|
قراءات - الهجرة واللجوء إلى الغرب.. حرية أم مصالح؟
|
الهجرة واللجوء إلى الغرب.. حرية أم مصالح؟ بقلم/ ياسر الزعاترة
بعض المغرمين بمخالفة التيار الشعبي السائد -لاسيما حين تؤيده القوى الإسلامية- لم تعجبهم الحملة على قرار منع الحجاب في المدارس الفرنسية، معتبرين أن القرار حق للسلطات الفرنسية، وأن معارضيه من المهاجرين المسلمين هم كما يقول المثل العامي "شحادون ويتشرّطون"، أي يضيفون إلى التسوّل شروطاً على اليد الممدودة لمساعدتهم. وقد رأى عدد من أعضاء هذا التيار أن الحرية والليبرالية في الغرب هي التي منحت المهاجرين حق اللجوء والتنعم بالحرية والرفاه. لذلك كله يمكن القول إن الحملة المضادة أخذت سياقاً آخر لا يتصل فقط بمسألة الحجاب، وإنما يتجاوزها إلى قراءة سطحية لظاهرة تشكل الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، والهجرة واللجوء عموماً، تقوم على فلسفة الصدفة أو المنحة من إنسان رحيم عطوف على مسكين لا يجد الملاذ أو المأوى، الأمر الذي يستدعي وقفة قد تطول لتوضيح المسألة بحيثياتها المختلفة. بداية لابد من القول إن قوانين الهجرة واللجوء لا تدخل في صلب مسألة الحرية والليبرالية التي تعني الداخل في كل بلد، وإنما هي قوانين تصاغ والعين مصوبة على حاجات الاقتصاد والمصلحة الوطنية العليا، بعيداً عن مقولات الحرية والإنسانية، وإن بدا أن تلك الأسس حاضرة على نحو ما لأغراض الصورة الخارجية. والحال أنه حين تتحول تلك القوانين إلى عبء على المصالح الوطنية فإن تغييرها يغدو متوقعاً وربما حتمياً، سيما وهي جزء من أدوات اللعبة السياسية والمنافسة الانتخابية بين الأحزاب. صيغت قوانين الهجرة ضمن بوصلة المصالح الوطنية وحاجات الاقتصاد المدمر بعد الحرب العالمية الثانية، وبعض الهجرة كان نتيجة التجنيد في جيوش الاستعمار, وحين تغدو خلاف ذلك سيصار إلى تغييرها لقد صيغت تلك القوانين ضمن بوصلة المصالح الوطنية وحاجات الاقتصاد المدمر بعد الحرب العالمية الثانية، وبعض الهجرة كان نتيجة التجنيد في جيوش الاستعمار الغربي. وحين تغدو خلاف ذلك سيصار إلى تغييرها، وهو أمر قد يحدث خلال المرحلة المقبلة كما تقول المؤشرات، حيث بدأت بعض الدول مسلسل التغيير أو إعادة النظر، على تفاوت بينها تبعاً لتقدير الموقف أو المخاطر في مقابل الحاجة والمصلحة. الخلاصة أنها موازنة بين المصالح والمفاسد، فإذا غلبت المفاسد على المصالح سيصار إلى تغيير تلك القوانين على نحو لا يلغي مبدأ الهجرة واللجوء، بل يجعل المصالح المترتبة عليه هي الأقوى. كما أنه ليس في قاموس الدول الكبرى حنان مجاني على أحد، بدليل ممارسات تلك الدول المعروفة في الخارج والتي لا تنم عن ديمقراطية ولا إنسانية بقدر ما تؤكد الأنانية المفرطة أو "الإمبريالية" حسب التعبير الشائع. قبل أن نتحدث عن فوائد الهجرة بالنسبة للدول الغربية، دعونا نتحدث عن مسؤوليات تلك الدول عما آلت إليه أوضاع الدول المصدرة للهجرة من بؤس. وهنا تحضر سنوات الاستعمار الطويلة وما تخللها من نهب للثروات، تليها بعد ذلك سنوات الاستقلال الكاذب حيث الدكتاتوريات المدعومة من الغرب، والتي فرضت لتحرس معادلة الاستعمار القائمة على إبقاء الدول المستعمرة سوقاً للاستهلاك ومصدراً للمواد الخام الرخيصة، والعمل بكل الوسائل لمنع أي نهضة حقيقية تضع ثروة البلاد في خدمة أبنائها، بل وابتزاز أجزاء كبيرة منها