عن "ضرورة تضافر جهود القوى السياسية كافة لترسيخ السلام وشموله وتعزيز التحول الديموقراطي والحفاظ على وحدة البلاد، وتخلي التجمع، ازاء ذلك، رسمياً عن العمل العسكري المعارض" (الحياة 11/6/2004). وجاء خطاب الفريق البشير في مساء يوم 29/6/2004 تأكيداً لذلك العزم، خاصة اعلانه السعي الجاد لادارة حوار وطني مع كل القوى السياسية. لقد أتاحت اجتماعات هيئة قيادة التجمع التي انعقدت في أسمرا في الفترة (14- 23/7/2004) فرصة مواتية لحوار مطول حول استراتيجيات التجمع المستقبلية خاصة في ما يتعلق باتفاق السلام والتحول الديموقراطي. ولعل من أبرز ما ورد في الخطاب الافتتاحي لرئيس التجمع (الاربعاء 2004/7/14) دعوة التجمع لـ " لأمرين، الأول هو الترحيب باتفاقيات السلام "طالما أنها تفضي إلى وقف الحرب والاقتتال وتحقيق التحول الديموقراطي والتبادل السلمي للسلطة، وتخلق واقعاً جديداً لترتيب الأوضاع السياسية للتعامل معه في اطار السعي نحو الأفضل". الأمر الثاني، كما جاء في الخطاب هو، "ان الاتفاق بين الحركة الشعبية وحكومة الخرطوم يظل مفتقراً إلى الاجماع الوطني الذي يضمن له النفاذ على أرض الواقع، ولن يتسنى ذلك دون مشاركة التجمع الوطني الديموقراطي والقوى الرئيسة". هذا رأي صائب لأن أية محاولة من جانب التجمع لتحقيق أجندته القصوى، أو رفع سقف مطالبه عما حدده في مبادرات السلام، مع عدم توفر الظروف الموضوعية لذلك يصبح تخبطاً أو مغامرة، وما أودى بالسودان غير تزيد المغامرين العاجزين عن فك الاشتباك مع أوهامهم. دعا رئيس التجمع أيضاً للابقاء على كيان التجمع مع "تطوير ميثاقه وآلياته للتوافق مع متطلبات المرحلة القادمة لتأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية والتنمية الشاملة". هذه رغبات عملاقة، يتطلب تحقيقها جهداً عملاقاً. ونحن نبرز هذا الجانب من الخطاب لما فيه من استبصار لطبيعة المرحلة القادمة، وهى مرحلة لها رؤاها وآلياتها كما لها اخلاقياتها الخاصة التي تضبط التعامل. فلا أفكار الهيمنة والظلم العظيم من جانب، ولا نظريات الاستئصال للآخر المغاير أو توقع بناء السودان الجديد بالعنافة، من جانب آخر، تصلح في مرحلة "تأمين الوحدة الوطنية والسلام والديموقراطية"؟ ////////////////// اتفاقيات السلام ... البدايات والمآلات (3( حق تقرير المصير .. نكون أو لا نكون، ماذا تعني؟ في هذا المقال نقتصر الحديث على الموضوع الأول: مشكلة الجنوب وحق تقرير المصير. فمنذ مذكرة مؤتمر الخريجين في 3 أبريل 1942 قالت الحركة الوطنية (الشمالية) في مذكرة المؤتمر الشهيرة إن الجنوب جزءٌ لا يتجزأ من الشمال، ولهذا طالبت بالغاء قانون المناطق المقفولة وتوحيد شقي القطر. مع ذلك، ظل أغلبنا في الشمال يتساءل ''الجنوب داير شنو؟''. السؤال يعني واحداً من شيئين، إما أن هذا الجنوب الذي هو جزء لا يتجزء من الشمال أرض قفر Terra Nullius لا أهل له حتى نعرف منهم ما يريدون، أو أن هذه الرقعة من الأرض والتي تُمثل ثلث الوطن الكبير أرض مجهولة Terra Incognita أكتشفناها واستحوذنا عليها بحق الاكتشاف. أسوأ من ترداد هذا السؤال مواظبتنا، بعد مضي نصف قرن من الحكم الذاتي وخروج الاستعمار، على القول أن لا نصيب لنا من المسئولية عن كل الحروب الأهلية التي كادت تزهق روح الوطن، بل إصرارنا على رد المسئولية كلها عن تلك الحروب إلى الخطيئة الأولى التي ارتكبها الاستعمار. لزوم تلك الدعوى والثبات عليها يعني أن ليس لنا ما نعتذر عنه أو نندم على فعله رغم الحروب، حتى كاد أن يكون شعارنا هو الأغنية الخالدة للمطربة الفرنسية اديث بياف ''لا شئ، لا شئ، لا شئ أعتذر عنه Rien de rien Je ne regrets rien يفيد اذن أن نبين ما هو هذا الجنوب؟ وما هى قضيته؟ وهل كانت عناصر هذه القضية معلومة للجميع بحيث تدخل في علم الكافة، أم أن موضوع الجنوب كله أسطورة اختلقها الاستعمار وتولاها ربائبه بالرعاية. الجنوب، في أي بلد من بلاد الله، هو كل ما يقع على يمينك ويقابل الشمال وأنت متجه شرقاً. بيد أن الذي نسميه جنوباً في السودان، منذ مذكرة المؤتمر، هو الوحدات الادارية التي قرر الحكم الاستعماري في عام 1930 (مذكرة السكرتير الاداري هارولد ماكمايكل) اعتبارها مناطق مقفولة. تلك الوحدات ضمت المديريات الثلاث: بحر الغزال، أعالي النيل، منقلا (والأخيرة أصبحت تعرف فيما بعد بالاستوائية). برر ماكمايكل ذلك القرار بما يلي: ''انشاء سلسلة من الوحدات القبلية أو الجنسية (أي الاثنية) القائمة بذاتها على أن يكون قوام النظام فيها مرتكزاً على العادات المحلية والتقاليد والمعتقدات بقدر ما تسمح به ظروف العدالة المحلية والتقاليد والمعتقدات والحكم الصالح''. تلك كانت بلا شك هى الخطيئة الأولى التي غرست بذور التفرقة بين شقي القطر، خاصة وقد اتسم تنفيذ تلك السياسة بسخف العقل. مثال ذلك قرار الادارة الاستعمارية أن تجعل من منطقة كافياكنجي منطقة عازلة Buffer Zone بين دارفور وبحر الغزال حتى تمنع، كما جاء في مذكرة ماكمايكل، ''اختلاط العرب بالزنوج''. قانون المناطق المقفولة ليس هو الخطيئة الوحيدة التي اجترحها الاستعمار، فمن خطاياه أيضاً تبنى منهج التنمية اللامتكافئة، واستغلال التنافس بين الطوائف الدينية، ووضع القوى التقليدية في مجابهة النُخبة الحديثة التي أخذت في البروز بعد ثورة 1924والسياسات الأخيرة في الشمال لم تكن أقل سخفاً عن رصيفتها في الجنوب. ففي رسالته حول تنفيذ سياسة الحكم غير المباشر كتب حاكم عام السودان السير جون مافي (1926- 1934) يقول إن الحكم غير المبـاشر ''سيكـون أقل تكلفة كما سيصبح غدة واقية Protective Gland ضـد الجرثومة المريبة Septic Germ للوطنية التي ستفد لا محالة من الخرطوم''. تلك كانت سياسات الاستعمار في الشمال والجنوب وما ابتغى منها غير خدمة مصالحه الاقتصادية والتمكين لحكمه. لهذه الأسباب نهضت الحركة الوطنية لاجلاء الاستعمار لا لتحل محله فقط وإنما أيضاً لتُبَدِل من سياساته حتى يكون السودان ''حراً مستقلاً'' يبنيه أبناؤه بحيث يزال الغبن، وتتحقق الوحدة الوطنية، ويُطور القطر. لهذا يصبح السؤال الأصوب هو ما الذي فعلنا لتحقيق هذه الأهداف بعد احتلالنا للفضاء السياسي الذي خلفه الاستعمار، وليس الهروب إلى الامام من السؤال بدعوى أن الاستعمار قد أورثنا المشاكل. وعلى أي، فقبيل خروج الاستعمار طرأ واقع جديد بالنسبة للجنوب هو أولاً التوافق المبدئي بين شقي القطر على التوحد (يونيو 1947)، وثانياً تراجع الاستعمار عن سياساته نحو الجنوب (ديسمبر 194. ففي الحالة الأولى تراضى ممثلون للجنوب والشمال في مؤتمر جوبا (12-13 يونيو 1947) على توحيد شقي القطر ''آخذين في الاعتبار مخاوف أهل الجنوب'' من التوحيد العاجل، أي أن قبول التوحيد كان مبنياً على شروط. وفي الحالة الثانية أعلن السكرتير الإداري، السير جيمس روبرتسون أن ''سكان الجنوب أفريقيون وزنوج خُلص ولكن العوامل الاقتصادية والجغرافية (كما يتراءى في الوقت الحاضر) تجعل صلتهم بشمال السودان العربي الذي يتصل بدوره باقطار الشرق الأوسط وثيقة جداً. وعليه يجب التأكيد على أنه من الممكن عن طريق التقدم الثقافي والاجتماعي إعدادهم في المستقبل ليكونوا أنداداً متساوين مع الشماليين اجتماعياً واقتصادياً في سودان المستقبل''. أعجب العجب أنا ما زلنا حتى اليوم نتحدث عن سودان المستقبل الذي بشر به الاستعماري العتيد. وعلى أي، فالكلمات المفتاحية في رسالة روبرتسون هى أولاً أن العوامل الجغرافية والاقتصادية تمثل اساساً متيناً للوحدة بين الجنوب والشمال، وثانياً أن الطريق لتمتين تلك الوحدة هو التقدم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي يجعل الجنوبيين أنداداً للشماليين. جميع السياسات السودانية تجاه الجنوب عقب الاستقلال اتسمت بخصيصتين متصادمتين، الأولى هى الحرص على وحدة شقي القطر بحيث أصبحت تلك الوحدة عقيدة سياسية شمالية. والثانية هى الاستهانة برؤية الجنوبيين لشرائط هذه الوحدة. هذه الاستهانة هى التي تجعل السؤال المتواتر عما يريده الجنوب سؤالاً مُشتبهاً أمره. فمنذ الاستقلال، بل منذ مؤتمر جوبا، كان بين أبناء الجنوب من تصدى لابانة مصالح أهلهم والتعبير عن مطامحهم، تماماً كما كان المثقفون الشماليون يبلورون مصالح ومطامح أهلهم في الشمال، بل مصالح ومطامح القطر كله. وعند إيضاح ما يريده الجنوبيون بالنسبة للجنوب، لم يختلف رأي الجنوبي المسلم عبدالرحمن سولي، عن رأي الكاثوليكي ستانسلاوس بياساما، أو رأي الانجليكاني بنجامين لوكي. لا حاجة بنا لرواية فصول التاريخ السياسي المأساوي لجنوب السودان، وللعلاقة بين الجنوب والشمال. ذلك التاريخ بدأ في العهود الديموقراطية بفرض وصاية قسرية على الجنوبيين بدعوى (أو افتراض) أن ليس في كل الجنوب من هو قدير على التعبير عن رأي أهله (عدم اشراك الأحزاب الشمالية للجنوبيين في المفاوضات المصرية - البريطانية التي تمت قبيل اعلان الحكم الذاتي)، وتبع ذلك التنكر لوعد كان هو شرط وجوب لقبول الجنوب اعلان الاستقلال من داخل البرلمان (الفيدرالية كأساس للحكم)، ثم العجز الكامل في الديموقراطية الثانية عن تنفيذ قرارات لجنة الاثني عشر وهى القرارات التي كانت تمثل آنذاك الحد الأدنى للمصالحة الوطنية. على أن أعلى درجات الحمق في تلك السياسات كانت هى انقضاض حاكم شمالي (نميرى) على اتفاق حقق ـ رغم هشاشته ـ سلاماً دام عشر سنوات (اتفاق اديس أبابا 1972). امعاناً في خداع النفس وتضليل الآخر ظلت الطبقة السياسية الشمالية، خاصة أهل الحل والعقد من بينها، كما ظل أغلب مكيفي الرأي العام في الشمال من الباحثين والاعلاميين وبعض الأكاديميين، يبيحون لانفسهم الوصاية على الجنوب بدعوى أن الجنوبيين لم يبلغوا بعد الدرجة من الوعي التي تؤهلهم لاحتلال المناصب الرفيعة في الدولة (السودنة) أو التعبير الرشيد عن مصالحهم. ليت هؤلاء الأوصياء بزعمهم استمعوا لنصح الناصحين. من بين اولئك الناصحين اللجنة التي كونتها أول حكومة وطنية للتحقيق في أحداث الجنوب 1955 برئاسة القاضي الفلسطيني توفيق قطران، قاضي جنايات الخرطوم يومذاك (ضمت اللجنة ضابط البوليس المعروف خليفة محجوب، وكان وقتها مديراً لمشروعات الاستوائية، والزعيم الجنوبي لوليك لادو من الليريا). قال التقرير: ''ان السودانيين الشماليين، ومن بينهم من يتقلد وظائف كبرى في الادارة، يصفون الطبقة المثقفة من الجنوبيين بأنهم أنصاف متعلمين. أن التعليم شئ نسبي وتختلف فيه وجهات النظر، وقد استفادت الأمم من التجارب المتكررة، بما في ذلك الدول التي لها ماض طويل في استعمار الشعوب بأن من الخير لها أن تكسب ثقة الطبقة المثقفة سواء كانوا متعلمين أو أقل درجة من ذلك. ان الادارة الشمالية في الجنوب ليست استعمارية ولكن لسوء الحظ فأن أغلبية الجنوبيين ينظرون اليها هذه النظرة. وطالما كان الأمر كذلك فأن من المُهم كسب هذه الطبقة المثقفة''. التجارب التي تلت تقديم هذا التقرير إلى وزير الداخلية الشـيخ علي عبد الرحـمن في 18/2/1956 (أي بعد اعلان الاستقلال) اثبتت أن تلك النصائح لم تكن غير صيحة في واد. الاستهانة، ونقض العهود أو التخلي عن الوفاء بها، قادا إلى ارتفاع سقف المطالب الجنوبية بعد كل مرحلة وعد فيها الشمال وأخلف الوعد. وهكذا مضى التشدُد، تداول بعد تداول؛ واشتد وطيس الحرب، حربٌ لي وعلى. ثمن هذا كان هو انحدار السودان كله في المزيد من التخلف والهوان. فلو تحققت الفيدرالية في مطالع الاستقلال لما نشبت الحرب بل ولربما تطور السودان كما تطورت كوريا الجنوبية التي كانت في نفس مستوى السودان الاقتصادي عند استقلاله. كوريا الجنوبية لا تملك ما يملك السودان من موارد، ولا تزيد مساحتها عن 100 ألف كيلومتر مربع. إلا أن ناتجها القومي الاجمالي يبلغ اليوم 422 بليوناً من الدولارات، في حين لم يتجاوز في السودان 125 بليوناً (تقرير الأمم المتحدة للتنمية الانسانية 2003). ولو قبل الشمال حكماً اقليمياً يمنح الجنوب سلطات واسعة كما تمنى أغلب الجنوبيين في مؤتمر المائدة المستديرة 1965، أو حتى كما قررت لجنة الاثني عشر، فلربما أحرز السودان ـ على الأقل ـ ما أحرزته ماليزيا التي نالت استقلالها في عام 1963 ولا تزيد مساحة ماليزيا عن 360 كيلو متراً مربعاً لا تحتوي على ما يحتويه السودان من موارد. وفي العام الماضي بلغ الناتج القومي الاجمالي لماليزيا 88 بليوناً من الدولارات في حين بلغ في سنغافورة الصغيرة التي انفصلت عن ماليزيا عقب الاستقلال بقليل 856 بليوناً. وفي الحالتين هو سبع أضعاف الناتج القومي الاجمالي لبلادنا. ولو لم ينقض نميري اتفاق أديس أبابا لما اشتعلت نيران الحرب من جديد في عـام 1983 بصورة أشد ضراوة، ولو لم تتحول الحرب بعد استيلاء الجبهة القومية الاسلامية على الحكم إلى حرب جهادية لما تعالت نداءات الانفصال من الجنوب، وكاد الوطن كله يَغرقُ في ظُلمات بحرٍ لُجي يغشاه موج. لكل ذلك، لم تبق للسودان جارية تنقذه من اللُجة التي طغى ماؤها غير حق تقرير المصير. لو، لو، لو، كل هذه اللوات لا تفيد إلا امتناع الوجوب لامتناع الشرط. ارتفع، اذن، سقف المطالب الجنوبية إلى خيارين: الانفصال الفوري، أو الوحدة الطوعية، أي الوحدة التي يقررها الجنوبيون بمحض ارادتهم لو توفرت شروطها. ولا نلومن في هذا إلا أنفسنا في الشمال إن حَملَنا الجنوبيين إلى تلك النهاية. وعلى كل، ارتضت الشرط الأخير كل القوى السياسية منذ يونيو 1995 (التجمع الوطني في مؤتمر القضايا المصيرية)، وحكومة الانقاذ (اتفاق فرانكفورت 1992 ، اعلان مبادئ الايقاد 1994، ثم اتفاقية الخرطوم للسلام من الداخل1997). أمر تقرير المصير في بداية الأمر التوى به البعض على غير هدى مُستنجدين بحيل القانون. مثال ذلك الادعاء أن تقرير المصير حق تمارسه الشعوب المستعمرة، وقد مارسه السودان في 1/1/1956 وأذكر أن واحداً من الاعتراضات التي أبداها جناح الشريف زين العابدين الهندي في الحزب الاتحادي الديموقراطي على قرارات أسمرا (مؤتمر القضايا المصيرية) هو تبنيها لحق تقرير المصير باعتباره انتهاكاً، في تقديرهم، لما أُسموه ''سلامة الأرض وصيانة العرض''. هذه لغة يصعب كثيراً ترجمتها سياسياً أو قانونياً، ولعلها في حاجة إلى تُرجمان من نوع آخر. الإدعاء أن حق تقرير المصير حق يكفله القانون الدولي للشعوب المستعمرة فقط له ما يسنده في القانون الدولي التقليدي. فمنذ اعلان الرئيس ويلسون لمبدأ حق تقرير المصير في نقاطه الأربع عشرة، وإقرار معاهدة فيرساي لذلك الحق بالنسبة للشعوب المستعمرة أو الواقعة قسراً تحت هيمنة دولة كبرى، ارتبط مفهوم حق المصير بالتحرر من الاستعمار. ثم جاء ميثاق الأمم المتحدة في عام 1951 ليؤكد هذا المعنى. ولكن هذا الفهم لحق تقرير المصير لم يعُد يستند على ساق في ظل التطورات التي طرأت على القانون الدولي. من ذلك ما شهدته مفاهيم حقوق الانسان التي أصبحت أيضاً حقوقاً للشعوب وليس فقط للأفراد. كما منه استمثال القانون للواقع السياسي على الأرض رغم كل ما كان يقول به القانون الدولي العرفي حول شروط الأهلية لممارسة حق تقرير المصير. وهناك شواهد كُثر على الظاهرة الثانية أهمها ما وقع أخيراً في دول البلقان (يوغسلافيا القديمة)، والاتحاد السوفيتي، وتشيكوسلوفاكيا. ولعل في تجربتي يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي ما يُستطرف. ففي الحالة الأولى تمسكت الولايات المتحدة (وزير الخارجية جيمز بيكر) بمبادئ القانون الدولي ورفضت الاعتراف بأول دولتين انشقتا عن يوغسلافيا: كرواتيا وسلوفينيا، في الوقت الذي اعترفت بهما المانيا على الفور، ثم تلتها دول أوروبية أخرى. ولم يتبدل الموقف الامريكي إلا بعد أن استتب الأمر لحكام الدولتين المنشقتين. أما تمزق الاتحاد السوفيتي إلى ولايات فهو أدعى للعجب رغم أن ما حدث ماكان ينبغي أن يثير الاستعجاب. فدستور الاتحاد السوفيتي (دستور لينين) يمنح حق تقرير المصير لكل دول الاتحاد متى أرادت أي منها ممارسته، إلا أن ممارسة هذا الحق الذي كفله الدستور السوفيتي لم تتحقق إلا بعد سقوط النظام الذي أقامه لينين. أما في الحالة الثانية (التطورات التي طرأت على القانون) فهناك جسم من القوانين الدولية التي تكفل الآن حقوق الشعوب، خاصة المجموعات الأصلية Indigenous في تقرير مصيرها، بمعنى تحديد وضعها السياسي، وتطوير ثقافاتها، وتنمية نفسها اجتماعياً واقتصادياً على الوجه الذي ترغب. وتقرير المصير، بهذا المعنى، قد تتم ممارسته حتى في اطار الدولة الواحدة. وقد دفع الاهتمام بحقوق المجموعات الأصلية كثيراً من الدول لتعديل دساتيرها بحيث توفر الضمانات اللازمة لهذه الجماعات لكيما تشارك مشاركة فاعلة في السلطة، وتتمتع بنصيب عادل من الثروة، في ذات الوقت الذي تصون فيه خصائصها المميزة إن أرادت ذلك. فمضمون حق تقرير المصير هو المشاركة الفاعلة في العملية الديموقراطية للحكم والقدرة على صناعة مستقبلك السياسي والثقافي والاجتماعي. وتظل الهند هى النموذج الأقرب والأمثل بالنسبة للسودان من حيث طبيعة المشاكل التي يمكن أن يتعرض لها بلد متعدد الأديان والاعراق واللغات. وعي الطبقة السياسية في الهند بضرورة معالجة هذه القضايا بالقدر الذي حال دون تفجرها هو الذي أدام الحكم الديموقراطي في الهند، وأهَلهَا للعب دور محوري في الاقتصاد العالمي. ومن الأمور التي وعيتها الطبقة السياسية الهندية وأدركتها على حقيقتها موضوع العدالة في اقتسام السلطة مما قاد إلى الحكم الولائي بما فيه انشاء ولايات تتمتع بسلطات أوسع من غيرها تسمى بولايات الاتحاد Union States، والقضاء على الظلم الاجتماعي الموروث بتبني سياسة التمييز القصدي في التعليم والعمل للجماعات المهمشة، واحترام الخصائص الثقافية لأقوام الهند بالاعتراف باللغات والثقافات القومية الخ. من جانب آخر، أسبقت الدول التي تدرك مسئولياتها نحو شعوبها في العقدين الأخيرين، على اعادة النظر في دساتيرها وقوانينها لكيما تقفل الطريق على الانفجارات التي قد تتولد من الظلم، كان ذلك حقيقياً أو مُدركاً بالحس Real Or Perceivedوأهم من ذلك، أن تجعل من الأوطان ملكاً لكل أهلها بلا تمييز لفريق،
09-16-2004, 02:34 AM
يحي ابن عوف
يحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335
أو استحطاط لآخر. مثال ذلك تعديل الدستور الكندي (1982) لحماية حقوق ومصالح النونافوت (فرع من الاسكيمو). هذه الجماعة لا يزيد عددها عن الثلاثين ألفاً إلا أنها تحتل اقليماً تبلغ مساحته 2 مليون كيلومتر مربع. ودستور كولومبيا (1991) الذي وفر للأقوام الأصلية حقوقاً تراوحت بين الحكم الذاتي المحلي، وتطبيق القوانين العرفية، وحماية الملكية الجماعية للأرض. ويمثل هؤلاء في كولومبيا واحداً وثمانين مجموعة أصلية متميزة يكونون 3% من السكان، ويتحدثون 64 لغة. وعلى نفس النهج سار دستور باراقواي (1992) لتوفير حقوق نظيرة للمجموعات الأصلية التي تمثل 4% من السكان في ذلك القطر، كما طرأت تعديلات على دساتير دول أخرى مثل البرازيل (199، والارجنتين (1994) لتحقيق نفس الهدف. تلك الذرائع والحيل القانونية، على أية حال، لم تعد ذات معنى بعد أن استمد منح حق تقرير المصير لجنوب السودان شرعيته من تراضي كل الأطراف السودانية عليه بما في ذلك (كما اتظنى) جماعة ''الأرض والعرض''. ما الذي جاءت به ماشاكوس في هذا الشأن؟ في البدء جاءت بما أسميناه في المقال الأول تطابق الرؤى حول جذور المشكل حتى لا يصبح الحوار حوار طرشان. ففي ديباجة الاتفاق أكد الطرفان ''حرصهما على حل النزاع السوداني بصورة عادلة ومستدامة بمخاطبة جذور المشكلة وخلق اطار للحكم يقوم على الاقتسام العادل للسلطة والثروة وضمان صيانة حقوق الانسان''. ثم نبهت الديباجة ''إلى أن النزاع السوداني هو أطول النزاعات الحالية في كل أفريقيا، وأنه حصد أرواح الملايين، ودمر البنيات التحتية للبلاد، وأهدر الموارد الاقتصادية، وتسبب في معاناة تفوق الوصف خاصة بالنسبة لشعب جنوب السودان''. وضعت الديباجة أيضاً في الاعتبار ما أسمته ''المظالم التاريخية والتنمية غير المتوازنة بين أجزاء السودان المختلفة والتي تستوجب المعالجة''. قد تقول أن ليس في هذا التشخيص شئ جديد، ونقول نعم. ولكن الذي يسترجع ما كانت صحافتنا في الشمال تردده عن ''الخوارج'' و''المتمردين''، وما كان بعض ساساتنا يجوبون العواصم العربية لاشاعته حول الهجمة الشرسة على العروبة من ''بوابة الجنوب''، وما كان التلفاز يجليه على الناس عشية كل جمعة عبر برامج (في ساحات الفداء) حتى كدنا نظن أن مشركي مكة قد رُدوا أحياءً في توريت ولافون وخور انجليز. من حق الذي يسترجع كل هذا أن يتساءل إن كان هذا التشخيص هو تشخيص لمشكل الجنوب، أم لمشكل آخر. فخلال عقود من الزمان ظللنا نشيع بين أهلنا، ونُعلم أبناءنا، وننشر بين العالمين أن الذي يدور في الجنوب فتنة صنعتها الكنائس، وأجج أوارها ربابئهم، وتداخلت قوى الشر الكنسية والامبريالية والصهيونية والزنجية لتُبقى عليها مشتعلة. وزاد على ذلك آخرون بوصف تلك الحرب بـ ''الابتلاءات'' ظناً باطلاً منهم أن في مقدورهم تحميل رب العباد المسئولية عن خيباتهم وخيباتنا. فللحرب جذور محلية، وأسباب موضوعية، وكان في مقدورنا أن نطفئ نيرانها حتى لا يستغلها ذوو الأغراض. لهذا، فإن تحديد أبعاد المشكل بهذا الوضوح هو، في تقديري، من أهم انجازات ماشاكوس، أولاً لأن تحديد أبعاد أي مشكل هو نصف الحل، وثانياً لأنه وضع حداً للمتاجرة بقميص عثمان. أكد بروتوكول ماشاكوس، فيما بعد، المبادئ الهادية التي يجب أن يرتكز عليها حل المشكل، وأهم تلك المرتكزات: * الاعتراف بوحدة السودان القائمة على الارادة الحرة لشعبه، وبالحكم الديموقراطي والمساءلة والمساواة والاحترام والعدل لكل مواطني السودان كأولوية بالنسبة للطرفين. وأن رفع مظالم أهل جنوب السودان والاستجابة لطموحاتهم يصبح ممكناً في هذا الاطار (الفقرة 11) * حق أهل جنوب السودان أن يحكموا ويقرروا شئون أقليمهم وأن يشاركوا مشاركة عادلة في الحكومة القومية (الفقرة 21) * ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير عبر الاستفتاء، ضمن وسائل أخرى. (الفقرة31) * اعتبار الدين والعادات والتقاليد مصادر قوة روحية والهاماً للشعب السوداني (الفقرة 41) * الاعتراف بما لأهل السودان من إرث وتطلعات مشتركة تجعلهم ميالين للعمل سوياً (الفقرة 51) * اقامة نظام ديموقراطي للحكم يعطي الاعتبار للتنوع الثقافي والاثني والعرقي والديني والتعدد اللغوي والمساواة بين الجنسين في كل السودان (الفقرة 61) * ايجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي ويستبدل الحرب ليس فقط بالسلام وإنما أيضاً بتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واحترام الحقوق الاساسية الانسانية والسياسية، لكل شعب السودان (الفقرة 71) الذي يهذه هى المبادئ التي انطلقت منها كل المداولات التي استغرقت عامين بعد ماشاكوس. ومع شمول الرؤية في تلك المبادئ إلا أنها أيضاً استهدفت، على رأس ما استهدفت، ما نصت عليه الفقرة (101) من بروتوكول ماشاكوس: ''جعل وحدة السودان خياراً جذاباً، خاصة لأهل جنوب السودان'' يفي التحديد الجغرافي لجنوب السودان اشار البروتوكول إلى الحدود التي كان عليها ذلك الاقليم في 1/1/1956، وهو يوم اعلان الاستقلال. وقرأنا في أكثر من تعليق اشارات توحي أن هذه هى الحدود الاقليمية وضعت منذ عهد الاستعمار وأُقرت عند الاستقلال، وأن هذا هو الأساس الذي استمدت منه الحدود مشروعيتها. هذا ليس بصحيح، فإعلان الاستقلال لم يكن يقتضي تعيين حدود للمديريات أو الولايات لأن وضع تلك الحدود قضية ادارية داخلية في حين يستلزم اعلان الاستقلال تبيان الحدود الدولية للقطر. حقيقة الأمر، حدود المديريات في الشمال والجنوب، بل تقسيم المديريات نفسها، كان يتم دوماً وفق اعتبارات ادارية قبل الاستقلال وبعده. فعلى سبيل المثال ضُم مركز الكرمك، الذي كان حتى عـام 1953 جزءاً من مديرية أعالي النيل، إلى مديرية النيل الأزرق بقرار اداري قبيل الحكم الذاتي. وفي عهد عبود ـ أي بعد اعلان الاستقلال في 1/1/1956 ـ أصدر اللواء حسن بشير نصر قراراً بضم منطقة شالي الفيل بمن فيها من قبائل الاودوك إلى مديرية النيل الأزرق مما أدى إلى تقسيم تلك القبيلة بين مديريتي أعالي النيل والنيل الأزرق، وكانت الأخيرة تدار يومذاك من واد مدني. قرار حسن بشير لم يكن استجابة لدواعي ادارية، بل كان قراراً أمنياً أراد به نظام عبود احكام السيطرة على تلك المنطقة خشية من اقتحام ''المتمردين'' لها مما يهدد أعمال التشييد في خزان الرصيرص في ذلك الوقت. موضوع حدود المديريات الجنوبية اثير كقضية ذات بُعد سياسي للمرة الأولى بعد الاستقلال في مفاوضات أديس أبابا. كان علينا أن نقرر أين يبدأ وأين ينتهي الجنوب، خاصة وقد أثار المفاوضون الجنوبيون قضية ابيي في ذلك الاجتماع، كما تساءل مفاوضون شماليون عن وضع القيقر والرنك. ازاء ذلك الجدل اقترح الراحل جعفر بخيت صيغة أصبحت هى الأساس للمادة 33 من الباب الثاني من قانون الحكم الذاتي الاقليمي وهى المادة التي تُعَرف الجنوب. تقول المادة: المديريات الجنوبية هى ''مديريات بحر الغزال والاستوائية وأعلي النيل وفق الحدود التي كانت عليها في 1/1/1956 وأي مناطق أخرى كانت جغرافياً أو ثقافياً جزءاً من الكيان الجنوبي حسبما يُقَرر عبر الاستفتاء'' لعل في هذا ما يرد على بعض التساؤلات التي لم يخلُ بعضها من المزح. ففي مقال للصديق ابراهيم منعم منصور (الأيام 2/6/2004) ورد تساؤل منسوب للعميد المتقاعد محجوب عبد الفراج عن مآله بعد أن تطاول الحديث حول حدود جنوب السودان إلى جبال النوبة، والنيل الأزرق، وابيي. سأل العميد المَزاح هل ستمتد تلك الحدود أيضاً إلى الموردة. السؤال، فيما أحتسب، لا يتجاوز أفاكيه العميد، ولكن بعض الأمور جَدُها جَدٌ وهَزلُها جد، خاصة وقد كان مقال ابراهيم، في جانب منه، تصويراً لسيناريو يوم الهول طرةDoomsday Scenario الهول هو انفصال الجنوب، وبالطبع من باب العقل أن يأخذ الانسان الأمور بأوثق وجوهها حتى لا يُسبق على أمر. من ذلك السؤال عما الذي ينبغي أن يفعل الشمال إن وقع الانفصال. الانفصال، بلا شك، داهية إلا عند أصحاب المنبر الذين يسعدهم أن يذهب الجنوب، بل أن يتفكك السودان كله حتى يستأثروا بالشمال ليقيموا فيه الدين كما يزعمون. وفيما نقدر، لن يقيموا في بلادنا غير دويلة صاخبة الفقر تسيطر عليها دهماوية دينية ليس لها من دين القَيمة نصيب. الكُساح الفكري ـ ولا أقول الخيلاء الفكرية ـ هو الذي يجعل أصحاب المنبر، ومن لف لفهم، يتمنون أن يتقوقع السودان مكانياً وينغلق زمانياً، وهذا محال. أعود لمقال ابراهيم لأقول إن الإستحاطة (اسم مبالغة في الاحتياط) في الأمر تستلزم منا التفاكر في كيف نتفادى الهول، لا كيف نستقبله. ذلك لن يكون إلا بإعادة بناء السودان على أسس جديدة حتى يرى فيه الجنوبي كما يرى الشمالي وجهه، وتتعايش فيه الأديان في تسامح واحترام، وتُسخر فيه الموارد البشرية والطبيعية كلها للارتقاء بأهله جميعاً، ويصبح كل شبر من أرضه مهاداً وطيئاً لا يؤذي جنب أحد من أبنائه وبناته. سؤال العميد، جداً كان أم هزلاً، يعود بي إلى نقاش لاجب دار خلال مفاوضات أديس ابابا. أقترح أحد المفاوضين الجنوبيين عند مناقشة كيفية تمويل مشروعات التنمية في الجنوب فرض ضرائب على كل الجنوبيين عبر القطر وخارج السودان. ذلك الاقتراح قابله أبيل ألير بإعتراض شديد قائلاً: '' ان الاقتراح سيخلق تعقيدات لا حاجة لنا بها إذ ما هو المعيار الذي نحدد به من هو الجنوبي في الشمال؟''. ولعل نفس الصورة التي أراد العميد رسمها هى التي تراءت يومذاك في مخيال أبيل ألير. الأمر، على أية حال، انتهى إلى الاتفاق على أن تكون الاقامة هى الأساس لفرض الضرائب في الجنوب على الجنوبي والشمالي معاً. هنا يجدر أن نضيف أن اتفاقيات السلام الراهنة تتيح في خلال الفترة الانتقالية الحرية كاملة لانتقال رأس المال والسلع والعمالة بين الشمال والجنوب. من السذاجة الظن أن التوقيع على الاتفاق سيزيل لوحده عدم الثقة التي عشعشت في رؤوس الكثير من الجنوبيين بسبب السياسات الخاطئة التي ظللنا ننتهجها طوال نصف القرن الماضي. تلك العشاعش قادت لاستقطاب شمالي ـ جنوبي حاد، زادت حدته بتحويل الحرب الأهلية إلى حرب دينية. لهذا فإن الضمان الأكيد لوقوع الانفصال هو الابطاء في تنفيذ ما نصت عليه اتفاقيات السلام، أو تخذيل الذين عزموا على إنفاذها، أو في الظن بأن نصوص الاتفاق تعني غير ما، أو أقل مما، تعنيه. ويقيني أنه رغم وجود تيار كبير بين مثقفي الجنوب لم تَعُد في قلوبهم أية مساحة للثقة في احترام الطبقة السياسية الشمالية لوعودها، إلا أن ما نسميه قوى السودان الجديد في الجنوب، التي تمثل نوعياً كياناً جد مؤثر، لهى أشد حرصاً على وحدة السودان من بعض مثقفي الشمال الذين ما زالوا يعتقدون أن الوحدة يمكن أن تتحقق بتعبئة النبيذ القديم في قناني جديدة. هؤلاء لم يُقَدروا بعد أن للوحدة ثمناً يدفع. قوى السودان الجديد هذه تنظر إلى أفق سياسي قد يتجاوز حدود بلادنا، ولا سبيل لها للعبور إلى تلك الآفاق إلا من مركز انطلاق وطني قوي. مركز الانطلاق هذا هو السودان الموحد المستقر، المُدرك لعناصر قوته المادية والروحية، العليم بتعدد وتنوع خصائصه، الواعي بما في هذا التنوع والتعدد من إثراء، القادر على تنمية موارده وادارة نفسه وتطوير قدراته. هذه هى معالم السودان الموحد الذي تتمنى، بل تسعى قوى السودان الجديد لتأسيسه. أما تجار النبيذ القديم فأغلب الظن أنهم لا يبتغون غير استمرار الهيمنة القديمة، وفي هذا لا يعبرون إلا عن خيلاء فكرية تنبعث من موروثات عنصرية أعجزتهم عن اكتناه عناصر القوة في الشخصية السودانية المركبة. والعنصرية، في نهاية الأمر، لا تنبئ إلا عن سخافة في التفكير ودناءة في القيمة الانسانية. هذا السخف والدناءة لايعبران، لحسن الحظ، عن احساس السوداني العادي الذي لا يطمع إلا في السلام والأمن والاستقرار والعيش الكريم. ولعل الذي يُطمئن المرء هو قدرة عامة الناس في السودان (جنوبيين وشماليين) على التساكن الآمن، والتفاعل المثمر مع بعضهم البعض رغم كل أهوال الحرب، والعزوف الكامل عن الاستجابة لمتتاليات الانفعال المصطنع الذي تؤجج نيرانه طائفة من المثقفين، وأشباه المثقفين. لهذا لم يتحول السودان، رغم الحروب، إلى رواندا. لست أيضاً من الغباء للظن أن جميع أهل السودان قد أصبحوا ملائكة خليت أنفسهم من مشاعر الاستعلاء والحَمية، فما زال بيننا من في ''قلوبهم الحَمية حَميةَ الجاهلية''. ولكني جد موقن أن استثارة هذه المشاعر بهدف تسعير الغيظ ضد الآخر، أو الاغراء بالحقد عليه ـ في الشمال كان ذلك أو الجنوب ـ لا تجئ دوماً إلا من نُخب تملكتها رؤى وأفكار، منها النبيل ومنها ما هو أقل نبلاً. هذه النُخب تسعى في بعض الأحيان لتسويق رؤاها وأفكارها باستثارة أدنى ما في الانسان: الموروثات البيولوجية، وفي هذا المجال، سعدت كثيراً بتجربة مررت بها هذا العام لأنها كشفت لي عن جوهر أهل السودان. ففي افتتاح مؤتمر الحزب الاتحادي الديموقراطي في القاهرة (4/5/2004) اعترضني رجل التقيته للمرة الأولى وقدم لي نفسه: حسن نمر عمدة الجعليين. استقبلت الرجل بما يجدر أن يستقبل به مثله من ترحاب، ثم استمعت لما أراد أن يُفضي به الى. قال: ''لي رسالة أرجو أن تبلغها للدكتور جون قرنق إن لم يكن قد أبلغها له ياسر عرمان الذي حَمَلته نفس الرسالة إبان زيارة وفد الحركة للخرطوم''. قلت: ''ما رسالتك؟ أجاب: '' أبلغه أن الذين يرموننا بالعنصرية لا يعرفوننا، وأنقل له أنني سأكون على رأس مستقبليه في الخرطوم لاصطحبه معي للمتمة ليشرب القهوة مع أهلها''. قصة شرب قرنق القهوة في المتمة أسطورة روجها سخفاء العقول لتأجيج الغضب الشمالي ضد قرنق بالايحاء بأن كل الذي يبتغيه هو اذلال الشمال، ولكيما يبلغ الإذلال غايته اختاروا هدفاً له أهل الدروع والخيل. اهذه الاستثارة الغبية لعامة الناس من جانب سخفاء العقول تعود، في كثير من الأحوال، للخوف المرضي الذي ينتاب هؤلاء من الاختراق الفكري الذي أحدثته الحركة في الشمال، خاصة بالنسبة للأجيال الجديدة. وان كانت القوى السياسية في الشمال (أياً كان موقعها) قد قبلت التفاعل مع الحركة انطلاقاً من أن ذلك التفاعل هو الذي سيقود لوحدة السودان، أي انطلقت من دوافع وطنية سياسية، وإن كان أصحاب المصالح (التجار ورجال الأعمال) سيتعاملون مع الواقع الجديد في الجنوب والجبال والشرق بشكل ايجابي طالما ضمنوا حماية مصالحهم، وتوفر لهم الاستقرار الذي تربو معه أموالهم وتتوسع أعمالهم، فأن الجيل الجديد الذي يستقبل أفكار الحركة بترحاب لا يفعل هذا إلا لكفرانه بما ظل يرى ويسمع في الساحة السياسية الشمالية. النموذج السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تطرحه الحركة، والذي لم يُجرب من قبل، هو الذي يؤرق بال أصحاب الرؤى والأفكار لأن نجاح ذلك النموذج لن يكشف فقط على العالمين العُري الفكري لمن ظلوا يتساعون للسيطرة على ساحة الفكر السياسي لبضع عقود من الزمان، بل وسيعريهم تماماً أمام أهلهم. إئتجاج نيران التباغض بين السودانيين نتيجة سوء الفهم أمر ضار، ولكن تأجيجها جريمة. أشد جرماً أن عامة أهل الشمال، بسبب تلقيح الفتن، يعاقبون مرتين: مادياً ومعنوياً. العقاب المادي يتمثل في التخلف والفقر المذل، وما رمانا الله بفقر مدقع إذ أغنانا بموارد نُحسد عليها. الفقر المذل، والذي حمل أغلب أهل الريف السوداني في الشمال على الرضى بالدون من المعيشة، نتاج للسياسات التي فرضتها النُخب الحاكمة، ومنها الحرب لفرض الوحدة قسراً، والاستهانة بمعاناة أهل الأطراف الأكثر فقراً، وسوء ادارة الاقتصاد. فلئن تأتى بعض النُخب لتسقط كل أحمالها الفكرية والنظرية التالفة على جميع أهل الشمال، وتُحَملهم باسم الدين تارة، وباسم الهُوية الثقافية تارة أخرى، المسئولية المعنوية على تلك الحرب فإن هذا لأيم الحق جناية لا تغتفر. لهذا السبب يخطئ المثقف الجنوبي الذي لم يدرك ـ ولا يريد أن يدرك ـ عمق المشكل السوداني عندما يلقي بالمسئولية عن كل ما عانى منه الجنوب على أهل الشمال بلا تمييز، فالموزور الذي ركب الوزر كله شرائح اجتماعية محددة، وطبقة سياسية معينة، استحوذا على الثروة أغلبها، وهيمنا على السلطة التي تُحمي بها تلك الثروة، فوقع الاقصاء للبعض. وكان لهذا الاقصاء تداعيات دفعت بأهل الريف في الشمال نفسه، والعاطلين من أهل المَدَر إما إلى البيود أو إلى حافة الفقر. ع فالسؤال نبقى أو لا نبقى، تساؤل وجودي لا صلة له بالهُوية الثقافية، ولا بالدين، ولا بحماية ''الأرض والعرض''، وإنما له كل الصلة باعادة ترتيب البيت الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً حتى نُدرك ما فاتنا ونلحق لا بكوريا، أو الهند، أو ماليزيا وإنما بسنغافورة المدينة/الميناء التي حازت على الاستقلال بعد استقلال السودان بقرابة عقد من الزمان، ولا تملك من الموارد غير قدرات أهلها، ومع ذلك بلغ ناتجها القومي الاجمالي، كما قلنا، سبعة أضعاف ناتجنا القومي. نقطة أخيرة نقف عندها لما صحبها من التباس، وتتمثل في السؤال: لماذا يستأثر الجنوبيون بحكم الجنوب ويريدون أيضاً المشاركة في حكم الشمال؟ السؤال خاطئ لأنه ينطلق من افتراض خاطئ. فالحكم الذي سيشارك فيه الجنوبيون كمجموعة اقليمية ليس هو حكم كردفان والشمالية وكسلا، بل ولا هو حكم ولاية الخرطوم (باعتبار أن العاصمة القومية شئ وولاية الخرطوم شئ آخر). الذي سيتشاركون فيه الحكم هو الحكومة القومية، حكومة كل السودان التي شاءت الظروف أن يكون مقرها في الشمال. وإن كنا نتحدث عن سودان موحد فان المظاهر السياسية والادارية لهذه الوحدة هى البرلمان القومي، والحكومة القومية، والخدمة المدنية القومية، والقضاء القومي، وطبيعي أن يكون للجنوبيين ـ كما لغيرهم من أهالي أقاليم السودان الأخرى ـ مكان في هذه المؤسسات. هناك، بلا شك، مبرر للالتباس لأن الوضع الذي خلقته ماشاكوس وضع غير طبيعي إذ يخلق ثلاثة مستويات في الحكم بصورة غير متماثلة أو متسقة Asymmetrical فإلى جانب الحكومة القومية التي تدير كل السودان من العاصمة القومية، هناك أيضاً حكومة مركزية جنوبية تشرف على، وتنسق، أداء الولايات الجنوبية ليس لها نظير في الشمال. غياب ادارة نظيرة تشرف على، وتنسق، أداء الولايات الشمالية يوقف ذلك الواجب على الحكومة القومية (والتي يشارك فيها الجنوبيون). وبالرغم من مطالبة مفاوضي الحركة بقيام مثل هذا النظام أصر مفاوضو الحكومة على رفضه، ربما لما فيه من شبهة الكونفدرالية. ذلك الخوف لم يكن له ما يبرره لأن الكونفدرالية لا يعبر عنها التركيب المعماري للدولة ولا النعوت، بقدر ما هى منظومة دستورية تحقق ديمـوقراطية المشاركة، Participatory Democracyٌّ، وازدواجـية السـلطةDuality of Power واللامـركزية Decentralization. هذا موضوع نعود اليه عند الحديث عن الدستور في مقال يتلى. الهاجس الذي دار في رأس مفاوضي الحكومة هو نفس الهاجس الذي كان يدور في رؤوسنا خلال محادثات أديس أبابا، وأعترف أننا أخطأنا يومذاك خطأً بالغاً، رغم اختلاف الظروف والملابسات وانخفاض سقف مطالب الجنوب. فعند تداولنا حول موضوع السلطات التي يجب أن تُمنح للاقليم الجنوبي باعتباره اقليماً متفرداً ذا خصوصية أبدى أحد مفاوضي الجنوب (اوليفر البينو) خشيته من خلق نظام تصبح فيه حكومة الشمال هى نفس الحكومة القومية. لأجل ذلك اقترح البينو نظاماً فيدرالياً يتكون من ولايات الجنوب والشرق والغرب والشمال بسلطات متوازية، على أن تكون السلطة القومية مستقلة عن، وفوق، هذه الولايات جميعاً. ذلك الرأي رفضناه جميعاً بمن فينا السيد أبيل ألير، ولعلنا لو قبلناه لخلقنا أساساً أمتن لفيدرالية حقيقية. مهما يكن من أمر، فأن هذا الوضع غير المتماثل ليس بدعة، فله أشباه. واحد من هذه الأشباه هو الوضع الذي نجم عن منح سلطات تقارب السلطات الولائية لاقليم اسكتلندا ومقاطعة ويلز في بريطانيا قبل بضع أعوام، وفي اطار خطة توني بلير لتوسيع لا مركزية الحكم. حسب تلك الخطة أصبح للاقليمين (اسكتلندا وويلز) برلماناهما وحكومتاهما اللتان تقرران في أمور عديدة حددها القانون، خاصة في مجالات التعليم، الصحة، النقل، الادارة المحلــــية. هـــذا الحـــق لم يمنــــح لإقلـــيم انجلترا وبالتالي أصبحت جميع القوانين التي تخضع لها انجلترا، حتى وإن كانـــــت غـــير ذات طابـــــــع قومي شمـــولي، تصدر من البرلمان البريطاني الذي يضم في عضويته أعضاء من اسكتلندا وويلز. أختم قائلاً إن الاجابة على السؤال نكون أو لا نكون ستكون جد سهلة لو أسبقنا ذلك السؤال بسؤال آخر؟ كيف وصلنا للدرجة التي بدأنا فيها التشكك في قابليتنا للوجود والبقاء؟ في هذا المقال، وذلك الذي يليه ننتقل للحديث عن موضوعين اتسم الحديث حولهما بتخليط معرفي سببه استحواذ الأوهام على عقولنا دهوراً. الموضوعان هما قضية جنوب السودان بتداعياتها التى انتهت إلى المطالبة بحق تقرير المصير، وقضية المناطق المهمشة التي أدى التهوين من شأنها إلى توقد النيران في الشرق والوسط والغرب. ورغم اتساع الأمر وتفاقمه، بل رغم التجارب التي أثبتت أن ليس في الأوهام التي استعمرت عقولنا خيرٌ يُغتبط به، ما فتئت الأوهام تتناسخ، وما زلنا نتلوى على تلك القضايا ونتمارى فيها مراءً ظاهراً. نطلق على ذلك الاستعمار العقلي اسم الأوهام لأنه يتجاهل الواقع، ويتعامى عن المآسي والكروب التي تحيط بنا، ويبتني الأحكام كلها على أنصاف الحقائق، إن لم يكن على أشباهها. //////////////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات- المقال (4( المناطق المُهمشة: خيار بين الحيف والسيف تعبير المناطق المهمشة الذي أشاعته الحركة في خطابها السياسي وَصفٌ علميٌ محايد لظاهرة اجتماعية/ اقتصادية/ سياسية دون أن يكون له أي بُعدٍ عرقي أو ديني. فالوصف أُطلق على مناطق في السودان ظلت تعاني، أكثر من غيرها، من آثار التنمية غير المتكافئة. وما فتئنا منذ أكتوبر 1964 نحدد الوصفات لعلاج هذه الظاهرة وعلى رأسها التنمية المتوازنة، التي نسميها أيضاً التنمية المتوازية، وطوراً التنمية المتوازنة المتوازية. كل هذه الاصطلاحات أو التسميات شابتها سيولة بسبب العجز عن، أو عدم الاتفاق على، بلورة إطار مفهومي يستوعبها. باختصار، التعبير يعني التخلي عن النهج التنموي الموروث منذ الاستعمار. هذ أمر لم يتحقق لأننا، وفي كل عهد من عهود الحكم منذ أكتوبر 1964، ما أتينا للتطبيق حتى سرنا في صياغتنا لخطط التنمية على نفس المنهج القديم الذي ورثناه عن خالد الذكر السير جون كارمايكل، السكرتير المالي لعموم السودان. تعبير الهامشية أو التهميش لم ينحته قرنق أو يُرَكبه، بل هو تعبير شائع في الأدب وله دلالاته المفهومية. ففي علم الاجتماع، مثلاً، يعالج الباحثون حالة يطلقون عليها ''الهامشية'' (Marginality) وهى دوماً مرتبطة بالسيطرة: سيطرة مركز على أطراف، أو جماعة مهيمنة على جماعات مستضعفة. وعلى الصعيد الاقتصادي يُعَبر التهميش عن نماذج للإقصاء أو الحرمان ( (Patterns Of Exclusionمن الرخاء النسبي في المجتمع أو الوطن المُعين. هذا التعبير يدرك معناه أي مساعد تدريس لعلم الاقتصاد في جامعاتنا، ولا ذنب لقرنق أن ضَمنه في خطابه السياسي السائر ربما رغبة منه في الارتقاء بذلك الخطاب عن اللغو، واللغو ما لا يُعتَد به من كلام. التهميش أصبح تعبيراً محورياً في رسالة الحركة الشعبية بحيث لم يَعُد يقف فقط عند التهميش الاقتصادي والسياسي على المستويات الاقليمية بل يشمل، إلى جانب ذلك، التهميش النوعي (المرأة)، والتهميش الجيلي (الشباب). لم نقصد السفسطة بالاشارة إلى مدلول الكلمة، ولا نبغي بها الحذلقة، وإنما هى مدخل لحوار سيجئ في آخر المقال مع الصديق الباحث محمد أبوالقاسم حاج حمد الذي روى أن ما تردده الحركة عن التهميش هو ''محض ادعاء عنصري''، (البيان، 1/5/2004). وراء هذا ''الادعاء العنصري'' المزعوم تاريخ، وتاريخ طويل سنوضح بداياته وتداعياته. لقد قضى الواقع الجغرافي في السودان أن يكون أغلب ضحايا المعاناة الأكثر حدة (فالسودان الريفي كله يعاني) من آثار التنمية غير المتكافئة، مناطق بعضها محاد للجنوب (النيل الأزرق وجبال النوبة)، أو جماعات من غير العرب (البجة، الفور، النوبة، الانقسنا). ولئن تحالفت أو توحدت هذه الجماعات لحماية مصالحها الاقتصادية والسياسية، فلا ذنب لها في التوحد رغم ما يمكن أن يتوهمه الآخرون حول طبيعة التوحد أو التحالف. ولجوزيف ستالين قالة في أثر الجغرافيا على السياسة. حذر ستالين دولة فنلندا من اتخاذ أي موقف سياسي يضر بمصالح الاتحاد السوفيتي بما في ذلك التنسيق السياسي والعسكري مع الدول اللصيقة بها (دول سكاندناوه). قال لمحاوره الفنلندي إن خيار فنلندا الوحيد هو الحياد بين الكتلتين (الغرب والشرق)، كما قال له أيضاً: ''قد يكون لكم رأي آخر ولكني لست مسئولاً عن الجغرافيا''. فحوى القصة ـ حتى لا يذهب بها القارئ مذهباً قصياً ـ هو أن الجغرافيا قد تفرض واقعاً لا سبيل لتجاهله. لهذا فأن وصف التحالفات التي فرضتها أوضاع اقتصادية وسياسية معينة على أصقاع جغرافية محددة في الوطن بالتحالفات الإثنية لا يعين كثيراً على الوعي بجذور المشكلة. ليس هذا فقط، بل أن القراءة الخاطئة للواقع قد تحمل البعض منا على محاربة طواحين هواء، أو إلى تعميق المخاوف والشكوك بين الناس ودفعهم إلى استبطان تلك الشكوك ضد بعضهم البعض. النظرة الخاطئة لظاهرة التهميش ـ أي النظرة اليها من منظور إثني يتغافل عن جذورها ـ قد يقود أيضاً إلى أحكام تفتقد الفطانة مثل اتهام أبناء جنوب النيل الأزرق، ورثة مملكة سنار التي وطنت اللغة العربية في بلاط الحكم، بالعداء للعروبة. أو وصف النوبة الذين اتسعت أرضهم للاسلام بجانب الديانات الأخرى منذ قرون، أنهم أعداء للاسلام. أو نعت الفور والنوبة والبجة جميعاً بالعنصرية، لا أكثر ولا أقل متى ما ارتفع لهم صوت ضد السياسات التي لا تُفضي إلا لتعميق اقصائهم من مراكز صنع القرار. وقبل أن تبرز الحركة الشعبية للوجود كانت للمنعة السياسية التي تملكها الجنوبيون بحكم وزنهم في البرلمان السوداني، كما كان لحرب الجنوب نفسها، أثر في تكييف المواقف السياسية لهذه المجموعات. ولعل أول من فطن إلى ذلك التهميش وسعى لإبانة تخومه ـ حتى وإن كان ذلك بأسلوب كاريكاتيري ـ هم البجة. فعلى عهد رئيس الوزراء عبد الله خليل (195 قدم الدكتور طه عثمان بليه مطالب أهله (مؤتمر البجة) في مذكرة تضمنت ما يلي: 1- معاناة الاقليم من سياسات المركز غير العادلة. 2- رفع نمو ووعى المواطن البجاوي. 3- تدهور مرافق الاقليم أو غيابها أصلاً. 4- غياب المشاريع التنموية وايقاف انشاء المشاريع التي تضر بالرعي. هذه شكاة واضحة تُنبئ بالكثير، وتُنذر بالخطير. فالنقطة الأولى لم تترك زيادة لمستزيد حول احتجاج أحد الأطراف على سياسات المركز، أي تهميش المركز للأطراف. كما تعبر النقطتان الثانية والثالثة بوضوح عما أسميناه الاقصاء أو الحرمان. أما النقطة الرابعة فقد أثارت، بوجه خاص، اهتمامي لأنها كشفت عن وعي بالحدس الفطري عن المخاطر البيئية قبل أن يقوم للبيئة مؤتمر دولي (استكهولم 1972)، أو ينشأ برنامج أممي لها، أو يتصدى من تصدى للتحذير من التنمية غير الصديقة للبيئة. مؤتمر البجة حوصر ثم فُكك على يد حاكم شمالي (ابراهيم عبود) نشأ في ديار البجة، ولكنه، كحالنا، أصبح يفكر بعقلية الوسط المهيمن. قام أيضاً اتحاد جبال النوبة في عام 1965 عقب انتفاضة أكتوبر عندما صَدَق أبناء الجبال أنها اطلالة صبح جديد على كل السودان، أولم يتغنى الحادي: ''أصبح الصبح''. ما هى مطالب اتحاد الجبال؟ تركزت تلك المطالب في التمكين السياسي ثم المعاملة الانسانية التي هى أدنى ما يطالب به بشر سوي. كما تناولت وجوب تمثيل أبناء الجبال لأهلهم بدلاً من استيراد المرشحين البرلمانيين من الشمال، وحقهم في المشاركة في مراكز صنع القرار القومية (الحكومة والخدمة المدنية)، وتوفير الخدمات الأساسية، والغاء السُخرة. وسبق قيام اتحاد الجبال حركة في دارفور نبهت إلى حرمان ذلك الاقليم من الخدمات والمرافق، هى حركة سوني التي كان قوامها المسرحين من الجيش بعد حرب الجنوب الأولى. ولعل الذي لا نستذكره أبداً أن قوام الجيش السوداني كله في حروب الجنوب من الجنود وضباط الصف هم أبناء الجبال ودارفور. هؤلاء كانوا أيضاً هم العمود الفقري لكل مشروعات انتاج القيمة في السودان الوسيط. أو يكون هؤلاء هم الذين عناهم أحمد عبد المُعطي حجازي بـ ''الذين يُدعونَ للموت ويُقصون من مجالس الفتيان''. هذه المجالس في بلادنا هى التي تُحل وتُعقد فيها الأمور، بما في ذلك أمور الحرب. أنا الذي ما ذقت طعم الضان أنا الذي لا حول لي أو شأن أنا الذي أُقصيت من مجالس الفتيان أُدعى إلى الموت ولا أُدعى إلى المجالسة هذه المجموعات كلها كانت تتآلف مع الجنوب، كما كانت الأحزاب القومية (أي الشمالية) تتحالف وتتخالف داخل البرلمانات مع الجنوب ومع بعضها البعض. في تحالفاتهم تلك تجاوز المهمشون فوارق اللغة والدين والعرق وخلقوا ترابطاً عابراً للاثنيات جمع بين محمد أحمد عواض وأبيل ألير، وبين فيليب عباس غبوش و أحمد محمد باكاش. كون ذلك التحالف ما أُسمى تجمع الأحزاب الاقليمية الذي عبر عن رأي موحد حول وضع الكيانات الاقليمية في الدستور ـ أي حول لا مركزية الحكم ـ تقدموا به إلى مؤتمر عموم الأحزاب. ذلك المشروع قوبل بالرفض من الأحزاب ''القومية'' بحسبانه مشروعاً ''عنصرياً''. ومنذ تلك اللحظة أصبح من الجلي أن الكلمات لم تعُد تعني ما ينبغي أن تعنيه. إطلاق وصف العنصرية على مجموعات سياسية ذات مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية معلومة هو محاولة للاستئصال المعنوي للواقع، والاستئصال المعنوي لا يلغي الواقع. ثم ما الذي يجعل الجنوب والفور والبجة والنوبة الذين يمثل مجموعهم ما يقارب ثلثي أهل السودان تكتلاً عنصرياً ، ويجعل من عداهم كياناً قومياً؟ من الواضح أن الأحزاب لم تكن تريد إلا الإبقاء على نموذج الهيمنة السياسية المركزية رغم تململ الأطراف بما فيها تلك التي يفترض أنها تمثل العمق السياسي لتلك الأحزاب. الأحزاب أيضاً لم تكن تمانع في الابقاء على النموذج الاقتصادي الاستعماري الموروث رغم مجاهرتها بالرغبة في تغييره عبر نهج تنموي متوازي. هل كانت الأحزاب حقاً تعرف ما تريد؟ أو كانت تعرفه ولكنها لا تعرف السبيل إلى تحقيقه؟ أو أنها كانت لا تبتغي غير احتكار أدوات اللعبة السياسية بصرف النظر عن الأهداف والمقاصد؟ هذه الاستهانة بل يؤسفني أن أقول الغباء السياسي ـ هو الذي قاد لتمرد سياسي في معاقل هذه الأحزاب. ففي انتخابات 1965، مثلاً، اكتسح مؤتمر البجة كل دوائر البجة وهى على وجه التحديد: ريفي كسلا، القاش جنوب، القاش شمال، أروما الشرقية، أروما الوسطى، أروما الغربية، أروما الشمالية، الاوليب، عيتباي، سيدون، طوكر الشمالية، بورتسودان الغربية. دوائر ثلاث هى التي نجحت فيها الأحزاب ''القومية'' : بورتسودان الشرقية (مأمون سناده، اتحادي)، طوكر الجنوبية (موسى حسين ضرار، مستقلاً)، كسلا (عمر عثمان نافع، حزب الأمة). نتيجة لذلك الاكتساح تداعى الدومينو إذ أعلن الناظر تِرك (القاش جنوب) ومحمد أحمد عواض (ريفي كسلا) انضمامهما لمؤتمر البجة وكان الأول قد فاز في لائحة حزب الأمة، والثاني في لائحة حزب الشعب الديموقراطي. أبلغ تعبير عن ذلك التمرد السياسي جاء على صفحات هذه الجريدة، وعلى لسان رجل هو أبعد ما يكون عن العنف. قال أبيل ألير عضو البرلمان عن دائرة بور الجنوبية، والمتحدث الرسمي باسم الجماعات الاقليمية: ''ان كانت الأحوال في غرب السودان وشرقه رديئة فإن السخط والتبرم سيجتاحانهما قريباً وقد ينقلب السخط إلى تعبير أكثر عنفاً مما نراه الآن في جنوب السودان'' (الرأي العام 6/1/1969). هذا ما كان ينبغي أن تسمعه الأحزاب لولا أن الآذان قد وقَرَت عن سماعه، وهذا ما رأته ببصرها ولكن خانتها البصيرة. ومن لا يرى ببصيرته فلن يهتدي. للتهميش وجهان، وجه سياسي/اداري، وآخر اقتصادي ولا علاج لكليهما إلا بالتمكين (Empowerment ): التمكين السياسي والتمكين الاقتصادي. التناول التفصيلي للقضيتين يجئ في مقالين يليان، أحدهما حول نظام الحكم والثاني حول التنمية الاقتصادية، مع ذلك، يُستحب هنا أن نبين باقتضاب، لكي لا ينقطع الحديث، كيف تعاملت الأنظمة المتعاقبة مع هذه القضية بعد التمرد البرلماني في انتخابات 1965 وحتى انتفاضة أبريل، وما الذي كان يتوجب عليها أن تفعل. نظام مايو، الذي أعقب الديموقراطية الثانية، سعى لمعالجة قضية نظام الحكم على مستويين، مستوى الجنوب بتطبيق مقررات لجنة الاثنى عشر، ومستوى الاقاليم عبر قانونين، الأول هو قانون الحكم الشعبي المحلي .1971 والثاني قانون الحكم الاقليمي .1981 القانون الأول، في حقيقته، تطوير لنظام الحكومات المحلية الذي وضعه المستر مارشال في عهد الاستعمار ثم أقدم على اعادة صياغته الأستاذ عبد الرحمن علي طه في الفترة القصيرة التي وُلى فيها وزارة الحكومات المحلية قبل انقلاب عبود. أما الثاني (قانون الحكم الاقليمي لعام 1981) فقد مُنحت بموجبه الاقاليم الشمالية (الولايات) سلطات أوسع من تلك التي كانت تتمتع بها في الماضي دون أن تصل إلى ما طالب به اوليفر البينو في محادثات أديس أبابا بالنسبة للولايات الشمالية. كما استجاب قانون 1981 لمطلبين قُدِما لمؤتمر عموم الأحزاب: الأول مطلب أبناء الجبال بأن يستقل اقليمهم عن اقليم كردفان، والثاني مطلب البجة باستقلال اقليمهم عن كسلا. الاستجابة للمطلبين قادت إلى قيام محافظتي كسلا والبحر الأحمر. وعلى أي، ظل كعب أخيل لذلك الاصلاح هو أنه تم في اطار حكم شمولي. وإن كانت اللامركزية في الحكم هى الترجمة العملية لديموقراطية المشاركة في صنع القرار على أدنى المستويات، يصبح من غير المنطقي بناء حكم ديموقراطي لا مركزي في أطار نظام يقوم من أساسه على الهيمنة المركزية، حتى وإن أُسميت مركزية ديموقراطية. على الصعيد الاقتصادي لم يكن نظام مايو أحسن حظاً ممن سبقه في تحقيق التمكين الاقتصادي، أولاً بسبب بقاء التشوهات الهيكلية في الاقتصاد رغم الشعارات التي رفعنا مثل ''تحقيق التوازن في النمو بين القطاع الحديث والقطاع التقليدي وبين أقاليم السودان المختلفة'' (البرنامج الاقتصادي للاتحاد الاشتراكي). السبب الثاني (وهو ذو صلة مباشرة بلامركزية الحكم) يتعلق باختلالات بيروقراطية جعلت الاقاليم دوماً تحت رحمة السلطة المركزية، خاصة فيما يتعلق بتوفير المال. وكان ذلك يحدث حتى في بعض الحالات التي خول فيها القانون لحكام الاقاليم سلطة الانفاق والادارة المالية. وعقب سقوط نظام مايو كان من المفترض أن تتوجه الانتفاضة التي جعلت شعارها ''مليون شهيد لعهد جديد''، أول ما تتوجه، لهذا التجديد. فما هو الجديدالذي أتت به؟ دعا ميثاق الانتفاضة للآتي: 1- العودة لدستور السودان المؤقت 1956 المعدل 1964 مع مراعاة الالتزام بالأهداف الواردة في الميثاق ومراعاة تمثيل القوى الحديثة في المؤسسات الدستورية عن طريق تنظيماتها الديموقراطية. 2- كفالة كرامة وحريات المواطنين الأساسية في التنظيم والتعبير والعقيدة والعمل والتنقل والحريات الأخرى كافة الواردة في المواثيق الدولية لحقوق الانسان. 3- حل قضية الجنوب في اطار حكم ذاتي اقليمي يقوم على أسس ديموقراطية. 4- التحرر من التبعية للامبريالية العالمية وخلق بنية اقتصادية اجتماعية تحقق الكفاية والعدل وذلك بالتصدي الجاد والحاسم للأزمة الإقتصادية عن طريق تنمية الثروات والموارد الوطنية وتعبئة الموارد القومية لمواجهة الجفاف والمجاعة والغلاء وشح المواد التموينية. 5- تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي وتقويمه على أسس ديموقراطية. دستور 1956، والذي لم يكن لنا أدنى فضل في صياغته، دستور جيد. ذلك الدستور أشرف على اعداده القاضي البريطاني ستانلي بيكر ليكون دستوراً للحكم الذاتي ولكن، في لهفتنا لاعلان الاستقلال من داخل البرلمان، اتخذناه دستوراً للسودان المستقل مع تعديلات شكلية. مشاكل السودان لم تبق فحسب، بل تَفَرعن نباتُها وأشتد عوده. لم يكن ذلك بسبب الدستور، وإنما بالرغم عنه. لهذا لا تثريب على مهندسي الانتفاضة إن نادوا بالعودة إلى ذلك الدستور، ولكن الفعل الذي يُثَربُ عليهم هو إنحصار اهتمامهم ـ عند استدعائهم لذلك الدستور ـ في الأمور التي ظلت دوماً محور اهتمام النُخب السياسية الحَضَرية: الحقوق المدنية، تمثيل القوى الحديثة، الديموقراطية الاجرائية. هذه هى الأمور التى تواصى مهندسو دستور الانتفاضة على ''مراعاتها'' عند اقرار الدستور وكأن ليس في السودان مشكلة أخرى تقتضي المراعاة غير ''تمثيل القوى الحديثة''. أما التحول الاقتصادي، على الوجه الذي يحقق التمكين الاقتصادي، فمن الواضح أنه أصبح قضية مؤجلة إلى حين تحقيق قضية أهم هى تحرير الاقتصاد من ''التبعية للامبريالية العالمية''. أياً كان المعنى لذلك التحرير، وأياً كان معنى الامبريالية. والسؤال الثاني مهم جداً لأن المرء لن يصدق كيف يتجه نظامٌ عمادُ سياسته الاقتصادية هو انهاء التبعية للامبريالية، أول ما استتب له الأمر، إلى صندوق النقد الدولي للحصول منه على شهادة صحية (أو قل هى شهادة حسن سير وسلوك). لا مشاحة، الذي يعنينا هنا هو أن قضية التهميش، ببعديها السياسي والاقتصادي، لم تحتل الموقع الذي تستحقه في أجندة التغيير كموضوع مستقل بذاته، كان ذلك على مستوى الرؤية أو مستوى التنفيذ. الاهتمام بالمهمشين عقب الانتفاضة لم ينعكس حتى على المستوى المظهري الرمزي، لا لأن الرمزية تُغني عن الحل الناجع، ولكن لأنها تكشف ـ على الأقل ـ على قدر من الحساسية السياسية. ففي حديث نُسب للدكتور الجزولي دفع الله، رئيس مجلس وزراء الانتفاضة، أنه فوجئ بأن ثلثي أعضاء مجلس الوزراء ينحدرون من اقليم واحد في السودان، ولعله الاقليم الأوسط. لا ينتابني شك أن ذلك الأمر لم يكن أبداً قصدياً، أي أن الذين قاموا بانتقاء أعضاء مجلس الوزراء من النقابيين فعلوا ذلك عن عمد ووفق معايير اتفقوا عليها بهدف إقصاء الآخرين. الأمر أسوأ من ذلك، فالاغفال كان نتاجاً لاستهانة عفويةTaking For Granted) ) بقضية التهميش وبالمهمشين، ولهذا فلا عجب إن تَمَ اختيار الوزراء جميعاً من داخـل شبكة عـلاقات الصـبا Old Boys Net)). فباستثناء الجنوبيين الذين اختيروا في تلك الحكومة (لا بحكم انتماءاتهم المهنية ''القومية'' وإنما بحكم انتسابهم لاقليم معين)، لم يكن لأبناء المهمشين مكان في تلك الحكومة. أقول ''أبناء'' لأن التهميش النوعي طال حتى ولايات الشمال. أقطع أنه كان بين أبناء النوبة قانونيون، وبين أبناء دارفور زراعيون، وبين أبناء البجة أطباء، وبين أبناء الجنوب أساتذة جامعات، ولكل هؤلاء ما يؤهلهم لتولي المواقع التي ارتقى اليها رصفاؤهم من الشمال النيلي، أو على الأقل لم يكونوا أقل تأهيلاً مهنياً وحساً وطنياً من اولئك الرصفاء. مرة أخرى وفر التجمع الوطني الديموقراطي، وخاصة منذ يونيو 1995، أول منبر وطني تشارك فيه التنظيمات التي ظلت تناضل من أجل قضايا أهل الأطراف على الساحة السياسية، بوجه عام، وفي داخل البرلمانات المتعاقبة بوجه خاص. ذلك المنبر أتاح أيضاً لهذه الجماعات تقديم رؤاها حول قضاياها ذات الطابع الاقليمي باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أزمة أشمل هى أزمة الدولة السودانية. وفي هذا الشأن استقر رأي التجمع على ما يلي: × التأمين على أن قضايا السودان الوطنية لا يمكن حلها إلا عبر طريق حوار صريح، جاد ومستمر بين كل المجموعات الوطنية السودانية وعلى أن طبيعة وتاريخ النزاع السوداني قد برهن على أن السلام العادل والاستقرار في البلاد لا يمكن تحقيقهما عن طريق حل عسكري (الفقرة 10 من البيان الختامي لمؤتمر القضايا المصيرية). × الهيمنة الادارية المركزية على اقاليم السودان المختلفة قادت إلى تكريس التخلف في هذه الاقاليم وتهميش بعضها (مقدمة قرار حول شكل الحكم). وحول المناطق المهمشة التي اشتعلت فيها الحرب (الجنوب، جنوب النيل الأزرق، جبال النوبة، ابيي) قرر التجمع: × الاعتراف بأن ممارسة حق تقرير المصير توفر حلاً لقضية انهاء الحرب الأهلية الدائرة وتيسر استعادة الديموقراطية في السودان وتعزيزها واتاحة فرصة تاريخية فريدة لبناء سودان جديد قائم على العدالة والديموقراطية والاختيار الحر. × أن المناطق المتأثرة بالحرب هى جنوب السودان ومنطقة ابيي وجبال النوبة وجبال الانقسنا. × أن شعب جنوب السودان (بحدوده القائمة في أول يناير 1956) سيمارس حقه في تقرير المصير قبل انتهاء الفترة الانتقالية. × أن التعرف على آراء أهل منطقة ابيي فيما يتعلق برغباتهم إما بالبقاء داخل الحدود الادارية لاقليم جنوب كردفان وإما بالانضمام لاقليم بحر الغزال سيتم عبر استفتاء ينظم خلال الفترة الانتقالية ولكن قبل ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. واذا ما أظهرت نتيجة الاستفتاء رغبة أكثرية أهل هذه المنطقة في الانضمام إلى أقليم بحر الغزال فأنهم سيمارسون حق تقرير المصير كجزء من شعب جنوب السودان. أما فيما يتعلق بجبال النوبة والانقسنا فأن الحكومة الانتقالية ستسعى للتوصل إلى حل لتصحيح الظلامات التي عانى منها أهل تلك المناطق وستنظم استفتاءً لمعرفة آرائهم حول مستقبلهم السياسي والاداري خلال الفترة الانتقالية. في اطار برنامج التجمع، اذن، تلاقت الرؤى حول قضايا التهميش كما تلاقت التنظيمات الممثلة لاولئك المهمشين مع بقية القوى السياسية الوطنية وتواصت على برنامج سياسي/اقتصادي/اجتماعي عابر للانتماءات الاثنية والدينية. وفي إطار العمل لانجاز ذلك البرنامج لم يجد الشيخ سليمان علي بيتاى الذي ظل آباؤه يوقدون نيران القرآن في همشكوريب حرجاً في التساند مع أبناء النوبة والجنوب من أجل حماية مصالح وجودية تعامى عنها، منذ الاستقلال، بعض اخوته في الدين. موقف التجمع هو في حقيقته محاولة من جانب فصائله المختلفة لتُصِلح مجتمعةً الأخطاء التي أرتكبتها فرادى. ذلك الموقف ظل نظرياً لأن الفرصة لم تواتِ التجمع، أو فصائله الكبرى، كيما تحكم. بروتوكولات نيفاشا ـ للمرة الأولى ـ أمسكت بالوعل من قرنيه، فكان اقترابها شمولياً من قضية التهميش السياسي والاقتصادي بمعالجة قضيتي الثروة والسلطة. البروتوكولان اللذان تناولا قضيتي السلطة والثروة انطلقا من حقائق مهمة على رأسها أن ''لا مركزية وتخويل السلطة على جميع مستويات الحكم مبادئ مقدسة لحكم عادل (ديباجة بروتوكول اقتسام السلطة)، و''الحاجة إلى انماط ومعايير قومية وولائية وجنوبية (للحكم) حتى ينعكس ذلك على وحدة البلاد وتنوع الشعب السوداني'' (الفقرة 241 من بروتوكول اقتسام السلطة)، ''تكامل علاقات السلطة بين الولايات واحترامها لاستقلالية بعضها عن بعض (الفقرة 151 من بروتوكول اقتسام السلطة)، اقتسام الثروة القومية بين المستويات المختلفة للسلطة بحيث تتاح لكل مستوى الموارد الكافية لممارسة سلطاته الدستورية، وبناء الاقليم، بجانب مشاركته في لجان الرصد والاشراف المالي على المستوى القومي (الفقرة 8 من بروتوكول اقتسام الثروة). ولكل هذه القضايا نعود في الموقع المناسب من المقالات. هذا هو التهميش، وهذه هى وسائل اقبالنا على معالجته منذ أربعة عقود من الزمان، أي منذ أن ''التقى جيل البطولات بجيل التضحيات''. وبهذه الصفة يعبر التهميش عن حَيف بالغ دفع من وقع عليهم إلى رفع السيف، وما وقع حَيف إلا وارتفع سيف. لهذا عجزت تماماً عن إدراك ما ذهب اليه الأستاذ محمد أبوالقاسم حاج حمد عندما أنكر ظاهرة التهميش، ثم انتقل إلى نعت الجماعات المهمشة بالتحالف الاثني. شق على كثيراً، مثلاً، وصفه لبروتوكول نيفاشا حول المناطق المهمشة بحصان طروادة لاختراق الجنوب لما أسماه مركزية الوسط. قال: ''أولاً ما حدث في نيفاشا هو خروج على جيوبوليتيك الجنوب الجغرافي والسياسي والثقافي واختراق لجيوبوليتيك الشمال والوسط''. أضاف: ''هذا أمر رفضته وأرفضه منذ تحذيري من قبول الانقاذ مباحثات سويسرا لتسوية الأوضاع في جبال النوبة حيث من هناك كان الاختراق الأول تلته تلك الاختراقات. وثانياً ادانتي للانقاذ في هذه المسألة الوطنية المصيرية تتكافأ مع ادانتي الموجهة لكبريات الأحزاب السودانية بالذات حين أقرت في مؤتمر أسمرا في يونيو 1995 بالتفاوض على المناطق الثلاث مع حركة قرنق الجنوبية فكلهم مدانون: الانقاذ وحزب الأمة والاتحادي الديموقراطي والتوابع الحزبية والسياسية الأخرى'' (الصحافة 12/6/2004). وفي مقال آخر له قال: ''إن قرنق يعلن بوضوح وصراحة مخططه لاتخاذ المفاوضات وسيلة لتفكيك السودان القديم واستبداله بسودان جديد لا يقوم على الوحدة الوطنية الديموقراطية ولكن على تحالف الاثنيات غير العربية وبما يماثل ما يرد في الكتب السوداء التي أصدرها الموالون للترابي''. وفي ذات المقال ذكر أن التهميش ليس هو غير ''مواقف عنصرية تدعي بهتاناً وزوراً تهميش الوسط للأطراف''. وكان عنوان المقال ''حرب الأطراف ودعاوى التهميش'' (البيان 1/5/2004). شق على صدور هذه المقالات من كاتب محقق في حواراته الكثير الذي يستفز العقل. بيد أن المنهج الذي اعتمد في مقالاته الأخيرة خرج بالحوار عن مجال المجادلة، أو أن شئت المخاصمة الفكرية التي تهدف للإقناع، إلى التحامل الذي ينتقص من الموضوعية. فمثلاً أسمى الكاتب المحلل الحركة الشعبية لتحرير السودان بـ ''حركة قرنق الجنوبية''. لا غرابة إن صدر ذلك الاسم من عامة الناس، أو خلال حديث عام، فليس الكاتب وحده هو الذي يُسمي الحركة الشعبية ''حركة قرنق''. التعبير شائع في الحديث العام ولا يبتغي منه قائلوه الاستحطاط من قدر الحركة. أما الباحث الذي يتهيأ للبحث فأدنى واجباته هو أن يسمى الأشياء بأسمائها. على أن القضية هنا ليست قضية نعوت وأوصاف، بل هى أعمق من ذلك. فالحركة التي يسميها الأستاذ المحلل حركة جنوبية هى حركة ما انفكت تُضفي على نفسها صفة تتجاوز الجنوب، كما هى قوة سياسية يعرف القاصي والداني أنها أصبحت عنصراً فاعلاً في السياسية الوطنية. هى أيضاً تنظيم صار له أثر ملموس على المستوى الاقليمي، وقدم لأهل السودان كله رؤية في بناء الدولة وادارة الحكم تختلف عما ألفوه. في هذا أيدها بعض، وعارضها بعض، ومازال بعض ثالث يتحاور معها حول رؤيتها تلك. كل هذا يعني أنها أصبحت حقيقة لا يلغيها الاستوضاع الكلامي منها، أو التبخيس لها. لذلك، أخطأ محمد أبوالقاسم من حيث لم يحتسب، فالباحث الذي يبدأ بحثه بمقدمات تَرشحُ تحاملاً يُتلف قضيته. من أخطاء المنهج، الأسلوب الانتقائي الذي اتبعه في تحديد ماهية السودان. فلا خلاف بيني وبين الصديق الباحث في أن مؤثرات كثيرة ثقافية ودينية واقتصادية (وأضيف بيولوجية) لعبت دوراً مهماً في إكساب وسط السودان وضعاً مميزاً جعل منه مركز اشعاع حضاري على بقية أجزاء السودان. لهذا انكفأت جموع السودانيين من كل الأطراف على هذا المركز بحثاً عن العلم أو المال أو العمل أو السلطان. وعبر التلاقح بين هؤلاء الأقوام تولدت ثقافة قومية (وأعني قومية) سودانية، والثقافة القومية هى مجموع أنساق القيم والعادات والمعاملات والعبادات التي يبتدعها شعب من الشعوب عبر تاريخه الممتد. الكيان الثقافي للوسط الذي أخترع له الأستاذ الكاتب جيوبوليتكيا وهمية وصفه بما يلي: ''العروبة بالنسبة لي هى جماع حضارات وثقافات وأعراق من سبأ في اليمن وإلى البابليين والأشوريين في العراق وإلى الآراميين والكنعانيين في سوريا وإلى القرطاجنيين في تونس وإلى لقاحات البانتو... فهى ليست قومية عنصرية احادية متعالية''. لو كان الكاتب عراقياً أو سورياً أو تونسياً لقبلنا منه هذا التعريف أما أن يكون مواطناً في بلد النوب والبجة والنيلويين والزنج فلا شك في أنه يوصف لنا بلداً وهمياً يعيش في مخيلته. هذا الكيان الحضاري الذي وصَفَه الكاتب بما وصف لا يتسع حتى لبعض من أرسوا مقومات الجيوبوليتكيا لذلك الكيان مثل ابراهيم أحمد رئيس مؤتمر الخريجين، وعبد الله خليل رئيس الوزراء، وعلي عبد اللطيف قائد ثورة 1924، وعندما ينشد العقلاء التوافق على فكرة أو رأي ينطلقون من مقدمة مُسَلم بها كيما يصلوا عبر الاستدلال الذهني إلى الحقيقة. ولكن يبدو لي أن الأستاذ الباحث، ومن يشاركه الرأي من حماة العروبة في السودان (وكأن العروبة السودانية في حالة حصار أو أنها حكر على فئة دون فئة) يريدون منا أن نقبل رؤيتهم للشخصية الثقافية كُمَسلمة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، أو كحكم توقيفي، والحكم التوقيفي عند الفقهاء هو المُنَزل المتوقف بجوهره عن أي تبديل أو تعديل بشرى. نعم لنا ثقافة قومية ذات لون، وشكل، ومذاق خاص. في تلك الثقافة لعبت العربية والدين الاسلامي دوراً محورياً في تكييف ما وجدته من مواريث وعادات مازالت بعض آثارها باقية. فعندما يتحدث الأستاذ محمد أبوالقاسم، وقاه الله العثار، ويقول في رده على مقال للأستاذ كمال الجزولي أن الوسط والشمال والشرق تربط بينهم وحدة جيوبوليتكية منذ 2700 عام بكل أبعادها التاريخية يتساءل المرء عن أي وسط يتحدث؟ هل يضم ذلك الوسط قبيلة الشلك التي امتد سلطانها حتى الخرطوم وكانت الكوة واحدة من عواصم ملكهم، لا قبل ألفين وسبعمائة عام وإنما قبل أقل من ألف عام. وإن كانت العروبة والاسلام قد وفدا بشكل مكثف في القرن السادس عشر للسودان، أفهل نعتبر الفترة التي سبقت ذلك ـ في الشمال على الأخص ـ هى فترة ممحاة من تاريخ السودان الوسيط ولا أثر لها على كينونته الحضارية؟ أم أن الكوشيين والنيلويين الذين عاشوا في الشمال والشرق والوسط كانوا امتداداً لتلك العروبة التي جمعت الفينقيين مع الاشوريين والآراميين والكنعانيين وسبأ وحمير. وعلى كل، فما لم أدركه هو إقحام ''اللقاحات البانتوية'' على العروبة، كان المعنى بذلك العروبة بوجه عام (إذ لا نعرف أدنى أثر للبانتوية على الثقافة العربية الشرق أوسطية)، أو العروبة السودانية بوجه خاص. فإن كانت الثانية يصبح هذا التصوير للشخصية السودانية أقرب لخيالات الشاعر سيد أحمد الحردلو ''جلابية وتوب، سروال ومركوب، وقرنق وأدروب'' منه إلى الحقائق العلمية المثبتة. حقاً ماهو أهم من تلقيح العربية بالبانتوية، دور السودان منذ ممالك النوبة كمصدر اشعاع حضاري على القارة الافريقية كلها. فالسودان هو مصدر أغلب اللغات النيلوية التي تُعرف عند علماء اللغات والمؤرخين باسم اللغات السودانوية الشرقيةEastern Sudanic) ). ثلاث من المجموعات اللغوية الافريقية الأربع من أصل سوداني، أو خضعت لمؤثر سوداني. فباستثناء الخوسية (لغة قبائل جنوب أفريقيا)، يعود أصل المجموعات الثلاث الأخرى للسودان: النيلوية الصحراوية، والحامية السامية، ثم النيجيرية الكردفانية. ما كان أغنانا عن كل ذلك التفصيل لولا محاولات اختزال الشخصية القومية السودانية في بُعد واحد، أو الظن بأنها شخصية شمعية يصوغها كل مَثَال على عينه. السودان عربي، والسودان أفريقي ليس بالمعنى الجغرافي وإنما بالمدلول الثقافي (من كوش إلى اللغات النيلو صحراوية). والسودان بلد اسلامي لم يحول اسلامه دون أن يكون فيه للمسلم النوباوي كجور يصنع المطر، وأن يكون لمسلمه الشمالي شيخ يُستَطب بتُفاله. والسودانيون جميعاً ـ في الشرق والغرب والشمال والجنوب ـ تراضوا طواعية أن تكون العربية هى لغة التواصل بينهم، مع حفاظ أغلبهم على لغاتهم وثقافاتهم الأصلية واعتزازهم بها. فما الذي يضير أخ العرب في هذا. حقاً أقرب إلى اقتناص المعنى العميق للشخصية السودانية ''المُسلاتي'' الشاعر عالم عباس، أنسبه إلى انتمائه الأصغر حتى أُقرب الصورة لمن لا يرون في أهل الأطراف غير تجمعات اثنية من الخير أن تُبتر حتى تبقى هُوية أهل الوسط محصنة ضد الاختراقات. قال الشاعر فاذا جاء المغيب ذُبت كالشمس على صدر ''النهود'' وصبغت الرمل وِرساً كردفانياً معصفر وضممت التل أكثر وتمطيت كتمساح على رمل الجزائر وتغطيت بأدغال الجنوب وتوسدت ذرى نخل الشمال ثم أرخيت على دارفور أهدابي ونمت من حق هذا ''السوداني'' أن يُرخى أهدابه وينام لأنه تصالح مع نفسه، ولهذا التصالح دلالات أعمق بكثير من الجغرافيا. من الأحكام الجزافية أيضاً اتهام قرنق بتدبير ما أسماه الكاتب تحالف الاثنيات، وكأن الذي كان يدور في برلمانات السودان منذ الستينات (تحالف الفور والبجة والنوبة مع الجنوبيين) ليس جزءاً من التاريخ، أو أنه لا يكفي لدحض فكرة التمييز بين ضحايا التهميش على أساس العِرق. لو كان لقائد ''الحركة الجنوبية'' فضل واحد في ابراز قضية التهميش فهو افلاحه في تنظيم غضب المهمشين. وكما يقول الفرنسيون: ''الظلم لا يشعل ثورة وإنما يشعل الثورات الشعور بالظلم''. فما أكثر المظلومين في السودان الذين رضوا بِذُلهم وهوانهم لأنهم لم يحسوا بهما بعد. هذه أقاليم مستقلة بذاتها، لها قضاياها ، ولها أهلها الذين يناضلون من أجل تلك القضايا. لهذا من الظلم تصويرها وكأنها ليست أكثر من حصون أمامية للجنوب. أجئ من بعد إلى ماهو أخطر من اختلال المنهج، الإستهانة الكاملة بحيوات البشر وكأن كل الذي يدور حول الحرب والسلام هو جمباز عقلي. لم يَرَ الكاتب المحلل في الاتفاق حول وقف اطلاق النار في جبال النوبة (بيرقينستوك، سويسرا، 6- 13 ديسمبر 2001) غير مؤامرة لاختراق جيوبولتيك الشمال، رغم أن ذلك الاتفاق لم يكن اتفاقاً لاقتسام سلطة أو ثروة، أو مشروعاً لثورة ثقافية. أهداف الاتفاق هى وقف نزيف الدم وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي، ما الذي أتى به: × وقف اطلاق النار وانهاء حالة العداء بين الطرفين خلال 72 ساعة. × ضمان حرية الحركة للمدنيين والسلع والمساعدات الانسانية. × ايقاف كل الهجمات وعمليات التخريب وزراعة الألغام. × ايقاف كل عمليات العنف، وسوء استغلال المدنيين، والاعدام بدون محاكمة، وعمليات التعذيب والتحرش والاعتقال، والتحريض على الضغائن العرقية، وتسليح المدنيين، والابادة الجماعية. × تعيين لجنة عسكرية مشتركة للمراقبة. لتحقيق هذه الأهداف أُعيد فتح الطرق، ونُزعت الألغام في كل المناطق التي شملتها الاتفاقية (كل جنوب كردفان ومحافظة لقاوة بغرب كردفان)، وفُتحت ممرات العمل الانساني، وسُمح للجنة الصليب الأحمر بحرية الوصول للأشخاص المحتجزين. أفهل يريد الكاتب أن يعيش أهالي كردفان (بمن فيهم عرب الحوازمة والمسيرية الزُرق الذين نفترض أنهم في عقيدة الكاتب جزء من مركزية الوسط) في ظل الحرب والعنف والتضاغن بدلاً من العودة لحياتهم العادية الآمنة التي درجوا عليها وألفوها إرضاءً لأوهام المثقفين. افتعل الكاتب أيضاً معركتين في غير معترك هما قضية هُوية ''السودان الجديد''، وماهية التهميش من منظور عالمي شمولي. ولعلني أترك الموضوع الأول جانباً حتى لا أُلهي القارئ بأشاغيل تصرفه وتصرفني عن موضوع بحثي، خاصة وقد أراد الباحث أن يجعل من موضوع الهُوية، قضية انثروبولوجية. ليس هذا فحسب، بل سأكف عن التعقيب استجابة للنداء الذي وجهه إلى في معرض تناوله بالتعليق لبعض ما كتب قرنق، أو أعلن في محاضراته. قال الأستاذ محمد: ''طالما أن قرنق صريح للغاية فسأكون كذلك، وأرجو أن لا يتدخل د. منصور ليطلب مني عدم استخدام الانثروبولوجيا، أو ياسر عرمان ليحدثني عن تماثل عنصرية السود الشماليين بعنصرية البيض ضد السود في جنوب أفريقيا''. للكاتب ما أراد ولن يتدخل منصور، فمنصور يغنيه ما أورد حول هذا الموضوع في منابر شتى. ولكني لا أملك إلا الرد ـ ولو عابراً ـ على تساؤل الكاتب عن قدرات قرنق في خلق سودان جديد موحد على أسس جديدة طالما أن الجنوب نفسه لم يحقق تدامجاً ثقافياً أو حضارياً باتجاه قومي، لا مع الشمال السوداني العربي المسلم ولا مع نفسه بحكم تباينات تركيبته. تباينات الجنوب لا ينكرها إلا مِغلاط، ولكن يبقى السؤال: لماذا أفلح هذا الرجل الذي ينحدر من أقليم ذي قوميات متباينة التركيب، وينتمي إلى جماعات يختلف نسيجها الاجتماعي عن ذاك الذي يميز الشمال الذي يريد التوحد معه، لماذا أفلح في توحيد الرؤى بين جماعات أشتات توحيداً تجاوز به الفوارق القبلية واللغوية والمعتقدية في الجنوب، كما تجاوز به التمايزات العِرقية والدينية في الشمال، وبين الشمال والجنوب، لدرجة خلق أرضية مشتركة لإتفاق قبله السودانيون أغلبهم، بمن فيهم من كان يحسب قرنق شيطاناً رجيماً؟ أغلب الظن أنه أفلح فيما لم يفلح فيه غيره لأنه تعامل مع الحقائق الماثلة للعيان على الأرض، لا مع التضاريس السياسية للمريخ. وفي سبيل ذلك ذهب لتقصي العوامل التي تجمع بين أهل السودان وامكانية تكثيفها، ولاستكشاف الفروق بين شعوب السودان وابتداع الوسائل لتقليصها، في حين عجز آخرون عن تحقيق الوحدة (حتى بين أهل القبلة) لأنهم لم يروا في الشخصية السودانية غير بُعد واحد، وحتى هذا البُعد الواحد لا يرضي هؤلاء إلا إن كان على عينهم. أما الموضوع الثاني فهو ذو صلة مباشرة بالقضية التي نتداولها بالبحث ألا وهى التهميش. لا نرى في سعى الأستاذ محمد للربط بين التهميش كظاهرة عالميةً، والتهميش السياسي/الاقتصادي على المستوى المحلي، إلا محاولة للهروب من المشكلة للأمام . قال الأستاذ الباحث أن التهميش مصطلح اوروبي وأن ''العولمة الاوروبية هى التي أوجدت البنى التحتية والفوقية النسبية لهذا الوسط الكبير (يعني وسط السودان) ولعب الانتماء العربي دوره في تفعيل البنى الفوقية ورفدها'' (الصحافة 29/6/2004). قال أيضاً '' كنت أقدر أن رجلاً كالدكتور جون قرنق نال رسالته العلمية في قضايا تختص بالتنمية هو الأقرب والأقدر على فهم دلالات هذه المعاني واستخدامها لتقييم علاقات الجنوب المهمش بالعولمة الاوروبية'' (الصحافة يوليو 2004). العولمة الاوروبية التي يشير اليها الكاتب هى الهيمنة الاستعمارية، وما قاله حول البُنى التحتية والفوقية في الوسط لا يعني أكثر مما ظلت تقوله كل القوى الراغبة في انهاء تهميش الأطراف عن ضرورة تبديل نموذج التنمية الموروث من عهد الاستعمار. ولا نرى مبرراً للزج بدور العروبة في ارفاد البنى الفوقية، وما هو مكانها من الاعراب إذ لا شأن للعروبة أو الزنوجة بتكثيف الثروة في الوسط. ولو كان الوسط هذا هو أرض البجة الذين لا يتحدثون غير البداويت، أو النوب الذين لا يعرفون غير ما نسميه الرطانة، لقضت الاعتبارات الاقتصادية المادية بأن يصبح هو مركز الثقل. ما هى هذه الاعتبارات؟ الموقع الاستراتيجي الذي يُمكن الحاكم من احكام سيطرته على كل القطر، والأرض المنبسطة والماء الجاري، والخطوط الحديدية التي تربط ما وراء الساحل (Hinterland) بالمنافذ على البحر التي تنقل عبرها السلع التصديرية، والمعاهد التعليمية التي تُخَرج الكوادر التي تحتاجها الادارة الاستعمارية لادارة دولاب العمل، والأيدي العاملة المدربة منذ الحكم التركية... الخ. لهذا فإن الاصرار على الزج بالعروبة والاسلام في كل شئ، حتى فيما لا فضل لهما فيه، لا يفيد البحث ولا يضيف شيئاً للعروبة والاسلام. لماذا، اذن، يريد المحلل من قرنق، رغم تأهيل قرنق لأن يكون باحثاً ناجحاً، ورغم قدراته الذاتية لأن يكون مجادلاً لبقاً، أن ينصرف لتقصي جذور التهميش على المستوى العالمي حتى يدرك أسبابه محلياً. علم الله لو قرأ قرنق ومحمد أبوالقاسم كل كتب الأرض لما اكتشفا سبباً ''عولمياً'' واحداً لاصابة ما يزيد عن ثلث السكان في منطقة البجة بداء السل. ولما وجدا سبباً ''عولمياً'' واحداً يبرر عودة الكلازار إلى جنوب السودان بعد أن قضى عليه أطباء السودان بقيادة الدكتور محمد حمد ساتي قبيل الاستقلال. ''عولمة أيه ياراجل؟''، أسهل من كل ذلك أن ننظر إلى مواطئ أقدامنا. ننظر للسياسات البلهاء، والأولويات الخاطئة. تابعت الحوار الذي دار بين الأستاذ محمد والأستاذ كمال الجزولي حول قضية التهميش وسعى فيه الجزولي للنزول بهذه القضية من المريخ إلى أرض الواقع. تحدث عن ''الشرائح الاجتماعية التي تمكنت منذ قرون من الاستحواذ على الثقل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا وعن كيف أن هذه الشرائح تنتمي إلى الجماعات المستعربة كما أشار إلى ما تولد عنها من تيار سلطوي مُستعلٍ على الآخرين. (الصحافة 17/7/2004). وسرني، بوجه خاص، اتفاق الأستاذ محمد مع هذا الرأي بل ذهابه لاستعادة التاريخ القديم والحديث لتأكيد هذه الرؤية عندما تحدث عن ''مكان المهمشين كعبيد وانصاف عبيد، رعاة وحرفيي انتاج حرفي صغير'' وعن التمكين الاقتصادي الذي وفره الاستعمار لهذه الشريحة. أكثر من ذلك، ذهب الأستاذ محمد إلى وصف الحكم الوطني منذ الاستقلال بالعجز عن معالجة الظاهرة لأنهم، على حد قوله كانوا، ''حكام فهلوة وتخلف وليسوا حكام تخطيط .. ولم يقرأوا حتى أوراق مؤتمر أركويت'' (الصحافة 10/7/2004). إن كان هذا هو رأي الصديق المحلل في الأوضاع السائدة فلماذا يريد أن يمنع قرنق من الحديث عن ''التهميش'' طالما أنه لم يُجرِ أبحاثاً حول العولمة. ثم ما الذي يغضبه في تصدي قرنق لقضية المُهَمشين، ووقوفه بجانبهم ضد المُهمِشين، إلا إن أراد القول إن التهميش على يد ''حكام الفهلوة والتخلف'' من أهل الوسط، خير من ازالة الحيف على يد واحد من ''أبناء العبيد وأنصاف العبيد''؟ أنا لا أرمي الصديق المحلل بالتحيز العرقي، ولكن هذه هى النتيجة المنطقية الوحيدة للأحكام التي تصدر من منطلق تحيز معرفي أو مفهومي. الهروب من الظاهرة إلى الامام لن يفيد أبداً، فالتهميش الداخلي ليس بالضرورة انعكاس أو امتداد للتهميش العولمي. في جوهره، هو انعكاس لعدم المساواة الشاملة المتمثلة في نقص الخدمات الصحية، التعليم، فرص العمل، الطرق، مياه الشرب، الطاقة، حيازة أدوات الانتاج، النصيب من الاستهلاك والادخار. هذه الظاهرة هى دوماً نتاج لتركيز الموارد والمناشط الاقتصادية في منطقة بعينها مما يقود إلى حرمان آخرين لأن النمو غير المتكافئ يقود، بالضرورة، إلى دمج مجموعات في الاقتصاد الوطني واقصاء مجموعات أخرى إلى هامشه. وليس ضربة لازب أن يكون ذلك التركيز نتيجة للعامل الخارجي الذي له أسبابه، ومؤثراته على الاقتصاد، وطرائق علاجها. قرنق أو محمد أبوالقاسم لن يستطيعا، مهما أوتيا من بلاغة وقدرات، أن يعالجا افرازات العولمة بالكتب والمقالات دون أن يكون لهما مركز انطلاق قوي يجابها منه جموح العولمة. العلاج، مرة أخرى، هو توازن القوى، أي قدرة الدول المستضعفة على أن توحد قواها، وتستخدم كل أدوات الضغط المتوفرة لها لانهاء تشوهات النظام الاقتصادي العالمي. وعلّ الصديق الباحث يعرف أن أكثر دول العالم الثالث التي قدرت أن تلعب دوراً مؤثراً في الوقوف ضد جموح العولمة هى تلك التي استطاعت أن تعالج، أو وضعت الأسس لعلاج، مشاكل الفقر الداخلي والتباينات الاقتصادية المدمرة لكياناتها القائمة. من تلك دولتان ما فتئتُ أشير اليهما هما: الهند وماليزيا، ولعلني أضيف البرازيل في عهد رئيسها الحالي لويس لولا دا سيلفا، وهو رجل انتقل إلى سدة الحكم من صفوف النقابات العمالية. يكفي قرنق، مع رفيقه في نيفاشا، نجاحهما للمرة الأولى منذ الاستقلال في التوصل لاتفاق ينتقل بنظرية التنمية المتوازنة، أو المتوازية، أو المتوازنة المتوازية من فكرة نستشعرها (نتداعى بها كشعار) في محافل السياسة إلى سياسات واضحة محددة. ///////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (5( التحول الديمقراطي ... الوهم والحقيقة في هذا المقال والمقالين التاليين نتناول موضوعات ثلاثة ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببعضها البعض في الحالة السودانية: الديمقراطية، الدستور، الدين والسياسة. وفي مُجملها تندرج هذه الموضوعات في باب التحول الديمقراطي، الموضوع الذي يستحوذ بعد موضوع السلام على اهتمام واسع، ولعله يسبقه في هرم الاهتمامات عند البعض. الموضوعات الثلاثة فجرت خصومات فكرية طاحنة، بل حرباً أهلية سياسية دمدمت على الوطن حتى كادت أن تهلكه. ولئن يتحول الخلاف السياسي إلى حرب فإن هذا يعني أن الاقتراب من معالجة هذه القضايا كان اقتراباً خاطئاً، ولو يكن كذلك لكان السودان إلى العافية أقرب. بروتوكولات السلام اقتربت من هذه القضايا اقتراباً سليماً عند ما ذهبت مباشرة إلى جذور الأزمة، ونأى الطرفان، بقدر ما استطاعا، عن النظر إليها عبر عدسة أيديولوجية مُشَوِهة. هذا الاقتراب جعلهما يدركان أن حل النزاع السوداني بصورة عادلة ومستدامة لن يتحقق إلا بإيجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان ويستبدل الحرب، ليس فقط بالسلام، بل كذلك بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واحترام الحقوق الأساسية، الإنسانية والسياسية لكل شعب السودان (ديباجة بروتوكول مشاكوس). التحول الديمقراطي الذي لا يصطحب هذه المعاني، أو يحقق هذه الأهداف لن يقود إلى سلام بالمعنى الذي تمناه بروتوكول مشاكوس، وهو السلام الوحيد الذي قد تتوفر له فرص الديمومة. لهذا يصبح الافتراض أن التحول الديمقراطي هو استعادة الديمقراطية على صورتها التي ألفناها، خطأً كبيراً، لا سيما ونحن نعرف جميعاً أن تلك الديمقراطية لم تحقق سلاماً، بل لم تكن حتى قادرة على حماية نفسها. مقتل تلك الديمقراطية، فيما نزعم، هو تغليبها الوجه الشكلي الإجرائي procedural على الوجه الجوهري substantive للديمقراطية. وكلما قرأت الروايات الرومانسية التي يصف فيها المحللون السياسيون، خاصة من ينتمي منهم للأحزاب، تاريخنا السياسي منذ الاستقلال تبادر إلى ذهني أنهم يصفون أرض الميعاد، لا بلداً نعرفها. نخطئ في حق أنفسنا خطأً لا يغتفر إن واظبنا على أسطرة التاريخ لأنها كادت تجعلنا نصدق أن لسنا فقط أمة الأمجاد والماضي العريق، وإنما أيضاً أمة القدر الساطع. وأحسب أن خمسين عاماً من الاحتراب بين الأخ وأخيه، ومن الإهدار الشنيع للموارد، ومن الملايين من القتلى والمشردين، ومن الاستحقار الخفي والمعلن من الآخرين، كافية لفتح بصائرنا على أن ثمة خطأ ما يستوجب التوقف عنده، والكف عن التباهي بديمقراطيات موءودة إستعدناها ثلاث مرات ولما تزل ريمة على قديمة. الديمقراطية كنظام للحكم، مثل كل الأنظمة، ظاهرة عارضة في التاريخ ونتاج للجهد البشري لتطوير كل وجوه الحياة بما فيها الحكم. وفي سعي الإنسان لابتداع نظام للحكم يضمن له الأمن والاستقرار، كما يحمي حقه في الوجود والحرية كحق مقدس، برزت الديمقراطية كنوع من الحكم تُستمد فيه السلطة من الشعب ويمارسها إما مباشرة، أو عبر ممثليه المنتخبين انتخاباً حراً. بهذا المعنى شاع تعبير ابراهام لنكولن في وصف الديمقراطية: حكم الشعب بواسطة الشعب ولأجل الشعب. مع ذلك، لحق بالديمقراطية تعهير شنيع عندما اختطفتها كل الأنظمة، حتى الشمولية منها، وابتدعت لها أوصافاً ما أنزل الله بها من سلطان مثل الديمقراطية الموجهة (سوكارنو)، المركزية الديمقراطية (الأنظمة اللينينية)، الديمقراطية الاجتماعية عبر تحالف قوى الشعب العاملة (الميثاق الناصري وتابعه السوداني)، ثم أخيراً ديمقراطية التوالي التي افتعل لها صانعها نسباً في القرآن الكريم وكأن ليس في الكتاب أيضاً ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع، كما فيه ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. كل هذه الديمقراطيات المزعومة سقطت بتآكل رأسمالها المعنوي لأن فكرتها المحورية هي احتكار الحقيقة ونفي الآخر المغاير. وحمداً لله، من قبل ومن بعد، أن آمنا جميعاً بفضيلة الديمقراطية الليبرالية. الديمقراطية إذن، هي فكرة أو نظام يتداخل فيه القانون مع السياسة والأخلاق، لهذا لا يجوز اختزالها في مقوماتها الشكلية والإجرائية مثل تعدد الأحزاب، الانتخابات، الفصل بين السلطات، الحريات المدنية، التعاقب السلمي المنتظم للحاكم... الخ. لو كان هذا هو الحال لما استقرت الديمقراطية في الكثير من دول العالم، خاصة في الدول التي لحقت بها نقمة (أو مَنَ الله عليها بنعمة) التعدد والتنوع. فالتعدد والتنوع، نعمة من نعم الله الكبرى إن أُحِسنت إدارته، وشر مستطير لو تُرك لذرائع الفتن. والديمقراطية، بلا جدل، تعني حكم الأغلبية، ولكن ليس صحيحاً البتة أن حكم الأغلبية يقود، ضرورة، إلى إهدار حقوق الأقلية. فمبادئ الديمقراطية تحض على احترام الحقوق الأساسية للأغلبية والأقلية على السواء بالقدر الذي يُمَكِن الأقلية أن تصبح أغلبية أن توفرت الظروف الموضوعية لذلك. الكلمة المفتاحية هنا هي الموضوعية، بمعني أن حرمان أي مواطن أو مجموعة من المواطنين من ممارسة حقوقهم لأسباب ذاتية مثل العِرق أو النوع (وهي الأسباب التي لا يد لهم في صنعها) يهدم الديمقراطية من أساسها، ويفقد الحكم الديمقراطي شرعيته المعنوية. وللأستاذ جورج طرابيشي رأي في هذا الموضوع استحببناه. قال في كتيبه الصغير في ثقافة الديمقراطية: اختزال الديمقراطية إلى مجرد اجرائيات من شأنه أن يقتل بذرتها في مهدها، فالثقافة الديمقراطية هي شرط تخصيب التربة وشرط النماء. ويمضي متحدثاً عن مفهومي الأغلبية والأقلية يقول: الأغلبيات فيها الأفقي المتحول، وفيها العمودي الثابت... ما هو عمودي في المجتمع هو كل ماله صلة بالهوية سواء تجلت هذه الهوية بالدين أو الطائفة أو الاثنية أو القبيلة. أما ما هو أفقي فذاك ما هو عابر لتلك الكيانات الثابتة والدائمة وما يمكن أن يتمثل بمؤسسات المجتمع المدني أو الأحزاب السياسية (بالمعنى الحديث للكلمة) أو النقابات. وفي اللحظة التي عكفت فيها على إعداد هذه المقالات استرعى اهتمامي حدث يبين خطورة التداعيات الناجمة من النظرة الضيقة لما أسماه طرابيشي العمودي الثابت في الهوية. ذلك هو توصية لجنة القانون والدستور في الكنيست الإسرائيلي بشأن طبيعة الدولة تمهيداً لتضمينها في مشروع دستور دولة إسرائيل. وكما هو معروف ليس لإسرائيل دستور مكتوب، ومن بين أسباب عجزها عن وضع ذلك الدستور إصرار غلاة المتطرفين اليهود على إعلان إسرائيل دولة يهودية، الأمر الذي ظل يرفضه العلمانيون في حزب العمل. النص يقول إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية، ولعل الذي أثار اهتمامي بوجه خاص اعتراض النائب البرلماني العربي عزمي بشارة على ذلك النص ووصفه له بالغوغائية لما فيه من تناقض. وكبديل للنص اقترح بشاره ما يلي: إسرائيل دولة لكل مواطنيها.