بصفقات التسلح التي لا لزوم لها على الإطلاق. حصل ذلك مع الدول الأفريقية وعدد من الدول الآسيوية، ومنها العربية والإسلامية، الأمر الذي جعل حلم الهجرة يداعب خيال معظم الشبان في تلك الدول إثر تكريس مصطلح العالم الأول في مقابل العالم الثالث، وأحياناً النامي بقصد المجاملة!! ولنعد إلى فلسفة الهجرة وفوائدها بالنسبة للدول المستقطبة والمستضيفة للاجئين والمهاجرين، ونقرأ الأسس التي تقوم عليها. يقوم الشق الأول من فلسفة الهجرة على توفير الأيدي العاملة الرخيصة ولا سيما في الأعمال القاسية أو المتدنية، وقد كان ذلك هو أساس الفلسفة الأولى خلال النصف الأول من القرن الحالي وبدايات النصف الثاني. مع أن الحاجة إلى تلك الأيدي لم تتراجع كثيراً، بل ربما تصاعدت خلال العقد الماضي بعد اتضاح ميل المجتمع الغربي نحو الشيخوخة تبعاً لتراجع نسب المواليد. أما الشق الثاني من فلسفة الهجرة فيقوم على نقل النموذج الغربي من خلال النخب التي تتعلم أو تستقطب في الغرب، سواء أكانت عادية أم معارضة. ونظرة متفحصة على النخب الفاعلة في الدول والحكومات في العالم الثالث، لابد أن تشير إلى غلبة الثقافة الأنغلوسكسونية عليهم، الأمر الذي ينسحب على عدد لا يحصى من النخب الحاكمة في الدول العربية والأفريقية، بل إن كثيراً منهم يحملون جوازات سفر بريطانية وأميركية وكندية. فيما تحضر الفرنسية على نحو أوضح في الحالة الأفريقية. إنها صناعة الاستعمار الثقافي في أوضح برامجها، وقد رأينا آلاف الطلبة في بريطانيا على سبيل المثال يكتبون رسائل الماجستير والدكتوراه ولا يتطرق أحد منهم إلى شيء يخص البلد الذي يدرس فيه، بقدر ما يكتبون عن بلادهم ليقدموا معلومات عنها إلى السادة البيض بعد أن يدفعوا ثمن الدراسة مقابل شهادة لا تكلف مصدريها الكثير من الجهد مقابل ما تفيدهم اقتصادياً من خلال الرسوم ومصاريف الإقامة الباهظة. هناك شق مهم في فلسفة الهجرة يتصل باستقطاب الكفاءات، وهنا لا حاجة إلى استحضار كشوف تلك الكفاءات المهاجرة من الدول العربية في أدق المجالات وأهمها إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فبيانات المؤسسات التابعة للجامعة العربية وعدد من مراكز الدراسات تكفي لكشف حجم النزيف الذي تتعرض له بلادنا والعالم الثالث عموماً على صعيد الكفاءات البشرية المميزة. لا يغيب البعد الاستثماري الاقتصادي عن فلسفة الهجرة واللجوء، فسياسات المجتمع المفتوح هي التي استقطبت مليارات العالم الثالث المتبقية مما بعد النهب، وجعلتها رهن البنوك الأجنبية والاستثمار في البلاد المستقطبة للمهاجرين، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وأوروبا عموماً. ثمة بعد مهم قامت عليه فلسفة اللجوء في الغرب خلال العقود الماضية، ويتمثل ذلك البعد في رسوخ القناعة بقدرة ماكينة الثقافة الغربية على طحن أي قادم من العالم الآخر وصهره في البوتقة الجديدة بحيث يغدو جزءاً منها وليس نشازاً أو خارجاً عنها. والحال أن ذلك صحيح إلى حد كبير، فقد ثبت خلال العقود الماضية أن الجيل الثاني من المهاجرين كان يفقد هويته الأصلية بكل سهولة، بل إن جزءاً من الجيل الأول كان يفعل ذلك أيضاً. ولم يكن المهاجرون العرب والمسلمون خارج هذا السياق، فقد كان بعضهم أو معظم أبنائهم يذوبون في المجتمعات الغربية على نحو كامل، ومن ذهب إلى تلك البلاد لابد أن يسمع حكايات لا تحصى تؤكد