09-16-2004, 02:37 AM
يحي ابن عوف
يحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335
مفهوم الشرعية نفسه يحوطه الكثير من اللبس، خاصة في التعبير العربي. فللشرعية وجهان، وجه إجرائي والثاني جوهري، يعبر عنهما في اللغات غير العربية بمفردتين مختلفتين. فالشرعية بمعنى legality تشير إلى قيام النظام على قواعد قانونية (دستورية) متفق عليها مسبقاً، ومتى ما توفرت تلك القواعد اكتسب النظام شرعيته. مثال ذلك أن يحكم النظام وفق دستور متفق عليه، وأن يصل إلى الحكم عبر أسلوب مقنن ومتفق عليه أيضاً مثل الانتخابات. المعنى الثاني legitimacy يشير إلى شرعية أخلاقية لا تُستمَد من الدستور أو القانون فحسب، وإنما أيضاً من الالتزام بقيم إنسانية، سياسية واجتماعية اتسمت بالعالمية، أو بقواعد سلوكية أجمع عليها الناس. من ذلك احترام حقوق الإنسان بمعناها الواسع، سيادة حكم القانون، التزام قواعد الحكم الصالح good governance ومنها الصدق والشفافية. فعندما يقول المحللون السياسيون في بريطانيا اليوم أن توني بلير فقد شرعيته فإن هذا لا يعني مطلقاً فقدانه الشرعية بالمعنى الإجرائي legality وإنما بالمعنى الأخلاقي legitimacy لأنه قاد بلاده لحرب لم تكن في حاجة لخوضها، ولم يكن صادقاً، في تقدير شعبه، في تبريره تلك الحرب حتى ألصق به بعضهم تهمة المخادعة وتزييف الحقائق. الفشل التاريخي للديمقراطية في السودان كان بسبب اختزالها في المعنى الإجرائي، دون أدنى اعتبار للجانب الجوهري أو المعنوي الأخلاقي. فقد ظن ديمقراطيو السودان أنه ما أن وصل الواحد منهم إلى سدة الحكم عبر الانتخابات ووفق نظرية الحشاش يملأ شبكته أُضفيت عليه شرعية لا تنزع ولسان حاله يقول: كيف أنزع قميصاً ألبسنيه الشعب. لا يهمه كثيراً إن عجز عن حسم قضايا البناء الوطني (والتي هي في حالة السودان قضايا وجود) رغم أن المزية الكبرى للديمقراطية هي ما توفره من ميكانيزمات لحل الصراعات سلمياً. ولا يهمه أن تجاوز أحكام اللعبة بخرق الدستور، بوجه أو آخر، رغم أن الالتزام بهذه الأحكام هو وحده الذي يعين على ترسيخ الديمقراطية واستدامتها. وقلما يفكر الحاكم الديمقراطي في أن مثل هذه الانتهاكات الجوهرية للنظام الديمقراطي تخدش مشروعيته، وتمهد الطريق للانقلابات أو للتمرد عليه. وإن كان الانقلاب العسكري خروجاً على الشرعية فإن التمرد إنكار لها. مع تواتر التجارب مازال الديمقراطيون ينكفون أنَفة أو استكباراً عن الوعي بالدرس المستفاد من هذه اللعبة السخيفة (حكم مدني ـ انقلاب ـ حكم مدني ـ انقلاب). لم يفعلوا ذلك حتى دَبَرياً (أي بعد فوات الأوان)، رغم معاينتهم للجماهير التي انتخبتهم تستقبل بعض الانقلابات العسكرية برضى أو استكانة. الانقلابات العسكرية، بلا أدنى شك، تمثل خروجاً عن الشرعية، ولكن ألا يشي رضى الناس بها، أو استكانتهم لها، باهتزاز تلك الشرعية؟ فالجيوش تستولي على الحكم بحد السيف، إلا أن قدرتها على السيطرة على الحكم رهينة أبداً بحد أدنى من قبول الناس لها. هذه الظاهرة في السودان كادت أن تحوله إلى مسرح للامعقول إذ أن نفس الجماهير التي تستقبل الحاكم العسكري بالرضا ـ حتى وان كان سلبياً ـ تودعه بعد فترة باللعنات، ولأهل السودان في هذا تجارب. فالجماهير التي ودعت حكومة عبود بأكثر الهتافات بذاءة: إلى الثكنات يا ......، هي نفسها التي استقبلت عبود في سوق الخرطوم بـ ضيعناك يا عبود، وضعنا معاك يا عبود. والجماهير التي خرجت بنقاباتها العمالية والمهنية تهتف لنميري في الثاني من يونيو 1969 بالروح بالدم نفديك يا نميري هي نفس الجماهير التي خرجت بعد أقل من عقد من الزمان تهتف الأحزاب ولا العذاب وجميع هذه الانقلابات تستهل بيانها رقم (1) بشيئين: إنهاء الحرب ورفع المعاناة عن الجماهير مما يدل على أن الانقلابيين يعرفون جيداً المدخل لقلوب الجماهير. سبب آخر أدى لانهاك الديمقراطية داخلياً هو عدم الالتزام بأحكام اللعبة الديمقراطية. ولا يقود الخروج على أحكام اللعبة إلا إلى رد فعل مماثل موازٍ له في الحجم ومضاد في الاتجاه. لا يستطيع أحد أن ينكر، مثلاً، أن هناك علاقة سببيه بين حل الحزب الشيوعي ومعاضدة ذلك الحزب لانقلاب مايو. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك صلة مباشرة بين استقالة رئيس القضاء بابكر عوض الله احتجاجاً على موقف الحكومة (حكومة محجوب) ومجلس السيادة من الهيئة القضائية عقب الحكم الذي أصدرته المحكمة العليا تدين فيه قانونياً طرد النواب الشيوعيين، وبين قبول ذلك الرجل الذي قضى عمره كله في رحاب الديمقراطية والعدالة رئيساً لأول برلمان ثم رئيساً للقضاء، أن يصبح نائباً للرئيس في حكم انقلابي. مشاكل السودان أعمق كثيراً من أن تحل عبر الديمقراطية الإجرائية، أو عبر المغامرات العسكرية، أو عبر الشمولية ودعاواها الفارغة لتحقيق الوحدة الوطنية والتناغم الاجتماعي قسراً. وستظل الديمقراطية، رغم كل معايبها، هي الخيار الأمثل لأنها، على خلاف كل الأنظمة، تتيح الفرصة للبحث الدائم عن خيارات أفضل وللتطور والتعديل. على أن ذلك يستدعي ابتداءً إدراك ما هو المطلوب لتحقيق حكم مستقر؟ وما هي الخيارات المتوفرة لتحقيق الاستقرار؟ ثم ما هي التجارب التي يمكن لنا الاستهداء بها؟ وعبر تاريخنا السياسي منذ الاستقلال، بل منذ الحكم الذاتي، كنا نعرف جيداً ما هو المطلوب، وكانت الخيارات مطروحة أمامنا إلا أنا ظللنا نتجاهلها، وفي بعض الأحيان نتمنى زوال العوامل wishing away التي قادت إليها. كما لم يكن العلاج عسيراً اذ كانت أمامنا تجارب عديدة يمكن الاهتداء بها أو استلهامها. بروتوكولات نيفاشا هي المحاولة الأولى لمخاطبة جذور المشكل السوداني مباشرة، لهذا فهي تمهد الطريق لديمقراطية مستدامة بصورة غير مسبوقة. وقد كان التجمع الوطني الديمقراطي أميناً وشجاعاً عند ما قرر في الاجتماع الأخير لهيئة قيادته 14-22 يوليو 2004 أن بروتوكولات السلام الموقعة بين الحركة الشعبية والحكومة السودانية ... توفر أساساً لإعادة هيكلة البناء الوطني الواحد على أسس جديدة تختلف عن الأسس القائمة منذ فجر الاستقلال. أسس تراعي الاستجابة الواسعة لمتطلبات الإقليم في الحكم اللامركزي، والمشاركة في السلطة والتنمية. كما لم يُجافِ زعيم الحركة الشعبية الحقيقة قيد انملة عندما قال عقب توقيع بروتوكول اقتسام السلطة في 26/5/2004: يستحيل أن يبقى السودان كما كان بعد هذا الاتفاق Sudan shall never be the same again ما أراد قوله هو أن التحول الذي سينجم عن هذا الاتفاق ليس تحولاً نمطياً، لا في نظام الحكم، ولا في توزيع الثورة، ولا في مقومات الوحدة. فما هي معالم هذا التحول غير النمطي الذي استعصى علينا منذ الاستقلال؟ وما هي تجاربنا في الماضي في تلك التحولات النمطية؟ على رأس التحولات، تلك المتعلقة بنظام الحكم، خاصة وقد طَالَ التغييرُ كل السودان، ولم يقتصر على الجنوب. ونستذكر أن الخلاف، بالنسبة للجنوب ومكانه في نظام الحكم، يعود إلى مشارف الاستقلال، وعلى وجه التحديد إلى يوم 12/12/1955 عندما تقدم بنجامين لوكي باقتراحه حول الفيدرالية لاجتماع مشترك لممثلين من مجلس النواب والشيوخ من كل الأحزاب. لا نطمع في الغوص في جدل فقهي حول الفيدرالية، بل سنذهب، كما ذهبت البروتوكولات، للحديث عن حكم لا مركزي، أي حكم يتم فيه اقتسام دستوري للسلطة بين حكومة مركزية (قومية) تبسط سلطانها على امتداد الوطن، وحكومات أخرى تمارس السلطة في أقاليم معينة من ذلك الوطن في استقلال autonomy دون جَور على السلطات المحتجزة للمركز، ودون تَعَدٍ من جانب المركز على السلطات المقررة للحكومة المعينة. بهذا المعنى تهدف اللامركزية إلى تحقيق هدفين، الأول هو ضمان سلامة وحدة الوطن، وفي ذات الوقت صيانة استقلالية الوحدات المكونة له، أو بعبارة أخرى إقامة وحدة غير قابلة للتخريب ووحدات غير قابلة للإئتلاف indestructible union of indestructible units . والفيدرالية، إن شئت أن تسميها هكذا، هي محاولة لتوحيد الوطن، إما بضم كيانات مستقلة قائمة لتصبح دولة (اتحاد الولايات الثلاث عشر التي تكونت منها الولايات المتحدة الأمريكية عند إنشائها، أو يوغسلافيا على عهد تيتو)، أو بالحفاظ على وحدة وطن قائم بتمكين كل وحدة من الوحدات المكونة له من الحفاظ على خصائصها وإدارة نفسها. الهدف الثاني من اللامركزية أو الفيدرالية هو التدني بسلطة اتخاذ القرار السياسي والإداري إلى مستويات اقرب للمواطن بحيث يكون القرار أكثر تعبيراً عن رغائبه ومطامحه واحتياجاته. وفي كلا الحالين لا تتحقق اللامركزية على وجهها الصحيح إلا في ظل نظام ديمقراطي وحكم تمثيلي. بعد كل محاولات الهروب من المشكل منذ الاستقلال، أو التعامل معه بالتي هي أخشن (عهد عبود) ساد العقل، وكانت أولى المحاولات الحكيمة لمعالجة مشكلة الجنوب هي تلك التي قامت بها حكومة الأستاذ سر الختم الخليفة في أكتوبر 1964 تلك المحاولة الرائدة والجادة لم يُقَدر لها النجاح كما أبنا في مقال سابق، خاصة فيما يتعلق بتنفيذ توجيهات مؤتمر المائدة المستديرة وقرارات لجنة ألاثني عشر. وعقب فترة أكتوبر الانتقالية بدأت الديمقراطية الثانية أولى محاولاتها لإقامة نظام لا مركزي أخذ شكله النهائي في مشروع دستور 1968 ذلك المشروع اقترح نظاماً لا مركزياً للحكم يرتكز على مديريات السودان التسع (ست منها في الشمال هي الشمالية، الخرطوم، كسلا، الجزيرة، كردفان، دارفور وثلاث في الجنوب هي أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية)، كما أوصى بإنشاء مجلس تشريعي لكل إقليم ينتخب انتخاباً مباشراً، ومجلس تنفيذي يرأسه محافظ يعين مركزياً. وحسب المشروع يباشر المجلسان السلطات التالية: الإدارة المحلية، التعليم حتى المستوى الثانوي مع الالتزام بالسياسات القومية، الصحة العامة، الصناعات المحلية، الطرق المحلية، تطوير اللغات المحلية، على أن تحتجز أية مهمة أخرى لم ينص عليها صراحة للحكومة المركزية. في ذلك المشروع كانت هناك ثلاث مثالب: الأولى هي أن السلطات التي مُنحت للإقاليم لم تتجاوز كثيراً تلك التي كان يمارسها مديرو المديريات في الماضي. والثانية هي إغراقها لقضية الجنوب بطابعها المميز في نظام حكم لا يُداني حتى الفيدرالية التي طالب بها بنجامين لوكي في 1955، ناهيك عن تلك التي دعا لها في مؤتمر المائدة المستديرة وليام دينق (والد كبير مفاوضي الحركة في نيفاشا، نيهال دينق نيهال). هذه الحقيقة لا يبدل منها في كثير أو قليل التحوط الذي تضمنته المادة 179 من مشروع الدستور، التي تبيح لأي إقليمين أو أكثر التوحد. هذا النص قد يمكن الجنوبيين من توحيد المديريات الثلاث في إقليم واحد ولكنه لا يعالج قضية السلطات، وتلك هي المثلبة الثالثة. جاء من بَعد نظامُ مايو ليتبنى مقترحات لجنة ألاثني عشر ويطورها لتصبح أساساً لقانون الحكم الذاتي الإقليمي 1972 وعلى خلاف مشروع دستور 1968 اعترف قانون الحكم الذاتي بخصوصية الجنوب، وأقر اعتباره إقليماً واحداً، وحدد له واجبات تستقل بها أجهزته الحاكمة تشمل الزراعة، الصناعة، الصحة، التعليم حتى المستوى الثانوي، التجارة الداخلية، صحة الحيوان، حماية البيئة، السياحة، الإدارة والحكم المحلي. اعتُبر قانون الحكم الذاتي الإقليمي أيضاً قانوناً أساسياًorganic law لا يُعَدل إلا بقرار يتخذه مجلس الشعب القومي بأغلبية ثلاثة أرباع أعضائه وموافقة ثلثي الناخبين في الجنوب في استفتاء عام. هذا النوع من القوانين يسمي في الفقه الدستوري الفرنسي القوانين المكملة للدستور، وقد ضمن النص على ذلك في المادة الثامنة من الدستور الدائم لعام 1983، رغم ذلك، وبعد عشر سنوات عم فيها السلام أرجاء القطر وبخاصة الجنوب، أصدر الرئيس نميري أمراً جمهورياً في عام 1983 قَسَم فيه الإقليم إلى ثلاثة أقاليم جُعل لكل واحد منها مجلس تشريعي، ومجلس تنفيذي، وحاكم، وعاصمة. قرار نميري كان خرقاً للاتفاقية على ثلاثة وجوه: الوجه الأول هو خرق عدد من بنود الاتفاقية مثل المادة 303 (تعريفات) والمادة 4 من الاتفاقية وكلاهما تُعَرِفان الجنوب كوحدة متكاملة، والمادة 34 التي تحدد عاصمة واحدة للإقليم (جوبا) تكون مقراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، والوجه الثاني والأهم هو عدم إتباع نميري للقواعد التي حددتها الاتفاقية، بل حددها الدستور، لتعديل نصوصها. أما الوجه الثالث والخطير أيضاً هو منح الرئيس نفسه الحق في تعيين 10% من أعضاء مجلس الشعب، بالإضافة إلى خمسة أعضاء آخرين يختارهم القائد العام لتمثيل القوات المسلحة، وكان ذلك خرقاً فاضحاً للمادة الثامنة من الاتفاقية التي تنص على انتخاب أعضاء مجلس الشعب الإقليمي انتخاباً حراً مباشراً بواسطة المواطنين المقيمين بالإقليم. وتعبير المواطن المقيم يشمل الجنوبي والشمالي على السواء. فيما يتعلق بتطبيق النظام المايوي للامركزية في بقية أجزاء القطر فقد أشرنا في مقال سابق إلى قانون الحكم الإقليمي 1980 الذي قُسِم السودان الشمالي بموجبه إلى خمسة أقاليم: الشرقي ويشمل مديريتي كسلا والبحر الأحمر، والشمالي ويشمل مديريات النيل الأزرق، النيل الأبيض، الجزيرة، كردفان ويشمل شمال وجنوب كردفان، دارفور ويشمل شمال وجنوب دارفور. وبموجب ذلك القانون أصبح لكل إقليم برلمان (مجلس شعب إقليمي) وحاكم يُعينه رئيس الجمهورية، ومجلس تنفيذي يضم عدداً من الوزراء كما خُصصت للمجلس وحكام الإقاليم واجبات لا تختلف كثيراً عن تلك التي جاءت في مشروع دستور 1968 وقد حظر ذلك القانون على السلطات الإقليمية تناول موضوعات بعينها هي الدفاع، الأمن القومي، العلاقات الخارجية، المراجعة العامة، الجنسية والجوازات والهجرة، القضاء والنيابة العامة، الاتصالات والنقل العابر، موارد المياه العابرة، شبكة الكهرباء القومية، العملة والنقد، تجارة الصادر والوارد، الموارد الطبيعية والثروات بباطن الأرض، تخطيط التعليم. وبسقوط نظام مايو تبنت قوى الانتفاضة في ميثاقها ثلاث قضايا ذات صلة بنظام الحكم والدستور هي تمثيل القوى الحديثة في مؤسسات الحكم، الجنوب، الحكم المركزي. ولكن حين أورد الميثاق في بنده الأول نصاً صريحاً حول الموضوع الأول هو مراعاة تمثيل القوى الحديثة في المؤسسات الدستورية عن طريق تنظيماتها الديمقراطية، اكتفى بالنسبة لقضية الحكم اللامركزي بإشارة في البند السابع من الميثاق نصها: تأكيد مبدأ الحكم اللامركزي وتقويمه على أسس ديمقراطية سليمة. أما قضية الجنوب فقد جاءت الإشارة إليها في البند الثالث من الميثاق كما يلي: حل قضية الجنوب في إطار حكم ذاتي إقليمي يقوم على أسس ديمقراطية. وتكشف الطريقة التي صيغ بها الميثاق وتدرجت به القضايا التي تناولها، فيما نقدر، عن مكان هذه القضايا في هرم الاهتمامات. كما توحي الإشارة المتكررة للديمقراطية مثلما ورد في الإشارة للحكم الذاتي الإقليمي (يقوم على أسس ديمقراطية)، وللحكم اللامركزي (تقويمه على أسس ديمقراطية) أن هناك ثمة ظناً أن هذه المؤسسات ستفي بالغرض متى ما استُردت الديمقراطية بصورتها القديمة. الأمر العُجاب هو أنه رغم ما قال به الميثاق عن محو آثار مايو لم يُقَصر دستور الديمقراطية الثالثة الذي صدر في 6/10/1985 في اقتفاء آثار مايو، فالنصان اللذان وردا حول الموضوعين هما إعادة تدوير للقوانين المايوية. مثلاً تقول المادة 16 (1): تُدار الأقاليم الخمسة الشمالية كما تُدار العاصمة القومية على أساس الحكم اللامركزي وفقاً لاحكام القانون. وفي عام 1985 أصدر الدكتور الجزولي دفع الله رئيس الوزراء، وبحسبانه أيضاً الوزير المسئول عن الحكم المحلي قراراً بتعديل القانون المايوي بما يتمشى مع الديمقراطية، ولربما لم يسعفه الوقت لتحقيق ذلك. وعقب الفترة الانتقالية عين رئيس الوزراء الصادق المهدي بموجب نفس قانون الحكم المحلي المايوي الذي لم تمسسه يد التعديل لجاناً إدارية لتتولى سلطات المجالس، وحسب تقديرنا المتواضع، لا يمنح ذلك القانون حقاً لأي سلطة لاختيار اللجان بل ينص على الانتخاب. أما المادة 16 (2) حول الحكم الإقليمي فقد نصت على أن يقوم نظام الحكم الذاتي الإقليمي في الإقليم الجنوبي على أساس السودان الموحد وفقاً لقانون الحكم الذاتي للإقليم للمديريات الجنوبية لسنة 1972 أو أي تعديلات يجيزها ثلثا أعضاء المجلس العسكري الانتقالي ومجلس الوزراء في اجتماع مشترك على أن يخضع أي تعديل للاستفتاء المشار إليه في قانون الحكم الذاتي للإقليم الجنوبي متى ما كان ذلك ممكناً. ورغم الاحتراس الأخير يُعتبر القرار عوداً إلى اتفاق 1972 قبل أن يمسخه نميري. نقطة الضعف القاتلة في تبني قانون الحكم الذاتي الإقليمي كانت هي تجاهله لموقف الذين حملوا السلاح في الجنوب ضد نميري، وبوجه خاص ضد اتفاق أديس أبابا بسبب التداعيات التي ترتبت على خرقه. ولا شك في أن الإدراك للموقف الجديد حول قضية الجنوب هو الذي دفع أهم قاعدة لحكومة الانتفاضة (التجمع الحزبي والنقابي) للاتفاق مع الحركة في كوكادام (24 مارس 196 على قيام مؤتمر دستوري للتداول في عدد من الموضوعات وعلى رأسها: مسألة القوميات، المسألة الدينية، الحقوق الأساسية للإنسان، نظام الحكم، التنمية غير المتوازنة، المسألة الثقافية، الموارد الطبيعية. هذه الأجندة تلخص نفس القضايا التي ظلت معلقة دون حل منذ الاستقلال وعجزت كل الحلول المهدئة عن التخفيف منها بعد أن أصبح الداء يجري في الدم. ثم استولت الجبهة القومية الإسلامية على الحكم وعقب استيلائها وقع حدثان مهمان: الأول هو مقررات مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية، والثاني إصدار حكومة الإنقاذ لدستور .1998 إقبال التجمع على قضية نظام الحكم كان جريئاً، وكما قلنا ربما أرادت فصائله أن تُصلح مجتمعه ما ارتكبته فرادى من أخطاء. قدم التجمع للقرار حول نظام الحكم بما يلي: × بما أن تواصل الحرب خلق قدراً كبيراً من عدم الثقة بين أبناء الوطن الواحد × وبما أن الهيمنة المركزية على أقاليم السودان المختلفة أدت إلى تكريس التخلف في هذه الأقاليم وتهميش بعضها × وبما أن التجمع الوطني الديمقراطي، ممثلاً لأهل السودان في الجنوب والشمال والشرق والغرب، قد عقد العزم على إزالة كل المظالم الموروثة والقضاء على أسباب الحرب وتهيئة الظروف الملائمة لخلق سودان جديد ينعم فيه كل مواطن بالأمن والسلام والرفاهية في ظل وحدة حقيقية مستمدة من الارادة الحرة لشعبنا ولم تكن الطبقة السياسية السودانية منذ ديسمبر 1955، وفي مارس 1965، وأكتوبر 1968، وسبتمبر 1983، وابريل 1985، تجهل بما أن، وبما أن، وبما أن. تجاهل هذه البما أنات في الماضي هو الذي أوردنا موارد الهلاك. وعلى أي يحمد للتجمع إقراره في النهاية بالحقيقة، وإقدامه على اقتراح اقتسام للسلطة بين الحكومة المركزية والكيانات الشمالية، وبينها وبين الكيان الجنوبي بصورة تجاوزت الوضع القائم، وذلك الذي اقتُرح في مشروع دستور 1968، بل وفي اتفاق أديس أبابا. أما دستور 1998 الذي أصدرته حكومة الإنقاذ فقد كان، من جانب، نقلة بالنسبة لولايات الشمال لما تبعه من توسع في إنشائها بحجة تقليص الظل الإداري. فأقاليم الشمال الخمسة أصبحت 16 ولاية هي: البحر الأحمر، الجزيرة، جنوب دارفور، جنوب كردفان، الخرطوم، سنار، شمال دارفور، شمال كردفان، الشمالية، غرب دار فور، غرب كردفان، القضارف، كسلا، نهر النيل، النيل الأبيض، النيل الأزرق. كما تحولت مديريات الجنوب الثلاث إلى 10 ولايات هي أعالي النيل، بحر الجبل، البحيرات، جونقلي، شرق الاستوائية، شمال بحر الغزال، غرب الاستوائية، غرب بحر الغزال، واراب، الوحدة. كعب أخيل بالنسبة لتلك اللامركزية هو أنها، تماما كاللامركزية في نظام مايو، قد استحدثت في ظل نظام شمولي. من الجانب الآخر أغرق دستور 1998 القضايا في حشو لفظي لا نور عليه. فالمادة الثانية من الدستور تقول السودان جمهورية اتحادية تُحكم في سلطانها الأعلى على أساس النظام الاتحادي الذي يرسمه الدستور مركزاً قومياً وأطرا ولائية وتدار في قاعدتها بالحكم المحلي. وحول الوحدة الوطنية نصت المادة السادسة على: الوطن توحده روح الولاء تصافياً بين أهله كافة وتعاوناً على اقتسام السلطات والثروات القومية بعدالة دون مظلمة، وتعمل الدولة والمجتمع على توطيد روح الوفاق والوحدة الوطنية بين السودانيين جميعاً إتقاءً لعصبيات الملل الدينية والحزبية والطائفية وقضاء على النعرات العنصرية. وعندما نأتي للتفصيل حول ما أسماه الدستور الأطر الولائية، خاصة فيما يتعلق بالسلطات، نجد أنها لا تتجاوز تلك التي جاء بها قانون الحكم الإقليمي 1980: حكم الولاية وحسن إدارتها، الموارد المالية الولائية، التجارة والتموين، الأراضي والموارد الطبيعية الولائية، المياه والطاقة غير العابرة، الطرق ووسائل النقل الولائية، تسجيل المواليد والوفيات ووثائق الزواج، الشئون التبشيرية والخيرية. حدد دستور 1998 أيضاً طريقة معقدة لاختيار الولاة : كلية انتخابية ترشح لمنصب الوالي تتكون من أعضاء المجلس الوطني وأعضاء مجلس الولاية ورؤساء المحليات، وتختار الكلية ستة أشخاص ليختار منهم رئيس الجمهورية ثلاثة يقدمون للانتخابات. وقد امتدت سلطات المركز حتى لاختيار الوزراء الولائيين، فهؤلاء يعينهم الوالي بالتشاور مع رئيس الجمهورية. في كل هذه التجارب ظلت الخرطوم هي التي تهيمن على صنع القرار، حتى في ظل النظام الحالي، رغم نعت نظام الحكم اللامركزي بالاتحادية (الفيدرالية)، والفيدرالية كلمة ذات دلالات ومعان معروفة، كما تنبثق عنها سلطات يعرفها القاصي والداني. هذه السلطات تشمل السلطة التشريعية القائمة على الانتخاب الحر المباشر، والسلطة التنفيذية (الحاكم) التي يختارها الشعب أيضاً انتخاباً حراً، والسلطة القضائية في كل الأمور ذات الطابع الولائي، والسلطة على الأموال جلباً وجبياً وانفاقاً. ولعل أضعف الحلقات في كل هذه الأنظمة منذ مشروع دستور 1968، إلى قوانين الحكم الإقليمي في عهد مايو، والنظام الذي تلاه وتقفي أثره رغم الحديث المكرور عن دمقرطة اللامركزية، وأخيراً دستور 1998، هي حرمان الولايات من السلطة على الأموال. وكما قال، بحق، الدكتور فيصل عبد الرحمن على طه المال هو عصب اللامركزية. فاللامركزية لا تنشأ بمجرد إصدار القوانين وخلق الأجهزة وتحديد المهام وإنما بالاستقلال المالي. وبالطبع لا يتوقع أحد أن تباشر الوحدات اللامركزية المهام المنوطة بها بمواردها الذاتية، ولكن الاعتماد الكلي على الحكومة المركزية يجردها من الاستقلال وينفي عنها صفة اللامركزية (السودانيون والبحث عن حل لأزمة الحكم، مركز عبد الكريم ميرغني). ولعل الذي أطلع على تطور النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة يدرك أن الذي ثَبَت اقدام ذلك النظام في سنيه الأولى، أكثر من نصوص الدستور والأفكار النيرة في أوراق الفيدراليين Federalist Papers، هو قرار وزير المالية الاسكندر هاملتون بتولي الحكومة الفيدرالية كل الأعباء المالية للولايات الثلاث عشر بما فيها الديون. حقيقة الأمر أجلاها المحافظ مختار الطيب في خطاب له إبان عهد مايو، قال إن الذي يحول دون تطور وانطلاق الحكم اللامركزي في السودان هو الترسانات المسلحة القابعة عند شاطئ النيل بالخرطوم. ويذهب بي الظن إلى أن أكبر تلك الترسانات التي كانت تؤرق بال المحافظ وزارة عتيدة تسمى يوماً وزارة المالية، ويوماً آخر وزارة الخزانة، ويوماً ثالثاً وزارة المالية والتخطيط والاقتصاد والخزانة. بروتوكول نيفاشا لم يضف جديداً إلى القديم بل قلبه رأساً على عقب حتى يحقق أولاً وحدة طوعية قائمة على الرضا، وثانياً لا مركزية حقيقية مبنية على التراضي. وتنص المبادئ التي ارتكز عليها البروتوكول حول اقتسام السلطة على ما يلي : × الاعتراف بان السيادة مناطةvested بالأمة، وبضرورة ممارسة الحكم الذاتي autonomy من جانب حكومة جنوب السودان وحكومات كل الولايات عبر القطر. × الاعتراف بالحاجة لمعايير قومية وولائية تؤكد الوحدة، وتعبر عن التنوع. × العمل على رفاهية الشعب وحماية حقوقه الإنسانية وحرياته الأساسية. × ضرورة تضمين جنوب السودان في كل مستويات الحكم والمؤسسات القومية تعبيراً عن وحدة الوطن. × السعي وراء حكم صالح يلتزم الشفافية والمحاسبة والديمقراطية وسيادة حكم القانون في كل مستويات الحكم لكيما يتحقق سلام دائم. × اعترافاً بالحاجة لتقنيين هذه الترتيبات (أي إكسابها الشرعية) تُجرى انتخابات عادلة على كل مستويات الحكم، وتوفر الحرية للتعددية الحزبية. × ضرورة الترابط بين كل مستويات الحكم مع تخويل سلطات واسعة للجنوب، والولايات، والحكم المحلي. × الالتزام من جانب كل مستوى من مستويات الحكم باحترام استقلال بعضها عن بعض، والتعاون فيما بينها بدلاً من التنافس، وعدم تعدي البعض على سلطات البعض الآخر، وعدم افتراض اية سلطات لا يمنحها الدستور، والتنسيق والتفاعل فيما بينها، والتسوية السلمية للنزاعات. على ضوء هذه المبادئ أقر البروتوكول ثلاثة مستويات للحكم: قومي، جنوبي، وولائي. على المستوي القومي تتكون أجهزة الحكم من هيئة تشريعية من مجلسين (برلمان يُنتخب أعضاؤه انتخاباً حراً مباشراً ومجلس أعلى للولايات يضم عضوين عن كل ولاية بصرف النظر عن حجم الولاية). هذا هو النمط المرعي في بعض الدول الفيدرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث يضم مجلس النواب أعضاء يمثلون دوائر جغرافية يُحدد عددها حسب نسبة السكان مما يعني أن بعض الولايات قد تحظى بعدد أكبر من النواب باعتبار تعداد سكانها. اما مجلس الشيوخ فيضم عضوين من كل ولاية بصرف النظر عن عدد سكان الولاية، وفي هذا تستوي ولاية حافلة بالسكان مثل تكساس أو كاليفورنيا مع ولاية صغيرة مثل ميريلاند أو فيرمونت. ويقوم المجلسان سوياً بالتشريع، على أن الغرفة العليا المستحدثة على النظام السوداني (مجلس الولايات) سيكون واجبها الأساس هو حماية حقوق الولايات (الشمالية والجنوبية معاً) من أي تغول من جانب السلطة المركزية. لهذا ينص البروتوكول على أن أي قانون أو إجراء يؤثر على مصالح الولايات لا يجاز إلا بأغلبية 66% من أعضاء مجلس الولايات، وفيما عدا ذلك تجاز التشريعات بأغلبية بسيطة. أما السلطة التنفيذية على المستوى القومي فتتكون مما يسمى مؤسسة الرئاسة (رئيس، نائب أول، نائب) وتكون القرارات فيها جماعية بين الرئيس ونائبه الأول في قضايا محددة مثل إعلان حالة الطوارئ، وإعلان الحرب، واستدعاء أو حل البرلمان، التعيينات للوظائف المطلوب إقرارها من الرئاسة بموجب اتفاقية السلام. هذه الوظائف ستحدد في الاجتماع المرتقب للتداول بين الطرفين حول آليات تنفيذ الاتفاق. والى أن تتم الانتخابات يتولى الرئيس الحالي رئاسة الجمهورية ويكون قائداً أعلى للقوات المسلحة، في حين يصبح رئيس الحركة الشعبية رئيساً للجنوب، ونائباً أول للرئيس، وقائداً للجيش الشعبي. ووضع البروتوكول القواعد اللازم إتباعها في حالة تخلي، أو تعرض الرئيس ونائبه لطارئ في الفترة السابقة للانتخابات، كما حدد الإجراءات الواجب إتباعها بعد الانتخابات. أسمى البروتوكول الحكومة القومية حكومة الوحدة الوطنية، ونص على أن تكون رمزاً للوحدة الوطنية وتعكس تنوع البلاد وحاجتها للمشاركة العريضة في الحكم، كما ألزم تلك الحكومة باحترام اتفاق السلام على أن يكون طرفا الاتفاق ممثلين في الحكومة بشكل كاف. وبوجه خاص أشار الاتفاق إلى مسئولية حكومة الوحدة الوطنية عن وضع سياسات عادلة للقبول في الجامعات والمعاهد العليا وتحقيق تساوي الفرص، والتوزيع العادل والشفاف للموارد التي ستوفر للتنمية. إلى جانب ذلك وجه البروتوكول أن يتم توزيع المناصب الوزارية بكل أشكالها، بما في ذلك الوزارات السيادية القومية، والخدمة العامة القومية، خاصة في المستويات العليا والوسيطة، على وجه عادل وتمثيل أهل السودان تمثيلاً منصفاً. ولتحقيق هذا الغرض نبه إلى ضرورة مراجعة عدم التوازن الراهن في الخدمة العامة مع الاهتمام بالتدريب والتأهيل وعدم التمييز في الاختيار للوظائف على أساس الدين أو العرق أو الإقليم أو النوع أو المعتقد السياسي، والالتزام بالانحياز القصدي affirmative action . وكي لا يترك البروتوكول الأمر لأي جنوح في الاجتهاد، نص على أن يصبح ما لا يقل عن 20 % من شاغلي الوظائف العليا أو الوسيطة في الخدمة العامة (بما في ذلك وكلاء الوزارات) من الأشخاص المؤهلين من جنوب السودان خلال السنوات الثلاث الأولى، على أن يرتفع العدد إلى 25% خلال خمس سنوات. والهــــــــدف النهائي، كما حدد البروتوكول، هو أن تضم الخدمة العامة القومية ما بين 20 إلى 30 % من أبناء الجنوب حسب ما سيتمخض عنه الإحصاء السكاني المرتقب. الموضوع الآخر المهم الذي أغُفل في كل تجارب اللامركزية (من مشروع 1968 إلى دستور انتفاضة أبريل 1985) هو قضية العاصمة القومية. يقول البروتوكول إن العاصمة القومية، لكيما تصبح رمزاً للوحدة الوطنية لابد أن تعكس تنوع السودان في إدارتها. ولا شك في أن اللامركزية الراديكالية التي ستتم نتيجة لتطبيق بروتوكول اقتسام السلطة ستجعل من الصراع حول اقتسام السلطة المركزية، بالمفهوم القديم لتلك السلطة، عراكاً في غير معترك. أدهشتني بالغ الدهشة التعليقات التي تصور تقليص الترسانات المسلحة في الخرطوم بأنه تمزيق للسودان، ليس فقط لأن الخرطوم لن تُمسح من الخارطة السياسية بل ستصبح عاصمة إدارية مثل اتاوا، أو كانبرا، أو نيودلهي، وإنما أيضاً لما فيه من وصائية غريبة. فما الذي يغضب أي سوداني منصف من أهل الشمال في أن يملك أهل كردفان، أو أهل دنقلا، أو أهل سنار أمر نفسهم، يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ويدبرون أمورهم، ويجبون وينفقون أموالهم على الوجه الذي يريدون لا على الوجه الذي يريده موظفو الخرطوم. المستويان الآخران للحكم هما مستوى الجنوب ومستوى الولايات وتندرج في المستوى الأخير المناطق التي درجنا على تسميتها خلال التفاوض المناطق المهمشة، وعلى وجه التحديد مناطق جبال النوبة، وجنوب النيل الأزرق، ابيي. في تجارب الأمم هناك وسائل عديدة لاقتسام وحصر السلطات في الأنظمة اللامركزية. فكندا مثلاً تحدد سلطات الولايات حصراً على أن يؤول ما تبقى من السلطات للسلطة المركزية. كما يمنح الدستور الكندي السلطة المركزية الحق في رفض (فيتو) أو إيقاف أي تشريع ولائي في حالات الطوارئ حسب تقدير تلك السلطة. أما الهند فُيفَصل دستورها السلطات في قوائم ثلاث تتضمن سلطات الاتحاد، سلطات الولايات، السلطات المتطابقة concurrent . في السودان تقفت بروتوكولات نايفاشا، بقصد أو بدون قصد لا يهم، النموذج الهندي. وفي هذا الإطار تعتبر السلطات التي مُنِحت للجنوب، بجانب تلك التي مُنِحت للولايات، هي الأولى من نوعها منذ الاستقلال. ففي البدء سيكون للجنوب، كما للولايات، دستورها الخاص شريطة أن لا يتعارض ذلك الدستور مع اتفاقيات السلام أو الدستور القومي. وفي إطار الدساتير الولائية تصبح شعوب الأقاليم أو الولايات هي مصدر السلطة (انتخاب البرلمان، انتخاب رئيس الإقليم أو الولاية)، كما ستكون لها الولاية التامة على الأمن الداخلي (الأمن داخل الولاية بما في ذلك الإشراف على الشرطة)، الخدمة العامة الولائية، القضاء والإدارة العدلية على مستوى الولاية، الزراعة، الصحة، الصناعة، التعليم حتى المرحلة الثانوية، الموارد الطبيعية (الغابات والمراعي)، الطرق الولائية، تخطيط المدن داخل الولاية، إقامة وصيانة المطارات المحلية (الفرعية)، تطوير الثقافات واللغات المحلية، إدارة الأراضي، التجارة، حماية البيئة، فرض الضرائب، الاستدانة بضمانة الولاية ووفق الضوابط التي يضعها البنك المركزي. منح هذه السلطات للجنوب أو الولايات يقلص من سلطات المركز إلى حد كبير بحيث يقتصر دوره على الواجبات ذات الطابع السيادي، ووضع السياسات العامة، والتنسيق بين الولايات. من ذلك الدفاع والأمن القومي، الشرطة القومية والتحقيقات الجنائية بموجب القوانين القومية أو الدولية (الانتربول)، الخدمة العامة القومية، العلاقات الخارجية والمعاهدات الدولية، الهجرة والجنسية، البنك المركزي والنقد والديون القومية، الطيران المدني (سلطة متطابقة في حالة الجنوب)، النقل البحري، الموازين والمكائيل والتواريخ، الارصاد الجوي، الملكية الفكرية وبراءات الاختراع، الإحصاء القومي، المراجعة العامة، الميزانية والضرائب القومية والجمارك، الاتصالات (سلطة متطابقة في حالة الجنوب)، الشبكة القومية للكهرباء، الطرق القومية والعابرة، التعليم العالي والبحث العلمي، مياه النيل والاتفاقات الدولية بشأنها، المحكمة الدستورية للحسم في كل القضايا المتعلقة بدستورية القوانين أياً كان منشؤها، وفي حماية وصيانة حقوق الإنسان، وفي الفصل في النزاعات بين مستويات السلطة المختلفة، تنظيم المهن القانونية والمهن الأخرى، القضاء في مستوى النقض والإبرام في القضايا التي تقع تحت طائلة القوانين الاتحادية (المحكمة القومية العليا). كثيرون يظنون أن اتفاقيات نيفاشا تمهد للانفصال أكثر مما تمهد للوحدة لأنها تمنح الجنوب سلطات واسعة، وجيشاً خاصاً به، ونظاماً مصرفياً يختلف عن النظام السائد في الشمال، ونصيباً من عائد الثروة البترولية يُغري الجنوبيين بالقول: هل من مزيد. ولكن أهل هذه الظنون لا يتساءلون لماذا ظل مفاوضو الحركة يفاوضون على مدى عامين بعد ماشاكوس حول أمور لا تعني الجنوب في شيء: الإصرار على إعلان لحقوق الإنسان Bill of Rights لكل أهل السودان، التمثيل العادل للجنوب في كل مستويات الحكم القومي وبتفصيل يدعو للإملال، الإصرار على الاستجابة لمطالب أهل الجبال وجنوب النيل الأزرق ثم الدعوة لتطبيق النظام الذي أتفق عليه لإدارة تلك المناطق على كل الولايات الشمالية. هذا هو الوجه الآخر للقضية الذي لا يتدبره أهل الظنون، لهذا كثيراً ما تساءلت إن كانت الظنون تعبيراً عن الخوف من انفصال الجنوب، أو استكثاراً للثمن الذي ندفعه لتحقيق وحدة السودان التي نحبها حباً جماً. هذا الثمن الذي يدفعه الشمال للوحدة والسلام ليس مقتطعاً من حقوق مشروعة للشمال حتى نسميه تنازلات، وإنما هو رد لحقوق مشروعة للجنوب حُجبت منه منذ الاستقلال ويستحقها بحكم ثقله السكاني. فمنذا الذي يملك صادقاً أن يدعي أن الجنوبي غير مؤهل لأي موقع وزاري غير الأشغال والنقل الميكانيكي والثروة الحيوانية وأضيف لها أخيراً الطيران المدني، وهي وزارة لا يزيد عدد العاملين فيها عن 5% من موظفي مطار اوهارا بشيكاغو؟ ومنذا الذي يملك صادقاً أن ينكر حق الجنوب الذي يمثل سكانه قرابة ثلث سكان السودان وتبلغ مساحته ثلث مساحة القطر في أن يتوافق حجم وجود أبنائه وبناته في الخدمة العامة مع وزنه في التركيبة السكانية للسودان؟ ومنذا الذي لا يرى وجه الغبن في حرمان الجنوبيين منذ الاستقلال وحتى اليوم من تولي منصب الوكيل في أية وزارة، والمدير العام في أية مؤسسة عامة حتى يرى في الحديث عن تقدير النِسَب في الوظائف العامة تفصيلا لا معنى له؟ هذه التفصيلات يا صحاب هي الرد على السؤال السخيف الذي ما فتئنا نردده: الجنوبيين دايرين شنو؟ الرد على ذلك السؤال بعد اتفاقيات السلام هو بعربي جوبا: ياهو دي! هذا التحول الديمقراطي آتٍ آتٍ وفي تجارب الأمم هناك طرائق عدة للتحول من الأنظمة الشمولية للديمقراطية. فالتحول قد يتم من داخل النظام كما فعل الجنرال عبد السلام أبوبكر في نيجيريا عقب رحيل ساني أباشا، أو عبر الانتفاضة الشعبية كما وقع في الفلبين، أو عبر التفاوض كما علمتنا تجربة جنوب أفريقيا. ومن حسن حظ السودان أن يكون على رأس المفاوضين الذين نهدوا للدفاع عن حقوق الجنوب سياسي جنوبي ما ضلت بصيرته يوماً عن الطابع القومي لمشكل الجنوب، وما كف يوماً عن القول إنه يريد سوداناً موحداً على أسس يتراضى عليها أهل السودان حتى لا يحس أي سوداني أنه هضيم حق. ولئن آتى الله، من الجانب الآخر، حاكماً شمالياً الحكمة (والحكمة من منائح الله) كي يدرك أن للسلام والوحدة ثمناً مستحق الدفع، ثم يحمل أهله على ذلك وبعضهم يصرخ ويرفس بقدميهKicking and Crying فذلك أيضاً أمر يُغتبط له. يتبقى لنا من بعد أن ندرك أن عافية الوليد الجديد وقدرته على أن ينمو ويفرهد هي مسئوليتنا جميعاً. /////////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (6( إعداد الدستور ... أي دستور؟ اي نظام للحكم يضبطه قانون أساس هو مجموعة القوانين والقواعد والمبادئ التي تحدد تخوم المسئوليات والسلطات والواجبات والحقوق. بهذا المعنى لكل أنظمة الحكم، بما في ذلك الأنظمة الشمولية وتلك التي تنسب لنفسها حقاً الهياً في الحكم، دساتير تنظم الحكم. في هذا المقال نتحدث عن الدستور بالمعنى الذي ألفناه منذ الاستقلال، ثم أخذنا نستدعيه ونستظل به عقب كل انتفاضة. وبما أن مدركاتنا السياسية كلها قامت على اعتبار ذلك الدستور، أو النمط الدستوري الذي بُني عليه، هو طوق الأمان والسبيل الوحيد للحكم الصالح وللاستقرار السياسي، يفيد أن نتناول ذلك الدستور بالفحص منذ منشئه لنرى إن كان العطب السياسي الذي لحق بنا بسبب نصوص الدستور، أو عدم صلاحية التربة التي غرس فيها، أو لحاجة الدستور إلى تأصيل كما يزعم البعض، أو لأنا، ابتداءً، تعاملنا مع ذلك الدستور كشكل دون محتوى، وعَرض بلا جوهر، وإجراءات بلا معانٍ. دستور السودان الذي ظل يحكم به منذ الاستقلال دستور ديمقراطي ليبرالي. وان كانت الديمقراطية هي نمط للحكم، فإن الليبرالية نظام سياسي يهدف لحماية حرية الإنسان، وبوجه خاص حقوقه الطبيعية والإنسانية. ذلك لا يتم إلا بالحد من سلطان الدولة على المواطنين طالما ارتضى المواطنون وامتثلوا لحاكم (دولة) يدبر شئونهم. ذلك الحد من السلطان يتحقق إما بتقليص نطاق ممارسة الدولة له، أو ضبط تلك الممارسة وكبح جماحها. وبما أن الدولة هي التي تضع القوانين يصبح مشروعاً السؤال عما هو الضمان في أن تحد الدولة سلطانها من تلقاء نفسها؟ لا ضمان مطلقاً، لهذا ابتدعت الدساتير الليبرالية مبادئ وضوابط تُعَزز obe entrenched في الدستور بحيث لا يمكن التحايل عليها، أو الإخلال بمعانيها، أو تعديلها إلا وفق ضوابط صارمة. على رأس هذه المبادئ تأمين الحقوق الإنسانية الأساسية للمواطن التي انضافت إليها في الجيل الثاني من حقوق الإنسان، حقوق الشعوب، كحقوق مقدسة لا يمكن التصرف فيها inalienable، ولا تنتهك حرمتها inviolable. وعلى رأس الضوابط المُعَززة سيادة حكم القانون، ولعلها أهم آليات الكبح والتوازن في الدساتير. لذلك، تمنح الكثير من الدساتير سلطة دستورية للقضاء لحماة الدستور، مثال ذلك سلطته في الفصل في دستورية القوانين، أي التقرير في إن كانت القوانين خارجة عن، أو مطابقة لأحكام الدستور. هذه السلطة تتمتع بها، على سبيل المثال، المحكمة العليا في الولايات المتحدة وفي الهند، كما كانت تتمتع بها حتى العام 1949 اللجنة القانونية للمجلس الملكي سPrivy Council بالنسبة للدستور الكندي. هناك دساتير أخرى، مثل دستور نيوزيلندا، تمنع المحاكم صراحة من ممارسة هذه السلطة، ولربما أعتمد الدستور النيوزيلندي المكتوب المبدأ الذي سار عليه الدستور الإنجليزي غير المكتوب والقائل أن البرلمان سيد قراره. فكما يقول المثل السائر، يملك البرلمان الإنجليزي أن يقرر بشأن أي موضوع تشريعياً وتعديلاً وإلغاءً باستثناء أمر واحد هو أن يجعل الذكر أنثى والأنثى ذكراً. حتى هذا الاستثناء كاد أن يبطل في زمن العجائب الذي نحن فيه إذ يتداول بعض البرلمانيين اليوم في إباحة زواج المثليين. بنبرة أكثر جدية، نقول إن هذا الحق الذي يوفره الدستور الإنجليزي للبرلمان ليس حقاً مطلقاً إذ أن ذلك البرلمان محكوم بقيد حديد هو التقاليد البرلمانيةparliamentary conventions التي لم تسمح له طوال تاريخه منذ إعلان الميثاق الأعظم (ماقنا كارتا) بالخروج عن المبادئ المُعَززة entrenched في الدستور. هذه مقدمة ضرورية لمخاطبة قضية التطور الدستوري في السودان، فتاريخ الدستور في السودان، كتاريخ السياسة، تاريخ موئس وبائس. ليس أدل على ذلك من عجز السودانيين عن الاتفاق على دستور تُحكم به البلاد منذ الحكم الذاتي. الدستوران الوحيدان اللذان خرجا عن المألوف صدرا في ظل نظامين شموليين: دستور السودان الدائم 1973 (عهد مايو)، ودستور جمهورية السودان 1998 (عهد ''الإنقاذ''). في جميع فترات الحكم الأخرى حُكم السودان بموجب دستور أعده البريطانيون، في الأساس، لإدارة فترة انتقالية هي فترة الحكم الذاتي (دستور ستانلي بيكر). ومن سخريات القدر أن يكون ذلك الدستور وليداً طبيعياً لمؤسسات قالت عنها الحركة الوطنية السودانية، على لسان الزعيم إسماعيل الأزهري، ''لن ندخلها وإن جاءت مبرأة من كل عيب''. ذلك الدستور أصبح دستوراً للسودان المستقل في 1/1/1956، ودستوراً للديمقراطية الثانية بعد أكتوبر 1964 (دستور 1956 معدل 1964)، ودستوراً للديمقراطية الثالثة بعد مايو. ما هو مصدر العجز؟ السياسيون الذين لم يُمَتعهم الله بفضيلة التواضع ومزية نقد الذات ليس لهم ما يردون به على هذا السؤال غير: ''العساكر ما أدونا فرصة''. هذا إرهاف بالقول دون تروٍ لأن أصل الأزمة يعود إلى ما قبل الاستقلال، وقبل أن يصبح للعسكر شأن في السياسة. بمفردات اليوم نلخص الأزمة في: نظام الحكم، الهُوية، حقوق الإنسان، التهميش السياسي والاقتصادي. وبالطبع لم تكن مظاهر الأزمة قد تبلورت على هذا النحو قبيل الحكم الذاتي، إلا أن جوهرها كان واضحاً للعيان على المستوى السياسي، كما كان ينبغي أن يكون الحل لها واضحاً على مستوى الرؤية لجيل مؤتمر الخريجين الذي كان يحسب غاندي ونهرو أنبياء للوطنية. ولهذا السبب سأصطحب الهند معي كل ما كان ذلك ضرورياً في هذه المقالات. ولن نفلح في التحليل السليم لمشاكلنا إن أصبح الهروب من التاريخ عادة لنا ودأباً. مشروع دستور الحكم الذاتي ـ الذي أصبح فيما بعد دستوراً للاستقلال ـ تضمن مادتين حول الجنوب (وكان موضوع الجنوب هو الأكثر بروزاً يومذاك في قضايا نظام الحكم (الفيدرالية)، والهُوية (الدين)، والتهميش السياسي (وضع الجنوبيين في حكم وإدارة الدولة الجديدة). كان ذلك هو الحال قبل أن يتفاقم المشكل وينضم لأهل الجنوب من انضم إليهم من أقوام السودان. هاتان المادتان تناولتا هذه القضايا بصورة لم يكن يكلفنا إتباعها مشقة أو عناء إذ نصتا على أمرين: الأول هو طمأنة الجنوبيين على مستقبلهم، والثاني إرضاء طموح نخبهم. وعلى وجه التحديد تعلقت الأولى بضرورة تعيين جنوبيين اثنين على الأقل في مجلس الوزراء، والثانية بمسئولية الحاكم العام عن ضمان أن يلقى الجنوب معاملة منصفة. هاتان المادتان أُلغيتا عقب زيارة صلاح سالم للجنوب ولقائه مع قيادات الشمال حيث اتفق مع هذه القيادات على إزاحة النصين من مشروع الدستور، ثم أبلغ البريطانيين من بعد أن أحزاب الشمال لا تمثل الشمال وحده بل الجنوب أيضاً لأن تلك الأحزاب جميعاً تضم جنوبيين. ذلك رأي لم يعترض عليه من بين ساسة الشمال إلا رجل واحد هو إبراهيم بدري. تلك كانت هي الدرجة من الاستهانة والتسطيح الفكري التي تعامل بها صلاح سالم مع القضية، وارتضاها ساسة الشمال. ومن المذهل أن الأحزاب الشمالية التي اجتمعت في السابع من يناير 1953 مع صلاح سالم لتقرر في أمر الجنوب في غيبة أهله ضمت ممثلين لحزب ربما لا يزيد أعضاؤه عن الرجلين اللذين وقعا نيابة عن ذلك الحزب الاتفاق مع سالم، ذلكم هو الحزب الوطني الذي مثَله الأستاذ يحي عبد القادر والدكتور عبد القادر مشعال. مع ذلك نحسن الظن ونقول إن ساسة الشمال كانوا يخشون من استغلال الحاكم العام لذلك النص لتعويق مسيرة السودان نحو الحكم الذاتي. ونحسن الظن أيضاً ونقول إنهم كانوا عازمين على الأخذ بيد الجنوبيين والاعتراف لهم بحقوقهم المشروعة في الوطن الواحد، خاصة وقد اتفقوا جميعاً مع صلاح سالم، واقنعوا البريطانيين بذلك، أن البرلمان المنتخب سيضع بديلاً لهذا النص يُرضي الجنوب. ولكن، ما الذي وقع فيما بعد؟ لم يضع البرلمان بأية صورة من الصور، بديلاً لتلك المادة التي ضُمنت في مشروع الدستور لحماية حقوق الجنوب وطمأنة أهله، بل لم يحترم حتى ما تعهد به للجنوبيين حول الفيدرالية كما أسلف الذكر. وهكذا أصبح ذلك الدستور بقصوره العضوى ـ على الأقل فيما يتعلق بنظام الحكم ـ عاجزاً عن تلبية حاجات كل أهل الوطن الواحد، وبالتالي ما كان ليصلح أساساً لحكم مستقر، طالما لم يكن هناك تراض عليه بين أهل السودان. ولئن تقاصرنا في موضوع نظام الحكم، كَفاً أو عجزاً، عن إرساء القواعد لبيت يتفيأ أهل السودان جميعاً ظلاله عن اليمين والشمائل، فقد كنا أقل تقصيراً في التوافق على فكرة المواطنة والتبعات المترتبة عليها. والمواطنة مفهوم عابر للفوارق الدينية، والثقافية، واللغوية، إن لم ندركه على هذا الوجه فلن ندرك المغزى الحقيقي لحقوق الإنسان والمواطن. ومن الطريف أن هذا هو الاسم الذي كان يطلق على تلك الحقوق عند منشئها في الثورة الفرنسية، أول عهد الإنسانية بتلك الحقوق. وفي اللحظة التي أخذنا نقسم فيها أهل الوطن إلى أغلبية وأقلية، ضللنا الدرب وذهبنا حيارى في مفازة لا دليل فيها ولا علامة. لاشك في أن في كل بلاد الله هناك أغلبية وأقلية عددية. ولاشك في أن الحظوظ السياسية في هذه البلاد تقدر بميزان العدد. كما لاشك أيضاً في أن الأمم درجت، أو بالأحرى درج العنصر أو الجماعة الغالبة فيها، على السعي لاستيعاب الجماعات الأقل عدداً في السياق العام، كان ذلك في اللغة أو الثقافة أو الدين، ويُبرر ذلك دوماً بأنه تحقيق لإرادة الأغلبية. بيد أن هذه النظرة الآلية للأغلبية والأقلية في الأنظمة الديمقراطية تنتهك أهم مبدأين فيها، ألا وهما المساواة في الحقوق والواجبات والمساواة أمام القانون. ولئن نزعم إن لم يكن لنا عن ذلك الأمر حَدَد أو بُد، نكون غير صادقين. كانت أمامنا تجربة الهند التي نعرفها حق المعرفة أو بهذا ظللنا نوحي شعراً ونثراً وغناءً. يعرفها السياسيون الذين كانوا يطالعون ويتدارسون أفكار ساستها (أقرأ كفاح جيل لأحمد خير، والديمقراطية في الميزان لمحمد أحمد محجوب)، تماماً مثل الذي كانوا يُحَلون جدران منازلهم بصور زعمائها الهندوس، غاندي ونهرو لا المسلمين منهم، مثل محمد علي جناح (أقرأ مذكرات أحمد محمد يس). إضافة إلى ذلك يعرفها رجال القانون الذين أصبح لهم كتاب العلامة راتنلال انجيلاً في الفقه، وأهل الفن الذين طالما تهدج صوت حاديهم وهو يغني لوجه غاندي ولصوت طاغور وصدى الهند العميقة. نحن حقيقة لا نعاني فقط من ضعف في الذاكرة، وإنما أيضاً من فقدان تام للبؤرة التي يتركز فيها الاهتمام بأي شيء، فكل حدث مرجع لذاته. أياً كان الحال، تلك الرؤى والممارسات التي ظلت سائدة حتى الستينات فقدت معناها إن كان لها حقاً معنى، كما فقدت شرعيتها إن ظننا أبداً أن لها شرعية. فمنذ ذلك التاريخ تبدلت الأمور على وجهتين، الوجهة الأولى هي صدور الجيل الثاني من العهود الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أصبح الخروج عنها خروجاً عن الشرعية الدولية. أما الوجهة الثانية فهي نسف القانون الإنساني الجديد لكل المفاهيم السائدة حول الأقليات. فالقانون الآن يميز بين الجماعات الأصلية indigenous والأقلياتminorities في داخل الدول (الاتفاقية الدولية بشأن الشعوب الأصلية والقَبلية 1989). فالأكراد في العراق، والأقباط في مصر، والامازيغ في الجزائر والمغرب، لا تطلق عليهم صفة الأقلية لأنهم أصحاب حقوق تاريخية ثابتة في أوطانهم. ويُعَرف القانون هؤلاء بـ ''المجموعات التي استقرت تاريخياً في أرض معينة ولها علاقة سلفية أو قَبلية ئancestral بتلك الأرض، وتواصل وجودها في تلك الأرض قبل نزوح جماعات أخرى لها، أو غزوها من جانب الاستعمار''. هذه الإشارة مهمة لكيما نزيح من أذهاننا المفاهيم التي تقسم المواطنين إلى أغلبية وأقلية وفق معايير محددة بطريقة ذاتية لنصل بها إلى نتائج معينة. فالذي يقول إن أغلبية أهل السودان مسلمون لا يقول إلا حقاً، ولكنه لا يصبح محقاً عندما يريد أن يبتني حكماً سياسياً على هذه المُسَلمة يترتب عليه حرمان مواطنين مهما كان عددهم من حقوقهم الأساسية مثل إعلان السودان دولة مسلمة. والذي يقول إن أغلبية أهل السودان من الرجال قد يكون صادقاً، ولكنه يفتقد الصدقية إن أراد التوسل بتلك الحقيقة لإصدار حكم يترتب عليه حرمان النساء من حقوق أساسية يستأهلنها بحكم إنسانيتهن لا بحكم الجنس أو النوع. على المستوى العملي، ورغم دعاوى الأغلبية والأقلية، لم تبدأ هذه التفريقات الزائفة في إفراز أية ظواهر سلبية أو عدائية، كان ذلك بالنسبة للدين أو اللغة، إلا في الستينات عندما تحول الدين إلى منتوج سياسي محض، وأصبحت اللغة تعبيراً عن وطنية اثنية. وبتدافع الفعل ورد الفعل، خرجت قضيتا اللغة والدين عن حجمهما الطبيعي. فمثلاً، منذ بدايات الحكم الذاتي تقبل الجنوبيون بلا عناء الإصلاحات التي أدخلها وزير المعارف عبد الرحمن على طه على التعليم في الجنوب عام 1949، ففي خطابه أمام الجمعية التشريعية (1/11/1949) أعلن الأستاذ المعلم ''بما أن السودان قطر واحد تشترك جميع أجزائه في مؤسسات سياسية واحدة فإن أول ما يجب تحقيقه هو أن تكون للبلاد لغة واحدة يفهمها ويتحدث بها جميع أبنائها ولا يمكن أن تكون هذه اللغة غير العربية''. وذهب واحد من قادة الجنوب يومذاك (بوث ديو) إلى مطالبة الحكومة بالإسراع في تعليم الجنوبيين اللغة العربية حتى يلحقوا بإخوتهم في الشمال، ولم يكن بوث ينظر للغة إلا بحسبانها وسيطاً للمخاطبة والمعرفة والتعلم. وكان لبعض الأساتذة الأجلاء مثل سر الختم الخليفة وأحمد حسن فضل السيد ومصطفى أبو شرف دور مهم في أداء هذه المهمة في الجنوب أقبلوا عليها بحنو الأب، وموضوعية المعلم. في ذات الوقت ظلت اللغة الإنجليزية لغة عمل معترف بها في البرلمان وفي دوائر الحكومة في الجنوب. نفس الشيء يصدق على الدين حيث لم تجعل منه الدولة ولا أهل السياسة عظمة نزاع حتى قيام نظام عبود. ذلك النظام الذي لم يُعَرف بتدين أهله بادر باتخاذ إجراءات عبثية آذت السياسة ولم تَفِد الدين مثل استبدال عطلة الأحد بعطلة الجمعة في الجنوب، واستبدال الأسماء المحلية أو المسيحية بأسماء عربية أو إسلامية. وكان الجنوبي يطلق على تلك الأسماء التي فُرضت عليه ''اسم بتاع حكومة''. ولعلنا نترك قضية الدين لنعالجها بإفاضة في المقال التالي ونقتصر الحديث في هذا المقال على تداعيات قضية الهوية الثقافية منذ الستينات. بدأت الأزمة عندما أخذت القضية تأخذ بعداً شوفينياً من جهة، وازدرائياً من جهة أخرى. وفي المقالات السابقة ألمحنا إلى نماذج عديدة من هذه الشوفينية التي ترَد في أغلب الأحوال، إما لرغبة شرائح معينة من الجماعات المستعربة لإدامة الهيمنة السياسية أو الاقتصادية، أو لغلواء بعض النخب ذات المصلحة في الإبقاء على هذه الهيمنة. والمؤسي حقاً أن هذه الجماعات تتحدث دوماً عن الحفاظ على الهُوية العربية / الإسلامية بصورة وضعت الدين حيث لا ينبغي أن يكون. فالفهم الملتبس للهوية جعل من الإسلام والعروبة آليتين متصادمتين، بحيث أصبحت الأولى (العروبة من منظور عرقي) هي آلية الإقصاء، في حين ظلت الثانية (الإسلام) هي آلية الاحتواء بامتياز لأن الإسلام لا يميز بين الناس على أساس أعراقهم وأصولهم. وحقيقة كان الإسلام هو المفاعل الأهم في توحيد أهل السودان مما يعني أن المسلمين العروبيين (بالمعنى العرقي للكلمة) لم يستبطنوا أبداً روح الدين الذي يرفعون راياته. ''قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم. وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم''. غفر الله لنا ولهم. أما الازدرائية، او إن أردت الوصائية، فقد عَبَرت عنها جميع المدارس والاتجاهات الفكرية (منذ مدرسة أبروف الى كل مدارس القومية العربية)، والتي لم تكن ترى في الثقافات المحلية ما هو جدير بالاحتفاء. أياً كان الأمر، تولدت عن هذه التوجهات غير الرشيدة تيارات مناهضة للثقافة العربية ككل باعتبارها واحدة من أدوات هيمنة الشمال المستعرب على الجنوب غير العربي بحيث أصبحت اللغة والثقافة العربية مدانتين بالتداعي وتوقفت السيرورة الطبيعية للغة العربية. هذه الحقيقة البسيطة افتطن إليها البريطانيون بعد أن أعيتهم الحيل لمحو اللغة العربية في الجنوب. فمثلاً، كتب حاكم عام السودان، السير جون مافي في تقرير له يقول ''أينما ذهبت، سواء في أعالي الاماتونج أو عند حدود الكنغو البلجيكية، أجد الجميع يتحدث اللغة العربية بمن فيهم الناطقون الرسميون باسم القبائل. ازاء هذه الحقيقة أو لا يجب أن نتملى جيداً فيما نبذله من جهد ومال لقمع اللغة العربية. وبالفعل، أو لا يجب أن نتفكر كيف يمكن أن تصبح هي الأداة الفعالة لتنفيذ سياستنا''. (تقرير الحاكم العام 12/7/1927). وعبر السنين لم تنتشر اللغة والثقافة العربية في جميع أرجاء السودان عن طريق الأوامر والنواهي والنصوص الدستورية وإنما تم عبر التنافذ أو التناضحosmosis الاجتماعي الذي كان من أدواته التساكن، والمتاجرة، والتزاوج، والتعليم، والفن، والموسيقى. أو ليس من المدهش أن يكون السوداني الوحيد الذي وجه له زعيم الحركة الشعبية الدعوة عبر النائب الأول للمشاركة في توقيع بروتوكول السلام في نيفاشا هو الأستاذ محمد وردي، نوبي من أقصى الشمال جاء ليغني لأهل الجنوب بلغة لا هي لغته الأم ولا لغتهم: ''أنت يا أكتوبر الاخضر''. هذه هي ظلال الصورة التي لا يبصرها ولن يبصرها الشوفينيون الذين أغشى الله أبصارهم. اللغة في حد ذاتها ليست مشكلة بالضرورة، فهناك بلاد كثيرة لا ينص دستورها على لغة رسمية مثل كينيا ويوغندا اللتين تستخدمان الإنجليزية والسواحيلية حسب الحاجة والضرورة إليهما، في حين اعتمدت جارتهما تنزانيا السواحيلية لغة رسمية. وفي نيجيريا لا ترد إشارة للغة الرسمية للدولة في الدستور النيجيري باستثناء الإشارة في المادة 55 منه للغة العمل في البرلمان، وتقرأ: ''أعمال الجمعية الوطنية تتم باللغات الإنجليزية، الهوسا، الأيبو، اليوروبا وعلى الدولة توفير الإمكانات اللازمة لتحقيق هذا''. أيضاً، رغم اعتماد اللغة الإنجليزية عُرفاً لغةً رسمية للولايات المتحدة لا يتضمن دستورها أي نص حول لغة الدولة. المشكلة تبدأ دوماً عند ما تصبح اللغة، كما قلنا، تعبيراً عن وطنية اثنية. ونعرف من التاريخ إلى ماذا قادت رحلة الوطنية الإثنية، من خطاب يوهان فيخته (رسالة إلى الأمة الألمانية) في 1807 إلى خطب النقاش البافاري ادولف هتلر في مدينة ميونخ. ولحسن الحظ لم تبلغ الشوفينية التي عمقت من مشاعر الجفوة عند بعض الجنوبيين نحو اللغة العربية، وحملت آخرين منهم على الاستدعاء القسري لثقافاتهم المحلية ذلك الحد من الفُحش. بل أضيف أنه رغم كل مآسي الحرب الأخيرة فإن الدور الذي لعبته الحركة الشعبية في توسيع نطاق التعامل باللغة العربية، لم تلعبه أية حركة ذات منشأ جنوبي من قبل، ولأسباب عملية وظروف موضوعية بحتة. فالحركة تضم عناصر تنتمي لأقوام وجماعات تتواصل فيما بينها باللغة العربية، لسان التخاطب المشترك الوحيد. كما تسعى لأن تلعب دوراً سياسياً في كل أرجاء القطر، بما في ذلك الشمال. والحركة على مستوى قياداتها بنت، ومازالت تبني جسوراً عديدة للتفاعل مع القوى السياسية والاجتماعية في شمال السودان، ومع دول عربية خارج السودان. نعود على بدء لنقول إن اتخاذ الأغلبية والأقلية معياراً عند تأسيس الحقوق التي ترتكز على المواطنة مثل حق الأقوام التي يجمعها وطن واحد في الاحتفاظ بخصائصها الثقافية وتطويرها إن أرادت، ينسف فكرة المواطنة من أساسها. فالمواطنة تعني أن يكون الوطن دوماً هو نقطة التوجه الأساس primary point of orientation عند إقرار الحقوق والواجبات، لا العرق ولا الدين ولا النوع. هذا ما ذهبت إليه الدول التي كان في مقدورنا الاستئناس بتجاربها. من ذلك تجربتان جديرتان بالتملي لتناقضهما، الأولى تجربة سيريلانكا، والثانية تجربة الهند. سيريلانكا دولة صغيرة لكنها تتمتع بما لا تتمتع به جاراتها: التجانس بين أهلها، وفرة مواردها، علاقاتها الطيبة مع كل جاراتها، انعدام الفوارق الدينية الحادة بين مواطنيها، مستوى التعليم العالي الذي حظي به مواطنوها (90% من الرجال و80% من الإناث). رغم هذا أشعل قرار واحد أصدرته رئيسة الوزراء باندرنايكه في عام 1956 بعد اثني عشر عاماً من استقلال جزيرة سيلان (الاسم القديم لسيريلانكا) ناراً لم تخمد بعد. فلدوافع وطنية مقدرة قررت باندرنايكه أن تصبح اللغة السينهالية Sinhalese اللغة الرسمية للدولة الجديدة وعلى كل المستويات بعد أن ظلت الإنجليزية لغة رسمية لسيلان طوال مائتي عام، مع الاعتراف للغة التاميل (لا يزيد عدد التاميل عن ربع سكان الجزيرة) بالموقع الثاني. ذلك القرار الوطني لم يُرض التاميل الذين يفاخرون، هم الآخرون، بلغتهم، فكانت الحرب التي ظلت مشتعلة طوال أربع عقود من الزمان. ومن الطريف أن دولة النرويج التي ترعى مفاوضات الإيقاد هي نفسها التي ترعى أيضاً المفاوضات لإنهاء الاحتراب في سيريلانكا. التجربة الثانية هي تجربة الهند، وليس للهند مثيل في التنوع اللغوي والديني. ورغبة من آباء الاستقلال في الحفاظ على وحدة الهند السياسية، ومراعاة الخصائص الثقافية لشعوبها المختلفة، وتحقيق التفاعل الخلاق بين ثقافاتها، ابتدعوا صيغاً دستورية رائعة لتحقيق هذه الأغراض. مثلاً، نصت المادة 343 من الدستور الهندي على أن اللغة الهندية Hindiهي اللغة الرسمية للهند مع السماح باستخدام اللغة الإنجليزية لمدة 15 عاماً بعد الاستقلال. كما نصت المادة 345 على حق الولايات في استخدام الهندية أو أية لغة أو أكثر كلغات رسمية حسبما يقرر برلمان الولاية. ووجهت المادة 350 (أ) بتوفير التعليم الأولي باللغة الأم لأبناء وبنات الولايات المختلفة، والمادة 350 (ب) بتعيين معتمد خاص لشئون الأقليات اللغوية لدراسة المشاكل الناجمة عن التعدد اللغوي في الهند وتقديم النصح للحكومة الاتحادية عن وسائل معالجتها. أما المادة 351 فقد نصت على مسئولية حكومة الاتحاد في تطوير استخدام اللغة الهندية حتى تصبح وسيطاً للتواصل بين أهل الهند جميعا على أن تُثرى بأساليب وأنواع التعبير الموجودة في اللغات الهندية الأخرى حتى تعكس عبقرية اللغات وتنوع الثقافات الهندية. وفي جميع هذه النصوص لم يستخدم الدستور تعبير الأقليات في وصفه لشعوب وأقوام الهند. اتفاقيات نيفاشا ترك السودان بشكل قاطع هذه القضايا وراء ظهره، فتماماً كما حُسمت قضية نظام الحكم، تم حسم قضايا اللغة والثقافة، والحقوق الأساسية وطرائق حمايتها. فحول اللغة وردت الإشارات التالية: * جميع اللغات المحلية لغات قومية يجب احترامها. * اللغة العربية هي اللغة الأوسع انتشاراً في السودان (إشارة وتنبيه إلى أنها لغة التواصل). * اللغة العربية لغة رئيسة على المستوى القومي وستكون، مع الإنجليزية، اللغتين الرسميتين في الحكومة القومية ولغتي التدريس في التعليم العالي. * بالإضافة إلى العربية والإنجليزية للمشرع في أي مستوى فرعي من الحكم استخدام أية لغة أو لغات أخرى على نطاق مستواه. * لا يجوز التمييز ضد استخدام أي من اللغتين على أي مستوى حكومي أو تعليمي. عند مضاهاة هذا النص بما ورد في مشروعات الدساتير أو الدساتير السابقة نجد فروقاً عديدة. فمشروع دستور 1968، مثلاً، كان واضحاً عندما حدد للدولة لغة رسمية واحدة هي العربية (المادة3). ورغم كفالة ذلك الدستور حرية استعمال اللغات وتطوير الثقافات بالنسبة إلى ما أسماه ''الأقليات'' (المادة 39)، أخضع التمتع بتلك الحرية لشرط قامع هو ''دون المساس بحق الدولة في فرض استعمال لغة البلاد الرسمية في معاهد الدولة ودواوين الحكومة''. وحين ضمنت اتفاقية أديس أبابا للجنوبيين حق تطوير لغاتهم وثقافاتهم واستخدام اللغة الإنجليزية متى ما كان ذلك ضرورياً لأداء عمل تنفيذي أو إداري (المادة 6 من الباب الثالث في الاتفاقية) أزال نميري في تعديلاته الهوجاء للاتفاق ذلك النص. أما دستور 1998 فقد أورد في المادة الثالثة من الدستور مايلي حول اللغة: ''اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جمهورية السودان وتسمح الدولة بتطوير اللغات المحلية والعالمية الأخرى''، وما هكذا تكفل الحقوق الأساسية، فهي ليست حقوقاً تسمح (أو لا تسمح) بها الدولة، وإنما هي حقوق تُلزم الدول باحترامها. الاعتراف باللغات المحلية كلغات قومية يتماشى مع الاتجاه السائد اليوم في كل بلاد العالم بما في ذلك البلاد العربية التي ينطق بعض أهلها بلغات غير العربية. مثال ذلك الامازيغ في الجزائر التي اعترف بها الدستور الجزائري أخيراً (ابريل 2002) كلغة قومية، واللغة الكردية في العراق. وحول الأخيرة تناول الدستور العراقي الجديد (قانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية) هذا الموضوع في المادة التاسعة التي جاء فيها: ''اللغتان الرسميتان للعراق هما العربية والكردية'' مع الاعتراف بحق التركمان، السريان، الأرمن في التعليم بلغتهم الأم في المؤسسات الحكومية. كما أباحت الفقرة السادسة من نفس المادة للمؤسسات والأجهزة الاتحادية في إقليم كردستان استخدام اللغتين. من بعد الحديث عن الحقوق الثقافية نجئ إلى حقوق الإنسان بوجه عام. وبما أن هذه الحقوق تحكمها الآن قواعد عالمية ثابتة تتضمنها عهود دولية تعلو في حجتها على القوانين المحلية كان من الضروري أن يستلهم المتفاوضون في نيفاشا هذه القواعد والأحكام. لهذا، استناداً على، واستلهاماً للإعلان الدولي والعهود الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، أقر بروتوكول نيفاشا حول السلطة ما يلي: * تفي حكومة السودان تماماً على كل مستويات الحكم، وفي كل أنحاء القطر بالتزاماتها وفق العهود الدولية لحقوق الإنسان التي هي ، أو ستكون، طرفاً فيها. وتشمل هذه العهود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966، العهد الدولي حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1966، العهد الدولي لإزالة أشكال التمييز العنصري كافة 1965، إعلان حقوق الطفل 1959، الاتفاقية الخاصة بالرق 1929 وتعديلاتها، الميثاق الأفريقي حول حقوق الإنسان والشعوب وعلى حكومة السودان المصادقة على العهود الأخرى لحقوق الإنسان التي وقعت عليها. ولمزيد من التفصيل ذهب البروتوكول إلى تحديد بعض هذه الحقوق بدءاً بحق الحياة (كل إنسان له الحق في الحياة ويحمي هذا الحق بالقانون، ولا يُحرم أي إنسان قسراً من حياته أو حريته الشخصية)، الحق في الحرية والأمن الشخصي، تحريم العبودية والاتجار بالبشر والاسترقاق بجميع أنواعه، حظر التعذيب والمعاملة القاسية، المحاكمة العادلة والعلنية، براءة المتهم حتى تثبت إدانته أمام محكمة ذات كفاءة، عدم التمييز بين المواطنين على أساس العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقد السياسي أو الأصل العرقي أو الوضع الاجتماعي، حرية التنقل واختيار السكن، المساواة بين الرجال والنساء حسبما هو مبين في العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية. ولضمان احترام هذه الحقوق اتفق الطرفان على النص عليها كاملة في الدستور، كما اتفقا على إنشاء مفوضية لحقوق الإنسان لتتابع التزام الدولة بهذه العهود والمواثيق التي ستصبح جزءاً لا يتجزأ من القوانين الوطنية. ولعله سيكون من بين واجبات هذه اللجنة مراقبة أداء العدالة الجنائية في كل ما يمس حقوق الإنسان، خاصة حماية المحتجزين، والانتصاف والجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان. ولربما لا نعود لدساتير الستينات والسبعينات لأنا لن نجد فيها إضاءة حول الالتزام بهذه الحقوق على هذا الوجه التفصيلي، ولكن ما باله دستور 1985 توقف عند الجيل الأول من قوانين حقوق الإنسان؟ وحتى في هذه الحالة، ما باله توقف عند الحقوق المدنية والسياسية التي لا تعني، بصورة مباشرة، غير أهل الحاضرة؟
بروتوكول اقتسام السلطة أيضاً أفرد مكانا خاصاً لدور القضاء في حماية الدستور. ولقد حُظي السودان منذ استقلاله بخدمة قضائية متميزة أرسى قواعدها رجال أفذاذ. وستظل أسماء رجال مثل محمد أحمد أبو رنات، احمد متولي العتباني، محمد إبراهيم النور، بابكر عوض الله، عبد المجيد إمام، عثمان الطيب، محمد يوسف مضوي تماماً مثل أحمد خير، محمد أحمد محجوب، عابدين إسماعيل، مبارك زروق، إميل قرنفلي من رجالات القضاء الواقف، درراً مضيئة في تاج العدالة والفكر القانوني السوداني. ولكن القضاء، مثل غيره من المؤسسات، تعرض لهزتين. الأولى كانت بسبب الاستهانة التي لقيها في ظل الديمقراطية نتيجة الفهم الخاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات، الذي ربما زين للحكام يومذاك أنه طالما جاءوا بإرادة جموع الناخبين فلا حق لموظف غير منتخب أن يحول دون ممارستهم للسلطة الأميرية، حتى وإن بلغت تلك الممارسة حد الإخلال بالدستور نفسه. أبلغ مثال عن ذلك كان هو موقف رئاسة الدولة من القضاء في عام .1986 والثاني هو تدجين القضاء في مراحل الحكم الشمولي، وذلك إفراز لنظرية مدمرة هي نظرية الشرعية الثورية التي نشأت على يد المدعي العام الروسي فشنسكي في العهد الاستاليني، وامتدت عدواها إلينا عبر النظام الناصري. إقتداءً بتلك النظرية لم يجد النظام الناصري أدنى غضاضة في تحقير القضاء بالإساءة إلى أكبر رموزه (الاعتداء على رئيس مجلس الدولة، عبد الرازق السنهوري)، كما لم يستح بعض كباره من وصف نظرية استقلال القضاء بأنها شعار منقول ومستورد (خطاب علي صبري في مارس 1961). مع هذا، لم يبلغ التدجين للقضاء، أو قل الاستيلاف له، في الأنظمة الشمولية السودانية ما بلغه في ظل نظام ''الإنقاذ''. هذا زمان ولى، فكما أصبحت لحقوق الإنسان عهود تجاوزت الإعلانات، أصبحت أيضاً هناك قواعد دولية ملزمة لحماية المؤسسات العدلية. من ذلك الإعلان العالمي حول استقلال القضاء، مونتريال (1983)، وقرارات المؤتمر السابع للأمم المتحدة لمنع الجريمة ومعاملة المذنبين، ميلانو .1985 الإعلان العالمي كان واضحاً في تأكيده على مبدأ حرية القضاة في الفصل في الدعاوى دون خضوع لأي ضغوط، استقلالهم تجاه زملائهم ورؤسائهم، استقلالهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولايتهم القضاء في المنازعات كافة، حظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، حصر صلاحيات المحاكم العسكرية في الجرائم التي تقترفها عناصر القوات المسلحة، تحريم انتساب القضاة للأحزاب السياسية.. الخ. وبما أن الذي يعنينا هنا هو سلطة القضاة في الأمور المتعلقة بالحقوق الأساسية وصيانة الدستور نكتفي بالإشارة لما أورده البروتوكول حول المحكمة الدستورية. ينص البروتوكول على قيام محكمة دستورية مستقلة عن السلطة القضائية يرأسها رئيس تعينه رئاسة الجمهورية (الرئيس بموافقة النائب الأول)، وتتمتع المحكمة بسلطات لفض النزاعات التي تنشأ حول، أو بموجب، الدستور القومي ودساتير الولايات الشمالية بطلب من الأفراد أو الأجهزة الرسمية. أما حول القضايا المتعلقة بدستور الجنوب فيكون لها حق النقض أو الإبرام لقرارات المحكمة العليا لجنوب السودان عند رفع الأمر إليها استئنافاً. تصدر المحكمة أيضاً الأحكام حول دستورية القوانين وتوجه بإلغاء أي قوانين تتعارض مع الدستور القومي، دستور الجنوب، أو دساتير الولايات، كما تنظر في النزاعات الدستورية بين الأجهزة والمستويات الحكومية المختلفة، وفي جميع القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان. وفي كل هذه الحالات تعتبر قراراتها قاطعة ونهائية وملزمة. ولعل هذا يُنهي التعابث بأحكام القضاء الذي عرفناه في الماضي مثل الجدل حول إن كانت أحكامه تقديريه declaratoryأو ملزمة، فحكم القضاء بموجب الدستور الجديد سيكون بلا مرية، هو عين الحقيقة. وينص البروتوكول على أن يمثل الجنوب تمثيلاً كافياً في المحكمة الدستورية والمحكمة القومية العليا وبقية محاكم الاستئناف القومية بقانونيين أكفاء. ولضمان سلامة عملية تعيين وعزل القضاة تنشأ هيئة للخدمة القضائية National Judicial Commission تتولى تعيين القضاة كما توصي بفصلهم في حالات سوء السلوك الفاضح أو عدم الكفاءة. وتضم اللجنة، إلى جانب رئيسها (رئيس القضاة)، وزير العدل وأكاديميين وقانونيين ضالعين. نقطة أخيرة جديرة بالاهتمام هي نسف الوهم الذي أشعناه، وربما أيضاً اقتفينا فيه أثر التجارب الشمولية العربية، ألا وهو دور القوات المسلحة في حماية الدستور أو النظام السياسي. فالمادة 15 من دستور 1985 (دستور الديمقراطية الثالثة) تنص على ما يلي : ''قوات الشعب المسلحة جزء لا يتجزأ من الشعب ومهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها وحماية أهداف ومكتسبات ثورة رجب الشعبية''. كما نص ميثاق الدفاع عن الديمقراطية (17/11/1985) على الاعتراف بدور القوات المسلحة في ''حماية الديمقراطية''. النصان، بلا ريب، مستوردان من دستور مايو 1973 الذي كلف قوات الشعب المسلحة بحماية ''مكتسبات ثورة مايو الاشتراكية''. القوات المسلحة مؤسسة قومية وهكذا ينبغي أن تكون وأن تظل. واجبها الأسمى والأوحد هو الدفاع عن سيادة الوطن وسلامة أراضيه تحت إمرة السلطة المدنية الشرعية. وما ايكال أمر حماية ''المكاسب الثورية'' أو ''الدستور'' أو ''الديمقراطية'' لها إلا بدعة دستورية تفتح الباب للمغامرات لأنها تفتح الباب للاجتهادات، ولكل مجتهد نصيب. وعلنا نعرف جيداً وبعد تجارب مُرة إلى أين يمكن أن تقود هذه الاجتهادات. الجوانب التي تطرقنا إليها في البروتوكول في هذا المقال والمقال السابق تمثل في مجملها أهم عناصر الدستور، فما هو السبيل لوضع هذا الدستور؟. تقول بروتوكولات السلام انه حال التوقيع على اتفاق السلام النهائي يُرفع الاتفاق إلى المجلس الوطني والمجلس الوطني للحركة الشعبية لاعتماده دون تعديل. ومتى تم ذلك تُدعى اللجنة القومية للدستور لوضع إطار قانوني دستوري لحمته وسداه اتفاقيات السلام. هذه اللجنة تتكون من ممثلين من الطرفين إلى جانب ''ممثلين للقوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني'' حسبما أورد البروتوكول. ويكلف البروتوكول لجنة الدستور أيضاً بوضع دساتير نموذجية للولايات تتماشى مع الدستور القومي ومتى ما اكتمل إعداد تلك الدساتير (أي دساتير الولايات) واقتنع وزير العدل بملاءمتها للاتفاقية وللدستور القومي تُعلن كقوانين. وقد يكون موضوع تكوين لجنة الدستور واللجان القومية على رأس الموضوعات التي تعالج في المفاوضات التي ستدور بين التجمع الوطني والحكومة من جانب، وبين طرفي الاتفاق من جانب، ثم بين الأطراف الثلاثة وأي طرف آخر في منبر يتفق عليه إن رأت الأطراف ذلك. على أن الذي يجب أن يكون واضحاً للجميع هو أن نصوص الاتفاق تُقدم ـ للمرة الأولى ـ حلا شاملاً لداء السودان السياسي المتوطن وأساساً لدستور يضمن الوحدة والسلام والاستقرار بعد نصف قرن من عدم الاستقرار. هذا لا يعني أنها لم تترك زيادة لمستزيد، وإنما يعني أن أية محاولة للإخلال بنص الاتفاق أو روحه بدافع التزيد أو المكايدة أو التشاطر سيكون، أولاً، جهداً بلا طائل، وثانياً عملاً ضاراً. وعندما أقول ضاراً، أعني الضرر والأذى الذي يصيب السودان في الخاصرة وقد يمزقه إرباً. فهل هذه هي الغاية التي يبتغيها المتزيدون؟ ////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (7 ( الدين والسياسة .. زراعة الإحَن وحصاد المحن احتل موضوع الدين والسياسة، أو الدين والدولة، حيزاً كبيراً في الجدل السياسي منذ الستينيات. وفي جانب منه، كان امتداداً لجدل أوسع على نطاق الأمة الإسلامية كلها حول الحفاظ على الهوية في سياق عالم تعددي. إلا أن دعاوى الحفاظ على الهوية تحولت عند البعض إلى ذريعة للالتفاف على قيم ومعايير تراضت عليها الإنسانية لضبط سلوك الأنظمة والمجموعات البشرية. ونفصل في السودان بين ثلاث حقب اختلفت فيها طبيعة الجدل ومحتواه ومناهجه التي تراوحت بين الخطاب التهييجي والقمع. الحقبة الأولى هي تلك التي شملت كل الفترة من الستينيات حتى السبعينيات، والثانية هي فترة الحكم المايوي، أما الثالثة فهي التي أعقبت ذلك الحكم وإلى نهاية القرن. هذا التحقيب لا يُسقِط دور المفاعل الخارجي في تغذية الجدل والصراع على امتداد تلك الحقب، إذ تداخلت الصراعات المحلية مع الصراع الإقليمي (فترة النهوض القومي)، والأممي (فترة الحرب الباردة) وتقاطعت المصالح للحد الذي لم يعد واضحاً فيه مَن يستغل مَن. وعلنا في هذا المقال نتناول سبل الإقبال على قضية الدين والدولة في السودان طوال هذا الحقب، وما قادت إليه من ضغائن وإحن انتهت إلى كروب ومحن. وهذا حصاد مر لا تستريح له نفس ولا يستطيبه ذوق. ولكن قبل تفصيل الحقب نبسط بضع حقائق قد تعين القارئ على إدراك الأسباب التي أحالت الجدل بشأن الدين والسياسة من خلاف فكري إلى فتن. أولاً كانت صراعات الستينيات جزءاً من الصراعات النخبوية (طلاب الجامعات، النقابات المهنية) في إطار الإيديولوجيات السائدة: الأممية (الشيوعية)، القومية (بمدارسها العروبية المختلفة)، (الإسلامية). وكان الجدل حول الدين والسياسة وسط تلك الجماعات يدور بمعزل عن ذلك الذي يدور في مدارس الإسلام الشعبي، المُسَيس منه (الأحزاب ذات القاعدة الدينية) وغير المُسَيس (الطرق الصوفية). بل ربما اتخذت تلك النخب موقفاً غير ودي من تلك المدارس، وإن تصالحت معها لم تكُ تفعل ذلك إلا اغتناماً لفرصة دنت. لهذا يقال أن الإسلام السياسي في السودان لم يتسم بتسامح إسلام أهل السودان. هذه الأيديولوجيات المتصارعة ـ شأن كل الأفكار الجزمية ـ كانت تعاني من خصيصتين عاطبتين. الأولى هي قصورها الذاتي عن التشكك في صدقية دعاواها، بل ظنها الواثق أن دعاواها هي الحق المحض. والثانية هي جنوح أرباب العقائد، على المستوى العملياتي، إلى اختزال الحل لكل المشاكل الإنسانية في فكرة واحدة، وفي أغلب الأحيان في مصطلح واحد يسهل الارتكان إليه مثل ''الإسلام هو الحل'' أو ''وحدة الأمة هي الحل'' أو ''إنتصار الطبقة العاملة'' هو الحل. هذه النظرة أدت إلى ترخص كبير في الإقبال على معالجة أخطر القضايا. ثانياً، ولربما بسبب من اليقين الكامل بصدق أطروحاتها إن لم يكن تنزيه الاطروحات عن كل نقص، أصبحت هذه الجماعات النخبوية شمولية التوجه، وأخذت، على تباين توجهاتها، تستسلف من بعضها التجارب، خاصة فيما يتعلق بالتنظيم. وبسبب من نظرتها الشمولية أيضاً صار إيمانها بالديمقراطية ملتبساً، هي مع الديمقراطية متى ما وفرت لها مساحة للتنفس والحركة، وهي ضدها متى ما تمكنت من السلطان المطلق. وحينذاك ''لا صوت يعلو على صوت المعركة''، ''ولا حرية لأعداء الحرية''، و ''من تحزب خان''، ولا حزب إلا حزب الله ''ألا أن حزب الله هم المفلحون''. في كل هذه الصراعات غاب أمران: الغائب الأول هو السودان: مشاكله الوجودية، تركيبته التعددية، قضاياه المعقدة بتعقيد تركيبته. الغياب هنا معنوي، فلاشك في أن أهل العقائد هؤلاء كانوا من أكثر أبناء جيلهم اهتماماً بقضايا وطنهم، وانهماكاً فيها، وتضحية من أجلها، كما كانوا على ثقة تامة بقدرتهم التامة على المعالجة الناجعة لها. ولكن، من طبائع الأشياء أن الطبيب الذي يَدوي من نزل به الداء، ظاهراً أو باطناً، يبدأ بتشخيص الداء ليميزه مما سواه. بهذا وحده يمكن للطبيب أن يتعهد المريض بما يشفيه. أرباب العقائد السياسية بما فيها الدين المُسَيس كان لهم دواء واحد لا يعرفون غيره، وليس في اعتقادهم غيره في الوجود دواء. ولتعارض الأدوية وتضاربها ـ رغم أن الداء واحد ـ تحول المريض الذي هو السودان خنزيراً غينياً لاغُرم على ما لحق به من جراح. وكما يقول الفقهاء ''جُرح العجماء جُبار''، أي هَدَر. الغائب الثاني هو التواضع المعرفي، والذي هو سمة المجتهد الذي يحترم مرجعيات المعرفة، لا سيما إن كان المجتهد ينتمي إلى دين يقول فقهاؤه: ''من قال لا أعلم فقد أفتى''. المجتهد الصادق تَحَتكُ الأمور في صدره لهذا يظل وقافاً عند الشك، أما أرباب العقائد في السودان، وعلى اختلاف مدارسهم، فلم يكن عندهم موقع للآخر المخالف لهم إلا بين قطبين: الخيانة في حالة، والكفر في الحالة الثانية، تهم الانتهازية والعمالة في حالة، والأبلسة في الحالة الأخرى. الغائب الثالث هو انسداد الأفق الإنساني نتيجة التعامل غير المعافى مع الآخر المخالف، مرة بالعنف ومرة بالإكراه، وأخرى بالاغتيال المعنوي. هذه ممارسات تلغي الحرية، وإلغاء الحرية إلغاء للإنسانية. كما هي ممارسات تفقد الأديان والنظريات البشرية الطامحة للرقي بالإنسان من أي مضمون قيمي. هذه مقدمة إدراكها ضروري حتى لا تختلط الأمور، وحتى ننأى بالدين عن الخطايا التي اجترحت باسمه، كما ننأى بالأفكار الطامحة عن الجنايات التي لحقت بها. أبنا في المقالات السابقة كيف أخذت الطبقة السياسية السودانية تستظل دوماً (يوم لا ظل إلا ظله) بدستور ستانلي بيكر ''الاستعماري''، وكيف أن ذلك الدستور كان محايداً في موضوع الدين، لكيما لا نقول علمانياً. المرة الأولى التي احتل فيه الدين (ونقصد الإسلام) موقعاً في الدستور كان في مشروع دستور .1968 ومن الواضح أن الذين ذهبوا إلى التنصيص على الإسلام والشريعة في ذلك المشروع كانوا ينطلقون من نظرية سيادة ثقافة أو دين الأغلبية. فما الذي جاء به مشروع الدستور؟ أورد في مادته الأولى: ''السودان جمهورية ديمقراطية اشتراكية تقوم على هدى الإسلام
09-16-2004, 02:42 AM
يحي ابن عوف
يحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335
''. وأورد في المادة (113): ''الشريعة هي المصدر الأساسي لقوانين الدولة''. كما جاء في المادة (114): ''يعتبر باطلاً كل نص في أي قانون يصدر بعد إجازة هذا الدستور ويكون مخالفاً لأي حكم من أحكام الكتاب والسنة إلا إذا كانت تلك المخالفة قائمة في جوهرها قبل إجازة الدستور''. هذه النصوص الدستورية أوقدت نائرة سجال سياسي / ديني أثبتت التجارب اللاحقة عبثيته، خاصة بعد صدور دستور 1998 ''الإسلامي'' ونصوص بروتوكول ماشاكوس حول الدين والسياسة. ولعل أجواء التوجس والتحرش والتربص التي كانت سائدة عند إعداد مشروع دستور 1968 (تهم الإلحاد) أضفت على الصراع بشأنه أبعاداً افتقدت أدنى حدود العقلانية. فأولاً لم يكن هناك أي وعي، أو رغبة في الوعي، بأن التعدد الديني في السودان يقتضي أن يعالج موضوع الدين والسياسة بصورة تأخذ في الاعتبار ذلك التعدد. هذا الأمر لم يكن في الحسبان إذ ذهب المشرع على التو لنقل تجارب الدول العربية ـ الإسلامية المجاورة، والتي ليس من بينها واحدة بها ما بالسودان من تعدد ديني، بل من تعددات متقاطعة. وتكاد كل دساتير الدول العربية الإسلامية تتضمن نصوصاً حول دين الدولة، وذهب بعضها إلى ما هو أبعد من ذلك. فالدستور المغربي، مثلاً، ينص في المادة 19 ''الملك أمير المؤمنين والممثل الأعلى للأمة ويكفل تطبيق الإسلام''. حتى الدستور التونسي (وتونس دولة كان رئيسها المؤسس، الحبيب بورقيبة يجاهر بعلمانيته) يقول في مادته الأولى: ''تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها''. كما تنص المادة 38 من نفس الدستور: ''رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام''. مع ذلك، لو جاءت نصوص مشروع دستور 1968 في إطار نظام للحكم ضمن لغير المسلمين حقوقهم المدنية كما أقر دستور 1998، أو اتفاق ماشاكوس، فلربما لم تكن لهؤلاء ردة فعل عنيفة ضد تلك النصوص، بل ربما لما جاز لهم ذلك. لهذا لم يكن غريباً إن ارتفعت أصوات الجنوبيين عالية، تماماً كأصوات بعض الشماليين، ضد ذلك الدستور. عن الجنوبيين عبر ابيل الير باسمهم جميعاً بكلمات منذرات ليتنا وعيناها يومذاك، فلو فعلنا لما استفحل الأمر. قال أن مشكلة الجنوب لم تتخذ حتى الآن طابعاً دينياً ولكن الإشارات للدين في مشروع الدستور ستنحو بها إلى ذلك الاتجاه. أما الشماليون فقد لخص رأيهم عبد الخالق محجوب بقوله أن اعتراضه على الإشارة للدين في الدستور يقوم على اعتبارين أولهما تهديدها لوحدة البلاد، والثاني الخوف من الفتن التي قد يقود إليها اختلاف المذاهب في تفسير الدين. ثم جاء نظام مايو وكان إقباله على قضية الدين والسياسة عند وضع دستور 1973 إقبالاً وسطياً. ويفيد أن نذكر أنه تماماً كما كانت قرارات لجنة ألاثني عشر أساساً لاتفاق الحكم الذاتي الإقليمي لعام 1972، كان مشروع دستور 1968 هو الأساس لدستور .1973 من ذلك الدستور أُزيلت أية إشارة لدين الدولة، رغم أن البعض كان يرغب في إدخالها. ولم يكن الدافع على رفضها جحوداً بالدين وإنما للاقتناع بأن الإشارة لدين الدولة في الدستور إعلان بلا جوهر. ففي رده على المطالبين بإدراج النص قال الراحل جعفر بخيت ''نحن لسنا بملحدين، ولسنا حرباً على الإسلام ولا على دعوته. إن الاقتراح المقدم مظهري إعلامي ليس في جوهره أية دلالات فعلية، فالدولة كائن معنوي يفقد صفة الانتماء الديني القائم أساساً على وجود ضمير فردي يتعبد ويتعامل''. في ذات الوقت أبقى دستور 1973 النص على مصادر التشريع وجاء على النحو التالي: ''الشريعة والعرف مصدران من مصادر التشريع''. هذا النص أقرب إلى الواقع من ذلك الذي اعتبر ''الشريعة ''مصدراً أساسياً'' للتشريع، إذ لو بقى ذلك النص لحق لأي قانوني مبتدئ يُلم بقوانين السودان القول أن الجزء الغالب من تلك القوانين غير دستوري لأنه لم يُستمد من المصدر الأساس. وأذكر خلال مناقشة دستور 1973، أن نائباً جنوبياً اعترض على تضمين الدستور النص الذي يشير للشريعة كمصدر للتشريع، وكان الرد عليه أن تلك الإشارة تؤكد حقيقة قائمة إذ أن في السودان قوانين عديدة مستمدة من الشريعة، كما أن المحاكم السودانية استلهمت الكثير من أحكامها من الشريعة. وعلى أي، قلنا أن الذي يشرع هو البرلمان، وما الإشارة للشريعة كمصدر، محددة كانت الإشارة أو مطلقة، إلا توجيه للمشرع باستلهام مبادئ الشريعة عند وضع القوانين، وليست أمراً للمحاكم لكيما تطبقها وفق اجتهاد القاضي. لهذا الرأي ذهبت المحكمة الدستورية العليا في مصر (1985) التي يعتبر دستورها (المادة الثانية من دستور 1980) ''مبادئ الشريعة الإسلامية مصدراً أساسياً'' للتشريع. قررت المحكمة في دعوى رفعت لها أن النص ''يستهدف توجيه الشارع إلى استلهام قواعد التشريع من مبادئ الشريعة الغراء بصفة رئيسية لكنه لا يطلب من المحاكم أن تطبق مباشرة مبادئ الشريعة وتغفل ما لا يتفق معها من نصوص تشريعية قائمة''. على أن أهم نص أورده دستور 1973 هو المادة 16 والتي أرست، للمرة أولى في دساتير السودان بوجه لا لُبس فيه، مبادئ هامة: الأول الاعتراف بالتعدد الديني في السودان، والثاني تعهد الدولة باحترام كل الأديان وحماية معتنقيها، والثالث تحريم استغلال الدين لإشعال الفتن. تقول المادة: أ. في جمهورية السودان الديمقراطية الدينُ الإسلام ويهتدي المجتمع بهدي الإسلام دين الغالبية وتسعى الدولة للتعبير عن قيمه. ب. والدين المسيحية في جمهورية السودان الديمقراطية لعدد كبير من المواطنين ويهتدون بهديها وتسعى الدولة للتعبير عن قيمها. ج. الأديان السماوية وكريم المعتقدات الروحية ï noble spiritual beliefs لا يجوز الإساءة إليها أو تحقيرها د. تعامل الدولة معتنقي الديانات وأصحاب كريم المعتقدات الروحية دونما تمييز بينهم فيما يخص حقوقهم وحرياتهم المكفولة لهم في الدستور كمواطنين، ولا يحق للدولة فرض أية موانع على المواطنين أو على مجموعات منهم على أساس العقيدة الدينية. هـ. يحرم الاستخدام المسئ للأديان وكريم المعنقدات الروحية بقصد الاستغلال السياسي وكل فعل يقصد به أو يحتمل أن يؤدي إلى تنمية مشاعر الكراهية أو العداوة أو الشقاق بين المجموعات الدينية يعتبر مخالفاً لهذا الدستور ويعاقب قانوناً. أخطر ما وقع بعد ذلك أمران، الأول هو الإلغاء الفعلي لدستور 1973 في العاشر من يوليو 1984 عندما استذرع الدكتور الترابي بالمادة التاسعة من دستور 1973 (الشريعة مصدر التشريع) لإجراء تعديلات عن ذلك الدستور. تلك كانت حيلة قانونية غير بارعة لجأ لها الدكتور، وكان يومها مساعداً لرئيس الجمهورية لأنها أغفلت المواد المتعلقة بكيفية تعديل الدستور وحددت الإجراءات اللازم إتباعها، وما وضعت مثل تلك الإجراءات إلا لحماية الدستور من التغول. والثاني هو إصدار قوانين سبتمبر .1983 الموضوعان تناولناهما بإفاضة في كتاب كامل (الفجر الكاذب: نميري وتحريف الشريعة) لهذا لنا عن العود إليهما فسحة. رغم هذا، ستكون لنا لُبثة عند أمرين مما وقع يومذاك لتعلقهما بهذا المقال. الأمر الأول هو أثر التعديلات الجذرية للدستور على الأوضاع السياسية بوجه عام، وعلى الجنوب بوجه خاص. كان على رأس التعديلات، مثلاً، إلغاء المادة 8 التي تضمنت حماية اتفاقية الحكم الذاتي الإقليمي، واستبدال المادة التاسعة حول الشريعة والعرف كمصدرين رئيسيين للتشريع بنص جعل الشريعة مصدراً أوحداً، وإضافة نص في المادة 14 (المسئوليات العامة للدولة) يجعل للدولة دوراً في رعاية حقوق الأقليات، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يطلق فيها على مجموعة من المواطنين الأصليين وصف الأقليات، كما حُذفت المادة 16 حول الأديان حذفاً تاماً رغم أنها واحدة من ابرع ما ابتدعه الفقه السوداني الدستوري. تلك لم تكن ضربة قاضية على اتفاقية أديس أبابا فحسب، بل وعلى مقومات التعايش السلمي بين المسلمين وغير المسلمين في السودان. الموضوع الثاني هو التأييد المطلق الذي حظيت به قرارات نميري في سبتمبر 1983 من تأييد من جانب الأخوان المسلمين. نميري، فيما نُقَدر، لم يكن يبتغي من إصدار تلك القوانين غير سحب البساط من تحت أقدام كل من كان يدعو لتطبيق الشريعة، أو إقامة شرع الله، أو للصحوة الإسلامية. ولو كان الدين بغيته لما قال في لقائه بالجالية السودانية في أبي ظبي منذ بضع سنوات: ''الشريعة دي خازوق أنا غزيته وأنا براي البقدر أقلعه''. تأييد الأخوان المسلمين يومذاك لنميري وقوانينه مفهوم من ناحية النفعية السياسية political expediency البحتة، ولكن الأخوان لم يكونوا يقدمون أنفسهم كسياسيين فحسب، بل قدموها أيضاً كأصحاب رسالة تتجاوز حدود الأوطان، وكمجتهدة يمتلكون ادوات المعرفة الحديثة التي تمكنهم من الخروج بالدين من المدار المغلق الذي حشره فيه تحجر الفقه. وبهاتين الصفتين كان يعنيهم أن يكون النموذج الإسلامي العملي الذي يطرحون أسمى وأرفع مما عداه حتى يُغري من لهم الخيرة في اتخاذ الإسلام ديناً، وأجدر من يكونون بالإغراء المواطنون السودانيون من غير المسلمين. ذلك أمر فطن له الدكتور الترابي جيداً قبل قوانين سبتمبر، وقبل تعديلاته للدستور التي ضيقت واسعاً في الدين. فقبيل إصدار نميري لقراراته قام الترابي بوصفه نائباً عاماً بمراجعة شاملة لقوانين السودان (المجلدات التسع والتي تضمنت آنذاك 286 قانوناً) انتهى منها إلى أن ثمان وثلاثين قانوناً فقط من تلك القوانين تخالف الشريعة. وللوصول إلى ذلك الحكم استعان بلجنة ضمت نخبة من القانونيين وأهل الفكر: حسن عمر، عون الشريف، علي شمو، سيد أمين، ميرغني النصري، على محمد العوض، صديق الضرير، على عبد الرحمن الأمين الضرير، محمد الجزولي، اميل قرنفلي، جمال بسيوني (مصري)، محمد الفاتح حامد. واقترح الأخير ضم جنوبيين للجنة فاستجاب نميري للاقتراح وأصدر قراراً بإضافة فرانسيس دينق، امبروز ريني، اكولدا امانتير، ودفع الله الحاج يوسف إلى اللجنة. وحول الحدود على وجه التدقيق كان للترابي اجتهاد أحسب أنه وفق فيه، ومن ذلك التدرج في تطبيق الحدود مثل حد الشرب (والذي ألحقه الترابي بالتعزيرات وليس الحدود) حيث ترك لحكام الولايات حرية تطبيقه بعد أمد محدد، وأباح الشرب للأجانب والبعثات الدبلوماسية (أو بالاصح قضى بعدم تجريمه)، كما وجه أن لا يطبق الجلد إلا على الشارب. ولكن ما أن أصدر نميري قراراته حتى انتهى الشيخ المجتهد إلى رأي نقيض حول تطبيق الحدود بما فيها تلك التي لم يدرجها في منظومة الحدود. مثلاً، أقر تطبيق القطع في السرقة فوراً لأنه، كما قال، ''قطع لكل الارتياب والانهزام الثقافي'' (الأيام 19/1/1984)، كما أيد تطبيق ''حد الشرب'' على غير المسلمين وعلى الأجانب الذين استثناهم في حكمه الأول مبرراً ذلك، هذه المرة، بالقول ''لا استثناء للأجانب وغير المسلمين من حدود الله وخاصة الشرب فالاستثناءات تقود للتلاعب'' (الأيام 3/10/1983). قضيتنا ليست مع التأييد السياسي لقرارات نميري، فللسياسة أحكام. وليست حول الاتفاق أو الاختلاف معه إن كان الذي طبقه يمت بسبب إلى شرع الله أولا يمت. القضايا التي نوليها اهتماماً في هذا المقال هي أولاً اختزال شرع الله كله في العقوبات المقدرة، خاصة وقد بقيت من هذه النظرة ظلال خلال المفاوضات الأخيرة حول تطبيق الحدود في العاصمة. ثانياً حق المجتهد الذي ينقض في الصباح ما أبرمه في العشية في أن يُضفي، أو تُضفي، أي قدسية على إجتهاداته بحيث يصبح الدين والاجتهاد البشري بشأن الدين سيان، ويصبح الاختلاف مع الاجتهاد البشري كفر وارتداد عن الدين. ثالثاً الإساءة البالغة التي لحقت بالدين ليس فقط باختزاله في الحدود بمعنى العقوبات المقدرة، وإنما أيضاً على وجهين آخرين. الوجه الأول هو الإيحاء أن تلك العقوبات هي جوهر الدين، علماً أن حدود الله ليست وحدها العقوبات التي وردت خمساً، كل واحدة منها في آية واحدة: السرقة (المائدة 3، القذف (النور 4)، الحرابة (المائدة 33)، القصاص (البقرة 17، الزنا (النور 2)، وليس من بينها ما يعرف بحد الردة أو حد الشرب. هذه الحدود هي جزء صغير من باب أكبر هو العقوبات، في حين تستوعب حدود الله ما هو أشد خطراً من العقوبات. ففي العبادات حدود (البقرة 187)، وفي الفروض حدود (النساء 13)، وفي الزواج والطلاق حدود (البقرة 229)، وفي الأخلاق حدود (التوبة 97)، وفي الوفاء بالعهود حدود (التوبة 112)، وكل ذلك يدخل في مجال تهذيب النفوس وضبط العادات والمعاملات. لا نقول هذا تقليلاً من أهميتها، وإنما تبياناً لخطل الرأي الذي يختزل حدود الله كلها في خمس آيات. الوجه الثاني هو أن الحدود لم تفرض لكيما تصبح سلاحاً لابتزاز الخصوم. ولربما كان نميري أصدق مع النفس إن ظن هذا، بعد أن أطلق على ''الشريعة'' وصفاً خرج به عن الجادة، وجاوز به حدود الأدب: أسماها ''القانون البطال''. قال في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية لمايو: ''كل بيت ندخله ونفتشه .. من يشرب في الخفاء .. من يزني نفتشه لأن الإسلام أمرنا بذلك. أيوه سنحاكمهم بالقانون البطال ده'' (الصحافة 25/5/1984). تلك زلة فرويدية أبانت ما يدور في أعماق الرجل، ولكن ما بال أهل الحجى ذوي الحِجر يَلبَسون الدين، كما قال الإمام علي، كما يُلبس الفروُ مقلوباً. لقد فرض الدين قيوداً صارمة في تطبيق الحدود (بمعنى العقوبات المقدرة) أهونها قيد الإثبات والبينة. فالحدود تدرء، وفي قول عائشة عن رسول الله صلعم '' إدرأوا الحدود عن المسلم ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فلئن يخطئ الأمام في العفو خيراً من أن يخطئ في العقوبة'' رواه الترمذي والحاكم البيهقي بسند صحيح. والحدود فيها الستر، روى مالك عن سعيد بن المسيب أن رجلاً جاء لأبي بكر وقال أن فلاناً قد زنى. قال أبو بكر ''هل ذكرت هذا لأحد غيري''. قال لا: قال له'' ''تب إلى الله واستتر بستر الله فإن الله يقبل التوبة من عباده''. والحدود ـ وهذا هو أكثر ما يعنينا في هذا المقام ـ لا تقام بشهادة الإمام، ويروي أن عمر الفاروق شهد رجلاً يزني فشاور علياً: ''ما قولك في أمير المؤمنين شهد رجلاً يزني'' قال علي ''عليه أن يأت بأربعة شهود أو يقام عليه الحد''، أي يقام حد القذف على أمير المؤمنين. كما أن علم القاضي ليس بحجة فيها، أما في السودان فقد أصبحت الحدود في عهد نميري هي ''القانون البطال'' الذي يبث به الحاكم الرعب، وانتهت في العهود التي تلته إلى أداة الحاكم الفاعلة للابتزاز والإذلال والإساءة للخصوم. على صعيد الجنوب لم يكن لقوانين سبتمبر صله مباشرة باندلاع الحرب، أولاً لأن القرارات السياسية المدمرة (الإلغاء الفعلي لقانون الحكم الذاتي الإقليمي)، والإجراءات الإدارية والعسكرية الخاطئة (نقل القوات الجنوبية للشمال) التي أشعلت الفتيل سبقت قوانين سبتمبر. ثانياً لأن تلك القوانين لم تمس الجنوب رغم انطباقها عليه نظرياً، باعتبار أن القانون لم يَعفِ أحداً من أهل السودان في الشمال والجنوب. على أن الهوس الذي صَحِب اندلاع الحرب من جديد (تصوير البيانات الرسمية للحرب باعتبارها حرباً ضد الكافرين، اتخاذ الجهاد في سبيل الله شعاراً للجيش، إضفاء طابع ديني على الجيش) أكسب الصراع، بالضرورة، بُعداً دينياً. لهذا لم يكن غريباً أن تطالب الحركة بإلغاء تلك القوانين وتجعل إلغاءها شرطاً من شروط إنهاء الحرب والمشاركة في الحكم، خاصة ولم يكن خيار الانفصال أو حتى حق تقرير المصير مطروحاً يومذاك بالنسبة للجنوب. وعلى سقوط نظام مايو أخذت المواقف تميل للتشدد لأسباب لا علاقة لها بالدين. فمن جانب إتخذ التجمع النقابي موقفاً معادياً للأخوان المسلمين (قبل أن يصبحوا جبهة قومية إسلامية) لا بسبب تأييدهم لقوانين سبتمبر وإنما لتأييدهم لنظام مايو في مرحلته الأخيرة ومن ثَمَ تحميلهم كل أوزار النظام. هذا الموقف دفع الاخوان للاستمساك بتلك القوانين تماكراً وكيداً ''إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً''. لهذا أصبح من العسير على السياسة الشمالية أن تتخذ موقــــفاً سيـــــاســــياً راشداً في قضية الدين والسياسة يأخذ في الاعتبار هموم غير المسلمين، كما يكفل المطامح المشروعة للمسلمين، على أن يكون ذلــــــك عبر القنوات الديمقراطية بحيث يكون القرار في النهاية معبراً عن إرادة الشعب تعبيراً حقيقياً. وعند توسد الإسلاميين السلطة ومباشرتهم الحوار مع الحركة الشعبية تقدموا بإقتراح لا يخلو من الجرأة ألا وهو استفتاء الشعب حول الشريعة، وكان ذلك رداً على قول الحركة أن تلك القوانين لم تصدر بإرادة شعبية بل أصدرها حاكم فرد. الحوار في هذا الشأن لم يقطع شوطاً بعيداً لعدم وصول الطرفين في المفاوضات الأولى التي دارت بينهما (خاصة في أديس أبابا ونيروبي في عام 1989) لاتفاق حول القضايا الأخرى المطروحة: الديمقراطية، حكومة الوحدة الوطنية الخ. وبانتقال الحوار إلى منابر أخرى (أبوجا ثم الايقاد) وطرح موضوع الانفصال كخيار (انشقاق رياك مشار وانشائه لحركة استقلال جنوب السودان)، ثم التقاء الجنوبيين جميعاً على حق تقرير المصير كحد أدنى لأي وفاق، أصبحت قضية قوانين سبتمبر أمراً غير ذي موضوع في رأي دعاة الانفصال، إلا أنها ظلت تؤرق بال الوحدويين في الحركة. تلك هي المرحلة التي ارتفعت فيها النبرة في الحديث عن علمانية الدولة إن كان للسودان أن يبقى موحداً بصفة دائمة، أو حتى خلال الفترة الانتقالية. ومنذ المفاوضات الأولى، اتضح أن ذلك أمر دونه خرط القتاد بالنسبة لمفاوضي الحكومة، خاصة وقد أصبح تعبير العلمانية تعبيراً رجيماً. الجدل حول العلمانية في السودان نموذج بليغ لغباء الحوار عندما لا يتفق المتحاورون على المصطلحات، علماً أن الناس تعلموا منذ سقراط أن الحكمة تبدأ بتحديد معاني الكلمات. فحين لم ير البعض في العلمانية غير نفي الدين عن الحياة مما لا يرضاه من يقول الإسلام دين ودولة، أو دين وحياة، كان كل ما يعنيه التعبير للبعض الآخر هو أن تبقى الدولة محايدة تجاه أصحاب الديانات المختلفة في ممارستهم لواجباتهم، واستمتاعهم بحقوقهم، وأدائهم لمسئولياتهم المدنية. فلم يكن من خطة دعاة العلمانية السودانية، فيما نعلم، أن يَهجِر المسلم نفسه وينخلع عن ثقافته، أو في وهمها أن تُلغى الأديان، الكتابي منها والتقليدي، حتى في المناطق التي يسيطر عليها ''علمانيو'' الجنوب. العلمانية، كالديمقراطية، ظاهرة طارئة أصبحت تمثل في المجتمع المعاصر، مجتمع أنسنة الحقوق الأساسية المدني منها والسياسي، تَحدٍ لا يمكن الهروب منه. ولعل فكرة الهروب نفسها لا تساور إلا الذين أرادوا وضع الإسلام في مجابهة مع الآخر علماً أن الإسلام دين، كما هو حضارة تاريخية. وكحضارة، أسهم الإسلام إسهاماً مشهوداً في تطور الإنسانية إلى المستويات التي بلغتها، ولهذا فإن أي رهان إسلامي استراتيجي سيكون رهاناً خاسراً إن قام على رفض مكاسب العقل الحديث ومنها العقلانية والموضوعية والإنسانية. تلك المجابهة موقف تفتعله جماعات، لم تستنفد بعد إمكانياتها للتخريب والتدمير، ولا ترى الهوية الإسلامية إلا هوية منغلقة وممتلئة بالكراهية للآخر، وكأن تلك الهوية لم تتغذَ بحكمة الهند وعرفانية الفرس وفلسفة يونان. نقول مفتعلاً لأن ليس في العالم كله مجتمع إسلامي واحد يُحكَم بوجه مطلق اعتماداً على الدين، لا في أنظمة الحكم، ولا في السياقات القانونية، ولا في العلاقات مع الأمم، ولا في الاقتصاد والتجارة، ناهيك عن العلوم والفنون والصناعات. مهما حديثنا هذا عن الانغلاق، وقبل هنيهة تحدثنا عن التواضع المعرفي يستدعي للذاكرة كلمات للرئيس محمد خاتمي. خاتمي مفكر إسلامي مستنير قضت السياسة أن ترمي به إلى حيث ما كان يجب أن يكون فتقل سماحته. قال في مقدمة لمحاضرة له عن الدين والدولة بتواضع العَالِم والحس التاريخي للمفكر: ''أرجو أن لا تنتظروا مني أطروحة ما، فأنا أعترف بعجزي الفكري والعلمي عن مثل ذلك. ناهيك أن حياة الإنسان لا يتم إصلاحها بأطروحة. فمثلاً، كانت أطروحات ماركس وانجلز هي الأكثر فاعلية ذات حين، ولكنكم وقفتم على النتيجة رغم مما للرجلين من مزايا تحمد. فماركس، للإنصاف، كان رجلاً فطناً وأحد أبرز الخبراء في اكتشاف معايب الرأسمالية. ولكن نتيجة ما فعله بارزة للعيان. فلنعترف بكل صدق أن الحياة إن هي إلا جهود ومساع عامة ومتواضعة، ولا نتقدم إلا بالتعاون وتضافر الجهود وتبادل الآراء وتلاقح الأفكار والتذكير دوماً بمحدودية ما يطرحه الإنسان من آراء وأفكار ووجهات نظر'' (الدين والدولة، الدار العلمية للكتب والنشر 199. مهما يكن من أمر، فإن وجوه التعبير عن العلمانية تختلف من مكان لآخر. ففي الهند مثلاً ارتكزت العلمانية على مبادئ ثلاثة: المساواة في احترام الأديان، واعتبار سلطة الدولة في كل القضايا المدنية سلطة نهائية، واقتصار دور الدولة في واجب أساس هو تحقيق رفاهية المواطن وخيره المعنوي. ولو لم تفعل الهند هذا وتجعل من المواطنة أساساً للحقوق والواجبات، أو لو طبقت مبدأ سيطرة دين الأغلبية على الأقليات الدينية لأصبح مسلموها في وضع لا يُرضي مسلم. ففي الهند 690 مليون هندوسي مقابل 120 مليون مسلم (مما يجعل الهند ثاني دولة إسلامية في العالم بعد اندونيسيا من ناحية عدد السكان). كما أنه رغم التعديل الأول للدستور الأمريكي الذي صدر في عام 1791 والذي ينص على الفصل بين الدولة والكنيسة لم يقتلع ذلك التعديل الثقافة الأمريكية الغالبة من جذورها الدينية البروتستانتية. هذه الحقيقة تصدق على كل الدول التي ذهبت إلى الفصل الدستوري بين الدين والدولة، فالمادة الثانية من الدستور الفرنسي لم تَقضِ على الكاثوليكية أو البروتستانتية في فرنسا، كما لم تُضعف المادة الثانية في الدستور التشيكي (دستور هافل) التي تنص على ''تأسيس الدولة على القيم الديمقراطية ولا يجوز ربطها بأيدلوجية خاصة أو بدين معين'' (والنص كما هو جلي ردة فعل على الهيمنة الماركسية) أي أثر على الكاثوليكية في المجتمع التشيكي. دستور 1998 يمثل، بلا شك، ثورة حقيقية في نظرة الإسلام السياسي لقضية الدين والسياسة. ولولا غلبة الهيجان على الخطاب السياسي، والاستمرار في استخدام العنف العاري ضد الخصوم، لصدق الناس أن ذلك الدستور يعني ما يقول. كانوا سيصدقون ما جاء به الدستور أيضاً إن لم تصبح برامج الإعلام في الراديو والتلفزيون الرسميين، وتصبح مناهج التعليم في مدارس الدولة، برامج تبشيرية لا يري المواطن غير المسلم وجهه فيها، ولا يرى وجه فيها أيضاً المواطن المسلم صاحب الرؤية المغايرة للدين. هذه هي الأسباب التي جعلت أغلب خصوم النظام يقرأون الأحرف الدقيقة fine prints لا النصوص الواضحة في الدستور، ويتمهلون في الإطلاع على ما بين السطور، في الوقت الذي لا يلقون فيه إلا النظرة العجلى على السطور. وعلنا لا نتوقف عند النصوص التهيمة في ذلك الدستور مثل تلك بشأن الحريات، التي ما وردت إلا وتبعها تعبير كابح. وبالقطع لا نتوقف كثيراً عند المادة 26 (1) حرية التوالي والتنظيم لأن الحرية تتألق فيها بغيابها. بخلاف ذلك، نشير إلى المادة الأولى حول طبيعة الدولة: '' السودان وطن جامع تتآلف فيه الأعراق والثقافات وتتسامح الديانات. والإسلام دين غالب السكان وللمسيحية والمعتقدات العرفية أتباع كثيرون''. هذا نص سليم وهو ذو قربى بالمادة 16 من دستور 1973 التي أزاحها الترابي عند تعديل ذلك الدستور في العام 1984، كما يبتعد النص عن الإشارات التقليدية في الدساتير العربية لدين الدولة. وحَسَن أن يشير الدستور إلى التسامح لأنه مقوم أساس للاستقرار في الدول متعددة الديانات، ولكن كيف يكون هناك تسامح في وجود أحكام مثل حكم الردة هي ظنينة أصل حتى في الفقه الذي يستند عليه الدستور. ذلك النص تسرب إلى قوانين السودان في قوانين سبتمبر 1983، والردة مصادرة لحق الاختلاف والمغايرة في الاجتهاد، إذ حيثما طبقت لم تطبق ضد مجاهر بالكفر، بل دوماً ضد مناقض لاجتهاد، أو مستنكر لحكم. وعندما يكون هذا الاستنكار أو المناقضة في بلد تترجرج فيه الأحكام بحيث ينقض مجتهدوه، كما قلنا، في الصباح حكماً ابرموه في المساء، لا تتقلقل الثوابت فحسب، بل يصبح الزعم بقدسية الاجتهادات جناية في حق دين أبى حتى على الرسول الكريم قهر البشر وإكراههم على رأي بعينه بمن فيهم من أعرض عنه ونأي بجانبه ''وإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ''. من جانب آخر فإن التسامح في فقه الحقوق الإنسانية لا يعني عدم المبالاة بالآخر، لا تعبأ به ولا تكترث، وإنما هو قبول الآخر لحد المعاناة. وأصل كلمة تسامح tolerance في الإنجليزية هو كلمة tolere اللاتينية وتعني ''يَشِق على أو يُعاني''. وفي الباب الرابع (سلطة التشريع) حددت المادة 65 مصادر التشريع على الوجه التالي: ''الشريعة الإسلامية وإجماع الأمة استفتاء ودستوراً وعرفاً هي مصادر التشريع، ولا يجوز التشريع تجاوزاً لتلك الأصول، ولكنه يهتدي برأي الأمة العام وباجتهاد علمائها ومفكريها ثم بقرار ولاة أمرها''. الجانب الإيجابي في النص هو أنه تطور لما جاء في مشروع دستور 1968 الذي جعل الشريعة المصدر الأساس للتشريع، وهي نظرة أثبتنا بطلانها، كما هو تطور كبير للنص الذي اقترحه الترابي كتعديل للمادة 9 من دستور 1973، في معرض تعديلاته لذلك الدستور في العام 1984، وعلى أي فإن فكرة النص على مصادر التشريع في دساتير الدول العربية بدعة لا تعرفها دساتير العالم، أدخلها الدكتور عبد الرازق السنهوري الذي أشرف على صياغة أكثرها. دساتير العالم أجمع تفترض أن الأمة هي مصدر السلطات ولهذا يصبح حكم الأمة، إما مباشرة في استفتاء أو عبر ممثليها، هو مصدر التشريع. وجميع الأمم لا تصدر أحكامها من فراغ، بل تصدرها ابتناء على أصول تستلهمها من الأديان والعادات والتقاليد وشرائع من قبلها، كما من التجارب الإنسانية التي عَبَرت بها، أو تنامت إليها. ليس أدل على ذلك من أن المائتين وينيف من قوانين السودان السارية حتى اليوم مستمدة من التجارب الإنسانية، فلا مصدرها الدين ولا العرف. ثم جاءت مشاكوس، وتناول بروتوكولها قضية الدين والسياسة بصورة خلقت كثيراً من الالتباس بقدر ما أرضت طرفي النزاع إلى حد. ففي البدء ظل موضوع الحقوق التي تكفلها المواطنة محل شك عند غير المسلمين رغم ما أشار إليه دستور 1998، خاصة في المادة 21 حول الحرية والحق في التساوي. قالت المادة: ''جميع الناس متساوون أمام القضاء، والسودانيون متساوون في الحقوق والواجبات في وظائف الحياة العامة، ولا يجوز التمييز بينهم فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدينية، وهم متساوون في الأهلية للوظيفة والولاية العامة ولا يتمايزون بالمال''. هذا نص واضح وصريح، ولكن عندما نرى أن بعض هذه الحقوق التي كفلها الدستور بموجب هذه المادة لكل إنسان سوداني دون تمييز بسبب العنصر أو الجنس أو الملة تُصادر، مثلاً، بالنسبة للنساء (حق المرأة في الشهادة) اعتماداً على نص آخر في الدستور (المادة 65 مصادر التشريع) يصبح الخوف مشروعاً. وطالما كانت المصادر التي تستنفج منها هذه الأحكام هي موروثات الفقه القديم، فلماذا لا يتخوف البعض من أن ينبري فقيه قروسطي اعتماداً على تلك الموروثات ويطالب بحرمان ''الكافر''، مثلاً، من الولاية على المسلمين بموجب قوله تعالى ''ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا''. أوليس ذلك هو النص الذي ارتكز عليه جميع الفقهاء لحرمان الكافر من ولاية القضاء على المسلم إلا الحنفية الذين أجازوها على أهله ؟ أو أسوأ من ذلك ما الذي يمنع فقيهاً آخر من الدعوة لحرمان العبد من الولاية انطلاقاً من أحكام الفقه العتيق مثل قولهم: ''إن كان الرق مانعاً من ولاية العبد على نفسه فأحرى من ولايته على غيره''، فالعبد في عرفهم مشغول بحق سيده ولهذا لا يولي (الماوردي). في مكان غير السودان مثل هذه الحكايات قد تكون أساطير، ولكن طالما أثبتت التجارب منذ أن أصدر نميري قوانينه، وانبرى بعض الفقهاء لتسويغها فأي شيء محتمل في السودان، خاصة إن ظللنا نبتني الأحكام الراهنة على اجتهادات صيغت في قرون سحيقة، وعجزنا، بالغوص الجريء في الأصول، عن إيجاد حلول عملية لمشاكلنا المعاصرة التي لم يعرفها فقهاء الماضي. فبصرف النظر عن استغلال الدين لأغراض السياسة، ما زال هناك فقهاء يرفضون إعادة قراءة الأصول، بل يلحون على النظر إلى الأصول من حيث انتهى القدامى إلى قراءتها. لهذا جاء التنصيص في الفقرة المتعلقة بالدين والدولة في اتفاق مشاكوس واضحاً وجلياً في أمرين: الأول هو إيضاح معنى احترام التعدد الديني بما يمنع اللبس، والثاني إبانة ما نعنيه بإنشاء الحقوق على المواطنة وبصورة واضحة. وقدم البروتوكول لتلك الفقرة بالاعتراف أن السودان بلد متعدد الثقافات والأعراق والاثنيات والأديان واللغات، وحض على عدم استخدام الدين كعامل للتفرقة. وتضمنت الفقرة المبادئ التالية: * الاعتراف بكل الأديان والأعراف والمعتقدات كمصدر قوة روحية والهام للشعب السوداني (وهذا تأكيد لعدم نفي الدين عن الحياة). * إقرار حرية المعتقد والعبادة والوجدان لأتباع كل الأديان والمعتقدات والأعراف ولا يجوز التمييز ضد أي إنسان على هذه الأسس. * الحق في تولي جميع المناصب بما فيها رئاسة الدولة، ووظائف الخدمة العامة والتمتع بجميع الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو الأعراف. * تنظيم الأحوال الشخصية ومن ضمنها الزواج والطلاق والميراث وفق القوانين السائدة بما فيها الشريعة أو القوانين الدينية الأخرى أو الأعراف الخاصة بمن يعنيهم الأمر * احترم الحقوق التالية: حرية العبادة والتجمع من أجل أداء الممارسات الدينية أو تلك المتعلقة بالمعتقدات وتأسيس وحماية الأماكن التي تؤدى فيها هذه الشعائر، إنشاء المؤسسات الخيرية والإنسانية حسب الحاجة، صناعة وحيازة كل المواد والأدوات المتعلقة بأداء الشعائر أو العادات بصور تحقق أداء الغرض المطلوب منها، تأليف وإصدار وتوزيع المطبوعات الخاصة بالشعائر المختلفة، تدريس الديانات والمعتقدات في الأماكن المناسبة لهذه الأهداف، السعي للحصول على المساهمات النقدية وغيرها من الأفراد والمؤسسات وتسلم هذه المساهمات، تدريب وتعيين وانتخاب القيادات التي يتطلبها الدين أو المعتقد المعين، التمتع بالعطلات والاحتفالات الدينية وفق التعاليم والمبادئ التي ينص عليها الدين الذي يدين به الشخص المعين، إقامة العلاقات والاتصالات مع الأفراد والجماعات فيما يتعلق بالشئون المعتقدية على المستويين الداخلي والخارجي. وكأن كل ذلك لا يكفي أضيف نص يقول: ''لإزالة أي شك حول القضية لا يسمح بالتمييز من قبل الحكومة أو الدولة أو المؤسسات القومية ضد أي فرد أو مجموعة على أساس الدين أو المعتقد''. وقد يرى البعض أن هناك مبالغة في التفصيلات وتأكيد الضمانات، ولكن أية قراءة أمينة للحدود التي وصل إليها الاستقطاب الديني في السودان يدرك دواعي ذلك التفصيل. بروتوكول مشاكوس تضمن نصوصاً أخرى تتعلق بالقوانين التي ستسود خلال الفترة الانتقالية، خاصة في الشمال، أثارت ثائرة بعض القوى الشمالية، وكان لنا تعليق على ذلك إبان صدورها. يقول البروتوكول في الفقرة حول الحكومة القومية: * يتفق الطرفان على تكوين حكومة قومية تمارس السلطة وتجيز القوانين التي تجاز من قِبل سلطة عليا ذات سيادة على المستوى القومي. وستأخذ الحكومة في الاعتبار عند إجازتها للقوانين الطبيعة التعددية للشعب السوداني ديناً وثقافة. * التشريعات التي تُسَن على المستوى القومي وتطبق على الولايات خارج جنوب السودان يكون مصدرها التشريعي الشريعة وإجماع الشعب. * التشريعات التي تُسَن على المستوى القومي وتُطبق على الولايات الجنوبية (أو الإقليم الجنوبي) يكون مصدرها التشريعي الإجماع الشعبي وقيم وعادات الشعب السوداني ومن بينها تقاليده ومعتقداته الدينية مع أخذ التعددية السودانية في الاعتبار. * في حالة ما إذا كانت التشريعات القومية المعمول بها الآن أو المطبقة وكان مصدرها الدين أو العرف وكانت أغلبية سكان الولاية أو الإقليم لا يمارسون شعائر ذلك الدين أو يلتزمون بالأعراف المعنية يكون هناك خياران: الأول هو استبدال القوانين أو المؤسسات بما يتماشى مع الدين والأعراف المعنية أو عرض القانون على مجلس الولايات لإقراره بأغلبية الثلثين. وبقدر ما ابتهج المناصرون للنظام والمعارضون له بالاختراق الذي وقع في مفاوضات السلام، بقدر ما غُم بعضُ المعارضين لتنازل الحركة الشعبية عن إصرارها على أن يكون دستور السودان كله علمانياً، بل قبولها (غير المشروع) استمرار تطبيق الشريعة على الشماليين. حقيقة الأمر، لم تك تلك هي المرة الأولى التي قبلت فيها الحركة التنازل عن الطرح العلماني من أجل الوفاق مع القوى الشمالية، فقد فعلت ذلك في اتفاق الميرغني ـ قرنق (16/11/198 عندما قبلت مبدأ تجميد قوانين سبتمبر لحين البت في علاقة الدين بالدولة في مؤتمر قومي دستوري، وفعلته عندما اتفقت مع فصائل التجمع الشمالية في نيروبي (17/4/1993) على صيغة حول علاقة الدين بالسياسة أصبحت أساساً لقرارات التجمع في اسمرا (يونيو 1995) حول ذلك الموضوع. وتنص الصيغة على: كفالة المساواة تأسيساً على حق المواطنة، تحريم إنشاء الأحزاب على أساس ديني، الاعتراف بتعدد الأديان وكريم المعتقدات والعمل على تحقيق التعايش والتفاعل السلمي بينهما، منع الإكراه، تأسيس البرامج الإعلامية والثقافية القومية على الالتزام بمواثيق وعهود حقوق الإنسان. تلك الصيغة لا تشير بحال إلى إلغاء القوانين القائمة ذات الأصل الديني، أو تعترض على النص الذي جعل الشريعة مصدراً للتشريع. ليس هذا فقط، بل أن التنصيص على مصادر التشريع، وبخاصة النص على أن تكون الشريعة مصدراً للتشريع، والذي لم يرد مطلقاً في دستور 1956 أو دستور 1956 تعديل 1964 أضيف للمرة الأولى لذلك الدستور في دستور انتفاضة أبريل. وتقول المادة (4) من ذلك الدستور ''الشريعة والعرف مصدران أساسيان للتشريع والأحوال الشخصية لغير المسلمين يحكمها القانون الخاص بهم''. الاتهام الثاني والقائل إن الحركة لا تملك تفويضاً من الشمال لتقرر نيابة عنه القانون الذي يحتكم إليه قد يكون صحيحاً من الناحية الشكلية. نقول شكلية لأن هذه القوانين، وافقت الحركة أم لم توافق، هي القوانين التي كانت سارية عند التوقيع، وقبل التوقيع، وبعد التوقيع على بروتوكول مشاكوس. كانت القوانين قائمة أيضاً حتى في ظل الديمقراطية التي كان للتجمع الحزبي فيها أغلبية صريحة (حكومة الديمقراطية الثالثة)، وكان للتجمع النقابي فيها حكومة لها مطلق الحرية في النقض والإبرام (حكومة الانتفاضة 1985-1986). ثمة خيارات محلية كانت مطروحة أمام الحركة، وثمة ضغوط خارجية كانت عليها. من بين الخيارات الاستمرار في الحرب حتى تُقام الدولة العلمانية في السودان كله، ولربما كان هذا هو الخيار الذي طمع البعض أن تتخذه الحركة. الخيار الثاني هو أن تترك الحركة ''ما لا يعنيها'' إلى أن يصل طرفا النزاع الشماليان (الحكومة والتجمع) إلى اتفاق بشأنه، أي أن يُجمد الاتفاق إلى حينٍ لا يعرف إلا الله مداه. أما الثالث فهو أن تكون اليد العليا للتيار الانفصالي في الحركة، بل وتيار الوطنية الصغرى في الجنوب كله، والذي يقول يكفي ما حققناه لأهلنا ولنذهب مباشرة إلى ممارسة حق تقرير المصير تاركين الشمال ليسوى أموره بنفسه متى ما تيسر له ذلك. تلك كلها كانت خيارات مستحيلة، فأولاً، لا تستطيع قيادة الحركة، حتى وإن رغبت في ذلك، أن تحمل الجنوب كله على حرب لا ناقة له فيها ولا جمل. ولربما كان في مقدورها أن تغامر بخيار كهذا لو كانت قوات التجمع تتأهب للانقضاض على الخرطوم، أو كانت قوى الانتفاضة تحيط بالنظام احاطة السوار بالمعصم. الخيار الثاني محكوم بقدرة المعارضة الشمالية على أن تقتسر أي شيء من النظام في الأفق المنظور، ففي النهاية كلنا ميتون. ولم يكن في الافق المنظور ما يشير إلى أن النظام أوشك أن ينهار ويولي الأدبار، أو أن مبادرات السلام الأخرى (المبادرة المشتركة) كانت معنية بقضية الدين والسياسة لحد أكثر مما جاء في قرارات نيروبي 1993، أما الخيار الثالث فلا ينبغي أن يُسعد أي شمالي، كما أنه لم يكن بالخيار الذي تفضله الحركة. من جانب آخر لعبت الضغوط الخارجية دوراً مهماً بدد أوهاماً كثيرة غلبت على عقول كل الأطراف: الحكومة، الحركة، الفصائل الشمالية المعارضة. من تلك الاوهام أن الوسطاء والرقباء ورعاة التفاوض ـ وكلهم منسوب للمسيحية أو العلمانية ـ سيمضون إلى النهاية في دعم التوجه العلماني للحركة، أو سيفعلون كلما في وسعهم ، كما يظن بعض أهل التجمع، لإزاحة ''الدولة الدينية'' في الخرطوم. كما ساد عقول أغلب مناصري النظام وَهم قارب اليقين بأن ليس لأمريكا وبريطانيا من غرض تطلبه وتحتال عليه غير تدمير المشروع الحضاري وتحطيم دولته. نِذارة الوسطاء والرقباء والرعاة جميعهم للحركة كانت: ''لقد حصلتم على كل ما تريدون للجنوب: السلطة والثروة والحفاظ على خصائصكم الثقافية، فما شأنكم بالشمال إن كان أهله يريدون أن يحكموا عبر الدين؟ أما للقوى السياسية الشمالية فكان قولهم عبر مبعوثيهم الكثر: ''هذه القوانين ظلت معكم منذ أن كان لكم حكم ديمقراطي وبرلمان حر عجز عن إلغائها، ولم نَرَ حتى الآن ـ حتى بعد مشاكوس ـ تظاهرة واحدة في الخرطوم تطالب بإلغائها، فما الذي نستنتج من ذلك؟ ولعل الرقباء والرعاة انتهوا إلى أن مناهضي القوانين الدينية في الشمال كانوا يتمنون اجتثاثها بسيف مستعار، فسعوا للحيلولة دون ذلك. قضية الدين والدولة عادت إلى السطح مرة أخرى عند تداول موضوع العاصمة القومية والقوانين التي تحكمها. الحوار حول العاصمة لم يبدأ في نيفاشا كما يزعم البعض، بل ظل مطروحاً منذ مفاوضات مشاكوس حيث أُطلق عدد من بالونات الاختبار للالتفاف حول الموضوع. من ذلك أن تكون للسودان عاصمتان (جوبا والخرطوم)، أو إن تنشأ عاصمة جديدة في منطقة محايدة، أو أن يُقتطع جزء من الخرطوم ليصبح عاصمة لا تسري عليها القوانين الدينية. كل تلك الخيارات سقطت لعدم معقوليتها. مع ذلك شاء البعض أن يصور القضية وكأنها أمر افتعلته الحركة، كما ذهب آخرون إلى تلقيح فتنة دينية واستثارة من تسهل استثارتهم لكي يقفوا إلباً واحداً ضد الاقتراح لما ليس فيه: الدعوة للفجور والرذيلة واباحة الخمر والميسر في عاصمة الدولة الإسلامية. ومرة أخرى أُختزل الدين من أصله ليختصر في الحدود. ومن المدهش أن الذين أثاروا ذلك النقع من الإرجاف لم يتدبروا أن الدستور الذي تحكم به الدولة ''الإسلامية'' (دستور 199 يبيح للناس ما هو اكثر من هذا، إن كانت نصوصه تعني ما تقول. ذلك الدستور يبيح (ربما نظرياً) حتى للمسلم إنكار الشعائر مع العلم بها. فالمادة 24 من الدستور حول حرية العقيدة والعبادة تنص: ''لكل إنسان الحق في حرية الوجدان والعقيدة الدينية وله حق إظهار دينه أو معتقده ونشره عن طريق التعبد أو التعليم أو الممارسة أو أداء الشعائر أو الطقوس، ولا يُكره أحد على عقيدة لا يؤمن بها أو شعائر أو عبادات لا يرضاها طوعاً، وذلك دون إضرار بحرية الاختيار للدين أو ايذاء لمشاعر الآخرين أو للنظام العام، وذلك كما يفصله القانون'' هذا النص، بلا مرية، لا يلزم المسلم بأداء شعائر دينه إلا طوعاً، علماً أن في الفقه الذي يستمسكون بتطبيقه انتقاءً أحكاماً صريحة حول تخلي المسلم عن أداء شعائر دينه لا فجوة فيها للتحفظ. فأداء الشعائر لا يخضع للرضى الطوعي عندهم، فمثلاً، يستتاب تارك الصلاة عمداً فإن استكبر وأنكر وجوبها قُتل ولا يدفن في مقابر المسلمين. الفقرة حول العاصمة القومية في بروتوكول مشاكوس غطت إلى حد كبير أربع قضايا: الأولى هي احترام التنوع السوداني والتأكيد على أن تكون العاصمة رمزاً للوحدة الوطنية وعاكسة لكل وجوه ذلك التنوع. والثانية احترام حقوق الإنسان والحريات كما هي موضحة في بروتوكول مشاكوس (الحريات الدينية) وبروتوكول نيفاشا (جميع الحريات الأساسية). والثالثة هي حماية غير المسلمين من تطبيق القوانين السارية ذات الأصل الديني ووضع ضمانات كافية لتحقيق ذلك الغرض. أما الرابعة فهي عدم الإخلال بحق الأمة في إعادة النظر في التشريعات القائمة (الفقرة 2-4-5). قضية الدين والسياسة، كمثيلاتها الأُخر: نظام الحكم، الحقوق الأساسية، التمكين السياسي، وقعت ضحية تزيد تجاوزنا فيه ما ينبغي فانتهينا إلى حروب وقودها الناس والحجارة. وإن كانت هناك دروس نتعلمها من تلك التجارب فهي، أولاً ضرورة الكف عن التزيد في الأمور أو الظن أن للحقيقة وجهاً واحداً، خاصة في شأن الدين. فما أكثر الأحكام التي أصدرنا منذ الستينات في قضايا الدين ثم ارتددنا عنها، وكثيراً ما كان ذلك بلا حجة شافية أو بلاغ مبين في الحالتين. الأمر الثاني هو الاعتراف أن الله خلق الناس على فِطر مختلفة، ولو شاء أن يجعل منهم أمة واحدة لفعل. فالحياة كلها قائمة على الاختلاف كما أراد الله لها ''ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم''. من يقول غير هذا يلج بالجهل. الأمر الثالث هو أنه لا يستطيع بشر أن يحمل أهل أية ملة خطم أنوفهم ليهجروا أنفسهم، أو يخالفوا عقيدتهم فإن رأى المسلمون تطبيق القوانين الدينية عليهم فذلك حقهم، شريطة أن يكون القرار بإرادتهم الحرة ، لا بالإكراه أو ادعاء الوصاية عليهم. الأمر الرابع هو ترقية أدب الخلاف بعد أن بلغ الاختلاف في أمور الدين حداً لا أناة فيه ولا تواضع. أوهل هذا حقاً هو الدين الذي أوصى الله نبيه بالحلم حتى مع المُعرضين ''وإن كان كَبُر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين'' (الأنعام 35)، والمــراد بالجــهل هــنا ما يضــــاد الحــلم لا ما يضاد العلم. والأمر الخامس والأخير هو أن نخفض قليلاً من سقف مطامحنا، أي أن نسخر الدين والسياسة لإصلاح حال السودان بدلاً من أن نجعل لنا دوراً أممياً نجمع به أهل الأرض كلهم على الهدى، فهذا هو الحمق بعينه. /////////////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (8( الاقتصاد السوداني ... فرضيات الواقع ووهوم الأيديولوجيا لا يقل عمق الآثار التي ستترتب علي بروتوكول اقتسام الثروة عن ذلك الذي سينبني ويستقر على بروتوكول اقتسام السلطة. وإن كان أصل المشكل السوداني هو التهميش بشقيه، السياسي والاقتصادي، فإن الحل يكمن في التمكين بشقيه، السياسي والاقتصادي، ولن يستقيم سلام في السودان أو يستدام دون تحقيق كليهما. وكثيراً ما نقول ويقول غيرنا، أن الحرب لعبت دوراً كبيراً في تعميق الفقر في السودان حتى انتهى إلى حيث يجب أن لا يكون: دول القاع في منظومة الدول النامية. ولكن، لاعتبارات خارجية وداخلية تفشى الفقر في كل دول القارة الأفريقية، ولم تنج منه حتى الدول ذات الثروات الطبيعية الوفيرة مثل نيجيريا. ففي نهاية القرن (1999) أعدت اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة بأفريقيا (ECA) تقريراً لا تبعث قراءته على البهجة حول الفقر في أفريقيا أشرف على إعداده اقتصادي سوداني ذو قدارة (علي عبد القادر علي). يقول التقرير أن 44% من الافارقة يعيشون تحت خط الفقر (حُدد خط الفقر بدخل لا يقل عن تسع وثلاثين دولاراً في الشهر حسب قيمة الدولار في التسعينيات). وقبل خمس سنوات من ذلك التقرير (1994) أصدر البنك الدولي تقريراً عن الفقر في القارة انتهى فيه إلى وصف عقد الثمانينيات بعقد التنمية الضائع، وعقد مقارنات مذهلة عن الأداء الاقتصادي في أفريقيا وآسيا تكشف عن التردي الكبير الذي انتهت إليه قارتنا. فمثلاً، حين ظلت معدلات الفقر تتزايد في أفريقيا انخفض عدد الفقراء في الصين خلال عشر سنوات من 33 % من السكان إلى 10% (وسكان الصين يزيدون عن البليون نسمة)، وفي كوريا وماليزيا انخفضت النسبة على التوالي (خلال عشر سنوات أيضاً) من 23% و18% إلى 5% في كليهما. في أفريقيا، ومنها السودان، كانت الصراعات الداخلية على راس العوامل التي قادت إلى تدهور الاقتصاد وعمقت من الفقر. ويقدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في تقريره السنوي (2003 - 2004) إنفاق السودان السنوي على الحرب بقرابة 5% من الناتج القومي الإجمالي، وهذا رقم عالٍ إن أخذنا في الاعتبار أن الإنفاق عن الصحة والتعليم مجتمعين يبلغ بالكاد 2% من الناتج القومي الإجمالي. هذا القدر من الإنفاق لا يأخذ في الاعتبار الخسائر البشرية، وإهدار الموارد الطبيعية، وفرص التنمية الضائعة، كما لا يتضمن ما تنفقه الأطراف الأخرى في الحرب. وإن تركنا الصراعات والانفاق الضخم عليها وذهبنا مباشرة إلى المشاكل الجذرية التي قادت للصراع (التهميش) نقول أننا فَطِنا منذ أكتوبر 1964 إلى أن جذر المشكل على المستوى الاقتصادي هو نهج التنمية اللا متكافئة وما قاد إليه من تكريس للتركيب الاجتماعي والاقتصادي الموروث من عهد الاستعمار. السمة الرئيسية لللاتكافؤ هي التركيز الجغرافي للثروة في الشمال النيلي من جانب، والإقصاء المترتب على ذلك التركيز للأطراف من فيض تلك الثروة، من الجانب الآخر. وبدوره، كرس الإقصاء تفاوتات اجتماعية واقتصادية ترسخت جذورها. على مر العهود من أكتوبر 1964 إلى ابريل 1985 فَطِنا أيضاً إلى أن العلاج هو التنمية المتوازنة، إلا أن تلك الفطنة لم تجاوز النظرية إلى الفاعلية، لماذا؟ في زعم هذا الكاتب، كَمُنت المشكلة في أن الطبيب أصبح أهم من المريض. فثمة يقين واثق عند الأطباء المتعاقبين أن هناك بلسماً شافياً لكل داء أغناهم أجمعين عن تقصي طبيعة الداء. وبدهي، لا يفيد الجراحُ المريضَ في شيء إن أعمل مبضعه في العضو السليم وأخطأ المعطوب. ماذا نعني بهذا؟ طوال تلك الفترات، خاصة فترتي الستينيات والسبعينيات، كان الإقبال على علاج المشكل الاقتصادي إقبالاً أيديولوجياً. فاليسار الاكتوبري، مثلاً، لخص المشكل الاقتصادي كله في الإصلاح الزراعي ومراجعة علاقات الإنتاج، وإنهاء ''سياسة التبعية للمعونة الأمريكية والاحتكارات الألمانية والإنجليزية التي جعلت التطور مستحيلاً وانتقصت من ذلك التطور بسبب الحجر على حرية التعامل مع دول المعسكر ''الاشتراكي'' (مجلة الكادر 1961). أما الأحزاب ''التقليدية'' فقد استهيم فؤادها بذلك الطِرز (الموضة) الاقتصادي فَرقَع كل واحد منها برامجه برقعة اشتراكية، وأبدع في ذلك: اشتراكية عربية، اشتراكية إسلامية، اشتراكية أفريقية. والرُقعة إن لم تكن من جنس الثوب شانته. ثم جاء نظام مايو في مرحلته الأولى ليعلن في ميثاقه التأسيسي أن رغبة الجماهير منذ ثورة أكتوبر هي ''السير على طريقة التنمية غير الرأسمالية حتى تقف على آفاق الاشتراكية حيث الحرية الاجتماعية التي ننشدها بالسيطرة على وسائل الإنتاج، وتوسيع قاعدة قطاع عام قادر على قيادة التقدم الاقتصادي، وتوجيه القطاع الخاص ليشارك في خطة التنمية''. لاحظ: ''رغبة الجماهير''، وليس رأينا. ولم يترك الميثاق مجالاً للتخمين حول المراد بالاشتراكية التي ترغب فيها الجماهير إذ أضاف ''الاشتراكية العلمية المطبقة على واقعنا السوداني، والمرتكزة على تاريخنا وتراثنا الحضاري وعلى عقائدنا وتقاليدنا التي تهدف إلى تحرير الإنسان السوداني من قيود الحاجة وتحقق له حريته كإنسان لهي المرشد الذي تهتدي به ثورتنا في نقل الجماهير من حياة البؤس إلى الحياة الرغدة''. عن ذلك التوجه إرتدت مايو بعد حركة يوليو 19 1971 ولكنها لم تبطئ في التلفع تلفعت بثوب آخر من ذات الطِرز ''الاشتراكي'' بعد أن نزعت عنه صفة ''العلمية'' وحددت له مواصفات. من تلك المواصفات: ''يكون القطاع العام قائداً ورائداً للتنمية الاقتصادية والعلاقات الإنتاجية الجديدة يساعده القطاع التعاوني والقطاع المختلط والقطاع الخاص''، وكل ذلك لتحقيق ''الكفاية والعدل'' من أجل ''أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة''. أهو نزار قباني الذي نظم، أم هي ماجدة الرومي التي تتغنى: كلمات، كلمات، كلمات. ذلك الهوس بالإيديولوجيات في فترتي الستينيات والسبعينيات أمر مفهوم لأن انكار ''الاشتراكية'' أو ''القومية العربية'' في ذلك الزمان كان ضرباً من قلة الأدب. ولكن الذي حدث بعد سقوط نظام مايو يدعو حقاً للدهشة، خاصة بعد سقوط المسلمات الأيديولوجية وانهيار نماذجها من (A) إلى (Z)، والـ (A) هي انقولا، والـ (Z) زمبابوي، أو إن أردت زامبيا. في زمان سقوط النماذج هذه أطل علينا ميثاق انتفاضة ابريل ليحدد في فقرته الرابعة مهمة إستراتيجية للاقتصاد الوطني هي: ''التحرر من التبعية الاقتصادية للإمبريالية العالمية وخلق بنية اقتصادية اجتماعية تحقق الكفاية والعدل وذلك بالتصدي الجاد والحاسم للازمة الاقتصادية عن طريق تنمية الثروات والموارد الوطنية وتعبئة الموارد القومية لمواجهة الجفاف والمجاعات والغلاء وشح المواد ''التموينية''. لا شك في أن الذين وضعوا ذلك النص كانوا موقنين تمام اليقين أن الإطاحة بنميري هي نهاية التاريخ، فبسقوطه تُحلُ مشكلة السودان السياسية ولا يبقى غير أمرين: الأول هو الاتفاق مع ''الجنوب'' بإعادة الحياة إلى اتفاقية أديس أبابا، والثاني عقد مؤتمر اقتصادي لوضع السياسة الاقتصادية التي تحرر السودان من التبعية للإمبريالية فتتحقق بذلك الكفاية والعدل. لن نتلبث كثيراً أو قليلاً عند ذلك الشعار، شعار التحرر من التبعية للإمبريالية المحتشد بالدلالات الأيديولوجية، لأنه لا صلة له كما لا صلة لمن صاغه بالواقع. وليس أدل على ذلك من أن الخطوة الأولى للسيد عوض عبد المجيد، أول وزير مالية لحكومة الانتفاضة، كانت البحث عن رقم تلفون صندوق النقد الدولي للاستئناس برأيه في كيف يستنقذ البلاد اقتصادياً، لا كيف يحررها من الإمبريالية العالمية. فلو كان للإمبريالية العالمية عنوان فعنوانها في واشنطون هو St 1818 H مقر البنك والصندوق. لذلك، فإن ما نتوقف عنده هو التركيز في اولويات البرنامج الاقتصادي على مواجهة الغلاء وشح المواد التموينية. ذلك، بلا ريب، يعني السكر والشاي والأرز وزيت الطعام وحليب الأطفال، وكلها من السلع التي تعني أهل الحاضرة. هذا أمر مهم بلا شك، وواجب أساس لأي حاكم يأنس في نفسه القدرة على الحكم، ولكنها ليست وحدها القضايا التي تستلزم حلاً عاجلاً، كما ليست هي بالقطع القضايا التي كانت تهجس في رؤوس من حملوا السلاح في جبال النوبة وفي جنوب النيل الأزرق من ولايات الشمال، من قبل أن يلحق بهم أهل شرق السودان ودارفور. لهؤلاء جميعاً قضايا أُخر تتطلب علاجاً سريعاً ومباشراً لا يقل ضرورة عن حل ضائقة أهلنا في المدينة. وفي فترة الإنقاذ لم ينجُ الاقتصاد من التديين الشعاراتي. فبالرغم من انتهاج النظام لسياسات براقماتية في تعامله مع العالم الخارجي، أبى إلا أن يضيف للاقتصاد في دستور 1998 أبعاداً يصعب حسابها وإحصاءها، لا سيما في غيبة البرامج التي تحقق، والموارد التي تتحقق عبرها، الأهداف الذي تغيأها المشرع. فالدستور يقول في الفقرة عن الاقتصاد القومي: ''تدفع الدولة نمو الاقتصاد الوطني وتهديه بالتخطيط على أساس العمل والإنتاج والسوق الحر منعاً للاحتكار والربا والغش، وسعياً للاكتفاء الوطني، وتحقيقاً للفيض والبركة، وسعياً نحو العدل بين الولايات والأقاليم''. لقد تعاقب على السودان في عهد ''الإنقاذ'' عدد من وزراء المالية ولا أحسب أن وأحداً منهم أدرك ما الذي يعنيه تعبير ''البركة'' بلغة الإحصاء الاقتصادي ناهيك عن أن يجد سبيلاً لتحقيقها في الموازنات التي يعدها. وفي مادته 11 (العدالة والمكافلة الاجتماعية) يقول الدستور: ''تراعي الدولة العدالة والمكافلة الاجتماعية لبناء مقومات المجتمع الأساسية توفيراً لأبلغ مستوى العيش الكريم لكل مواطن توزيعاً للدخل القومي عدلاً بما يمنع التباين الفاحش في الدخول، والفتن، والاستغلال للمستضعفين وبما يرعي المسنين والمعوقين''. ''الاكتفاء الوطني''، ''العدل بين الولايات والأقاليم''، ''توزيع الدخل القومي بما يمنع التباين الفاحش''، ثم من بعد يحمل أهل دارفور السلاح، كما يقولون لإيقاف، ''التباين الفاحش''. ودارفور ليست ولاية أو إقليماً عادياً يترجى العدل والفيض والبركة من الله، بل هي الإقليم الذي يضم اكبر رصيد استراتيجي للحركة الإسلامية، والذي أنجب بعضاً من خيرة أبنائها. ثمة خطأ ما، في مكان ما! أو هل هو الاختلال في فقه الاولويات. إن أهم الواجبات التي تجابه الدولة والمجتمع في الفترة الانتقالية هي تحقيق العبور من التهميش إلى التمكين في أربعة محاور. ففي المحور السياسي عبور من الإقصاء إلى المشاركة، وفي المحور الاقتصادي عبور من الفقر الشامل إلى الإيفاء بالاحتياجات الأساسية والتأهيل للنمو والانطلاق، وفي المحور الثقافي / الاجتماعي عبور من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام، ومن غلواء التعصب إلى رحابة التسامح. ولقد تناولنا في المقالات السابقة كيف يكون التحول في المحور السياسي، فما الذي جاء به بروتوكول اقتسام الثروة لتحقيق العبور المطلوب في المحور الاقتصادي. بدأ البروتوكول بإرساء مبادئ هادية للتحول الاقتصادي ستكون هي المرتكز والأساس لكل الخطط والبرامج التي ستتخذها الدولة على المستوي القومي والولائي، وتلتزم بها كل مستويات الحكم الأخرى × اقتسام وتوزيع الثروة الناجمة من موارد السودان لضمان ترقية نوعية الحياة وكرامة المواطن وتحسين ظروف المعيشة دون تفرقة على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو اللغة أو الإقليم. وان يُنطَلق في تقسيم وتخصيص الثروة من أن التنمية حق لكل أجزاء السودان. × يتفق الطرفان على أن جنوب السودان يواجه احتياجات خطيرة لكيما يكون قادراً على، أولاً أداء وظائف الحكم الملقاة على عاتقه، وثانياً تأسيس إدارة مدنية فاعلة، وثالثاً إعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في مرحلة ما بعد الصراع. × يتفق الطرفان على أن جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وابيي وغيرها من المناطق التي تأثرت بالحرب تواجه حاجة عاجلة أولاً للقيام بالوظائف الأساسية للحكم وثانياً لتشييد الإدارة المدنية، وثالثاً لإعادة تأهيل وتعمير البنية الأساسية والاجتماعية في سودان ما بعد الصراع. × يتعهد الطرفان برفع متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المناطق لنفس متوسط الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في الولايات الشمالية، وبما أن هذا يتطلب وقتاً وجهداً يُؤسس صندوقان خاصان لهذا الغرض. × عند اقتسام وتخصيص الثروة يلتزم الطرفان باللامركزية ونقل سلطة صنع القرار فيما يتعلق بالتنمية والخدمات لمستويات الحكم المختلفة × يُراعي عند توزيع الموارد أن يتم ذلك في شفافية وفي ظل إدارة مسئولة، كما يُراعي حسن استخدام الموارد واستغلال الموارد الطبيعة على وجه يضمن تجددها. × تتعهد الحكومة القومية بعدم حجز أي اعتمادات مخصصة لحكومة جنوب السودان، أو لحكومات الولايات، ويحق لأي مستوى من مستويات الحكم يُحرمُ من نصيبه المقدر له اللجوء للمحكمة الدستورية. من بين القضايا التي تناولها البروتوكول قضية الأرض والموارد الطبيعية تحت سطحها. تلك قضايا ذات جذور عميقة منذ إلغاء الحكم الاستعماري لنظام حيازة الأراضي الموروث من الممالك السودانية الأولى (وثائق التمليك في مملكة الفونج، اقتطاع الحواكير في سلطنة دارفور). ونسبة لطبيعة السودان الجغرافية والأيكولوجية فإن أهم مناطق الإنتاج الزراعي والرعي تقع في ما بين خطي العرض 7 - 15 شمالاً، وهي نفسها المنطقة التي تدور فيها الحروب والصراعات الآن: أعالي النيل، جبال النوبة، دارفور، جنوب النيل الأزرق. وزاد اكتشاف البترول من تعقيد الأمور إذ أن أهم حقوله الحالية تقع أيضاً في هذه المنطقة. قضية ملكية الأرض في حد ذاتها لم تُفجر المواقف، بل فجرها أمران. الأول هو كيفية استغلال هذه الأراضي منذ عهد عبود، وبصورة أكثر كثافة منذ عهد مايو بعد صدور قانون الأراضي الجديد (1970) والذي اعتبر كل الأراضي غير المسجلة في السودان ملكاً للدولة. الأمر الثاني هو انهيار البيئة الطبيعية ليس فقط بسبب عوامل طبيعية (الجفاف)، وإنما أيضاً بسبب الاستغلال السئ من جانب البشر للموارد الطبيعية، خاصة الرعي الجائر والتطور غير المخطط في الزراعة الآلية المطرية. تعبير البشر هنا يشمل الدولة باعتبارها الفاعل الأساس في عملية الإنتاج؛ فالدولة هي التي تضع السياسات، وهي التي تمنح التراخيص، وهي التي تنظم وتضبط استخدام وسائل الإنتاج، وهي التي يُفترض أن ترعى حقوق المستضعفين. ويروي الدكتور محمد سليمان في مؤلفه القيم (السودان، حروب الموارد والهوية) أن مساحة الرقعة التي تتمتع بتراخيص الزراعة الآلية المطرية بلغت أكثر من 7 مليون هكتار (أكثر من 18 مليون فدان) وبهذا تجاوزت مناطق الزراعة التقليدية البالغة مساحتها 4 مليون هكتار (9 مليون فدان)، كما ذكر أن ثمانية ألف أسرة فقط (أغلب أفرادها من أصحاب التراخيص المتغيبين) تسيطر على الزراعة الآلية في حين يعتمد على الزراعة التقليدية أربعة ملاين من فقراء المزارعين. تلك كانت هي السياسة منذ عهد عبود، كما قلنا، واستمرت بعد سقوط نظامه في الديمقراطية الثانية، كما في عهد مايو بتمويل مكثف من البنك الدولي، بهدف التوسع في الإنتاج الزراعي. ذلك هدف مشروع شريطة أن تؤخذ في