ما أشير إليه. من هنا تبدأ قصة الحجاب في فرنسا، كما تبدأ ملامح إعادة النظر في سياسات الهجرة واللجوء. فقد حملت السنوات الماضية معطيات جديدة تتصل بالمهاجرين المسلمين على وجه الخصوص، والعرب منهم على نحو أكثر تحديداً. لقد حملت ردة الفعل الأميركية على هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 معالم تقول إنها حرب على الإسلام والمسلمين. وقد تزامن ذلك مع ثورة الفضائيات التي صاغت وعياً جمعياً لجمهور العرب والمسلمين في الخارج لا يختلف عنه في الداخل، سيما حيال القضايا الأساسية وعلى رأسها قضية فلسطين وقضية العراق، فضلاً عن دعاة الإسلام في الفضائيات الذين كان لهم دور بارز في إعادة الهوية الإسلامية إلى أبناء الجاليات في الغرب، إضافة إلى مسألة اللغة التي ساعدت الفضائيات في الحفاظ عليها بعد أن كاد الجيل الثاني من المهاجرين يفقدها تماماً. كان ذلك كله بالطبع استمراراً للصحوة الإسلامية التي بدأت مع الثمانينات وانتشرت في العالم العربي والإسلامي وامتدت إلى أوساط الجاليات في الغرب، لكن تحولات السنوات الأخيرة كانت مميزة إلى حد كبير. من هنا بدأت مسألة إعادة النظر في سياسات اللجوء، وقبل ذلك التضييق على أدوات التعبير عن الهوية في حياة العرب والمسلمين، فقد ظهر واضحاً أن ذوبان العرب والمسلمين في دول اللجوء ليس وارداً، وإن كان ثمة نوع من الاندماج الإيجابي، أي التعامل مع المجتمع بكل الأشكال مع الاحتفاظ بالهوية. يمكن القول إن سياسات اللجوء ستزداد تشدداً خلال المرحلة المقبلة، كما أن أسس التعامل مع الظاهرة الإسلامية في أوساط المهاجرين ستختلف إذا لم يبادروا إلى مناهضة ذلك كله بالعمل السلمي ضمن القوانين المتاحة بوصفهم مواطنين لقد جاء توقيت القرار بعد سنوات من الجدل حوله في هذه المرحلة ليؤكد الإدراك الجدي لصعوبة ذوبان المسلمين في المجتمع الجديد، ما يعني ضرورة إيجاد وسائل لدفع عملية "الإذابة" قدماً إلى الأمام. ولا شك أن تجارب عربية في مطاردة الحالة الإسلامية مثل تونس قد أقنعت الفرنسيين أن ذلك يبقى ممكناً، من دون أن يلحظ المعنيون مفاجأة تونس الجديدة ممثلة في انتشار الحجاب على نحو واضح بعد سنوات من انحساره لذات الأسباب التي دفعته إلى الانتشار في فرنسا نفسها. إن معالم السوء في القرار الفرنسي تتبدى في توقيته وفي كونه سنة سيئة ربما انتشرت في أوروبا تحت هواجس بقاء المسلمين كتلة قوية غير قابلة للذوبان تتمدد وتكبر مع الوقت. ناهيك عن الاستغلال الصهيوني له خاصة في التحريض ضد العرب وضرب إسفين بين الدول العربية وفرنسا التي تدخل في إطار الأصدقاء قياساً مع العدائية الأميركية ضد فلسطين والإسلام. لذلك كله يمكن القول إن سياسات اللجوء ستزداد تشدداً خلال المرحلة المقبلة، كما أن أسس التعامل مع الظاهرة الإسلامية في أوساط المهاجرين ستختلف إذا لم يبادروا إلى مناهضة ذلك كله بالعمل السلمي ضمن القوانين المتاحة بوصفهم مواطنين لهم حقوقهم أياً كانت أصولهم. خلاصة القول إن القصة في مبدأها ومنتهاها هي قصة مصالح وليس إنسانية وحرية وديمقراطية، وحين تنتهي المصالح أو تأخذ في التراجع مقابل ازدياد الأضرار فإن المعادلة ستبدأ في التغير كما تقول مؤشرات كثيرة بدأت تظهر، وإن لم تؤد إلى انقلاب أو تغيير سريع لأن المصالح لا تزال كبيرة قياساً بالأضرار أو المفاسد.
كاتب فلسطيني - عن الجزيرة نت
|
|
|
|
|
|