الاعتبار الآثار السلبية لذلك التوسع وكيف تُعالج. وفي تقرير أعدته منظمة الحقوق الأفريقية حول جبال النوبة (1995) ورد إحصاء مدهش حول توزيع مشروعات الزراعة الآلية في منطقة هبيلا. فمن بين مائتي مشروع لم يُحظ أهالي المنطقة إلا بأربع مشروعات مُنحت لتعاونيات زراعية ومشروع واحد لبعض التجار المحليين. جميع المشروعات الأخرى وزعت على مزارعين غائبين وكلهم من التجار والمتقاعدين من الموظفين وضباط الجيش الشماليين. حكومة ''الإنقاذ'' أكدت تلك السياسات التوسعية في استراتيجيتها الشاملة التي أُعلنت في مايو 1992 حين قررت زيادة مشروعات الزراعة الآلية ثلاثة أضعاف والمطرية عشرة أضعاف لأجل ''احياء الموات وعمارة الأرض''، هذا غرض نبيل، ولكن الدين الذي يحث على عمارة الأرض لا يُلغي حقوق العباد، بل يقول ان الأرض لا تُملك إلا بإرادة ظاهرة وأن والملكية حق واستخدامها رخصة. وان أدركنا أن أغلب مناطق الزراعة الآلية تقع في جبال النوبة (هبيلا)، أعالي النيل (القيقر)، النيل الأزرق (اقدي والقرابين)، شرق السودان (القضارف)، وان أغلب المنتفعين من المشروعات الزراعية، كما قلنا منذ هنيهة، هم المتقاعدون من رجال الخدمة العامة والجيش والتجار وكلهم من أهل الشمال النيلي، وان عائد الاستثمار في هذه المناطق يعود دوماً للخرطوم ليستثمر في الصناعات الناشئة والعقارات والإنفاق البذخي، تبينت لنا العلاقة العضوية بين الثروة والثورة، كما تبين لنا البون الشاسع بين المشاكل الحقيقية (التشخيص العملي للمشكلة) وبين الحلول المقترحة، جاءت تلك الحلول في الدساتير أو في السياسات والبرامج. ومن المؤسف أن أنظمة الحكم المتعاقبة بوصفاتها العلاجية المتنوعة بدءاً من الاشتراكية العلمية، إلى الاشتراكية العربية، فالاشتراكية المايوية ''النابعة من تراثنا''، ثم سياسات التحرر من الإمبريالية العالمية في عهد ابريل، وأخيراً سياسات عمارة الأرض لم تُعنَ حتى بتوفير المسكنات اللازمة كجزء من سياسة التوسع الزراعي، كما فعل الاستعمار. فلو فعلت ما فعله الاستعمار في مشروع الجزيرة لأسهمت في ترطيب الأجواء أو تهدئة الخواطر إلى حين. الاستعمار ابتدع طريقة لتوزيع عائد المشروع إلى ثلاثة أنصبة: نصيب للحكومة، ونصيب للمزارع، ونصيب للرعاية الاجتماعية للمنطقة. لو حدث هذا لما وقع الاختلال الذي تعانيه هذه المناطق حتى الآن في الخدمات الاجتماعية. فمثلاً، تشمل خدمات الصحة العامة 58% من سكان السودان منهم 87% في المراكز الحضرية و48% فقط في الريف، كما يبلغ عدد السكان الذين تتوفر لهم مياه الشرب الصالحة للبشر 67% من السكان منهم 86% في المدن و60% في الريف (إحصائيات البنك الدولي، 2000). أما الصراع على الموارد المنهارة فلعل أصدق مثال معاصر له هو دارفور حيث تحولت الحرب حول الموارد من نزاع منخفض الوتيرة Iow-intensity conflict حتى وان أسميناه نهباً مسلحاً ـ إلى تمرد عالي الوتيرة high-intensity rebellion، رغم كل ما قال به دستور 1998 في مادتة الحادية عشر، ورغم ما تمناه لها الدكتور غازي صلاح الدين إبان عمله بوازرة الخارجية: ''ستكون دارفور في القريب العاجل من أميز ولايات السودان مما يجعل خيراتها تقيض عليها وعلى الدول المجاورة'' (الإنقاذ الوطني 30/11/1992). تَناولُ بروتوكول اقتسام الثروة لقضية الأرض له، إذن، دواعيه. اتفق الطرفان أولاً على أن هناك قضية تستلزم العلاج، كان ذلك فيما يتعلق بحيازة الأرض أو الثروات التي في باطنها، وعلى العمل لإيجاد حل حاسم لها. كما اتفقا على أن تُمارس ضوابط الانتفاع والاستخدام للأراضي على مستويات الحكم المختلفة. وكخطوة أولى قررا إنشاء هيئة قومية مستقلة للأراضي، وأخرى للجنوب تكون سلطاتهما متطابقة على أن يتعاونا مع بعضهما في أداء الواجبات الملقاة عليهما، وينسقا فيما بينهما. كما ستقوم في الولايات لجان للأراضي تحت إشراف الهيئة القومية مما يضمن مراعاة مصالح أهل الولايات عند تخصيص الأرض للاستغلال. وسيعمل الطرفان على إعادة النظر في كل قوانين الأراضي تدريجياً بما يضمن مراعاة الأعراف والممارسات والمواريث المحلية والتجارب الدولية. وكُلفت الهيئة بالتحكيم في قضايا الأراضي دون إخلال بسلطات القضاء، وضماناً لاستغلالها كما تقرر وضع الهيئة تحت الإشراف المباشر لرئيس الدولة. ومن بين واجبات الهيئة إسداء النصح لمستويات الحكم المختلفة حول إصلاح الأراضي، التعويضات، تنسيق السياسات المتعلقة باستخدام واستغلال الأراضي، تسجيل الممارسات المتبعة في استغلال الموارد الطبيعية. ووُجهت الهيئتان لاستخدام مواردهما وخبراتهما بكفاءة، خاصة فيما يتعلق بالبحوث والمعلومات والإجراءات. وفي حالة أي نزاع بين الهيئتين يحال الأمر للمحكمة الدستورية. وحول الثروات في باطن الأرض اتفق الطرفان على أن يكون استخدام الموارد غير المتجددة (أي التي ستنضب نتيجة لاستغلالها مثل المحروقات الحجرية fossil fuels) للمصلحة العامة والخير العام، ولمصلحة المنطقة التي تنتج فيها مع مراعاة حماية البيئة، وصيانة التراث، والحفاظ على التنوع البيئي (biological diversity). وبالإضافة لحماية البيئة المحلية، الطبيعية والاجتماعية، أولى الطرفان اهتماًما للبيئة الخارجية واتفقا على توفير المناخ السياسي المناسب لضمان تدفق الاستثمارات المالية المباشرة عبر تقليص المخاوف التي قد ترتبط في الأذهان بالنتائج المترتبة على ممارسة حق تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية حتى يتوفر الاستقرار المرغوب في قطاع النفط. تَم الاتفاقُ أيضاً على إشراك أهل المناطق التي يُنتج فيها النفط، عبر حكوماتهم، في أي مفاوضات تتم بشأن النفط المستخرج من المنطقة، وتعويضهم على أية خسائر تلحق بهم بسبب إتاحة. تقرر أيضاً إنشاء هيئة قومية للبترول يرأسها رئيس الدولة ونائبه الأول رئاسة مشتركة وتضم كأعضاء دائمين أربعة ممثلين للحكومة القومية، وأربعة لحكومة الجنوب كما تضم كأعضاء غير دائمين ما لا يقل عن ثلاثة ممثلين للمناطق التي ينتح فيها البترول. ويضمن البروتوكول لممثلي تلك المناطق الحق في الاعتراض على أي عقد يتعلق بإنتاج النفط في مناطقهم إن لمسوا فيه إضراراً بمصالحهم. وفي حالة الاختلاف بين أهل المنطقة المعينة وهيئة البترول حول العقد المقترح يحال الأمر إلى مجلس الولايات فإن رفض المجلس اعتراض أهل المنطقة يتم توقيع العقد، وان أيده بأغلبية الثلثين يحال الأمر إلى لجنة تحكيم يكون قراراها نهائياً. وبوجه عام، أوكل البروتوكول للهيئة القومية للبترول وضع الاستراتيجيات والسياسات لتطوير وإدارة قطاع البترول، ومراقبة تنفيذ سياسات القطاع. في ذات الوقت اتفق الطرفان على إتاحة الفرصة لمجموعة صغيرة تحددها الحركة لمراجعة العقود القائمة، ودون إعادة النظر في تلك العقود، تُقرر اللجنة عما إذا كانت تلك العقود قد ألحقت أضراراً اجتماعية أو بيئية بالمجموعات المعنية، وتحدد طبيعة وحجم هذه الأضرار بهدف معالجتها من جانب طرفي العقد. بيد أن من أهم ما أورده البروتوكول حول النفط بنوداً ثلاثة: الأول يتعلق بإنشاء حساب خاص لتركيز صافي عوائد البترول لحماية الدخل العام من التقلبات العالمية في أسعار النفط على أساس سعر قياسي متفق عليه يحدد سنوياً. والثاني يتعلق بإنشاء صندوق للأجيال القادمة متى ما بلغ إنتاج البترول السوداني 2 مليون برميلاً في اليوم، وقد يخفض هذا الحجم إلى مليون برميل في اليوم. الثالث هو أن تُضَمن جميع الحسابات المتعلقة بالبترول في الموازنة العامة، لا سيما وقد دار لغط كبير، خاصة في صفوف المعارضين، حول عدم إدراج عوائد بعض الموارد في الميزانية العامة. ومن بين القضايا التي أثارت جدلاً كبيراً تخصيص 50% من صافي إيرادات النفط للجنوب. هذا النص يتعلق أولاً بالبترول المُنتج في الجنوب، وكان من رأي الحركة أن يتوصل الطرفان لاتفاق يتم بموجبه توزيع نسب معينة من صافي إيرادات البترول السوداني الذي ينتج في الشمال والجنوب معاً على كل ولايات القطر وأقاليمه حسب احتياجاتها الخدمية والتنموية، مع الإبقاء على نسبة معينة للحكومة القومية لمجابهة واجباتها الإدارية والأعباء التنموية والخدمية الموكلة لها عبر القطر. هذا الاقتراح لم يجد قبولاً من جانب الطرف الحكومي المفاوض. ثانياً بروتوكول نايفاشا ليس هو الاتفاق الأول الذي تعهدت فيه الحكومة باقتسام بترول الجنوب مع طرف جنوبي، ففي اتفاقية الخرطوم 21/4/1997 (اتفاقية السلام من الداخل) وافقت الحكومة على تخصيص 75% من عائد بترول الجنوب للجنوب. ونذكر أن تلك النسبة (75%) هي النسبة التي اقترحتها ابتداءً الحركة كنصيب للجنوب، ومن الواضح أن ذلك الرقم لم يجئ من فراغ. ثمة احتمالان، إما أن الذين يدقون الطبول اليوم من بين أنصار النظام ضد من وصفوهم بـ ''المتنازلين'' لا يستذكرون ما جاء في اتفاقية الخرطوم، ولهذا من حقهم علينا أن نُذَكرهم به، وإما أنهم يعرفون أن اتفاق السلام من الداخل كان وعداً كاذباً، أي أنه كان إعادة تدوير لكل وعود الشماليين للجنوب منذ ديسمبر .1955 وإن كان ذلك هو الحال فيجب أن لا يُدهش أحد لإصرار الحركة ـ في هذا الشأن وفي غيره ـ على أن لا تترك أي شئ للفرص. فعلى سبيل المثال تقول المبادئ الهادية لبروتوكول اقتسام السلطة أن من أهم واجبات الحكومة القومية في الفترة الانتقالية (ونكرر أن توزيع هذه الأنصبة يتعلق بالفترة الانتقالية لتحقيق أهداف معينة) الارتقاء بمستوى الجنوب للمستوى الذي عليه ولايات الشمال، وتعترف تلك المبادئ أن هذا يتطلب جهداً ومالاً، فمن أين سيجيء المال إن لم يكن من المورد الوحيد المضمون؟ وليس صحيحاً البتة ما أورد د. فاروق كدوده في منتدى الأضواء (الأضواء 27/12/2003) أن المتفاوضين استهديا في توزيع النسب بالتجربة النيجيرية لأن نيجيريا لا توزع بترولها على هذا الوجه. نيجيريا هي التي ستستهدي بتجربة السودان إذ طلب الرئيس النيجيري، بعد إطلاعه على البروتوكول، من أحد مبعوثي الحركة إليه (دينق الور) أن يسلم نسخة من البروتوكول لوزيرة ماليته ويوجه انتباهها، بوجه خاص، للنص حول ميزانية الأجيال القادمة، وحول إشراك الولايات في التفاوض حول عقود الإنتاج. زأمر آخر لا يقل في أهميته عن تحديد الأنصبة من عائد البترول للولايات المنتجة هو النص على التكافؤ في توزيع العائدات القومية كلها وليس البترول وحده. ذلك النص يقضي أن تودع جميع العائدات القومية (بما فيها إيرادات البترول) في صندوق خاص يسمى صندوق العائدات القومية (National Revenue Fund) تديره الخزانة ويتضمن كل الحسابات والمودعات على أن يُشهر في الميزانية العامة المعلنة. وينص البروتوكول على إنشاء لجنة مسئولة عن تحديد وتوزيع المخصصات المالية ومراقبتها، وذلك، كما يقول النص، ''لضمان الشفافية والعدالة فيما يتعلق بتخصيص هذه الموارد لمستويات الحكم المختلفة''. وقضية التكافؤ أو الموازنة أمر ضَمنته بعض الدول في مواثيق الحقوق مثل ميثاق الحقوق والحريات الكندي الذي أصبح جزءً من الدستور في العام .1982 فالباب الثالث من ذلك الميثاق يشير إلى الموازنة أو التكافؤ والتباينات الإقليمية (يEqualization and Regional Disparities). في ذلك الباب يُلزم الدستور البرلمان والحكومة الكندية وحكومات الولايات بتوفير الفرص المتكافئة لكل كندي لتحقيق الرفاهية، والتنمية الاقتصادية بهدف تقليص التباينات، وتوفير الخدمات الاجتماعية بمستوى معقول لكل مواطن. كما يلزم البرلمان والحكومة الكندية بتوفير الاعتمادات اللازمة لتحقيق هذه الأهداف. أنشأ بروتوكول نيفاشا، إلى جانب ذلك، لجنة لمراقبة وتحديد المخصصات المالية ''Fiscal and Financial Allocation and Monitoring Commission تتكون من ثلاثة ممثلين للحكومة القومية، وثلاثة لحكومة الجنوب، وجميع وزراء مالية الولايات. قيام هذه اللجنة سينهي هيمنة الترسانات المسلحة بالخرطوم على المال وسيُمكن ولايات السودان كلها (وليس الجنوب فقط) من أن يكون لها رأي في كيف تُنفق أموال السودان التي نعرف جميعاً أن مصدرها ليس هو شارع النيل بالخرطوم، بل ـ قبل أن يكون للجنوب بترول ـ مصدرها هو قطن الجزيرة، وسكر كنانة، وصمغ كردفان، وماشية دارفور، وسمسم القضارف الذي كثيراً ما نظمنا فيه الأغاني. أو يدخل هدم هذه الهيمنة الاقتصادية المركزية في باب ما أسماه الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر الهدم الخلاق constructive destruction؟ أما وقد وصلنا إلى الذي انتهى إليه بروتوكول نيفاشا من ثورة حقيقية في الاقتصاد السوداني، ليس فقط في وضع المؤشرات والمبادئ الموجهة للاقتصاد، وتحديد أولويات الإنفاق في الفترة الانتقالية، بل أيضاً في خلق الأُطر لإعادة توزيع الثروة ووضع القوانين التي تضبط ذلك، نعجز حقيقة عن إدراك ما ذهب إليه المحلل المدقق د. حيدر إبراهيم علي عندما كتب لمجلة المصور (18/6/2004) يقول ''الحركة الشعبية ذات الخلفية الماركسية كان من المتوقع أن تتقدم للمفاوضات بخريطة سلام وتنمية مستقلة عادلة لكل الوطن وليس كشف مطالب ملئ بالإحصائيات والنسب وان تتحدث عن إنتاج وتنمية وزيادة الثروة وليس عن كيفية تقسيمها فقط. وأخشى أن تكون الحركة الشعبية قد اختزلت نفسها في حركة أثنية أو جهوية أصبحت تحكمها الجغرافيا والعرق وليس السياسة والفكر في مستواها القومي''. نخشى أن يكون المحلل السياسي والاجتماعي ظلم نفسه وظلم القارئ ثم ظلم الحركة. الموضوع الذي يحلله الكاتب اتفاق بين طرفين لم يجلسا لوضع خطة لتنمية السودان وإنما لتحقيق السلام في السودان بمعالجة الجذور التي قادت للحرب. واتفق الطرفان منذ مشاكوس على تسمية الجذور السياسية والاقتصادية للحرب ومنها التهميش الاقتصادي، كما اتفقا على أن العلاج هو التمكين، ويتطلب تحقيقه شيئين، الأول تحديد أبعاد التهميش والتوافق على طرائق الخروج منه وهذا ما فعلته المبادئ. والثاني هو تحديد الموارد المتوفرة والإجراءات اللازمة للعبور من التهميش إلى التمكين وهذا ما فعله البروتوكول. وظلم الكاتب القارئ عندما صور له أن كل الذي جاء به الاتفاق هو إحصائيات، نعم الإحصائيات كانت هناك، وهي ضرورية في الشأن الاقتصادي لأن الاقتصاد علم عدد وأرقام. على أن الذي فصلناه في هذا المقال عما جاء به البروتوكول يزيل أي لُبس حول طبيعته الإحصائية المفترضة. أما ظلم الحركة فهو في وصفها باختزال نفسها في ''حركة أثنية أو جهوية تحكمها الجغرافيا والعِرق''. ولعل المعنى بالأثنية هنا هو عناية الحركة، بوجه خاص، بالجنوب وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق. هذه هي المناطق التي ظلت تجري فيها الحرب الساخنة وما انعقدت المفاوضات إلا لإيقاف تلك الحرب. ثم ما الذي يعنيه تعبير ''المستوى القومي'' إن كان سكان هذه المناطق الذين يبلغ عددهم ما يزيد عن الإثني عشر مليوناً من البشر، أي ما يقارب نصف سكان السودان، وتبلغ مساحة الأرض التي يحتلونها مليون كيلومتر مربع أي ما يزيد عن ثلث مساحة السودان هم شيء أدنى من قومي. القضية ليست قضية سيمانطيقية بل أهم من ذلك، ترى لو كان هذا الحل يتعلق بمشاكل نظيرة تدور في محافظات النيل الأبيض وسنار والجزيرة، أسنصف الحل بالحل الإثني؟ على كل، اتهام الحركة بتقاصر النظرة القومية اتهام يفتقد الإنصاف. فالحركة ظلت تلهث منذ مشاكوس وراء تبني إعلان حقوق Bill of Rights لكل السودان، وتدعو لتحول ديمقراطي لا يقتصر فيضه على الأثنيات التي تعنيها، وتطالب بحق كل الولايات في السيطرة على مواردها المالية وتفلح في ذلك، وتعمل على تمكين الولايات في جميع السودان من القدرة على كبح جماح سيطرة المركز عليها (مجلس الولايات)، وتدعو لإنشاء صندوق من عوائد النفط لمصلحة الأجيال السودانية القادمة، وتوصل لاتفاق حول معالجة قضية الأرض في السودان كله. هذا الإنجاز لم يكن نتيجة جهد رجل أو رجلين، أو وفد أو وفدين، بل أسهم فيه عدد من السودانيين العاملين في حقل الاقتصاد من أبناء هذا الوطن، جنوبيين وشماليين، ومن حقنا عليهم تقدير ما أنجزوه. نظرة الحركة القومية ربما تجافت، ولا نقول تقاصرت عن السقوف التي كنا نضعها للحلول ''القومية'' في الزمن الغابر. تلك سقوف تقاصرت عن معالجة مشاكل الأرض، وعن التوزيع المتكافئ للموارد على الولايات وليس فقط على مجموعات ''أثنية'' بعينها، وعن الضمان الدستوري لحق الولايات في الحصول على، والتصرف في، تلك الموارد، وعن اعتبار قضايا الحكم الصالح (الشفافية والمحاسبة) والحفاظ على البيئة الطبيعية جزءاً لا يتجزأ من خطط التنمية وتضمينها كمبادئ دستورية. أما الحديث عن الخلفية الماركسية فلا مكان له من الإعراب، وهو أمر سبق الدكتور حيدر للإشارة إليه آخرون. مثال ذلك السيد الصادق المهدي عندما تحدث عن ''قرنق واشتراكيته العلمية ذات الأصل الزنجي''. نستذكر ذلك الحديث فقط لنستعيد رد زعيم الحركة عليه. قال قرنق: ''أنا لا أعرف ما تعنيه الاشتراكية للبعض. أما الرأسمالية التي درستها لمدة تسع سنوات، ما زلت حتى الآن أجهل كنهها. وعندما نجعل من الاشتراكية اشتراكية علمية زنجية يصبح الأمر أكثر تعقيداً. ثم ما هو الأصل العربي، والأصل الزنجي؟ نحن خليط بديع. دعنا نجعل من هذا الكوكتيل بلداً قوياً. أما بالنسبة للاشتراكية أو الشيوعية أو أمثالها من الإيات ،isms أقول إن المرء لا يستطيع أن يكون شيوعياً أو رأسمالياً دون أن يكون موجوداً في الأصل. فعلينا إذن أن نكون سودانيين وأن نؤسس سوداناً جديداً. نقطة انطلاقنا، إذن، هي السودانوية، لا الرأسمالية، أو الاشتراكية أو أي شيء من هذا القبيل''. هذا ما قاله الرجل عن نفسه وعن الحركة التي يقودها دون أي إيحاء من جانبه أن في الانتماء للماركسية ما تلزم منه سُبة. وعلى كل فإن صاحب ''الخلفية الماركسية'' هذا يعرف بضع حقائق لأنها في علم الكافة. يعرف، مثلاً، أن الاستعمار الكوكلي cocacolanization ـ نسبة إلى كوكاكولا ـ قد غزا كل الدول التي اقيمت على هدى مبادئ ماركس بما فيها الاتحاد السوفيتي. ويعرف أن ليونيد بريزنيف لم يعد هو سيد الكرملين. لهذا، فإن تذكرته ''بخلفيته الماركسية'' في معرض الحديث عن مشروعه الافتراضي لتنمية السودان يصبح أكثر غرابة من تذكرة بوريس يلتسن عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي، أو فيلاديمير بوتين الذي نشأ وترعرع في الــــكرملين (كان والده كبيراً للطهاة في عهد ستالين) بماركسيتهما التي نسياها عند وضع الخطة الاقتصادية الروسية الراهنة. بروتوكولات نيفاشا لم تخترع العجلة من جديد، ولكن الجديد الذي فعلته هو أنها حققت التحول الضروري في النموذج المثال Paradigm Shift، كان ذلك على صعيد الإدارة والسياسة، أو الاقتصاد. وبدون ذلك التحول في الاقتصاد على وجه الخصوص يصبح الحديث عن التنمية المتوازنة حرثاً في البحر. هذا إنجاز ليس باليسير بل هو رؤية جديدة، وبدون الرؤية تصبح الخطط الاقتصادية خبط عشواء. على أن تحديد الموجهات، وخلق الأطر التنظيمية، بل وضع القوانين (باعتبار أن كل هذه الاتفاقيات ستصبح دستوراً حاكماً في الفترة الانتقالية) لا يغني عن بلورة خطة متكاملة للإصلاح الاقتصادي يتفق عليها الجميع حتى تصبح عقداً اجتماعياً أو برنامجاً وطنياً متفقاً عليه. فلئن كان الهدف الأساس للتنمية هو القضاء على الفقر، فذلك لا يتحقق بتخصيص أموال للفقراء أو للمناطق التي تعاني من الفقر أكثر من غيرها، وإنما عبر تحولات كلية تشمل التعليم والصحة وتوفير فرص العمل المنتج للفقراء بما يتناسب وقدراتهم وبما يعين على زيادة الأصول الإنتاجية المتوفرة لهم. وعلى المستوى القومي لن يتحقق الهدف المرغوب إلا بتنمية وتطوير رأس المال البشري ومضاعفة المدخرات الوطنية وتوجيه السائل منها نحو الإنتاج وتطوير المهارات العالية والبحوث العلمية. هذه كلها أمور لم تَغِب عن إدراك المتفاوضين ولهذا اتفقا على تكوين فريق مشترك لتقويم الاحتياجات للفترة الانتقالية.Joint Assessment Mission وسيركز الفريق اهتمامه في ثمانية موضوعات هي الإصلاح المؤسسي وتأهيل الكوادر، السياسات الاقتصادية وإدارة الاقتصاد، القطاعات الإنتاجية، الخدمات الاجتماعية الضرورية، الحكم وسيادة حكم القانون، المعيشة والحماية الاجتماعية (للمجموعات الأكثر تأثراً بالآثار السلبية للسياسات الاقتصادية)، البنيات التحتية، المعلوماتية والإحصاء. كما سيضم الفريق خبراء سودانيين لمعالجة قضايا نوعية مثل قضايا المرأة، الاحتياجات العاجلة (البرامج الاسعافية)، الأمن وصيانة القانون. وبالرغم من أن هذه الدراسات ستتم بدعم من البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية إلا أن قائدي فريق الاستطلاع سودانيان يلمان بطبيعة المشكل السوداني وبدروب المنظمات الدولية المتعرجة: الدكتور إبراهيم البدوي والدكتور يونقو بوري. نتائج هذه الدراسات ستكون هي الأساس الذي تحدد على ضوئه نوعية وحجم المعونات الخارجية لبرنامج الإصلاح السوداني، ولكن قبل أن يحدث هذا ينبغي أن يكون للاقتصاديين السودانيين وللقوى السودانية المختلفة دور في تشكيل الرؤية الوطنية ابتناء على المعطيات الموضوعية وبعد التخفف من الأحمال الأيديولوجية. في خطابه عند التوقيع على إعلان نيروبي دعا قائد الحركة إلى عقد اجتماعي قال عنه: ''اقترحنا وضع عقد اجتماعي جديد ينعقد عليه وفاق شامل، ويكون ملتزماً باتفاقيات السلام، كما يوضح بجلاء محددات الحكم الصالح، وأهداف التنمية الاجتماعية والاقتصادية خلال الفترة الانتقالية. يتضمن العقد أيضاً التزاماً أخلاقياً ببعض القيم التي لا يستقيم الحكم دون الالتزام بها واقترح في سبيل هذا وضع مدونة سلوك تضبط عمل اللاعبين السياسيين''. يقف المرء عند الإشارة الأخيرة في خطاب قائد الحركة لأن نجاح التحول الديمقراطي والإصلاح الاقتصادي يتطلب منظومة جديدة للسلوك على مستوى القيادات، السياسي منها والمهني. ولعل ترداد تعبيرات مثل المحاسبة والشفافية في أكثر من موقع في بروتوكولي اقتسام السلطة والثروة يعني اقتناع الطرفين بالحاجة إلى قواعد ومدونات سلوك تضبط الرجل العام وتحمي من، أو تحول دون، الفساد. العجز عن إيلاء هذا الموضوع ما هو قمين به من اهتمام سيجعل كل جهودنا تذهب هدراً. بيد أن الفساد حيوان أخطبوطي يعسر اجتثاثه بالقانون وحده. فالفساد قد ينجم على المستويات الدنيا من الفقر والحاجة، وفي هذه الحالة ليس هو فقط تعبيراً عن نقص في النفس البشرية، وإنما يتحول إلى آلية لإعادة توزيع الثروة خاصة بالنسبة للموظف الذي لا يعرف كيف يوائم بين دخله وإنفاقه. هذا بالضرورة يعني أن يذهب الإصلاح الاقتصادي إلى توفير الأجر المجزي للعامل بالقدر الذي يمكنه من العيش الكريمliving wage ويمنعه من الولوغ في الفساد. أما في المستويات العليا فالفساد نتاج طبيعي لعوامل عديدة منها المحاباة أو الرعاية السياسية political patronage، وعدم احترام القانون (التدخل السياسي غير المشروع في اتخاذ القرارات الإدارية). وانعدام الشفافية في اتخاذ القرارات المالية (وهذا هو الجانب الذي أولاه بروتوكول اقتسام الثروة اهتماماً خاصاً). في الجانب الآخر خلقت بعض السياسات الاقتصادية في السودان (كما في غيره من الدول) بيئة مناسبة لنمو الفساد، مثال ذلك انهماك الدولة في ميادين الإنتاج والتوزيع وتنظيمregulation المناشط الاقتصادية، مثل تراخيص التجارة أو تلك التي ينبغي خضوعها لأحكام السوق مثل ضبط الأسعار. هذه مغريات تقلصت بزوال أسبابها: هيمنة القطاع العام على الاقتصاد. هناك بلا شك ضرورة لوضع مدونات لسلوك الشخص العام بدءاً من الوزراء والوكلاء (إقرارات الذمة) إلى صغار الموظفين، ولمراجعة كاملة للقوانين التي تحكم استخدام الموارد العامة، والأنظمة المحاسبية، وقواعد الإمداد والتدبير supply and procurement، وضوابط التعيين والترقي. بل ونذهب للدعوة لخلق مركز على المستوى القومي ومستوى الولايات للإشراف على الاستقامة في العمل العامIntegrity Centre كما ذهبت لذلك بعض الدول. ولا يكتمل أداء هذا الواجب إلا بأن تقوم منظمات للمجتمع المدني ذوات أنياب، ولن تكون لها أنياب إن لم تبدأ بضبط نفسها. من ذلك أن تجعل تلك المنظمات على رأس واجباتها وضع، والالتزام بقواعد تضبط أخلاقيات المهن المختلفة. كما للصحافة دور كبير متى ما حددت لنفسها، هي الأخرى، ضوابط مهنية تحول دون انحدارها إلى أدوات للتشهير أو إرضاء شهوات نوع من القراء الذين لا يستطعم غير الغوص في أسرار الناس الشخصية. هذه مقدمة ضرورية كيما نؤكد ليس فقط أهمية حرية الصحافة، فهذا أمر نص عليه بروتوكول اقتسام السلطة، وإنما أيضاً لندعو لحقها الكامل والمشروع في حرية الحصول على المعلومات. فالصحافة هي الأقدر، من بين كل مؤسسات المجتمع المدني، على الكشف عن مواطن الفساد. في أكثر من موقع أشار البروتوكول لحماية البيئة الطبيعية وَوَجه بحسن استغلالها، تلك إشارات لابد أن تجد طريقها ليس فقط إلى القوانين، بل والى الدستور أيضاً. ومن المؤسف إغفال الدساتير السودانية، خاصة تلك التي صدرت بعد منتصف السبعينات عند ما أصبحت حماية البيئة شرط وجوب لاستدامة التنمية، لأي نص حول حماية البيئة. ذلك أمر معيب، لاسيما وفي بعض ما قدمنا في هذا المقال ما يكشف عن الإضرار الفادحة التي لحقت بالاقتصاد الوطني وبالمواطن بسبب استباحة البيئة الطبيعية. الاستثناء الوحيد هو دستور 1998 الذي أورد في المادة 13 تحت عنوان ''الصحة العامة والرياضة والبيئة'' ما يلي: ''تعمل الدولة على ترقية صحة المجتمع ورعاية الرياضة وعلى حماية البيئة وطُهرها وتوازنها الطبيعي تحقيقاً للسلامة والتنمية المستدامة لصالح الأجيال''. بيد أن قضية البيئة تستوجب اهتماماً أكثر دقة وتحديداً بحيث تفرض واجبات معينة على الدولة ومسئوليات واضحة على المواطن. وهناك قرابة الخمسين دستوراً في عالم اليوم تلزم الدولة بواجبات محددة، كما تفرض على المواطنين مسئوليات واضحة نحو حماية البيئة الطبيعية. ومن هذه الدساتير ما ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك مثل الدستور الإيراني الذي تُحرم المادة الخمسون منه أي نشاط اقتصادي يضر بالبيئة الطبيعية. حماية البيئة أيضاً تبدأ من المدرسة، فتلك هي المرحلة التي تُغرس فيها المعاني في الوعي، ولهذا يتوجب أن يكون تطوير التعليم البيئي جزءاً لا يتجزأ من تطوير مناهج التعليم. في مطلع هذا المقال اشرنا إلى غلبة الأيديولوجية على الخطاب الاقتصادي منذ الستينات بل استمرارها حتى انتفاضة ابريل 1985، يتمنى المرء، بعد كل التجارب المريرة التي عبرناها، أن يستقر بنا الرأي على أن الخيار الاستراتيجي الوحيد للسودان هو التنمية الشاملة، وهذا خيار ينطلق من فرضيات الواقع ولا ينبثق من أية حتميات أيديولوجية أو يمكن مخاطبته عبر الواحديات العقائدية. هو أيضاً الخيار الوحيد الذي سيجعل الغد خيراً من اليوم. وإن كنا حقاً صادقين في إجماعنا على انتهاج طريق الاقتصاد الحر، علينا أن ندرك أن ذلك منهج له قواعده وشرائطه، كما فيه مزالق ومطبات. هو منهج لا يعرف نصف الحِمل، ولا يقبل الخنثوية الاقتصادية الكامنة في نظريات مثل ''اتاحة الفرصة للرأسمالية الوطنية التي يقودها القطاع العام'' (مايو السبعينات والثمانينات)، أو تلك التي يعبر عنها أدب انتفاضة ابريل (السوق الحر مع محاربة الإمبريالية العالمية). ولكن، مما لا شك فيه أن فتح الباب على مصراعيه لأيدي السوق الخفية ستترتب عليه أعباء قد تجهض كل سياساتنا من أجل تحقيق أهدافنا المرحلية مثل القضاء على الفقر، أو على وجه الدقة الحد من معدلاته. مثال ذلك الآثار الاجتماعية الضارة التي ستنجم عن الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد، أو تلك التي تتبع الانصهار في السوق العالمي المتوحش، وما توحشه إلا بسبب القوانين المجحفة لمنظمة التجارة العالمية، ولما أسمى اتفاق واشنطون Washington Consensus، ذلك الاتفاق المُقتَسر يفرض على الدول النامية تحرير السوق، وخفض الحواجز الجمركية، وتحرير سعر العملة، والتغييرات الهيكلية في الاقتصاد، والخصخصة، دون أن يوفر للشرائح الاجتماعية غير المحصنة في هذه الدول الحماية اللازمة ضد النتائج السلبية المترتبة على تلك الضوابط. هذه مشكلة حقيقية تستوجب العلاج إلا أن علاجها لن يكون بتسريب الأفكار الأيديولوجية المُعلبة. فالإصلاحات الهيكلية للاقتصاد دواء ضروري رغم مرارته، والانصهار في السوق العالمي مصير محتوم، لا سيما ونحن نعرف أن لا طريق للسودان لبلوغ الكتلة الحرجة التي تمكنه من الانطلاق الاقتصادي مالم يعالج مشكلة ديونه الخارجية التي تزيد في جملتها عن حجم الناتج القومي الإجمالي. كل هذا يتطلب أسلوباً للتعامل مع الخارج يختلف عن ذلك الذي لا يحقق غير إرضاء الخيلاء الفكرية لأرباب العقائد، فالعولمة وتوابعها ظواهر مركبة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية تقتضي المخاطبة لا السباب أو الإدانات الشعاراتية. ولعله من حسن الطالع أن البنك الدولي (وهو مؤسسة قل أن تعتذر عن خطأ) أقر في تقريره الأخير للتنمية (2004) أن الخصخصة ليست هي السبيل الوحيد (ليت التقرير لم يضف كلمة الوحيد) لتقديم الخدمات الأساسية للفقراء مثل الصحة والتعليم. لهذا فإن كان هناك من يتظنى أن في مقدور الدولة أن ترفع يدها عن هذه المناشط آملة في أن تجد أيادي السوق الخفية علاجاً لها، فهاهو شاهد من أهلها يقول غير ذلك. فالتعليم والصحة واجبات لا تستطيع الدولة أن تستقيل عن أدائها لأنهما الأساس لتطوير قدرات الإنسان الإنتاجية والإبداعية، والإنسان هو رأس المال الحقيقي، وهو ركيزة التنمية. . نحن أيضاً لا يمكن أن نكون بمعزل عن الأسواق التجارية الخارجية، أو بمعزل عن أسواق رأس المال، أو بمعزل عن شركات الاستثمار. ولكن، من حسن الطالع أننا اليوم جزء من منظومات دولية عديدة لها منابر متعددة للدفاع عن مصالحنا. فهناك مجموعة السبعة وسبعين في الأمم المتحدة التي ما فتئت تلعب دوراً مهماً في بلورة مواقف الدول النامية بشأن الديون والتجارة، والتكتلات الاقتصادية مثل الاتحاد الأفريقي والذي أصبح له برنامجه التنموي القاري واستراتجياته للتعاون مع الخارج مثل نيباد New Partnership for African Development، أو مجموعة دول عدم الانحياز بعد أن أعلت القضايا الاقتصادية على القضايا السياسية في برامجها (قمة كوالالمبور فبراير، 2003). وفي مجموعها تقود هذه التنظيمات حوار الجنوب ـ الجنوب الكوني للدفاع عن، وحماية مصالح، المستضعفين. وبصورة أشد حدة برز المنتدى الاجتماعي العالمي البديل (منتدى بورتو اليقري بالبرازيل) كمعادل موضوعي لمنتدى الأغنياء في دافوس (سويسرا)، وأفلح في تعبئة عدد كبير من التنظيمات الغربية التي تعارض الوجه القبيح للعولمة، أو الجانب المتوحش من الرأسمالية مثل منظمات حقوق الإنسان، رعاية البيئة، أو تلك المهتمة بالقضايا النوعية مثل محاربة الإيدز، استغلال الأطفال، الدفاع عن حقوق المرأة العاملة. هذه التنظيمات قامت بتشبيك networking جهودها تحت مظلة تنظيم لإسمه دلالات لا تخفى على لبيب: ''عالمنا ليس للبيع''. هذا التحالف العالمثالثي لم يعد وقفاً على الدول النامية وقياداتها إذ انضم إليه أيضاً الخيرون من الدول الصناعية، ومنهم من يُدهش المرء لانحيازه إلى الساخطين على الوجه المتوحش للعولمة. مثال ذلك جوزيف ستيقليتز، استاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا والحائز على جائزة نوبل قبل بضعة أعوام، فكتابه ''العولمة والساخطون عليها'' صار انجيلاً لخصوم العولمة. مصدر الدهشة أن ستيقليتز عمل أولاً كمستشار اقتصادي للرئيس كلينتون، ثم كبيراً للاقتصاديين بالبنك الدولي. دال الجنوب، على أية حال، ليست بالضعف الذي نتخيله، ولا يحملنا على استضعاف أنفسنا غير الهوان الذي عليه الدول العربية والأفريقية. فمن بين دول الجنوب الفاعلة ثلاثة ستخترق الحاجز الصوتي للتنمية لتتصدر قائمة أغنى دول العالم حسب تقرير للمصرفيين الاستثماريين قولدمان ساكس صدر في مطلع هذا العام. يقول التقرير إن البرازيل، روسيا، الهند، الصين، أسُميت دولBRIC اختصاراً للحرف الأول من اسم كل دولة) ستحتل مواقع متقدمة في سلم النمو الاقتصادي العالمي بحيث تصبح الصين أغنى دول العالم في العام 2050 وستليها الولايات المتحدة ثم تجئ الهند من بعد، فاليابان، والبرازيل، وروسيا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وايطاليا. ففي حين ستسبق الصين أمريكا في حجم ناتجها القومي الإجمالي، تسبق الهند اليابان وبريطانيا وألمانيا وفرنسا كما ستسبقهم أيضاً البرازيل. صحيح أن ارتفاع الناتج القومي الإجمالي لا يعني أن مستوى دخل أو معيشة الفرد في هذه الدول سيكون بمستوى ذلك الذي ينعم به الفرد حتى في الدول التي ستسبقها. فرغم أن الهند ستتجاوز بريطانيا في حجم ناتجها القومي الإجمالي في العام 2050 إلا أن مستوى دخل وحياة الفرد الهندي لن يكون حينذاك أكثر مما عليه مستوى الفرد في البرتغال اليوم. مع ذلك فإن هذه الدول ستصبح أرقاماً يحسب حسابها ولا يمكن تجاوزها ولهذا اسماهم التقرير العمالقة الجدد. ومن حسن الطالع أن اثنين من هذه الدول، ومعهما ماليزيا التي تلعب هي الأخرى دوراً قيادياً في دول الجنوب الكوني، أصبحت شريكة للسودان في التنمية بحكم دورها في إنتاج وصناعة البترول. تلك العلائق ينبغي أن تتوثق ليس فقط دعماً للمصالح المشتركة، وإنما أيضاً لبلورة المواقف على صعيد التعاون الدولي. السودان مساحة هو الدولة التاسعة في العالم (يجئ بعد، على التوالي: روسيا، كندا، الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، البرازيل، استراليا، الهند، الأرجنتين، كزاكستان). وإن تركنا لحالها الدول العظمى في هذه المجموعة، فما الذي يحول بينا وبين أن نكون كالهند والبرازيل والأرجنتين. الهند كاد أن يحكم عليها بالإعدام الاقتصادي المعروف قونار ميردال في الستينات فأين هي الآن؟ والأرجنتين والبرازيل عانيا من الفقر بقدر ما عانينا، ومن الدكتاتوريات بأكثر مما عانينا، كما ليس لهما من الموارد نسبياً أكثر مما نملك. وقد جاء إنقاذ الأخيرة (البرازيل) على يد رئيسها الحالي لويس إناســــيو لولا داسيلفا وهو عامل نقابي بدأ حيـــاته كماسح أحذية في سان باولو، لمـاذا يفلحـــون؟ ولمـاذا نفــشل؟ يفلحون لأنــهم معــنيون بـ ''صُغريـــات'' الأمور: تشـــييد البنــى التحــتية، تعـليم المواطــن وصحــته وتطــوير قدراته الإنـــتاجية، تقليص الفجوة المعــرفية، الأمــن الغـــذائي. أما نحن فمـــهمومون بالغايات الكبرى، بل بالكلام الكبير: توحيد الأمة العربية، القضاء على الإمبريالية، إعادة صياغة الإنسان السوداني. ''خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود''. أما وقد توفرت لنا الآن رؤية جديدة لبناء السودان، وعزم على إصلاح حالنا، ورغبة من المجتمع الدولي في عوننا للعبور من الحرب للسلام ومن الصراع للتآخي، أفلا يليق بنا أن نُهَون الأمور على أنفسنا قليلاً لتحقيق ما هو أدنى من تلك الغايات الكبرى خلال الفترة الانتقالية. مثلاً أن نرتقي بالخدمات التعليمية في المناطق التي تأثرت بالحرب مباشرة أو بصورة غير مباشرة إلى مستواها الحالي في مناطق الجزيرة، وأن نوفر لهذه المناطق نفس النسبة من الأطباء وعدد الأسرة في المستشفيات التي تتوفر الآن في المناقل، وأن نقضي خلال تلك الفترة على الأمراض الستة القاتلة للأطفال (التيفويد، التيتانوس، السعال الديكي، السل، شلل الأطفال، الحصبة) بتطعيم الأطفال دون الخامسة في كل السودان، وان نخفض مستوى الاعتماد على الوقود التقليدي في كل السودان من النسبة التي هو عليها الآن «75%» إلى نصف ذلك المستوى بعد أن توفر لنا البترول والغاز وبعد أن كادت إزالة الغطاء النباتي فقدان والكتلة الحيوية تحيل شمال السودان إلى صحراء، وأن نرتفع بنسبة الإنفاق على التعليم والصحة من تلك التي هي عليها الآن («2%» من الناتج القومي الإجمالي لكليهما) إلى «3%» لكل واحد منهما (تبلغ نسبة الإنفاق على التعليم من الناتج الإجمالي «55%» جنوب أفريقيا، «62%» ماليزيا، «41%» الهند، «53%» الجزائر)، وأن نخفض عدد المحرومين من مياه الشرب النقية أو من خدمات الصحة العامة في الريف السوداني وهم أكثر من ثلثي أهل الريف بنسبة النصف، وأن نضاعف نسبة الطرق المرصوفة لكل مليون شخص عما هي عليه الآن ونلزم كل ولاية بتعبيد الطرق الرئيسة التي تصل مناطق الإنتاج بالطرق القومية العابرة، وأن نوسع من نطاق الإنجاز المقدر في خدمة الاتصالات ليشمل القطر ليس فقط لتحسين وسائل الاتصال للمواطنين، وإنما أيضاً كمنصة لتقديم الخدمات المعلوماتية خاصة بالنسبة للتعليم. هذه مؤشرات يصدق مثلها على أشياء أخرى تقع كلها في حيز الممكن. فعدم المساواة الذي نتحدث عنه له مؤشرات اجتماعية تنعكس على وجه التحديد في خدمات مثل الصحة والتعليم ومياه
09-16-2004, 02:49 AM
يحي ابن عوف
يحي ابن عوف
تاريخ التسجيل: 05-25-2002
مجموع المشاركات: 6335
الشرب النقية والطرق ونوع الوقود المستخدم. غاية ما يتمناه المرء هو أن لا تكون الخطة القومية أو العقد الاجتماعي أو سمه ما أردت، ميثاقاً جديداً يتداعى الناس إلى صوغه حيث يتداعون دوماً ويبدأ بـ ''يا جماهير شعبنا'' وينتهي بـ ''عاش كفاح الشعب السوداني''. فلا جماهير شعبنا ولا الشعب السوداني المكافح أصبحوا أسعد حالاً بإشهار مثل تلك المواثيق. ///////////////////// بروتوكولات نيفاشا ... البدايات والمآلات (9( أبيي ... من الذي قطع الخيط؟ قد يقول قائل بعد توقيع الحركة الشعبية والحكومة في السادس والعشرين من مايو 2004 على البروتوكول المتعلق بمنطقة أبيي فلتطوى الصفحة إذ ''قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان''. ولكن ثمة أسباباً ذاتية وموضوعية تحملني على القول أن لا تطوى الصفحة قبل استعلان الحقائق المقموعة. أقول هذا لأن أُذني لم تتعرض لتلويث سمعي بقدر ذلك الذي تعرضت له مما كان يردد حول هذه القضية خلال مفاوضات نيفاشا. ولئن تجاوز المرء الغلواء التي شابت مواقف عامة الناس من طرفي النزاع فلربما يفعل ذلك لأن القضية بالنسبة لكليهما قضية وجود. الذي لا يغتفر هو اندفاع بعض المعلقين في أجهزة الإعلام، وبعض السياسيين لإصدار أحكام فاصلة حول القضية اعتماداً على المعرفة السماعية، أو البينات الحكائية.anecdotal evidence لا تغتفر أيضاً ولا تجوز الانفعالات الجامحة التي صدرت ممن كان للناس فيهم رَجية، وبخاصة محص الأمور واستداد الأحكام. ولا عذر في الحالتين للخطئ، إذ ليس من بين كل القضايا التي دار حولها النقاش في نيفاشا قضية توفرت حولها الدراسات الأكاديمية، والبحوث العلمية، والوثائق الرسمية مثل قضية أبيي، وكلها في متناول اليد في مراكز التوثيق وعلى رأسها جامعة الخرطوم ودار الوثائق المركزية. لقد صورت الروايات المحكية القضية وكأنها واحدة من تاكتيكات الحركة لإعاقة السلام، أو أحبولة من أحابيلها لمد سلطانها للشمال، أو هي طماعية واشتهاء لبترول المنطقة الذي أخذ يتدفق. ولتأكيد تلك الدعاوى استنجد المعلقون ببروتوكول مشاكوس الذي حسم في ظنهم قضية الجنوب وأقر حدوده فيما كانت عليه حدود المديريات الجنوبية في 1/1/1956، وتلك، في ظنهم أيضاً، لا تشمل أبيي. فما هي حقيقة أبيي؟ أبيي منطقة يختلف الطرفان في مساحتها، وتحدها شمالاً المناطق التي يسكنها المسيرية والنوبة، وجنوباً بحر العرب الذي يطلق عليه الدينكا اسم كيير. وتقع المنطقة، فيما يقول أهلها على بعد مائة ميل من مناطق استقرار المسيرية، وتفصل بين المنطقتين أرض جرداء. عدد السكان أيضاً فيه خلاف كبير، إذ يرفض الطرفان التقديرات التي بنيت على إحصاء 1955/1956 الذي حدد عدد السكان في ذلك التاريخ على الوجه التالي: 63000 مسيرية حُمر، 59000 مسيرية زرق، 30000 دينكا. ذلك الإحصاء بُني على عينات عشوائية وإن أخذناه معياراً فمن السهل تقدير عدد السكان الحالي على اعتبار أن معدل نمو السكان هو (28%). وعلى أي، لا يعني إحصاء السكان كثيراً اليوم بالنسبة للدينكا إذ أن الغالبية العظمى منهم تعيش بسبب الحرب خارج المنطقة (في الشمال والمناطق المجاورة في بحر الغزال كما في بقية الجنوب والملاجئ). وحسب تقديرات يونيسيف (حملات التطعيم ضد شلل الأطفال) لا يزيد الذين بقوا منهم في المناطق التي تسيطر عليها الحركة عن الخمسين ألفاً. الإحصائيات ليست بذات بال بالنسبة لهذا البحث حيث أن الإحصاء القومي المرتقب الذي سيُجرى بعد عودة أغلب النازحين إلى مناطقهم قد يحسم الأمر. بيد أن الأمر الذي أقلقني حقاً إبان التفاوض بشأن أبيي كان هو الجدل الساخن الذي التهب بين الطرفين حول آيالة المنطقة وملكيتها، وما كان أي منهما هَزَالاً في ذلك الجدل. يبعث على الاستهزاء في هذا النوع من المماحكة أن كلا الجماعتين (الدينكا والمسيرية) حديثو عهد نسبياً في المنطقة، فإلى حين حلول هاتين المجموعتين ـ أياً كان التاريخ الذي حلوا فيه ـ كان أهل المنطقة الأصليون هم النوبة والداجو ومجموعة ثالثة تسمى الشات يقال إن لها نسباً بالنوبة في الجبال وبالجور في بحر الغزال. والداجو أنفسهم وافدون إلى المنطقة هربوا إليها من دارفور بعد أن اجلاهم عنها سلاطين الكيرا، من بعد أن كانوا أهل سلطان في دارفور حتى القرن الخامس عشر. وللإداري البريطاني الباحث ك.د.د هندرسون بحث مستفيض حول تاريخ المسيرية وقصة نزوحهم إلى المنطقة التي يقطنون فيها الآن (السودان مذكرات ومدونات، العدد 23، 1939)، كما للانثربولوجي المعروف بول هاول بحث آخر مستفيض عن الدينكا والمسيرية نشره في نفس المصدر (العدد 32، 1951)، ولهاول خبرة مباشرة بالمنطقة إذ عمل فيها كمفتش مركز. على أي، يتكون دينكا أبيي من سبع شياخات من قبيلة الدينكا (يطلق على مجموعها دينكا انقوك œ ccNgok نزحوا إلى المنطقة من الجزء الشمالي في بحر الزراف بعد أن أجلاهم عنها النوير في صراعاتهم العديدة مع الدينكا حول الماشية والمراعي في تاريخ يختلف عليه المؤرخون. فحين يرجعه بعض إلى القرن الثامن عشر (1740) يرده آخرون إلى القرن التاسع عشر (1830). والانقوك فرع من قبيلة الدينكا الكبرى التي تمثل في مجموعها قرابة خمسة وثلاثين بالمائة من سكان الجنوب وتنشطر إلى بطون وأفخاذ مثل الاقار في رمبيك، والمالوال في اويل، والعالياب غرب النيل في بور، والتويج والرييق في بور بأعالي النيل وقوقريال ببحر الغزال. في الجانب الآخر، ينتمي المسيرية إلى جماعة أكبر هي البقارة وينقسمون، هم الآخرون، إلى فرعي الحُمر والزُرق، وينقسم هؤلاء، بدورهم إلى عموديات (الحُمر 7 والزُرق 6). وتقول المصادر التاريخية، بل ورواياتهم أنفسهم، أنهم وفدوا إلى المنطقة من وداي عند بحيرة تشاد التي انتقلوا إليها عبر فزان بعد هجرتهم الطويلة من الجزيرة العربية عبر البحر. ولكنهم سرعان ما تركوا المنطقة هرباً من الاتاوات الباهظة التي كان يفرضها سلاطين وداي وانتهوا إلى دارفور في عهد ملوك التُنجر وما زالت منهم مجموعات تعيش في تشاد ودارفور مثل عرب السلامات. مسيرة العرب النازحين غرباً لم توقفها إلا الجبال التي استنجد النوبة بقممها، كما انتهى الداجو إلى سفوح الجبال كرقيق أرض. والداجو ليسوا محاربين كالنوبة، أو رعاة كالعرب ولهذا لازموا الزراعة حتى أصبحوا القوة العاملة الأولى في مزارع القطن. هذا هو التاريخ الذي لا يختلف كثيراً عن تاريخ نزوح أغلب القبائل العربية للسودان واستقرارها حيث استقرت. ولكن الذي كان يقلق في الأمر هو تمادي الطرفين في اللجاجة حول أيهما سبق الآخر إلى المنطقة، حتى يصلا عبر الرد على ذلك السؤال إلى استنتاج يؤكد به كل واحد منهما حقه في الأرض أكثر من الآخر. ولو كانت مصائر الشعوب تقرر بمثل هذا التبسيط للأمور لتغيرت خريطة العالم، بل لو طبقنا نفس المعيار على القضية موضع البحث، وأدخلنا القبائل الأخرى في المعادلة، لاجلى النوبة والداجو كلا الجماعتين عن تلك الأرض. فالشعوب ـ في السودان وغيره ـ تهاجر من مكان إلى مكان وحيثما بقعة من بقاع الله ألقت فيها عصا التسيار ثم استقرت وعَمَرت وتناسلت في رحابها أصبحت تلك البقعة وطناً لها. فالذي وفد في القرن السابع عشر إلى سفوح جبال النوبة، كالذي جاء إليها في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر ليستقر فيها ويقيم يصبح بالتقادم وطول الأمد صاحب حق فيها. لم تكن العلاقة بين المجموعتين في بداهة الأمر، خاصة في فترة الحكم التركي، علاقة مريحة، إذ كان العرب يَستَرقون الدينكا إما لحسابهم (كرقيق أرض)، أو لحساب سلاطين الفور الذين كانوا يؤدون للحكم التركي ما عليهم من ضرائب وجبايات باهظة بالعبيد بدلاً عن المال. وكانت مناطق استقرار القبائل العربية في مبدئها نقاط الارتكاز لغزوات الرقيق. ولكن، لما يَمضِ زمان حتى أدرك الطرفان حاجتهما لبعضهما البعض، وبفضل ذلك الإدراك وحكمة قيادتيهما نمت بينهما علائق جديدة أساسها المصالح المشتركة. تلك العلاقة أنشأها في البدء الناظر اروب بيونق، كبير الدينكا مع كبير المسيرية، الناظر عزوزه حيث قررا التساند لإيقاف الحملات ضد بعضهما البعض. ويروي فرانسيس دينق كيف أدمى عزوزه واروب بيونق يديهما ومزجا دمهما تأكيداً للعلاقة التي أضحت، في تقديرهما، علاقة دم. وبعد عزل الإدارة البريطانية لعزوزه وايلاء السلطة لأحد ملازمي الخليفة، الشيخ علي الجلة، استمرت العلاقة. هذا أيضاً جزء من التاريخ. بارتحال المسيرية، وهم رعاة إبل، إلى تلك المنطقة تأقلموا على طبيعتها واستجابوا لظروفها فاستبدلوا الإبل بالأبقار لتصبح عماد الثراء ورمز القوة والجاهة. وكان لطبيعة الأرض أثر في تنسيل قطعان الماشية التي اقتنوها، وحسب ما روى ايان كينيسون العالم الاجتماعي وواحد من أهم الباحثين في شأن البقارة تتميز ابقار المسيرية بالقوة والقدرة على السير في أراضي القوز ولكنها لا تتحمل الأراضي الطينية مثل أبقار الدينكا (السودان مذكرات ومدونات فبراير 1954). لهذا أصبحت المنطقة التي تلتقي فيها الأراضي الطينية بالرملية هي المنطقة الطبيعية الفاصلة بين المجموعتين وهي أرض منبسطة رتيبة لا تحد من رتابتها إلا أشجار من الفصيلة السنطية. وكانت الإدارة البريطانية، بسبب ذلك التقسيم الطبيعي تلزم المسيرية بتعبيد الطريق عبر القوز شمالاً حتى مناطق إقامتهم الدائمة، في حين تلزم الدينكا بالعناية بالطريق إلى نهاية الأرض الطينية عند البحر أو الجرف كما يسميه المسيرية . في سعيهم وراء المرعى يرتحل المسيرية جنوباً في بداية فترة الجفاف (أكتوبر/نوفمبر) بعد قضاء فترة الخريف في بابنوسة ليلتقوا مع جموع الدينكا في بحر العرب (الكير). وبذلك يتنقل المسيرية في العام الواحد في أربع مناطق مختلفة المناخ والتربة والنبات: بابنوسة، المجلد، القوز. البحر (بحر العرب). من جانبهم يرتحل الدينكا شمالاً بعد موسم الحصاد في يناير ثم يقفلون راجعين جنوباً لينتهوا في مناطق الدينكا تويج وريك في (منطقة قوقريال) حتى شهر مايو. ورغم تنوع ضروب الترحال وتعددها كانت مسارات الرعي معروفة، كما كانت المداخل والمخارج إلى المنطقتين محددة ومتفقاً عليها. ولم يكن التحرك الموسمي في تلك المسارات طولياً بل دائرياً لا يشارك فيه كل السكان، فالنساء والأطفال والمسنون من الرجال يمكثون في تجمعات شبه مستقرة في حين يرتحل الشباب والرجال القادرون مع قطعان الماشية. وفي نهاية كل رحلة كان الزعماء وكبار القبيلتين يعقدون الندوات لمعالجة المشاكل التي تقع خلال الترحال، ما تعلق منها بأذى للحيوان أو اعتداء على البشر. في تلك الندوات تتم مجالس الصلح لتسوية الخلافات وفق أعراف سائدة مثل الدية في القتل، والتعويض عن الخسائر، ورد المسروق. من الجلي، إذن، أن المجموعتين ظلتا تتعايشان في وئام لم تكدره التجارب الأليمة في عهود غزوات الرق، وهي غزوات تعرضت لها كل القبائل غير العربية من القبائل المحادة لها في الشمال، فمن أين إذن جاء المشكل؟ أجاد الأكاديمي محمد عبد الرحيم محمد صالح، وهو أحد أبناء المنطقة، عندما كتب يقول ''الصراعات بين دينكا انقوك والمسيرية ليست حالة منعزلة لصراع إثني ولكنها ذات علاقة أوسع بطبيعة الدولة السودانية، وهياكل السلطة القومية، والتفاوت بين الأقاليم، وهيمنة مستعربة الشمال على القوميات الأخرى غير العربية. كما أن الصراع بين الانقوك والحُمر هو جزء من صراع الجنوبيين من أجل البقاء كمواطنين ذوي حقوق متساوية. لا يمكن أيضاً عزل الصراعات عن الذكريات القبيحة لحملات الخيالة الحُمر ضد قرى الدينكا ومعسكرات ماشيتهم في عهود الاسترقاق، أو عن سياسات الاستعمار في الثلاثينات حينما قُسم القطر إلى شمال وجنوب، أو فقدان الأنظمة الحاكمة في الخرطوم للحساسية'' (فصل عن الصراع بين دينكا أنقوك والحُمر في كتاب الصراع والانهيار: الرعوية في القرن الأفريقي، تحرير جون ماراكاكيس). هذا تلخيص جيد للمشكل، ويعنينا منه في هذا المقال الجانب المعاصر: الصراع بين الفريقين كرد فعل على التفاوت الإقليمي، وكنتيجة للضغوط على الموارد الطبيعية، ثم كمُحصل للسياسات القومية نحو المنطقة، بل ربما لفقدان أنظمة الحكم المتعاقبة في الخرطوم لأية حساسية سياسية تجاهها، إن لم يكن إسهامها في تعميق الأزمة. من جانب آخر نمكث قليلاً عند السياسات الاستعمارية تجاه المنطقة، خاصة تلك التي تتعلق بتبعيتها الإدارية. ومن الطريف أن المتفاوضين من الجانبين لم يجدوا مراجع يلجأون إليها أو يستدلون بها لإفحام الطرف الآخر غير تقارير الإدارة الاستعمارية. تقول تقارير الإدارة الاستعمارية أن منطقة أبيي وكل منطقة بحر العرب كانتا حتى عام 1905 جزءاً من بحر الغزال رغم أن المنطقة كانت منطقة رعي مشترك بين الدينكا والقبائل العربية. والمعروف أن الحكم الاستعماري بدأ الهجوم على بحر الغزال فور استيلائه على فاشودة حين تحركت الكتيبة (الفوج) الرابع عشر بقيادة الكولونيل سباركس باشا من مشرع الرق في يوم 12/12/1900 وانتهى بالسيطرة عليها بعد أربع سنوات بإقامة مركز كافيا كنجي والتمكن من ''دار فرتيت''. أياً كان الأمر، في عام 1905 ضُمت المنطقة التي يسكنها دينكا انقوك ومنطقة قوقريال (دينكا تويج وروينق) إلى كردفان وظل ذلك هو الحال حتى عام 1931 حين أجرى تعديل إداري أبقى أبيي (دينكا انقوك) في كردفان، وأعاد قوقريال (دينكا تويج) إلى بحر الغزال، كما ضم دينكا روينق إلى أعالي النيل. ما هي الدوافع لتلك الإجراءات؟ الأسباب إدارية بحتة حسبما أوردت التقارير الرسمية، فمثلاً، جاء في واحد من التقارير إن رحلة سلاطين الدينكا في منطقة أبيي أو قوقريال لاقرب مركز في بحر الغزال للشكاة ضد جيرانهم العرب كانت تستغرق ثلاثة وعشرين يوماً ولهذا رؤى ضمهم إلى كردفان (تقرير المخابرات رقم 127، فبراير 1905). وفي تقرير آخر جاء أن السلطان اروب الذي تقع منطقته على نهر كير (سلطان الانقوك) والسلطان ريحان (سلطان التويج) اشتكيا من غزوات عرب جنوب كردفان على منطقتيهما ولذلك أصبح من الحكمة وضع المنطقتين تحت سلطة نفس مدير المديرية الذي يمتد إشرافه على هؤلاء العرب (تقرير المخابرات 128، مارس 1905). وعندما قررت الإدارة الاستعمارية إعادة دينكا قوقريال في عام 1930 إلى بحر الغزال كان من رأي مدير كردفان، المستر بروك، أن يعود معهم اخوتهم دينكا انقوك (تقرير المخابرات 1927) إلا أن شيخهم السلطان كوال اروب آثر البقاء في كردفان. نتيجة لهذا الإصرار أصدر السكرتير الإداري، السير هارولد ماكما يكل قراراً بوضع حد إداري فاصل بين القبيلتين (من الشرق إلى الغرب) يتمثل في طريق نيامليل/سفاهة. ويدعي خصوم السلطان كوال من أهله الدينكا أنه لم يوثر البقاء في الشمال إلا ليصبح كبيراً للسلاطين paramount chief في منطقة يسيطر عليها بمفرده بدلاً من أن يذوب في مجموعات الدينكا الأخرى فيذوى سلطانه. خلال هذه الفترة منح ناظر الدينكا سلطة واسعة ولم يكن يخضع لكبير نظار المنطقة (ناظر عموم المسيرية عندما أنشئ ذلك المنصب). كما كانت المنطقة كلها تدار بواسطة مفتش غرب كردفان (النهود) وكان له مساعدان في دار مسيرية أحدهما في لقاوة والثاني في رجل الفولة في حين ظل ناظر الدينكا خاضعاً للإشراف المباشر لمفتش المركز، لا لهذين المساعدين. استمرت تلك الترتيبات حتى قبيل خروج الاستعمار حين تقرر انشاء مجلس ريفي للمنطقة (باعتبارها منطقة قبائل رحل تدار عن طريق مجلس ريفي لا مفتش مركز مثل المراكز الحضرية). أول مجلس ريفي للمنطقة أنشئ في مطلع العام 1954، وافتتحه الحاكم العام، السير روبرت هاو في يوم 14/1/1971، خطاب الحاكم العام الافتتاحي احتشد بالرموز إذ جاء فيه: ''أن هذا المجلس، في وجه ما، يشبه السودان بأعراقه المختلفة التي تتعايش جنباً إلى جنب: العرب، الدينكا، النوبة، الداجو. وحتى عهد قريب كان كل جزء يسير على طريقته أما الآن فعلى اختلاف أصواتكم وأعراقكم وأديانكم وتقاليدكم يضمكم مجلس واحد يعمل لأجل خيركم المشترك''. ''إن التسامح والصبر واحترام وجهة نظر الآخرين صفات مهمة وأنني لكبير الثقة إنكم ستحرصون على هذه الصفات''. افتتاح المجلس توفي السلطان كوال اروب وتولى الحكم بعده ابنه دينق ماجوك (والد فرانسيس دينق)، وكان له فضل كبير في تطوير المنطقة خاصة في ميدان التعليم وإدخال المنطقة في الاقتصادي النقدي. وقبيل الاستقلال (1952) عرض عليه مدير كردفان إعادة منطقته إلى بحر الغزال فرفض الرجل ظاناً أن بقاءه في الشمال سيوفر فرصاً أفضل لأبناء المنطقة من أجل التعليم والترقي الاجتماعي. ولكنه قبل اتخاذ القرار قام بجولة في بحر الغزال للتشاور مع إخوته السلاطين، وحسبما روى فرانسيس دينق كان هناك شبه إجماع من سلاطين بحر الغزال على أن يعود أهل أبيي إلى إخوتهم في بحر الغزال، ، بل أن بعضهم حذر من الاطمئنان المفرط في ''الجلابة''. رغم ذلك عقد الرجل العزم على البقاء في الشمال، ولعل للعلاقات الحميمة التي نشأت بينه وبين الناظر بابو نمر أثراً في ذلك. وكان البابو رجلاً عميق الغور، كثيف الحضور، حاضر البديهة. قرار الناظر لم يقابل بالرضا من شباب أبيي فأرسلوا وفداً منهم يضم اثنين من المتعلمين هما جستن دينق بيونق وعثمان كوج لينقلا نيابة عنهم عريضة إلى مركز رجل الفولة تطالب بعودة ابيي لبحر الغزال فالقي القبض على الشابين. قضية الشابين أصبحت مثار اهتمام الرأي العام الكردفاني لدرجة أنها شغلت جريدة كردفان لبضعة أيام إذ حسبوا العريضة بداية لـ ''تمرد انفصالي''. ولم يتم الإفراج عن الشابين إلا بعد توسط الناظر دينق ماجوك. ترى ما الذي صنعناه بعد الاستقلال لنولي الرعاية لهذه المنطقة التي كان من الممكن أن تصبح نموذجاً بديعاً للتفاعل بين الشمال والجنوب. فأبيي هي المنطقة الوحيدة في الشمال التي قررت مجموعة مقدرة من أهل الجنوب، بل ومن أكبر قبائله، البقاء فيها طوعاً والانصهار وسط أهلها. هي أيضاً منطقة حبى الله قياداتها الطبيعية بقدر كبير من الحكمة وظفتها للحد من التناشز وتكثيف التعاون. نعم، ما الذي فعلناه بعد الاستقلال في تطوير ما أسماه السير روبرت هاو عند افتتاح مجلس ريفي المسيرية ''العمل من أجل الخير المشترك'' بين العرب والدينكا والنوبة والداجو؟ هنا كانت بدايات المأساة والتي لا أجد وصفاً لها أدق مما قاله، مرة أخرى، الدكتور محمد عبد الرحيم. قال في الكتاب الذي سلفت الإشارة إليه: ''لو كان مسلك الأحزاب السياسية مسلكاً مسئولاً ووجد دينكا انقوك طريقهم إلى مسرح السياسة القومية لهلل الناس للناظر دينق ماجوك باعتباره أب التكامل القومي بين الشمال والجنوب. فبفلسفته السياسية كزعيم جنوبي آثر البقاء في الشمال كان أبعد نظراً من كل قيادات الشمال والجنوب في ذلك الوقت''. كان الناظر دينق يقول: ''أبيي هي الخيط الذي يربط بين الشمال والجنوب''. هل انقطع الخيط؟ وإن حدث هذا فمن الذي قطعه؟ منذ الاستقلال توالت الأخطاء، فبالرغم من أن دينكا أبيي كانوا يمثلون مجموعة متجانسة وكان من الممكن أن يصبحوا دائرة انتخابية واحدة وزعت جموعهم على دائرتين بالشكل الذي حرمهم من التمثيل في البرلمان. ومنذ أول برلمان (مثل فيه الدائرة المشتركة السيد الفاضل محمود) وحتى آخر انتخابات عام 1986 لم يمثل المنطقة أي واحد من أبنائها، علماً أن اغلب الرعيل الأول من مثقفي الدينكا كانوا إما من بور أو أبيي. هذا الإقصاء (حتى وإن جاء بصورة غير مقصودة) كان له أثره النفسي على أبناء المنطقة، خاصة بعد أن رأوا من هم دونهم تعليماً من دينكا الجنوب يشقون طريقهم إلى مسرح السياسة القومية. المرة الأولى التي أصبح فيها للمنطقة نائب من أبنائها كانت في العام 1968 عندما استقال احمد دينق ماجوك، ابن الناظر، من وظيفته كضابط مجلس ليترشح في الدائرة نائباً عن حزب الأمة. في عهد عبود بدأت الأمور تأخذ منحنى آخر، خاصة بعد أن بدأ ذلك العهد حملات الإكراه الديني في الجنوب. فمن بين القرارات التي أصدرها النظام قراره بإغلاق مركز التبشير المسيحي (مركز مادينق) وإغلاق الكنيسة الوحيدة في المنطقة. ومن الغريب أن الدين لم يكن يشكل أية عقبة في التعامل بين العرب المسلمين والدينكا، ولا حتى بين الدينكا أنفسهم إذ كانت جموعهم تضم المسلم وغير المسلم، ويشمل هذا حتى أبناء الناظر دينق ماجوك إذ كان فيهم المسلم، وفيهم المسيحي، وفيهم من بقى على دياناته التقليدية. ومن المفارقات أن احمد دينق ماجوك، ابن الناظر لم يجد بين التنظيمات الشبابية تنظيماً يتجه طوعاً إليه غير الأخوان المسلمين. أو ترى ما تقود إليه رعونات السياسة؟ فما الذي كسبه الإسلام من إغلاق كنيسة في أبيي في الوقت الذي ما انفكت فيه نواقيس الكنائس تدق في العاصمة؟ منذ تلك اللحظة لم تعد النظرة لدينكا أبيي هي نظرة لمواطنين سودانيين ذوي أصل جنوبي وديانات مختلفة أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي لمنطقة سودانية تقع في الشمال، وإنما كجنوبيين غير مسلمين ينبغي أن يتمسلموا، ومن لم يقبل الإكراه منهم ينظر إليه بعين الشك في ''دولة الشمال المسـلمة''، ثم امـتـدت الريـب حتــى للمسلم منهم. الأمر تجاوز الريب إلى الاستحقار عندما رفضت حكومة عبود اعتماد ناظر الدينكا كعضو في مجلس المديرية ممثلاً عن المنطقة. جاء هذا بعد واقعة غريبة هي انتخاب دينق ماجوك رئيساً لمجلس ريفي المسيرية، ربما لأسباب تتعلق بصراعات المسيرية الداخلية التي دفعت بعض شيوخها لاختيار ناظر الدينكا رئيساً للمجلس بدلاً من ناظر عموم المسيرية، الشيخ بابو. ورغم أن موقعه كرئيس للمجلس يؤهله لعضوية مجلس المديرية إلا أن الحاكم العسكري في الأبيض رفض اعتماد دينق ماجوك وأصر على أن لا يمثل المنطقة غير الشيخ بابو. موقف الحاكم العسكري دفع دينق ماجوك للانتقال بشكاته إلى الخرطوم يطالب بالنصفة. تلك الأزمة لم يعالجها إلا إداري قديم عمل دينق ماجوك تحت إمرته هو المرحوم احمد حسن الضو الذي أفلح، من موقعه كرئيس لديوان الرئاسة، في إقناع عبود باعتماد دينق ماجوك ممثلاً للمنطقة، وتعيين بابو نمر عضواً في المجلس بموجب السلطات التي تخول له ذلك التعيين. اتفاقية أديس أبابا 1972 كانت إيذاناً ببداية مرحلة جديدة لأبيي، وإن كان هناك من يظن أن الاتفاق على حدود جنوب السودان في ذلك الاتفاق قد أنهى المشكلة فعليه أن يعيد قراءة الاتفاق. وكما ذكرنا في مقال سابق فإن النص على حدود الإقليم الجنوبي يشير إلى الحدود التي كانت عليها المديريات الثلاث (أعالي النيل، بحر الغزال، الاستوائية) في يناير 1956 ويضيف إلى ذلك ''وأية مناطق أخرى تُعتبر ثقافياً أو جغرافياً جزءاً من الجنوب بموجب استفتاء عام. وإن كانت هناك مناطق ينطبق عليها ذلك الوصف فأبيي على رأسها. ولكن، دون إخلال بما جاء به الاتفاق، حرصنا منذ الوهلة الأولى على أن نجعل من أبيي مثالاً للتمازج بين الشمال والجنوب، وليس فقط منطقة تماس كما درجنا على القول. وهنا يجئ ما أسميته الدوافع الذاتية للاهتمام بقضية أبيي. لتحقيق الهدف الذي كنا نرمي إليه ابتدع الدكتور جعفر بخيت صيغاً ومؤسسات لتطوير المنطقة فكَوَن في البدء لجنة لإعداد برنامج لتطوير المنطقة ضمت كل الوزراء ذوي الشأن وانتدب لعضويتها الدكتور فرانسيس دينق، وكان وقتها سفيراً للسودان بالسويد. وكان من بين القرارات الأولى التي أصدرها تعيين تسعة إداريين تم انتدابهم من الجنوب للعمل في منطقة أبيي بموافقة ابيل الير، كما قام بتسمية أحد أبناء المنطقة، جستن دينق، نائباً للمحافظ، تلك القرارات لم تُرضِ الإداريين الشماليين فأطلقوا عليها وصف جنوبة أبيي، كما أثار الاهتمام الكبير بالمنطقة غيرة القبائل العربية، خاصة وقد تزامن ذلك الاهتمام مع برنامج تحديث مشروعات زراعة القطن في جبال النوبة والذي تمثل في إنشاء جمعيات زراعية تعاونية، وتوفير البذور المجانية للمزارعين، وإعادة تأهيل المحالج، وكان النوبة والداجو هم وحدهم المنتفعون. وفي إطار تحديث منطقة أبيي تبنى الدكتور فرانسيس دينق عقب اتفاق أديس أبابا مشروعاً للتنمية الشاملة للمنطقة بالتعاون مع معهد هارفرد للتنمية الدولية بدأ بإرسال بعثة استكشافية تضم مدير المعهد بروفيسور ليستر قوردون، ورئيس قسم الصحة بالمعهد، الدكتور ستيفن جوزيف. الخبيران الزائران قاما برحلة للمنطقة تبعها إرسال فريق متكامل ضم خبراء في الصحة العامة، التعليم، الزراعة، الانثروبولوجي، كما تأسست لجنة وزارية لمتابعة المشروع تحت اشراف وزير الدولة للزراعة، الدكتور حسين إدريس. ذلك المشروع الرائد لم يُكتب له النجاح بصورة رئيسة للأسباب السياسية التي سنورد. ولكن ثمة أسباباً أخرى أعاقت المشروع مثل غياب المعلومات، صعوبة الاتصالات، اختناقات النقل، تضارب الاختصاصات في نظام للسلطة المركزية فيه رأي، وللحكم الشعبي المحلي رأي، وللاتحاد الاشتراكي آراء، وقلما تتطابق تلك الآراء مع ما يريده أهل المنطقة. ثم هناك أهل المنطقة أنفسهم (العنصر الثقافي)، فقد كان من أكبر المصاعب التي قاسى منها فريق هارفرد إقناع الدينكا باستخدام الأبقار في جر المحاريث، فما لمثل هذا خلق الله البقر في عُرف الدينكا. وحول تضارب الاختصاصات أذكر اتفاقي مع د. فرانسيس دينق (وكنت وقتها برئاسة الجمهورية) على إضافة فقرة إلى خطاب الرئيس نميري في عيد الاستقلال بمدينة كادقلي يوجه فيها الأجهزة بالتنسيق فيما بينها في تنفيذ مشروعات التنمية بجنوب كردفان حتى تصبح التنمية في تلك المنطقة نموذجاً للتكامل القطاعي والإداري والإنساني والثقافي. وما يجعلني استعيد تلك الفقرة الإشارة الخاصة فيها لأبيي على هذا النحو: ''أبيي للسودان كالسودان لأفريقيا'' هذه العبارة تلخص نظرتنا للموضوع كله. أياً كان الأمر، انهار المشروع وصار أثراً بعد عين لهذا لم يجانب رتشارد كول مدير معهد هارفرد، وزميله رتشارد هنتنقتون الحقيقة عندما قالا إن مشكلة أبيي ''ليست مشكلة محلية ذات تداعيات قومية بل مشكلة قومية تُركت لتتقيح على المستوى المحلي''. وقد ألف الأستاذان كتاباً ضخماً حول تلك التجربة أصدره معهد هارفرد للتنمية الدولية في عام 1985 بالعنوان التالي: African Rural Development: Lessons from Abyei, 1985. من بين المشاكل ذات الطابع الإداري التي لم يكن يستحيل علاجها لو توفرت الإرادة السياسية الصادقة، تلك المتعلقة بإدارة النزاعات حول الموارد. هذه الصراعات زادت حدة في أواخر السبعينات لأسباب عدة منها تقلص المراعي بسبب الجفاف، مضاعفة قطعان الماشية نتيجة لتحسن الخدمات البيطرية إذ ارتفع عدد الماشية من مليون في نهاية الخمسينات إلى اثنين مليون ونصف المليون في نهاية السبعينيات، زحف الزراعة الآلية مما أدى إلى انتزاع بعض المراعي لتصبح مناطق زراعة، خاصة في المناطق شمال أبيي (لقاوة مثلاً). وكما أبنا في أكثر من موقع فإن الدولة، لا القبائل وزعاماتها، تتحمل النصيب الأكبر من المسئولية عن النزاعات لأنها إما شجعت التوسع الزراعي بأسلوب غير مخطط، أو عجزت عن إدارة الأزمة عند وقوعها لضعف آليات الإدارة التي استحدثتها كبديل لآليات التوسط التقليدية traditional mediation mechanisms. الآليات التقليدية هي الحكم الأهلي الذي ألغى بصدور قانون الحكم المحلي 1971 واستبدل بمجالس الحكم الشعبي المحلي. وفي الوقت الذي انتهت فيه الإدارة المحلية في الشمال بما في ذلك جنوب كردفان، ظلت باقية في جنوب السودان مما خلق حالة من عدم التوازي الإداري ليس فقط في المؤسسات، بل أيضاً في لغة التخاطب. وإن كان بين كل أقاليم السودان إقليماً واحداً لعبت فيه الإدارة المحلية الدور المركزي في الحفاظ على النسيج الاجتماعي والوئام بين القبائل لكان هو إقليم كردفان. صحيح أن الاستعمار جَهِد في الحفاظ على الهويات القبلية في ذلك الإقليم كأداة للتحكم الإداري فيها وذهب في ذلك مذهباً بعيداً (احمد إبراهيم أبو شوك: كردفان من القبائل للنظارات في كتاب Kordofan Invaded, Brill, 1990. إلا أن ذلك الإقليم بتنوع قبائله، وتضارب مصالح أهلها، واختلاف تضاريسه الجغرافية ما كان ليبقى متماسكاً لولا دور قياداته الطبيعية. وفي بحث الدكتور أبو شوك المشار إليه أعلاه تفصيل دقيق لما لحق بأداء الدولة نتيجة لإلغاء النخب الحاكمة في الخرطوم للإدارة الأهلية منذ أول قرار اتخذته حكومة أكتوبر بإلغاء الإدارة الأهلية، ثم تردد حكومة الديمقراطية الثانية في هذا الموضوع حيث كانت بين الكفر والإيمان، هي مع الإدارة الأهلية في الاجتماعات المغلقة مع زعماء القبائل، وضدها في الليالي السياسية، ثم جاءت قوانين نظام مايو التي أجهزت على المؤسسة تماماً. ففي كردفان، مثلاً، أبان كيف انخفض حجم الضرائب المُحَصلة (العشور والقطعان) عن طريق الإدارة الأهلية من 240000 و 338000 جنيهاً في سنتي 1963، 1964 على التوالي إلى 104251 في العام 1965 بعد إلغائها. ولا يقل أهميةً عن التدهور الذي لحق بتحصيل الضرائب موضوعُ إدارة النزاعات، ففي تقرير لحاكم كردفان، الفاتح بشارة (1984) زادت تلك النزاعات بعشرة أضعاف في الفترة 1971 - 1981 عما كانت عليه في الفترة التي سبقت منذ الاستقلال، مما حمل الحاكم على المطالبة كل بإعادة الإدارة الأهلية الإدارة الأهلية كانت توفر آلية ناجعة لحل النزاعات ولكنها، بالطبع، لاتغني عن الحل الجذري للمشاكل وهو الحل السياسي / الاقتصادي. وقد أوضحنا كيف عمق نظام عبود من الأزمة باضافة بُعد ديني لها، وكيف ضاعفت الأنظمة المتعاقبة منها إما بتجاهلها أن هناك مشكلاً جديراً بالاهتمام، أو لقلة وعيها بأن منطقة أبيي تمثل تجربة تكاملية فريدة قمينة بالرعاية. خطأنا في مايو كان بالغ الشُنعة، أولاً لأننا أدركنا منذ البداية بما لا يدع مجالاً لأي شك معقول أن هناك مشكلة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقضية الجنوب (إثارة الموضوع في محادثات أديس أبابا) وتَعَهدنا بعلاجها. ثانياً لأن رأينا استقر على أن علاج المشكلة يكمن في واحد من شيئين: إما تطوير المنطقة برضا أهلها حتى تصبح منطقة تمازج حقيقي بين الشمال والجنوب، أو ـ إن عجزنا عن ذلك ـ منحهم حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، كما يقول اتفاق أديس أبابا. لم تفلح مايو في الأولى، ولا في الثانية ثم منذ نهاية السبعينات اتجه نميري بالنظام كله اتجاهاً آخر. حتى العام 1977 كان نميري مدركاً لما يلزم فعله بموجب اتفاق أديس أبابا. ففي العام 1974 أعلن أبيي منطقة ذات طبيعة خاصة تتبع في إدارتها لرئاسة الجمهورية، وكانت تلك خطوة طيبة في سبيل تحقيق النموذج الذي توهمناه، وبقى وهماً لأن الإعلان لم يلحق به عمل. وفي خطاب له في المجلد في العام 1977 أعلن أن لأهل المنطقة الخيار بين أن يبقوا في كردفان أو ينضموا إلى بحر الغزال، وكان نميري قد تسلم قبيل ذلك عريضة من أبناء المنطقة يطالبون فيها بضم منطقتهم إلى بحر الغزال. هذا الإعلان لم يُرق لبعض المسئولين فسعوا إلى وضع العصى في دولاب الإدارة حتى يحولوا دون تطبيقه. وبخروج أو رحيل جميع الوزراء الشماليين الذين شاركوا في اتفاق أديس أبابا، أو أسهموا في تطوير السياسات حول أبيي، وكانوا بذلك أكثر إدراكاً من غيرهم للنتائج التي قد تترتب على أي نكوص عن الاتفاق أو السياسات، خلا الجو لواضعي العصي. نذكر من هؤلاء محمد الباقر أحمد، جعفر بخيت، عبد الرحمن عبد الله، فرانسيس دينق. مهما كان من أمر، لما يمضِ زمن طويل حتى بدأ نميري انزلاقه الذي انتهى به إلى إلغاء اتفاقية أديس أبابا نفسها، في حين بدأت القوى السياسية الجنوبية، من الجانب الآخر، تأخذ زمام المبادرة. ففي العام 1978 أصدر مجلس الشعب الإقليمي بجوبا قراراً يطالب فيه بتنفيذ النص حول منطقة أبيي كما ورد في اتفاقية أديس أبابا (إجراء استفتاء). هذا القرار أكده مجلس الشعب الإقليمي الذي انتخب في العام 1981 ، ولكن نميري لم يكن في عجلة من أمره، ففي محاولة منه للتنصل مما ألزمه به اتفاق أديس أبابا، أو للالتفاف عليه أقدم على أمرين، وفي الحالتين جاءت الريح بما لا يشتهي سفينه. كون نميري لجنة موسعة برئاسة الإداري الشيخ بشير الشيخ وكان وقتها وزيراً للحكم المحلي لتتقدم له بتوصيات حول أبيي. وضمت اللجنة نائب رئيس القضاء دفع الله الرضي وبعض زعماء القبائل وعلى رأسهم الناظر بابو نمر والناظر سرور محمد رملي. اقترحت اللجنة بدائل منها أن تدار المنطقة على الوجه الذي كانت تدار به يومذاك، أو تصبح مجلساً محلياً مستقلاً، أو تعلن كولاية، أو يمنح اهلها الحق في اختيار ما يريدون، والخيار الأخير ابتنى على ما نص عليه اتفاق أديس أبابا وأصر عليه العضو الجنوبي في اللجنة، مارتن ماجير. وحرصت اللجنة على توضيح الايجابيات والسلبيات بالنسبة لكل مقترح، ويبدو أن جميع الخيارات لم تصادف هوى في نفس نميري. محاولة الالتفاف الثانية كانت هي تكوين لجنة لتقصي الحقائق برئاسة قاضٍ. تلك كانت هي اللجنة التي ترأسها القاضي خلف الله الرشيد، وأصدرت في 7/1/1981 قراراً حاسماً. يقول القرار: (أ) ''تَبَني حدود المديريات الجنوبية كما كانت في اليوم الأول من يناير 1956 وهذا يعني إعادة منطقة حفرة النحاس وكافيا كنجي إلى مديرية بحر الغزال وهي المنطقة التي سبق أن أضيفت إلى مديرية دارفور وفقاً لوصف الحدود المعدلة المنشور في غازيتة جمهورية السودان رقم (947) بتاريخ 15 يوليو 1960 ، وهذا يتفق تماماً واتفاقية أديس أبابا وقانون الحكم الذاتي الإقليمي .''1972 (ب) ''تخضع منطقة بحر العرب لترتيبات إدارية تأخذ في الاعتبار التكوين الاجتماعي بما في ذلك الحقوق التقليدية للمرعى والصيد وصيد الأسماك التي نظمت بترتيبات إدارية قبل وبعد .''1956 (ج) إجراء استفتاء في عموديات الدينكا نقوك منطقة أبيي التي تدار الآن من مديرية جنوب كردفان وتلاحظ اللجنة الحاجة لتحديد هذه المنطقة قبل إجراء الاستفتاء. هذا الترتيب هو تطبيق للمادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي للمديريات الجنوبية للعام 1972 واستجابة لرغبة سكان المنطقة''. (د) ''بالرغم من أن المادة 32 من قانون الحكم الذاتي الإقليمي تنسحب على منطقة شال الفيل التابعة لمديرية النيل الأزرق إلا أن هذه المنطقة لا تمثل مشكلة في حد ذاتها وأن حدودها معروفة وأن سكانها لم يطالبوا بإجراء استفتاء''. خلف الله أمسك الوعل من قرنيه وفجر قضايا لم تكن مطروحة، فجميع المناطق التي أشار إليها، وهي مناطق شاسعة، كانت جزءاً من الجنوب في 1/1/1956 ونقلت للشمال في عهد عبود. مع ذلك لم يثر الجنوبيون لا في عهد الحكم الذاتي الإقليمي، ولا في مفاوضات الإيقاد امر هذه المناطق الشاسعة في حين ثابروا على إثارة قضية منطقة أبيي الصغيرة نسبياً مما يعني أن هناك مشكلة حقيقية في هذه المنطقة. أراد مثقفو الجنوب تأكيداً لموقفهم حول أبيي أن يبعثوا برسالة واضحة للحكومة بعد رفضها التجاوب مع قرارات المجلس الإقليمي. وكانت الرسالة اختيار أحد أبناء أبيي (الدكتور زكريا بول دينق) نائباً في المجلس الإقليمي عن دوائر الخريجين، مع أن أبيي ليست رسمياً جزءاً من الجنوب. وبتوجه نميري نهائياً لإلغاء الاتفاقية، وتجدد الحرب في الجنوب لم يكن غريباً أن ينحاز أبناء أبيي إلى ''التمرد'' الجديد. ولكن قبل أن يقع هذا قام نميري باعتقال ابن أبيي الذي انتخبه الخريجون وأغلب متعلمي أبيي، كما اغتيل الناظر عبد الله مونياق الذي خلف أباه دينق ماجوك حتى تؤول النظارة إلى أخيه آدم الأكثر طواعية، فيما تردد. أصابع الاتهام حول ذلك الحدث امتدت لمسئولين في بعض الأجهزة الأمنية في المنطقة. مع ذلك أدى ارتفاع حدة التوتر وانفجار الحرب في الجنوب بنميري للقيام بواحد من انقلاباته البهلوانية (somersault)، وفي هذا الانقلاب تفوق على نفسه. الانقلاب هو الموافقة على فتوى خلف الله الرشيد وإعلان أبيي منطقة خاصة. ولكن فات الأوان إذ لم يصدقه أحد بعد أن أعلن نفس الشيء في العام 1974 ثم نكص عنه. تلك هي المرحلة التي بدأت فيها الحكومة الاستعانة برجال القبائل لرد هجمات انانيا الثانية، وبوجه خاص الاستعانة بما يعرف بالمرحلين. المرحلون عند المسيرية (ويطلق عليهم الفرسان عند البقارة في دارفور) ليسوا أكثر من مجموعات استطلاعية تسبق الرعاة في مسيرتهم لأجل حمايتهم من الاعتداءات من جانب قاطعي الطرق أو الحيوانات غير الأليفة. وعند نشوب الحرب من جديد في العام 1982 أخذت أنظمة الحكم المتعاقبة تستعين بهذه الجماعات، إما كمجموعات استكشافية أو كفرق مقدمة للاشتباك مع ''المتمردين'' بهدف تحييدهم أو بث الرعب في مناطق عملياتهم. فعل هذا نميري، وفعله المجلس العسكري الانتقالي بعد الانتفاضة، واستمرت عليه حكومة الصادق المهدي إلى حين تولى الفريق عبد الماجد حامد خليل وزارة الدفاع ومطالبته بإيقاف أي نشاط للمليشيات. وعلى نهج عبد الماجد سار القائد العام الفريق فتحي أحمد علي، وكما هو معروف تضمنت المذكرة التي رفعتها قيادات الجيش في عهده لرئيس الوزراء الصادق المهدي بنداً يطالب بحل المليشيات. ذلك لم يحدث إلى حين استيلاء الجبهة القومية على الحكم التي لم تقرر دعم المرحلين فحسب، بل أكسبتهم شرعية بدمجهم في القوات النظامية وإيكال مهام جديدة لهم في دعم المجهود الحربي مثل حماية القطارات التي تنقل الجند والعتاد من بابنوسة إلى واو. ولعل الذي أطلع على تقارير مندوبي لجنة حقوق الإنسان والفريق الدولي للتحقيق حول الرق يجد الكثير حول الأذى الذي ألحقته هذه المجموعات بالدينكا. هذا هو السبب الذي دفع الدكتور توبي مادوت في 1/2/1995 باسم حزب جنوبي مسجل بالخرطوم (سانو) إلى دق نواقيس الخطر والتنبيه إلى الأضرار التي ألحقها المرحلون، ليس فقط بالدينكا، وإنما أيضاً بالسلام الاجتماعي في المنطقة كلها. طوال المفاوضات بين الحكومة والحركة في إطار مبادرة الإيقاد ظل موضوع أبيي مطروحاً. وفي المرة الأولى التي اتفق فيها الطرفان على تحديد ما يعنيان بجنوب السودان (قبول صيغة اتفاقية أديس أبابا 1972) ثبتت الحركة عند موقفها باعتبار ابيي جزءاً من الجنوب، وكان ذلك في دورة انعقاد المفاوضات في أديس أبابا (أغسطس 199. بسبب هذا الموقف المبدئي من قضية ابيي كان من الطبيعي أن تثيرها الحركة في لقاءات التجمع إلى أن استقر التجمع على رأي محدد حولها ضَمنه قراراته بشأن القضايا المصيرية. يقول القرار: (إن التعرف على آراء أهل منطقة ابيي فيما يتعلق برغباتهم أما بالبقاء داخل الحدود الإدارية لإقليم جنوب كردفان، أو بالانضمام إلى إقليم بحر الغزال سيتم عبر استفتاء ينظم خلال الفترة الانتقالية ولكن قبل ممارسة الجنوب لحق تقرير المصير. وإذا ما أظهرت نتيجة الاستفتاء رغبة أكثرية أهل المنطقة في الانضمام إلى إقليم بحر الغزال فإنهم سيمارسون حق تقرير المصير كجزء من شعب جنوب السودان). هذا التاريخ المأساوي يؤكد بضع حقائق: أولاً أن موضوع أبيي ليس موضوعاً مفتعلاً من جانب الحركة الشعبية بل هو قضية ذات جذور عميقة تعود في جانب منها لما قبل الاستقلال، وفي جوانب أخرى للفترات التي أعقبته. ثانياً إن عدة عوامل طبيعية وإدارية وسياسية تضافرت على تعميق المشكل إزاء عجز كامل، أو استهانة مفرطة، من جانب السلطة المركزية. ثالثاً أن المشكل ليس هو مشكل محلي ذو تداعيات قومية بل نموذج لمشاكل محلية عديدة تفاقمت بسبب السياسات القومية الخاطئة. رابعاً بالرغم من جهود الحكماء المحليين للتقليل من حدة المشاكل المحلية ودرء مخاطرها سعت الحكومات المركزية لإقحام الجماعات المحلية في الحرب الأهلية بصورة لا تمزق نسيج المجتمعات فحسب بل كادت تقضي على الوئام الوطني. خامساً كغيره من القضايا ذات الصلة بعلاقات الشمال والجنوب، بل أكثر من أي منها، ما حدث في أبيي نموذج صارخ للإخلال بالعهود، وإهدار الفرص لتحقيق الوحدة الطوعية. بسبب من كل هذا فإن تبني المواقف المتشددة التي لا يسندها منطق، أو إطلاق الشعارات الاستفزازية التي تضر بأكثر مما تفيد ـ كما حدث أخيراً ـ لا يقود إلا إلى تمزيق القطر، وربما قاد لنتائج تعسر منها نجاة المتشددين أنفسهم. ففي خلال المفاوضات حول أبيي تبين أن هناك موقفين لأبناء المنطقة، موقف لا ينازع في حقوق الجماعات المتساكنة ويقول إن الدينكا والمسيرية تساكنوا في المنطقة بحدود معروفة وفي مناطق معروفة، ولكنه في ذات الوقت يؤكد حقوق المسيرية المشروعة في المرعى التي لا يمكن الإخلال لها بصرف النظر عن التابعية الإدارية للدينكا. ويسعد المرء كثيراً أن يكون أمير المسيرية مختار بابو نمر في هذا الجانب الراشد مما يثبت أنه صاحب عِزوة يلجأ له الناس عند الملمات. رأيه ذلك أدلى به في الندوة التي عقدت بضاحية كارين في العام الماضي للتشاور حول أبيي. موقف آخر عبرت عنه مذكرة وزعت على العالمين ونسبت إلى مجلس شورى المسيرية. لست من الذين يقولون إن المذكرة جاءت بإيعاز من الحكومة رغم أنها اختتمت بالقول: ''نشكر للحكومة عدم استجابتها لضغوط بعض الفئات ذات الأغراض الخاصة ونحن من جانبنا سوف ندعمها في عدم الاستجابة لمثل هذه الضغوط''. المذكرة تحدثت بالأسلوب الذي وصفناه في بدايات هذا المقال بالاندفاع وعدم التروي، خاصة عند إشارتنا للجدل العقيم حول من سبق الآخر إلى تلك الأرض. انتهت المذكرة إلى أن ''دار المسيرية جزء من السودان الموحد منذ أن نشأ السودان الحديث وهي تاريخياً وإدارياً وبيئياً تابعة لكردفان الكبرى. وقد تعايشت القبائل والأعراق فيها بهذا المفهوم، المسيرية والدينكا والنوير والبرقو والفلاتة والنوبة. وتمازجت ثقافياً وعرقياً مما جعل إمكانية تقسيمها أمراً مستحيلاً. ولكن من أراد أن يهاجر من أبناء هذه المنطقة أو ينزح لبقعة أخرى فليفعل ويرحل بماله وأسرته''. الجزء الأول من الفقرة يعبر عن قراءة وتفسير للتاريخ ومن حق أي شخص طالما ملك الأسانيد أن يعبر عن رؤاه ويقدم أسانيده مقطوعة كانت أم موصولة. ولكن ما الذي يعنيه: من شاء فليرحل بماله وأسرته. أضافت المذكرة الغاضبة ''لقد وقفت قبيلة المسيرية بجميع فروعها سداً منيعاً أغلق على التمرد العبور شمالاً وفقد المسيرية في الدفاع عن السودان آلاف الشهداء منذ العام 1964 حتى اليوم، وما وهنوا ولا استكانوا وهذا ديدنهم منذ المهدية''. ما شأن الحرب والشهداء ودحر التمرد بحقوق الرعي والتي نفترض أنها قضية المسيرية، كما هي قضية غيرهم من الرعاة. ثم خُتمت المذكرة بالآتي: ''(أ) '' نؤمن أن قضيتي أبيي وجبال النوبة لا علاقة لهما بقضية جنوب السودان ونرى أنهما قضيتان محليتان لا سبيل إلى تدويلهما ونتمسك بحدود ''1956 و(ب) ''لا نقر ولا نرضى أن يجري استفتاء حول تقرير المصير في هاتين المنطقتين، سواء كان ذلك لكل السودان أم لفئة''. ما كنت لأعير البيان اهتماماً لولا أنه تضمن على رأس الموقعين أسماء حريكة عز الدين، فريق مهدي بابو نمر، اللواء فضل الله برمة ناصر، عبد الرسول النور إسماعيل. أثارت اهتمامي هذه الأسماء بوجه خاص، وللحد الذي ظننت معه أن الوثيقة دست عليهم رغم وجود توقيعات عليها منسوبة إليهم. ولكن ظني تبدد عندما التقى ثلاثة من تلك المجموعة الكريمة في نيفاشا زعيم الحركة في اجتماع كانوا حريصين عليه، وكان هو أشد حرصاً منهم على الاجتماع. بدأ الاجتماع بكلمات للفريق مهدي بابو تنذر بذات الصهيل ألا وهي الحرب. قال: ''موقف الحركة في أبيي إشهار للحرب ضد المسيرية''. كان من الممكن أن تنتهي تلك الكلمات بالنقاش إلى طريق مسدود لولا أن زعيم الحركة صب ماءً بارداً على الموقف. قال كل هذا الصراع الدائر لا شأن له بمصالح الدينكا أو المسيرية، فالقبيلتان حكمت عليهما الطبيعة، كما قضت الجغرافيا والتاريخ، أن يعيشا مع بعضهما البعض شأن قبائل عديدة تعيش في خطوط التماس بين الجنوب والشمال. قال أيضاً إن الحرب بالوكالة (proxy war) التي تدور اليوم هي حرب مفروضة على الطرفين ولهذا فمن الخير للطرفين أن يجلسا مع بعضهما البعض للبحث عن أفضل السبل لحماية الحقوق المشروعة لأهليهما في الموارد المشتركة، والبحث عن وسائل للتعايش السلمي بينهما ومع غيرهما من القبائل المجاورة كما فعل دينكا مالوال مع البقارة. والطرفان اللذان عناهما زعيم الحركة هما دينكا أبيي والمسيرية وليس الحركة والحكومة. الذي أومأ إليه زعيم الحركة، وكان ينبغي أن يكون هو غاية أصحاب المذكرة الغاضبة، هو الحيلولة دون خروج القضية من حدودها حتى تصبح ذريعة لصراع أشمل. فلا معنى، مثلاً، لإقحام قضية جبال النوبة في موضوع ابيي، أو الحديث عن حق أهل الجبال في تقرير مصيرهم لأن أبناء الجبال لم يجعلوا ذلك مطلباً في المفاوضات. كما لا معنى للتجاهل الغريب في المذكرة لتاريخ قضية هي قطعاً ليست بنت اليوم، وما نيفاشا إلا محطتها الأخيرة. قد نقول إن أصحاب المذكرة ليسوا على دراية باتفاق أديس أبابا، رغم أن هذا شئ مؤسف إن حدث. وقد نقول إنهم ليسوا على دراية بقرارات مجلس الشعب الإقليمي بشأن أبيي، أو باعتبار نميري لها منطقة ذات وضع خاص في العام 1974 ثم في العام 1983، أو بإعلانه حق أهل أبيي في تقرير مصيرهم بأنفسهم في المجلد وليس في أي مكان آخر في العام 1977، أو بقرار لجنة خلف الله الرشيد في العام 1981، أو بمقررات لجنة الشيخ بشير الشيخ التي كان الناظر بابو نمر عضواً فيها في مطلع الثمانينات. ولكن يصعب علينا كثيراً أن نصدق أن قياديين مهمين في حزب الأمة لم يطلعوا على قرارات التجمع بشأن أبيي والتي كان لحزب الأمة (المرحوم عمر نور الدائم ومبارك المهدي) دور كبير في صياغتها. ولا أظن حزب الأمة من ''ذوي المصالح الخاصة'' في عرف مجلس الشورى، حتى وإن افترضنا أن كل فصائل التجمع الأخرى كانت من ذلك الصنف الردئ. أشد وعورة من ذلك التغافل أمران، الأول هو الدعوة لأن تقوم بين الشمال والجنوب حدوداً قاطعة مبنية على الملكية التاريخية للأرض. تلك سابقة خطيرة لأن رسم هذه الحدود القاطعة لن يقف عند المنطقة المجاورة لبحر العرب حتى وإن تنازل عنها الدينكا وارتحلوا جنوباً بأسرهم كما طالبهم مجلس الشورى. فالحدود تمتد من أفريقيا الوسطى إلى إثيوبيا، ويوم أن يقام ذلك الخط الفاصل نتيجة لمواقف غاضبة أو استفزاز غير مبرر فسيلحق الأذى كل القبائل الرعوية التي ظلت تنتقل جنوباً وراء حدود 1956 بحثا عن المرعى في وئام تام مع القبائل الجنوبية المتاخمة، وهو وئام لا تكدره إلا المشاكل التي تنجم من حين لآخر بين القبائل وتحل عبر آليات التوسط التقليدية. مثال ذلك ترحال البقارة بين دارفور وبحر الغزال (مناطق دينكا مالوال)، وترحال أولاد حميد ورفاعة الهوى في منطقة يابوس بأعالي النيل، وترحال عرب سليم والشينخاب ودار محارب في مناطق الدينكا والشلك والنوير بأعالي النيل، وترحال الحوازمة في مناطق الدينكا باريانق. الأمر الثاني هو لماذا يريد أي واحد منا ـ أياً كان موقعه ـ أن يثقل كاهل أهله بصخور مرمرية، مثل تحميلهم المسئولية عن حروب السودان الأهلية، حتى وإن إستدرجوا إليها وخاضوها بالوكالة. عامة الناس في السودان لا يطربون أبداً للفتنة، فالفتن يؤججها، عن علم أو جهل، من لا يتدبر عاقبة الأمور. لهذا يعجب المرء أن ينسب هؤلاء الكبار لأهلهم ما أسموه ''دحر التمرد''. أي تمرد هذا بعد اتفاق مشاكوس الذي أبان جذور المشكلة وكان في جوهره اعتذاراً متبادلاً عن الحرب. وأي نظام ذلك الذي حموه في الشمال؟ أهو نظام عبود الذي استنكر أهل الشمال سياسته في الجنوب ولهذا، مع أسباب أخريات، انقضوا عليه في أكتوبر 1964؟ أم هو نظام نميري الأول الذي اعترف بحق ابيي الذي ينكرون؟ أو نميري الثاني الذي أجج نيران الحرب من جديد في 1983 وكان أول مسعى له لإيقافها هو الاعتراف بحق أبيي؟ أم هو نظام الجهاد ضد الشرك في الجنوب بعون من الله تعالى ومن ''المرحلين'' من بعد؟ أو لعله مع نفس النظام الذي وفقه الله لسلام مع المشركين؟ لماذا يريد أي شخص عاقل أن يُحَمل أهله المسئولية عن سياسات حكومات الخرطوم التي تتأرجح سياساتها كما يتأرجح بندول الساعة وتلحق الأذى بالناس أنى اتجهت عقارب الساعة. ليت أهل الشورى اصطحبوا معهم عند وفودهم إلى نيفاشا نصيحة غالية من رجل من ديارهم عركته التجارب، الفريق شرطة عوض سلاطين دارفور (ألوان مارس 2004). كان الرجل نصيحاً في مقاله. البروتوكول الذي وقع بين الحركة والحكومة في السادس والعشرين من مايو 2004 حول أبيي قام على أساس مبادئ تقرب بين وجهتي النظر اقترحتها الولايات المتحدة (قدمها السناتور جون دانفورث) واستُهل بالنص على مبادئ هادية، وقواعد ضابطة هي: * أبيي جسر بين الشمال والجنوب يربط شعب السودان . * إقليم أبيي هو المنطقة التي تقطنها مشيخات دينكا انقوك التسع التي ضمت لكردفان في العام 1905 . * يحتفظ المسيرية والجماعات الرعوية الأخرى بحقوقهم التقليدية في الرعي والتحرك عبر أراضي أبيي . قررت الاتفاقية منح منطقة أبيي وضعاً إدارياً خاصاً بحيث يصبح أهلها مواطنين في كل من غرب كردفان وبحر الغزال ويكون لهم ممثلوهم في المجالس التشريعية في الولايتين، وهذه عودة للوضع الذي كان يجب أن تكون عليه في العام 1974 عندما أعلن نميري ذلك القرار، مع فارق مهم هذه المرة. الفارق هو التحديد الواضح لمعالم ذلك الوضع الخاص: أن يدير المنطقة مجلس تنفيذي ينتخبه مواطنو أبيي، والى حين إجراء الانتخابات (بعد ثلاث سنوات) تُعين رئاسة الجمهورية أعضاء المجلس على أن يكون مجلساً واسع القاعدة (أي لا تقتصر عضويته على مجموعة معينة من أبناء المنطقة). ويكون للمجلس رئيس ونائب رئيس تعينهم رئاسة الجمهورية بناء على توصيات المجلس. ويشرف المجلس على أمن المنطقة وتنميتها وتقديم الخدمات الأساسية لها. وستقرر رئاسة الجمهورية، آخذة في الاعتبار طبيعة الوضع الخاص للمنطقة، الاختصاصات التنفيذية والتشريعية والمالية والقضائية لسلطات أبيي. كما سيكون للمنطقة مجلس تشريعي يضم ما لا يزيد عن العشرين عضواً تعينهم الرئاسة في فترة السنوات الثلاث الأولى، ويتم انتخابهم مباشرة من جانب أهل المنطقة في الفترة التالية. ويباشر ذلك المجلس سلطة إقرار الميزانية وخطط التنمية والتعمير وسن التشريعات المحلية والمساهمة في جهود المصالحة بالمنطقة والاقتراح لرئاسة الجمهورية بإعفاء الرئيس التنفيذي. وكما حدث بالنسبة للجنوب ولكل ولايات السودان أبان الاتفاق مصادر التمويل لحكومة المنطقة حتى لا يترك أمرها للظروف أو لتقدير ـ سوء تقدير ـ سلطة أخرى. وبما أن أبيي واحدة من مناطق إنتاج البترول فقد نص الاتفاق على أن يوزع صافي عوائد إنتاج النفط فيها على الوجه التالي: 50% للحكومة القومية، 42% لحكومة جنوب السودان، 2% لإقليم بحر الغزال، 2% لإقليم غرب كردفان، 2% لدينكا انقوك، 2% لباقي قبائل المديرية. كما ستحصل المنطقة على (1) نصيبها المقرر من الدخل القومي حسب بروتوكول اقتسام الثروة، (2) العائدات من الضرائب المحلية، التي يقررها مجلسها، (3) حصتها من الصندوق القومي للتعمير والتنمية وصندوق تعمير وتنمية الجنوب، (4) المخصصات القومية لإنشاء الإدارة الجديدة وتسييرها. جميع هذه المبالغ ستودع في حسابات خاصة بموافقة الرئاسة. على أن النص على تخصيص أنصبة من عائد النفط لقبائل بعينها فيه إجحاف بغيرهم ولربما كان الأوفق أن تذهب الأنصبة للإقليم لا لجماعة في الإقليم. تقرر أيضاً أن تنشئ رئاسة الجمهورية لجنة للحدود لتتولى رسم حدود أبيي (المنطقة التي تحولت إلى كردفان في العام 1905) على أن تفرغ اللجنة من أداء واجبها في العامين الأولين من الفترة الانتقالية، كما سيحدد الإحصاء القومي العدد الفعلي لسكان المنطقة. هاتان العمليتان ستنهيان الجدل حول حدود المنطقة وعدد سكانها. وفي نهاية الفترة الانتقالية يجري استفتاء منفصل عن، ومتزامن مع، استفتاء جنوب السودان. وبصرف النظر عن نتائج استفتاء جنوب السودان يُطرح على أهل أبيي الخيارين التاليين: الاحتفاظ بوضعهم الإداري الخاص في الشمال، أو أن يكونوا جزءاً من بحر الغزال. أياً كان الخيار تبقى قائمة قضية حقوق الرعي، ليس فقط في هذه المنطقة بل على طول الشريط الحدودي بين الشمال والجنوب. وإن كان البروتوكول في ديباجته قد قضى في هذا الموضوع فيما يتعلق بالدينكا والمسيرية. يفيد أيضاً أن تتجه الحكومة الانتقالية إلى خلق الآليات المناسبة، ووضع الضوابط اللازمة لمعالجة مشاكل المرعى في كل السودان، بين الشمال والجنوب وفي داخل الشمال وداخــــل الجنوب أيضاً. وقبل بضــــــعة أشـــــهر من توقيع الــبروتوكول استضـــافت إثيـوبيا (18/2/2004)، بالتشــــاور مع حكومة السودان والحركة الشعبية، وبــــدعم مالي وتجهـــيزي من برنامج الأمم المتحدة للتنمية ووكالة المعـــــونة الأمريكية، منتدى شــــارك فــــيه ممـــثلون لقبائل الدينكا والمسيرية والرزيقات ولذلك أطلق علــيه اسم DMR، الأحـرف الأولى بالإنجــليزية من أسماء القبائل الثلاث. الاجتماع الـــذي شــارك فيه بعــض أعضـــاء مجلس الشـــورى دون أن يحســــبوه ''تدويلاً'' كان تجـــربة موفـقة لكـيف يمكن للنـاس أن يعالجــوا مشاكلهم بالحكـــمة إن تركوا لأنفسهم وركزوا اهتمامهم في وسائل حماية المصالح الحيوية لأهلهم. وسبق الندوة إعداد فني جيد تمثل في عديد المذكرات حول قضايا الوجود، لا خزعبلات السياسة: البنى التحتية، المراعي ومصادر المياه، مراكز تجمع الماشية، الأســـواق، مسارات الرعي، آليات التوسط التقليدية بما فيها الزعامات القبلية والقيادات الدينية. ولعل درجة الحرية التي توفرت لأعضاء المنتدى مكنت المشاركين من النقاش الصريح حتى في الأمور ذات الحساسية مثل دور الأحزاب في تأجيج الصراع، ودور المثقفين في تلويث القضايا الوجودية بإقحام خلافاتهم المذهبية أو طموحاتهم الشخصية. هذه تجربة جيدة وجديرة بالاحتذاء في المناطق الأخرى، كما أن مثل هذا المسار أنبه وأجدى في علاج المشاكل من تبني الثوابت العدوانية، أو الاندفاع في الاستفزازات الإستعدائية. /////////////////// بروتوكولات نايفاشا .... البدايات والمآلات (10) أمتفائل أنت؟ لا، أنا متشائل! في المقالات التسع الماضية حاولنا إلقاء اضاءات كاشفة على بروتوكولات نايفاشا الستة وبروتوكول ماشاكوس، الإطار الجامع لها، لنُجلي للقارئ ما توصلت إليه من حلول للمشاكل التي أغرقت السودان في الدماء منذ نصف قرن. وعبر المقالات أبرزنا بقدر ما سمح المجال التراكم التاريخي لتلك المشاكل ليس فقط لتبيان عمقها، وإنما أيضاً لنوازن بين مناهج الإقبال على علاجها في الماضي وفي هذا الاتفاق. من تلك الموازنة خلصنا إلى أن هذه الاتفاقيات في مجملها تخاطب جذور تلك المشاكل التاريخية، أي جذور الأزمة السودانية، للمرة الأولى منذ الاستقلال. وهذا ما أعلن التجمع الوطني الديمقراطي في اجتماعه الأخير باسمرا (بيان هيئة القيادة يوليو 2004)، وكان في ذلك ناضجاً وأميناً. هل يعني هذا أن السودان على موعد مع مستقبل زاهي؟ هذا ما يقوله المتفائلون بعد أن رأوا للمرة الأولى تحديداً واضحاً لتضاريس الأزمة في هذه الاتفاقيات، وتحديد أبعاد الأزمة هو نصف الحل. رأوا أيضاً حكماً شمالياً مهيمناً على المركز يفعل ما لم يسبقه إليه حاكم مركزي: إمتلاك الشجاعة لدفع استحقاقات السلام بالنسبة للجنوب واستحقاقات اللامركزية بالنسبة للأطراف، ولا سلام أو استقرار دون دفع كليهما. وفي ذلك أيضاً نضج وحكمة. أما المتشائمون فسيقولون "هذا أروع مما يصدق" (it is too good to be true). لِمَ التشاؤم يا تُرى؟ اغلب الظن أن الذي لا يريد ان يستبشر بنعمة من الله وفضل آتاهما الله علينا، مازال أسير تجربة خمسة عشر عاماً من الكرب والضيق لم تنمح آثارها بعد، ولسان الآثار بليغ. أنا في حيرة من الأمر بين هذين القطبين، رغم أن التفاؤل ديدني. ما أقبلت على الحياة إلا وكلي ثقة، بعد استقدار الله خيراً، في قدرتي على تجاوز الصعاب. وفي النهاية، لا يُسر، إلا فيما يسر الله. أعجز لهذا تماماً عن إدراك أي دافع ـ مهما كان ـ يجعل أي سوداني لا يستبشر باليُسر القادم لبلاد ابتلاها الزمان بكروب بأكثر مما يستاهل أهلها، لا سيما وقد تطاولت العُسرى وتمدد ضيق الحال. هل يبعث هذا على التشاؤم ؟ تفاؤلي المَرَضي يجعلني أقول لا، ولكنه قطعاً يرمى بي في منزلة بين المنزلتين كما يقول أهل الاعتزال. تلك هي الحالة التي وصفها الكاتب الفلسطيني الراحل اميل حبيبي "التشاؤل". وموجبات التشاؤل عديدة وسأوضحها. لكيما أوضح ما أعنيه، ولإجلاء قضايا أخرى في هذا المقال سأبدأ من حيث لا يحتسب القارئ. في العام الماضي سمح الكونقرس الأمريكي لوزير الخارجية بتكوين فريق يقوم ببلورة سياسة أمريكية جديدة تجاه أفريقيا بهدف تطوير العلاقات الأمريكية - الأفريقية في كل المجالات، ومن الواضح أن الكونقرس شهد تخبطاً في سياسات الإدارة الأمريكية نحو القارة. على ذلك الفريق أُطلق اسم المجموعة الاستشارية لوزير الخارجية حول السياسات الأفريقية (Africa Policy Advisory Panel). وفي نهاية العام كلف وزير الخارجية الأمريكي، بالتعاون مع حكومة النرويج، مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية بجامعة جون هوبكنز، بما له من خبرة بالسودان، بإعداد تقرير للحكومتين يُقَدم أولاً للمجموعة الاستشارية حول ما ينبغي عمله لتمتين السلام في السودان. كان ذلك بعد الاتفاق الذي توصل له الطرفان بشأن الترتيبات الأمنية التي اعتبرت وقتها إيذاناً بان الاتفاق على الأبواب بعد تجاوز الطرفين عقبة صعبة المرتقي. الحرص على ذلك التقرير يكشف، بلا شك، عن رغبة الدولتين الراعيتين للمفاوضات وللاتفاق على المضي لآخر الشوط مع السودانيين من اجل ترسيخ السلام ودفع التنمية. فور تكليفه ابتعث المركز اثنين من خبرائه إلى السودان زارا الخرطوم والجنوب وجبال النوبة ثم عادا إلى واشنطن ليكملا التقرير، والذي رفع لوزير الخارجية في يناير 2004. وصدر التقرير تحت عنوان : "كيف يُضمن السلام، استراتيجية للعمل في سودان ما بعد الحرب." المركز، لمن لا يعرف أو يتذكر ، هو صاحب التقرير الذي أوصي في عام 2001 بقيام دولة واحدة بنظامين، وهو تقرير قابله التجمع بامتعاض لأنه دعا لتركيز كل جهود الولايات المتحدة على إنهاء الحرب ووضع القضايا الأخرى (مثل التحول الديموقراطي) في المضرم الخلفي (back- burner) من الموقد. الحركة أيضاً قابلت ذلك التقرير برد فعل غاضب لأنه اغفل كليةً حق تقرير المصير، في حين استقبلته الحكومة برضى خفي، ربما بسبب دعوته إلى تطبيع العلاقة مع الخرطوم ورفع درجة التمثيل الأمريكي فيها. فما الذي جاء به التقرير الجديد؟ وما هى علاقة ذلك ببواعث التفاؤل والتشاؤم؟ في بدايته قال التقرير أن أكبر تحدٍ يجابه السودان هو بناء مؤسسات قادرة على صيانة وحدة القطر وحماية حق الجنوب في الإدارة الذاتية، من ناحية، وعلى إنهاء الاختلال في الكفاءات المؤسسية والمهنية بين الشمال والجنوب، من الناحية الأخرى. وكنموذج لهذا الاختلال أشار التقرير إلى انه في الوقت الذي يمثل فيه الجنوب ثلث القطر (أرضا وسكاناً) لا يتجاوز عدد الأطباء فيه الست وثمانين طبيباً، وعدد الممرضين والممرضات الستمائة، كما لا يزيد عدد القضاة عن ثلاث وعشرين قاضياً في درجات القضاء المختلفة. هذه أمور لم تَخفَ على الطرفين، وقد أولياها اهتماماً ملحوظاً في الاتفاقيات التي وقعت بعد صدور التقرير، واستعرضنا جوانب منها في هذه المقالات. أقرب لموضوعنا ما أسماه التقرير المخاطر التي تتهدد الاتفاق، وتلك أحصاها في : التخريب من الداخل ، الديون الخارجية ، ضعف الأداء الحكومي، سوء استغلال الموارد، تدخل الجيران. وعند مخاطبة هذه المخاطر أورد التقرير توصيات لعل المراد منها أن تكون أساساً لسياسات الإدارة والدول الراعية للاتفاق تجاه السودان. من ذلك: حث المجتمع الدولي على التعاون مع السودان لضمان عدم العودة إلى العدائيات (توطيد الاجراءات الأمنية)، حث الأمم المتحدة والدول الكبرى على توسيع مبادراتها الاقتصادية والدبلوماسية لدعم عملية البناء (ويفترض، بل لا بد أن يشتمل هذا على حل مشكلة الديون)، الضغط على الطرفين لتوسيع نطاق المشاركة السياسية في الشمال والجنوب (التحول الديموقراطي والوحدة الوطنية)، وتوجيه جهود التعمير والتنمية نحو تكامل حقيقي بين المجموعات السودانية ، وبناء علاقات أفضل بين الجنوب والشمال وبين الجنوبيين والشماليين (ترسيخ وحدة القطر). لست بذي ولع بتقارير ذلك المعهد أولاً لدعواه الكبيرة بأنه سيد العارفين في الشأن السوداني، وثانياً لاختلافي مع النتائج التي توصل إليها في تقريره في عام 2001، والتي أثبتت الأحداث ما شابها من سوء تقدير. ولكني أعترف أن كلا الحكمين انطباعيين وواحداً منهما دوافعه ذاتية. إلا أنني هذه المرة لا املك إلا الاعتراف بحسن تقويم المركز للأوضاع، ولقراءاته الصائبة للمشهد السوداني، ومن ذلك توصيفه للمخاطر الداخلية التي تتهدد الاتفاق. في تناوله للمخاطر الداخلية، أو احتمالات التخريب من الداخل، لم يخلُ التقرير من طرافة، خاصة عندما ذهب إلى تسمية من هم أكثر الأطراف انتفاعاً من الاتفاق، وبالتالي أكثر حرصاً على حمايته، ومن الذين سيتضررون من الاتفاق ، وبالتالي هم أقل رغبة في حمايته. وضع التقرير على قائمة المنتفعين الرئيس البشير والدكتور جون قرنق، ومن بعدهما عامة الناس ، فالشباب ، ثم رجال الأعمال . البشير في رأي التقرير لن يضمن فقط دورة حكم كاملة في ظل سلام شامل يُحظى فيها بتأييد الشمال والجنوب، بل سيدخل التاريخ كأول حاكم يعيد للسودان الأمن والاستقرار. هذا تقويم صحيح، ولعل هذا ما عناه الرئيس البشير نفسه عندما قال، بعد أن حمد الله في خطابه في الذكرى الخامسة عشر للإنقاذ : إن السلام مكرمة غالية ادخرها الله لثورة الإنقاذ "ليتحقق على يدها أكبر حدث بعد الاستقلال". أما قرنق ، فيقول التقرير انه سيحقق بالاتفاق عدة أماني: السلام ، حكم الجنوب لنفسه بنفسه ، حل قضايا المناطق المهمشة التي ظل يكافح من أجلها ، لعب دور رئيس على الساحة القومية ، العمل على نشر أفكاره حول السودان الجديد بأسلوب سلمي . عامة الناس لا خلاف في أنهم أصحاب مصلحة مباشرة في إنهاء الحرب، بل هم أصحاب المصلحة الأولى فيها بسبب ما عانوه من ويلاتها ، وكذلك الشباب من الجانبين فقد كانوا دوماً وقود الحرب. أحسنهم حالاً من فر من أخيه وأمه وأبيه بحثاً عن ملجأ آمن. ولا تسألن عن المصلحة التي يترجاها رجال الأعمال في ظل السلام. للحروب تجارها، أما السلام فهو الذي يجعل من السودان بلداً مَتجْرَاً (تروج فيه التجارة) تتاح فيه لرجل الأعمال المستقيم فرص الكسب الوافر بسبب تعدد وتنوع برامج التعمير ، وتوجيه عائدات النفط للإنتاج من بعد أن كان جلها يذهب للمجهود الحربي، وتحسن العلاقات مع الجيران، ورفع الحظر والعقوبات عن السودان. في كل هذا صدق التقرير، في إشارته. مالم يشِر إليه التقرير عند رصده للمنتفعين من السلام هو الجيش في الجانبين. وقد علمتني التجارب، منذ اتفاق أديس أبابا، أن العسكريين دوماً هم الأكثر استجابة لدواعي السلام متى ما توفرت أسبابه. هذا إحساس لم يفارقني إثناء مفاوضات السلام الراهنة. إلى جانب المنتفعين بالسلام رصد التقرير العناصر التي يحتمل أن تخرب السلام في الشمال والجنوب. فمن جانب الحكومة، أشار التقرير لغلاة الإسلاميين، والمستمسكين بالسلطة، بعضهم حباً فيها، والبعض الأخر للاحتماء بها من أية محاسبة مرتقبة. كما ذكر من جانب معارضي النظام الطامعين في السلطة من السياسيين القدامى الذين فاتهم "قطار المكاسب" (GRAVEY TRAIN). أما في الجنوب فقد رصد التقرير الانفصاليين الذين لا تروق لهم فكرة الانصهار الوطني الذي قد ينجم عن التطبيق الجاد للاتفاق ، والمثقفين والسياسيين الطامعين في السلطة. إلى جانب هؤلاء، أضاف التقرير أن اكبر المخاطر، في حالتي الجنوب والشمال، ستجئ من الميليشيات العسكرية إما بسبب التفلت أو التحريض. هذه أيضاً قراءة صحيحة للمشهد، ولعل المرء يرى ملامحها والاتفاق لما يكتمل بعد. ومبلغ الظن أن احتمالات التخريب السياسي في الجنوب (إن استثنينا ما قد ينجم من المليشيات العسكرية) لن تستعصى على التحييد لأنها تتعلق بطموحات سياسية لأفراد أو جماعات يمكن احتواؤها مهما كانت درجة مشروعية الطموح. أما في الشمال فيَعوِّص الأمر اختلاط السياسة بالايديولوجيا من ناحية، "وبالحق التاريخي" في الحكم عند البعض، من ناحية أخرى. دعنا ننظر في الشمال إلى الشق الحاكم حيث يستشف المرء من الحملات المستترة دوماً والجهيرة في بعض الأحيان ضد الذين جنحوا للسلم من قيادات النظام وثبتوا عند ما تعاهدوا عليه، ما هو اخطر من الرغبة في تقويض الاتفاق. فأخطر من الرغبة في التقويض الرغبة عن السلام نفسه. ليس كل هؤلاء ممن عناهم الأمين العام للمؤتمر الوطني الدكتور إبراهيم احمد عمر بالشموليين في التنظيم ، فالمخربون الافتراضيون فِرَق . فريق يعرف جيداً أن الصلح خير وأن للسلام ثمناً مستحقاً إلا أنه يطمع في أن لا يكون هذا الثمن على حسابه. يقول الرواة، مثلاً، أن أحد مفاوضي الحكومة قال لوفد حزب الأمة في جيبوتي (25 نوفمبر 1999) عندما أثير موضوع المحاسبة: "أتريدون منا أن نعطيكم حبلاً تشنقوننا به؟" نتيجة لذلك انتهى اتفاق جيبوتي إلى النص على ما يلي : "النظر في كافة المظالم وإنصاف المظلومين". موقف ذلك المفاوض يعكس رد فعل طبيعي وبشري ، فقلما يُقبِل إنسان على الانتحار في سبيل آخر إرضاءً له إلا إن كان عاشقاً له ، وبه مستهاماً. ومفاوضات السلام لا تدور بين عنتر وعبلة. هذه قضية لم تشغل بال المتفاوضين طويلاً في نايفاشا إلا في إطار الحديث عن لجنة الحقيقة والمصالحة من أجل تطهير النفوس والأجواء لأن مفاوضي الحركة كانوا يعرفون جيداً أن المفاوض الذي يجلس قبالتهم لم يجلس للتوقيع على وثيقة الاستسلام. ولكن بين النظام ومعارضيه في الشمال ثارات كليب، وفي الساحة ألف مهلهل يطلب ثأره، لا في ساحة الوغى ولكن ساحة الصلح. رغم خداع النفس هذا أمر يستلزم العلاج، وأحسب أن الرئيس البشير في خطابه في العيد الخامس عشر قد أوجد للناس مخرجاً عندما قال : " أوجه جميع أجهزة الدولة لتراجع الإجراءات الاستثنائية القائمة التي اقتضتها الضرورة ، ولما لم يكن الظلم مقصداً للدولة أو نهجا لها فإننا نعلن براءتنا من كل ظلم أو تجاوز وقع في حق أحد ونعلن التزامنا بدفع الظلم ورد الحقوق إلى أهلها متى ما ثبت الحق لهم " . فلتكن هذه نقطة البداية للحوار فيما أسماه بروتوكول اقتسام السلطة "عملية المصالحة الوطنية الشاملة". وفي ظل المصالحة لا تهدف المحاسبة لإغاظة قلوب ، أو شفاء أخرى ، وإنما لإحقاق الحق ورفع الظلم حتى ينصرف الناس ، جميع الناس ، لما ينفع البلاد والعباد . الفريق الثاني هو فريق "الكنكشة" في السلطة من حيث هي سلطة. هؤلاء أمرهم عسير لأن الذين لا يهطعون إلا لداعي السلطان لن يدركوا أن رد المظالم الذي تتحدث عنه ماشاكوس ، واقتسام السلطة الذي أقرته نايفاشا، سيترجمان في نهاية الأمر إلى مراكز ومواقع ، ووزارات (نعم وزارات). ما يتوجب إقحامه في رؤوس هؤلاء هو أن اتفاق السلام، على المستوى الوطني، اتفاق لا خاسر فيه، ولكن للوصول إلى ذلك لابد من أن يكون على المستوى الشخصي خاسرون. الخيار، إذن، خيار بين الخسارة الشخصية والخسارة الوطنية، بين خيرات السياسة واحتياجات الوطن. هذا امتحان لوطنية الرجال، وامتحان أيضاً لحديث مجته الإسماع عن أن المواقع تكليف لا تشريف. الفريق الثالث هو الأهم، أصحاب الإيديولوجيات والذين مقصدهم فيما يعتقدون هو الله. لقضية هؤلاء جانبان ، جانب رؤيوي، والثاني سياسي بحت. فمن الجانب الرؤيوي نحسب أنه لم يعد في عالم اليوم من يؤمن أنه من حق أي بشر، أو في مقدوره، احتكار الحقيقة، أو قسر الآخرين على الامتثال لرؤية أحادية لها، أو التظني أن يقينيات فرد أو مجموعة يمكن أن تكون هي ثوابت الأمة كلها. ولكن يبدو أن في السودان قوماً لم يسمعوا بعد بما أصاب أهل الحتميات التاريخية الميكانيكية. من أولئك دولة هي دولة لينين كانت تملك عند سقوطها ترسانة من الأسلحة النووية تكفي لتدمير العالم ست مرات. ما من عاقل أيضا يملك أن يرتهن الوطن كله لفكرة تلبسته، ثم يُدخِل الوطن بسبب من ذلك في صراع مفتعل مع الدين. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً إن لم يكن أهل هذا الوطن ملةً واحدة، أو إن كان أهل الملة الواحدة فيه شيعاً وطوائف. في مثل هذه الحالة لا تصبح الحتميات فكراً انغلاقياً بل تتحول إلى يقينيات عدوانية. فإن كانت هناك لازمة واحدة من لوازم ممارسة الحرية الفكرية، فتلك هي حق الاختلاف. للأستاذ الراحل خالد محمد خالد مقالة في خلافه مع الشيخ حسن الهضيبي يفيد أن نستذكرها. قال: " وُجد الوطن في التاريخ قبل أن يوجد الدين، وكل ولاء للدين لا يسبقه ولاء للوطن هو ولاء زائف وليس من روح الله ، فالوطن وعاء الدين وسناده ". هل نقول من هنا نبدأ؟ نعم من حق الإنسان أن يضحي بروحه من أجل فكرته، ونعرف أن من أنصار النظام كما من مناصري خصومه من ضحوا بأرواحهم في سبيل ما يعتقدون. نعرف أيضاً في التاريخ من أقدم على التضحيه بابنه في سبيل الله (إبراهيم واسحق) وهو قرير العين. ولكن الوطن ليس ملكاً لأحد حتى يضحي به في سبيل ما يعتقد. الوطن لكل أهله، وينبغي أن يتسع لهم جميعاً. يتسع للمسلم وللمسيحي ولأهل المعتقدات التقليدية. وليس الدين وحده هو الذي يجمع بين المواطنين، فبين أهل السودان من يختزل الوطن كله في الهلال والمريخ، ولا يشغله سواهما. هذا أيضاً من حقه أن يستمتع بوطنه على الوجه الذي يراه. يتمنى المرء أن تكون الرسالة التي بعث بها النائب الأول في خطابه أمام مجلس التعايش الديني (3/8/2004) قد وصلت إلى الجميع. قال: "إن محتوى الاتفاقيات يخلق واقعاً تسقط فيه الحواجز وتنفتح المسلمات ليتقارب الناس وليكتشفوا بعضهم وليؤسسوا على ما يجمع بينهم على أساس التعايش والاحترام المتبادل. إن التسامح هو خصيصة في قلب كل السودانيين، مسلمين أو مسيحيين أو أصحاب معتقدات عرفية أو على ديانة أخرى". لو وصلت الرسالة ووعيها كل من وجهت إليهم ، قلت درجة التشاؤم . من الجانب السياسي، يظن المرء أن التحولات البارزة التي طرأت على العالم بعد زلزال 11 سبتمبر قد تركت أثراً على المفاهيم، لا سيما وتوابع الزلزال ما زالت تتردد، وغمامتها ما فتئت تُكدر السموات. وان كان هناك خطاً فضياً واحداً تحت تلك الغمامة فهو أنها جعلت الكثيرين يعيدون حساباتهم، ولم يكن السودان بعيدا عن هؤلاء. ولئن واتت النظام الفرصة، بسبب من هذا، ليخرج من عزلته الخانقة، ثم واتت الحركة الإسلامية الفرصة لتسترد مكانها كعنصر فاعل في السياسة الوطنية على قدم المساواة مع الآخرين أولاً بسبب الاتفاق مع أكثر معارضيها لدداً، وثانياً برضى كل أهل السودان بمن فيهم من اقتلعت منهم السلطة، أو لا يرى المعاندون في هذا مكسباً للتوجه الإسلامي ؟ ثم أو لم يفطنوا بعد إلى أن الاستئثار بالسلطة، أو أن شئت التمكين المطلق فيها، قد حول السلطة إلى طيلسان مسموم؟ لقد أجاد د. الطيب زين العابدين عند ما دعي لتشكيل " كتلة إسلامية مؤثرة واعية من قلب النظام تنبذ الأوهام وتعقل الحقائق الكبرى المحدقة بالوطن وتدرك أن الجبهة الداخلية لا تبني بلا استحقاقات غالية ينبغي أن تدفع". أن تفكيك الإنقاذ لا يعني نهاية الدين في السودان بل، حسب رأيه، "يصح القول أن استمرار الإنقاذ بحالتها الراهنة فيه إضعاف للدين في السودان". (الصحافة 15/8/2004). هذا رأي جدير بالاستماع ، وقد خاطر من استغنى برأيه. ومقال د. الطيب فيه شئ من أدب أهل التصوف، قال الجنيد: "أتخذ لنفسك مرآتين، أنظر في أحدهما عيب نفسك، وفي الثانية محاسن الناس". نجئ على مخربي السلام من الجانب الآخر أي على الذين معضتهم ثنائية الاتفاق. الامتعاض من الاتفاق الثنائي شعور طبيعي، لاسيما وقد ذهب الاتفاق بعيداً، ولربما أبعد بكثير مما ظن الطرفان عندما جلسا للتفاوض. فالاتفاق يمثل أعادة صياغة كاملة للسودان: سياسياً وإدارياً واقتصادياً، وبهذا هو عودة بالقطر لمنصة التأسيس (back to the drawing-board). ورغم أن في ذلك العود خير لأنه خاطب المشاكل التي ظلت تؤرق البلاد منذ الاستقلال، إلا أن اتفاقاً كهذا لن تكتب له الديمومة إن لم تشارك في صوغه كل القوى السودانية، السياسية والاجتماعية. في هذا لا خلاف بين طرفي الاتفاق كما أكدا بعد توقيعه، وها هو الحوار سيبدأ بين التجمع والحكومة غداً، وبمشاركة من الحركة الشعبية، باعتبارها عضواً أصيلا في التجمع. وبدهي أن يكون الحوار بُناءً على ما تم، لا نقضاً له، كما ينبغي أن يتسع ليشمل أطرافاً أخرى غابت عنه مثل حزب الأمة. هذا هو الطريق الأوفق، وليس الدعوة لقيام منابر جديدة للحوار، أو السعي لإغراق اتفاقيات السلام في قضايا أخرى، إلا إن كانت الغاية هي إرضاء الخيلاء الشخصية. وعلى وجه التحديد لن يكون هناك تراجع في أساسيات الاتفاق: وضع الجنوب، وضع المناطق المهمشة، اللامركزية وسلطة الولايات، أسس اقتسام الثروة وضرورة ضبط توزيعها، إعلان الحقوق واستغلال القضاء وسيادة حكم القانون، العاصمة، الدستور والقوانين إلا فيما ستتوافق عليه الأطراف في المؤتمر القومي الدستوري. ولئن قال قائل أن في هذا إجحاف بحق الآخرين يكون مخطئاً، فما إشادة التجمع بالاتفاق لأنه خاطب جذور الأزمة إلا لأنه تناول هذه القضايا بالذات وتوصل إلى حلول بشأنها. وقد بقيت تلك المشاكل إما لأنها استعصت على الحل، أو لأنها لم تكن تحتل المكان اللائق بها في هرم الأولويات، أو لأي سبب آخر. فكما يقول هيقل حتى الوقائع اللاعقلانية في التاريخ هي عقلانية، لأنها تصدر عن سبب موضوعي. ولكن أن ظن البعض، بعد كل الذي تحقق في ساحة السلام، أن لليلى المريضة بالعراق طبيباً مداوياً واحداً لا بد من إخضاعها لتطبيبه حتى وان أبلت ليلى من دائها، فذلك أمر يتعسر عقله. ولعله تعبير عن الظاهرة التي أسلفت الإشارة إليها: ظاهرة الطبيب الذي أصبح عند فئة من السودانيين أهم من المريض. ما الذي ينبغي، إذن، أن يكون محط الاهتمام من جانب الذين لم يشاركوا في صوغ اتفاقيات السلام؟ الاتفاقيات، في جوهرها،هي خارطة طريق لتحول ديمقراطي يبدأ ببداية الفترة قبل الانتقالية، وينتهي بإجراء الانتخابات في بداية النصف الثاني من تلك الفترة. ومنذ ماشاكوس أقر الطرفان تكوين لجنة قومية لمراجعة الدستور خلال الفترة الانتقالية وأجبها الأساس وضع إطار دستوري وقانوني. هذا النص طور في بروتوكول اقتسام السلطة ليتحدث عن إنشاء لجنة قومية لمراجعة الدستور تتكون من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وممثلين للقوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني حسبما يتفق عليه الطرفان ، وعلى هذه اللجنة أن تكمل واجبها في خلال ستة أسابيع من إنشائها. لهذا، يصبح من أولى المهام التي يتوجب حسمها بين طرفي الاتفاق والقوى السياسية الأخرى في الحوار المرتقب مع التجمع التواطؤ على كيفية تشكيل هذه اللجنة. ويوجه البروتوكول أن تعتمد اللجنة في إعدادها للإطار الدستوري الجديد على اتفاقية السلام والدستور القائم مع الاستفادة من أي تجارب ووثائق متلازمة يطرحها الطرفان " . اعتماد الاتفاق والدستور القائم كوثيقتين أساسيين لعمل اللجنة صحبه تمحك من جانب البعض في الشمال، ربما لما فيه من مظنة الاعتراف بذلك الدستور، رغم ما يتيحه الاتفاق للجنة من فرص للاستفادة من أي وثائق أخرى. هذا محك لا معنى له ، بل هو مغالطة . فالنظام الذي يفاوض التجمع يحكم بهذا الدستور ويحتكم إليه. واتفاق السلام عندما يكتمل سيقره المجلس الوطني وهو مجلس قائم على هذا الدستور، بل أن الدستور التي ستضعه اللجنة لن يصبح دستوراً للسودان إلا بعد إقراره من جانب المجلس الوطني، والمجلس الوطني للحركة. هذا النوع من المحك يدعو للتشاؤم لما فيه من عجز عن التمييز بين الشجيرات والأكمة. أنا من الناقدين لهذا الدستور وقد أوسعته نقداً في ما كتبت، ومنه هذه المقالات. بيد أنا جميعاً، حكومة ومعارضة، نسعى للعبور لمرحلة جديدة، فبماذا يفيد شق الشعيرات. التحول الديموقراطي يتطلب في البدء إجراءات لتهيئة المناخ ، وللتجمع آراء في هذا الشأن سبقت التحضير للمفاوضات تحت ظل المبادرة المشتركة (المصرية-الليبية). وبلا شك ستكون تلك الآراء، وما سيلحق بها من تعديلات اقتضتها التطورات، على رأس أوراق عمل المنتدى التفاوضي. ومما يجدر ذكره أن تقرير معهد الدراسات أولى هذا الموضوع اهتماماً خاصا إذ وردت فيه توصيات محددة بشأن تهيئة المناخ هي : إلغاء حالة الطوارئ ، وضع جدول محدد للانتخابات ، توفير الحريات المدنية مثل حرية العقيدة ، التنظيم، الاجتماع ، التحرك، الشفافية في أداء الأجهزة العامة وضبط اليات الرقابة، إلغاء القوانين المقيدة للحريات بما فيها قانون الأمن القومي وقانون الإجراءات الجنائية 1991 وبخاصة المواد المتعلقة بالتحقيق والاعتقال والحجز التحفظي ، إعادة تنظيم أجهزة الأمن والتي أسماها التقرير الثعبان الأسطوري ذا الرؤوس المتعددة (multi-headed hydra). جميع هذه الموضوعات تناولها بروتوكول اقتسام السلطة إما بالتفصيل، أو بإقرار مبادئ موجهة للجنة مراجعة الدستور أو الحكومة الانتقالية. مع هذا تظل هي من بين القضايا الهامة التي ستعني بها الأطراف الأخرى في المفاوضات المرتقبة لانها تدخل في صميم عملية التحول الديمقراطي. توفير المناخ ليس هدفاً في حد ذاته وإنما هو ضرورى لكيما تستطيع القوى السياسية والاجتماعية أن تلعب دورها بفعالية بحسبانها الحاضنة الاجتماعية للديموقراطية ، فلا ديموقراطية بلا أوعية سياسية واجتماعية تحضنها. وبعد عقد ونصف عقد من الزمان كانت فيه الأحزاب في حالة بيات شتوي لا تستطيع الأحزاب أو المنظمات المُعارِضة أن تقول "جاهزين، جاهزين " لحماية أي شئ . الحرية والمناخ الصحي مطلوبان أولاً لتمكين الأحزاب من ترتيب بيوتها الداخلية. إن الانطباع الذي يعطيه بعض السياسيين الحزبيين في تصريحاتهم بأن القضية الأولى هي السلطة، والسلطة المركزية على وجه التحديد، مؤشر لا ينبئ بخير ويضعف من التفاؤل. لماذا؟ أولاً لأنه يكشف عن عدم استيعاب، أو انعدام الرغبة في استيعاب، دلالات التحول الذي فرضته اتفاقيات السلام. ثانياً لان الاشتهاء العارم للسلطة دون أن يصحبه سعي ملحوظ لتحديد رؤى وبرامج حول ما ستفرضه الاتفاقيات على كل السودان يوحي بان السلطة في حد ذاتها هي الهدف، وهذا عود لما هو غير حميد في تجاربنا السابقة. فالاتفاق قد منح الولايات سلطات لم تملكها من قبل، ووفر لها موارد فوق ما كانت تطمح فيه بسبب تجاربها مع هيمنة المركز في الماضي. أو ليس من واجب الأحزاب التي درجت على اعتبار أن تلك الولايات / الأقاليم طوع بنانها أو رهن إشارتها أن يكون لها تصور حول تطوير هذه المناطق وتنميتها على المدى القريب وللمستقبل. ثالثاً ترتكب الأحزاب جناية كبرى في حق نفسها إن سلكت هذا المسلك لأن التحول الذي سيطرأ على موازين القوى بين المركز والأقاليم قد يقود إلى بروز تنظيمات سياسية إقليمية أكثر قربي بمصالح أهلها. وبالرغم من أن هذه الظاهرة معروفة في بلاد أخرى كالهند مثلاً أو حتى بريطانيا (الحزب القومي الاسكتلندي، والحزب البروتستانتي الايرلندي) إلا أن الأحزاب القومية في هذه الدول ظلت هي صمام الأمان للوحدة الوطنية، ولهذا يظل دور هذه الأحزاب في السودان هاماً وضرورياً. هذا هو الدور الذي ينبغي أن تستمر الأحزاب القومية في أدائه، ولكن فعاليتها ستضعف كثيراً إن استمرت في الظن أن دور ممثليها في الأطراف هو دور متعهد توريد للناخبين في فترات الانتخابات. يقودني هذا إلى الحديث عن تشويش لا يفيد فيما يتعلق بموضوعي السلطة والثروة، وأشير إلى الحديث الذي يلخص الأول منهما في النسب التي حُظي بها كل من الطرفين المتفاوضين وضازا بها حق الآخرين، ويلخص الثاني في نسب توزيع البترول بين الشمال والجنوب. الأمر الأول لا مُشاحة فيه، فتلك قسمة ضيزى فرضها توازن القوى كما قلنا في أكثر من موقع، كما فرضها حرص الطرفين على الإمساك بدفة الأمور في المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية. تلك هي فترة البناء أو الانهيار (make or break). على أن هذه الأرقام لم تُسبك من حديد ولهذا فمن حق القوى السياسية الشمالية، كما من حق القوى السياسية الجنوبية بالنسبة لحكومة الجنوب، أن تتفاوض مع الطرف المعني للوصول إلى معادلة مناسبة تمكنها من أن يكون لها وجود فاعل، كان ذلك على مستوى الحكم المركزي أو الولايات. وفي هذا الشأن، لن يفيد كثيراً الارتكان إلى معادلات ستاتيكية مثل النسب في الانتخابات السابقة كمعيار لموازين القوى، فالسياسة فعل متحرك. ولو صحت مقولة العودة إلى نسب الانتخابات الأخيرة ـ والتي كثيراً ما رددها رئيس الوزراء السابق ـ أو أمكن الارتكان إليها لَسُهل الحل. الحل يصبح بسيطاً: تخلي الرئيس البشير عن موقعه لرئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء السابقين. إن لم يحدث هذا، فلان هناك معطيات موضوعية يجب أن يتعامل معها الناس برشد. أياً كان الأمر، الذي نتمناه هو أن لا تُحمل الأطراف على اللجوء إلى سياسات الترضية بخلق مواقع تشريفية وزارية لاستيعاب من فاتهم قطار المكاسب، كما أسماهم مركز الدراسات، لأن في هذا إجهاض للاتفاق نفسه. فالاتفاق أولاً آلية لخلق لامركزية حقيقية تتطلب، ضرورة، إنهاء هيمنة المركز على الأطراف بتقليص سلطاته وتوسيع سلطاتها. ثانياً يهدف الاتفاق إلى توزيع عادل للموارد وتوجيه رشيد لها للارتقاء بالوطن: رفع مستوى المناطق الأقل نموا إلى أعلى متوسط نمو في بقية أنحاء القطر، إعادة تشييد البنى التحتية المادية والاجتماعية، إزالة آثار الحرب. هذا امتحان لجدية الذين وقعوا الاتفاق في الانتقال بالسودان من دولة الرعاية للنخب إلى دولة الرعاية للمواطن. وعلى المستوى الشخصي، سأكون من أكثر الناس شقاءً لو شهدتُ في الخرطوم حكومة مركزية يتجاوز وزراؤها العشرين بالكاد. بل يكون من الخير أن لا تنشأ، بعد الاستقرار على العدد من الوزارات المركزية التي تقتضيها الحاجة، أي وزارات جديدة إلا بقانون تجيزه السلطة التشريعية. فيما قرأت حول هذه النسب، من جهة أخرى، ما يوحي بخلط للأوراق، فالنسب التي أشار إليها الاتفاق تتناول البرلمان والحكومة ولا شأن لها بالخدمة العامة، أو اللجان القومية، أو الأجهزة العامة. وحيثما وردت إشارة لمثل هذه النسب في الحديث عن الخدمة العامة أو أجهزة الأمن كان ذلك بالنسبة للجنوبيين (وليس للحركة الشعبية) بهدف إعادة التوازن في هذه الأجهزة التي حُرم منها الجنوبيون زماناً. هذا جزء من رد المظالم الذي نتحدث عنه دوماً ونكاد نرفض تنزيله على أرض الواقع. أما اللجان مثل لجنة الانتخابات أو لجنة حقوق الإنسان، أو المؤسسات مثل القضاء وأجهزة الأمن فهذه، بطبيعتها، أجهزة يفترض فيها الحيدة، ولهذا يكون الاختيار لشاغلي المناصب فيها قائماً على الكفاءة والأمانة والقدارة المهنية مع مراعاة التعدد والتنوع في السودان. نفس خلط الأوراق حدث في بعض الإشارات لاقتسام الثروة (بروتوكول اقتسام الثروة) والذي صُور وكأنه توزيع إهتبالي. هذه قراءة مجحفة للبروتوكول حتى فيما يتعلق بتوزيع عوائد البترول. فنحن، مثلاً، لا نستطيع الحديث عن إعادة بناء ما خربته الحرب في الجنوب دون أن نفترض أن لذلك ثمناً. ولا يمكن أن نتحدث عن الخراب الذي أوقعه إنتاج البترول بذلك الإقليم (اجتماعياً وبيئياً) دون أن نحسب أن لذلك ثمناً. ولا يمكن أن نتحدث عن الارتقاء بإقليم بحجم يوغندا ورواندا وكينيا وليس به كيلومتراً واحداً من الطرق المرصوفة ولا نحسب أن لذلك تكلفة. ينص الاتفاق أيضاً على أن يكون لأي منطقة ينتج فيها النفط نسبة محددة من عائداته وهذا ينطبق على كل إقليم ينتج نفطاً، في الشمال أو الجنوب. الذي يمكن المطالبة به، مثلاً، هو أن تتخذ حكومة الوحدة الوطنية من تلك الصيغة نموذجاً لتوزيع الموارد الأخرى غير المتجددة في مناطق إنتاجها (الذهب في شرق السودان مثلاً)، أو أن تقرر نسباً لكل ولاية من عائد النفط لأهداف التنمية حسب حاجتها. وفي المقال حول الاقتصاد أشرت للتجربة الكندية حول التكافؤ بين الولايات، وهي نموذج جدير بالاحتذاء. رغم كل هذه المخاطر توفرت لاتفاق السلام هذه المرة ضمانات لم تتوفر لاتفاق أديس أبابا. فالاتفاق أولاً يتمتع بضمانات عضوية (organic guarantees) على رأسها حكم ذاتي قوي في الجنوب، وموارد مستقرة ومضمونة (أي لا تخضع لتقدير ـ إن لم نقل لأهواء ـ طرف آخر)، وقوة عسكرية للحماية الذاتية. جميع هذه الضمانات لم تتوفر لاتفاق أديس أبابا إذ كان الحكم الذاتي هشاً واعتمدت استمراريته على حسن نوايا نظام شمولي انتهى إلى نظام فرد نزوي، والموارد المالية (بما في ذلك ما حدده الاتفاق) شحت وعسرت ،أما الجيش والذي تم الاتفاق على تكوينه في الجنوب بانصهار عناصر الانانيا فيه شريطة أن يقوم على معادلة محسوبة: جندي جنوبي مقابل كل جندي شمالي فقد أنتهي إلى جيش يهيمن عليه الشماليون مما أدى في النهاية إلى الانفجار. الإختلاف الآخر هو أن هذا الاتفاق يتم في ظل تحول ديمقراطي تتوفر فيه وسائل الكبح والتوازن في الأجهزة (مجلس الولايات)، والصحافة الحرة، ومنظمات المجتمع المدني، وكل ذلك يجعل الخروج عن الاتفاق أمراً عسيراً على أية حكومة في الخرطوم، لا سيما أن كانت نتيجة الخروج هي العودة للحرب، أو كان ثمنه هو تمزق القطر وانفراط عقد وحدته. ولمجلس الولايات أهمية خاصة إذ أنه لا يُعين فقط على تقليص الهيمنة المركزية على الأطراف، وإنما أيضاً يستبدل الاستقطاب التقليدي (الشمال / الجنوب) بعلاقة متعددة الأقطاب حيث يصبح المركز في جانب، والولايات (شمالية / جنوبية) في جانب آخر. هذه العلاقة المحورية الجديدة تدعم الوحدة إلا عند الذين لا يريدونها إلا وحدة يهيمن عليها المركز. توفرت للاتفاق أيضا ضمانات خارجية لم تكن موجودة في اتفاق أديس أبابا، والذي كان الاهتمام الدولي به جد محدود. ذلك الاهتمام كان نتيجة لجهد دبلوماسي مكثف بعد توقيع الاتفاق، أولاً على المستوى الأفريقي والعربي ثم الدولي، عندما سعينا لاستصدار قرارات من مؤتمر القمة الأفريقي، والمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، ثم الجمعية العامة تشيد بالاتفاق وتوجه الدول بتقديم يد العون للسودان لإنفاذ برامجه التنموية في الجنوب. أما في حالة هذا الاتفاق فقد استقر الرأي منذ البروتوكول الإطاري على تكوين آلية للمراقبة والتقويم على أساس التمثيل المتساوي للطرفين إضافة إلى ممثلين لا يزيد عددهم على اثنين لكل جهة للدول الآتية: دول الايقاد (إثيوبيا، إرتريا، جيبوتي، كينيا، يوغندا) الرقباء (إيطاليا، الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج) وأي دول أخرى أو هيئات إقليمية أو دولية يتفق عليها الطرفان. والنص الأخير قصد منه إتاحة الفرصة لبعض دول الجوار المؤثرة والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية للمشاركة في رعاية السلام. من بين المخاطر التي نبه إليها التقرير تلك التي قد تنجم عن انفراط عقد الأمن وسط المليشيات أما بسبب التفلت، أو الخطأ العفوي، أو التحريض. تناول هذا الموضوع بروتوكول الترتيبات الأمنية الذي وقع في نايفاشا (25 سبتمبر 2003) ليكون أساساً لوقف إطلاق النار الشامل والمراقب دولياً، والذي يبدأ فور التوقيع على اتفاق السلام الشامل. وتضمن البروتوكول إجراءات غير مسبوقة مثل وجود قوتين نظاميتين يكَوِّنان معاً جيش السودان. وكما أبنا هذا واحد من أهم الضمانات العضوية بالنسبة للحركة، وقد أقره الطرف الآخر كواحد من إجراءات بناء الثقة، بل كأهم إجراء فيها. ينص الاتفاق في مبادئه على: · في إطار السودان الموحد، وحتى تكون الوحدة خياراً جاذباً عند الاستفتاء وتقرير المصير، يتفق الطرفان على تشكيل الجيش السوداني الذي سيتكون من القوات المسلحة والجيش الشعبي لتحرير السودان. · كجزء من اتفاقية السلام، ومن أجل إنهاء الحرب تبقى القوات السودانية والجيش الشعبي منفصلين خلال الفترة الانتقالية ويتفقان على أن يتلقيا، وعلى قدم المساواة، نفس الاعتبار باعتبارهما مُقَوِّمين للقوات المسلحة القومية، آخذين في الاعتبار ضرورة التخفيض النسبي في القوات من جانب الطرفين إثر انتهاء ترتيبات وقف إطلاق النار. · تنشأ تحت مؤسسة الرئاسة لجنة دفاع مشترك (Joint Defence Board) تتكون من رئيسي الأركان للقوتين ونائبيهما وعدد من الضباط يتفق عليه للتنسيق بين القوتين وتكون قراراتها بالتراضي وتأكيداً للوحدة اتفق الطرفان على تكوين قوات خاصة من الجيشين اقترحت الحركة أن تسمى قوات موحدة (integrated) وفضلت الحكومة أن تكون مشتركة (joint) ولهذا أطلق عليها اسم القوات المشتركة / الموحدة. هذه القوات تتكون من عدد متساو من الجيشين خلال الفترة الانتقالية وتكون نواة لجيش السودان بعد الاستفتاء (إن كان الخيار هو الوحدة) توزع على الوجه التالي: 24 ألفاً في الجنوب (اتفاق أديس أبابا نص على وجود 12 ألفاً في الجنوب نصفهم من الجنوب والنصف الآخر من الشمال)، 6 ألاف في جبال النوبة، 6 ألاف جنوب النيل الأزرق، 3 ألاف في الخرطوم. وحددت لهذه القوات الواجبات التالية: أن تكون رمزاً للوحدة الوطنية خلال الفترة الانتقالية، أن تكون رمزاً للسيادة، المساهمة في الدفاع عن الوطن، المشاركة في البناء والتعمير. ومن بين أهم الأشياء التي اتفق عليها تطوير عقيدة عسكرية مشتركة لهذه القوات تصبح هي عقيدة الجيش السوداني الجديد. نص الاتفاق، إلى جانب ذلك، على أن تستوعب الحركة الشعبية الجنود الجنوبيين المسرحين من القوات المسلحة في العمل في المؤسسات المختلفة لحكومة جنوب السودان جنباً إلى جنب مع المسرحين من الجيش الشعبي، وتعهد الطرفان، بمساعدة المجتمع الدولي، على إعداد برنامج مشترك لنزع السلاح والتسريح وإعادة الاستيعاب في الحياة العامة سُمي اختصاراً DDR (Demobilization, Disarmament and Reintegration). قرر الطرفان أيضاً أن لا يسمح لأي مجموعة مسلحة للعمل خارج القوتين المتفق عليهما على أن يعمل الطرفان على ما يلي: أ. استيعاب المؤهلين من الجماعات المسلحة في القوات النظامية لأي من الطرفين (الجيش والبوليس، والسجون)، بجانب الخدمة المدنية والمؤسسات العامة الأخرى. وهذه بلا ريب يعني إشارة للمليشيات. ب. معالجة وضع المجموعات المسلحة الأخرى في القطر بهدف تحقيق سلام واستقرار شاملين وهذه الإشارة قد تستوعب العمل المسلح في دارفور وشرق السودان خاصة وفي الاتفاق نص صريح حول قوات الجيش الشعبي في شرق السودان والتي ستشملها قرارات إعادة الانتشار جنوباً إلى جنوب حدود الشمال/ الجنوب (1/1/1956) في خلال عام من بداية مرحلة ما قبل الفترة الانتقالية. القراءة المتانية لهذا الاتفاق، والذي أبدى العسكريون من الطرفين إدراكاً واضحاً لضروراته، تُبين أنه كان السبيل الوحيد للوصول إلى صيغة توفق بين احترام القواعد المرعية في تنظيم وقيادة الجيوش، وبين ضرورة إزالة مخاوف كل الأطراف بما في ذلك المليشيات. كما أن البروتوكول يمهد تدريجياً لبناء جيش وطني جديد بعد تقليص القوات الحالية مع مراعاة حقوق المسرحين، على أن يدرب ويسلح ويجهز ذلك الجيش على منوال واحد وتحت إشراف قيادة مشتركة. وسيكون التدريب على أساس عقيدة عسكرية مشتركة غايتها حماية الوطن. وكان النائب الأول واضحاً في حديثه المطول لتلفزيون السودان في 26/7/2004 عندما أوضح إن تلك العقيدة القتالية هي حماية الوطن ولا شأن لها بنوايا المقاتل الداخلية أو تدينه، وعلى ذلك بين الطرفين وفاق. نجئ هنا إلى الجانب الأكثر تعقيداً، خاصة إزاء التجربة الراهنة في دارفور. ففي تقرير المركز توصيات يفيد أن نتوقف عندها. من هذه التوصيات دعوة دول الترويكا + 1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، النرويج، ايطاليا) بالتعاون مع الأمم المتحدة على تبني برنامج للـ DDR يجئ تحت الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك الباب من الميثاق يتناول الاعتداءات ومهددات وانتهاكات السلام الدولي ويمنح مجلس الأمن سلطات واسعة (المواد 39- 42) تتيح له التدخل إما عسكرياً أو بإجراءات غير عسكرية مثل قطع العلاقات الدبلوماسية، والحظر، ومنع الاتصالات، والعقوبات الاقتصادية. ولحسن الحظ اتفق الطرفان على أن يكون اسهام الأمم المتحدة في حفظ السلام بموجب الباب السادس والذي يتناول الحل السلمي للنزاعات، ويشير في المادة 36 (2) منه إلى أن مجلس الأمن يمكن أن يأخذ في الاعتبار إجراءات التسوية التي اتفق عليها الطرفان. وتحت هذا الباب لا يسمح للقوات الدولية باستخدام السلاح إلا في حالات الدفاع عن النفس. وعلى أي، اقترح التقرير تكوين قوة احتياطية من 500 إلى 600 تُستدعي عند الضرورة وتوفر لها وسائل النقل السريع (براً وجواً) وتستخدم ريثما تقوم بتدريب القوات السودانية المشتركة على عمليات مقاومة التمرد (counter insurgency). وفي هذا المجال هناك قائمة من الدول الأكثر استعداداً للإسهام في هذه القوات مثل أسبانيا، فرنسا، الأرجنتين، الهند، الأردن، نيجيريا. وفي تقديرنا، لا ضير في ما اقترحه تقرير المركز على أن لا يقتصر دور الأمم المتحدة على إجراءات المراقبة والحيلولة دون تجدد الصراع بل يجب أن يشمل تدريب/ إعادة تدريب الجيش على ضوء العقيدة العسكرية الجديدة، وتقوية هياكله بالصورة التي تحقق الانصهار بين القوات وتوفر لها القدرة على التحرك السريع مع توحيد اللبس والتسليح. وكان التقرير بارعاً في إشارته إلى أن السودان بحسبانه أكبر دولة أفريقية، وقطراً تحده ثمانية دول، في حاجة إلى الدفاع عن حدوده إلا أن خط الدفاع الأول بالنسبة له ينبغي أن يكون تحسين علاقاته مع جيرانه. التدخل الخارجي دالة على ظاهرة داخلية، وليس سبباً لها، إلا في حالات الدول الكبرى ذات الأطماع التوسعية. فالتدخل غير الحميد من جانب الجيران هو دوماً إما رد بالمثل، أي رد فعل على تدخل، أو حماية للنفس من تداعيات مشكل تسرب من دول الجوار، أو استجابة لايعاز داخلي. ومتى ما تصالحت الدول في داخلها مع نفسها، والتزمت مبادئ حسن الجوار، واعتمدت التعايش السلمي والعمل المشترك منهجاً للتعامل مع جيرانها، كان وئام. فالدول التي تغرق في مستنقع الصراعات الداخلية تفتح الباب واسعاً للتدخل، خاصة إن هددت تلك الصراعات، بشكل مباشر أو غير مباشر، دول الجوار. هذه سنة الحياة منذ حروب المدن الإغريقية. كما أن الدول التي تفترض لنفسها رسالة في الحياة تتجاوز حدودها، أو تسعى لتصدير نماذجها في الحكم، أو تعمل، بطريق مباشر أو غير مباشر، على إملائه على الآخرين، عليها أن لا تدهش من ردود فعل الآخرين. من جهة أخرى، يعرف الحاكم والمعارض في السودان أنه متى ما ملأ نظام حاكم حياة المواطنين ضيقاً حتى استحاروا في أمرهم، أضطر هؤلاء إما للاستنجاد بالآخر الأجنبي بحثاً عن المساندة أو الملجأ الآمن، ولنا في هذا تاريخ يعود للقرن التاسع عشر. العلاج لكل هذه الأدواء هو التصالح مع النفس والعيش في وئام مع بعضنا البعض، ومتى ما تحقق ذلك سددنا باب ذرائع التدخل. هذه هي الروح التي أملت على الطرفين في نايفاشا الاتفاق على مناهج للعمل الخارجي منها عدم التدخل في شئون الدول الأخرى، ورعاية علاقات حسن الجوار، والتعاون المتبادل مع كل الجيران، ومكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي، وتحقيق التكامل الأفريقي والعربي في إطار الخطط القائمة. منذ بداية الحديث عن إرسال قوات دولية للسودان (تصريح كولن باول بإرسال ثلاثين ألف جندياً)، انبرى الكثيرون ـ كل من منطلقه ـ لإثارة المخاوف. لهذا فإن اتفاق الطرفين على طبيعة الدور الأممي أمر مشجع. فدور الأمم المتحدة في الإطار الذي سيرسمه الطرفان دور ضروري ليس فقط في المراقبة (كما هو الحال في جبال النوبة والجنوب الآن) إنما أيضاً في نزع السلاح، نزع الألغام، وحشد الدعم الدولي للتدريب والتأهيل للقوات المسلحة والبوليس. وللبوليس دور هام يجب أن لا يغفل أبداً لأن حفظ الأمن في النهاية هو مسئولية البوليس وليس الجيش. للأمم المتحدة تاريخ طويل في حفظ السلام بدأ في عامي 1948 و 1949 (الحالة الأولى هي مراقبة بعد الحرب العربية الإسرائيلية والثانية لمراقبة الحدود الهندية ـ الباكستانية عقب اندلاع أزمة كشمير). ومنذ ذلك التاريخ شملت جهود الأمم المتحدة لحفظ السلام كل المعمورة، فما من قارة إلا وكان لها فيها نشاط. هذا أمر تفيد الإشارة إليه لأن بعض ما يتردد حول دور المنظمة الدولية يوحي أن في السودان نفراً يفترض أن بلادنا ليست جزءاً من الكون، رغم تعرضها مرتين خلال العشر سنوات الماضية لعقوبات مجلس الأمن. وبتلخيص مفيد شملت قرارات حفظ الأمن، أو المراقبة، أو بعثات التحقيق في الوطن العربي وأفريقيا وحدهما: مصر (لجنة المراقبة 1982)، لبنان (يونيفيل منذ 197، الصحراء الغربية (منذ 1991)، سيراليون (1999)، إثيوبيا ـ إرتريا (منذ 1999)، ساحل العاج (2003)، الكنغو (2003)، ليبريا (2003)، اليمن (1963 - 1964)، إيران ـ العراق (1988 - 1991)، أنقولا (1989 ـ 1997)، موزمبيق (1994 ـ 1994)، رواندا (1993 ـ 1996)، تشاد ـ ليبيا (1994)، وكان عدد القوات في هذه العمليات يتراوح بين العشرات في حالة المراقبة، إلى الآلاف في حالة التدخل العسكري لحفظ السلام. السودانيون حسموا أمرهم حول طبيعة التدخل، وهذا بدوره سيحسم موضوع حجم القوات. هذا أمر لن تحدده فقط طبيعة الواجبات ومساحة الرقعة من الأرض التي ستكلف البعثة بمراقبتها، إنما أيضاً حجم الأصول (Assets) التي ستسخرها لمهمتها، والتي تحتاج، هي الأخرى، إلى فرق حماية.
بعيداً عن التفاؤل والتشاؤم والتشاؤل نقول إن الفشل ينبغي أن يكون حافزاً على تصحيح المسار. ولئن تواتر الفشل تم وفقنا الله إلى مخرج صدق فاستدبرناه أو لا يحسب هذا من الجنون؟
09-25-2004, 10:54 AM
اسامة الخاتم
اسامة الخاتم
تاريخ التسجيل: 09-28-2002
مجموع المشاركات: 2340
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة