|
حوار مع شماشي ( الخرطوم عاصمة الشماشة)
|
تصحرت خريطة الشارع و تلاشت في مناخها الخطوات ,, حتي أن السماء تضامنت مع معطيات اللوحة ,, فبخلت بالقمر وجادت ببعض الانجم الهزيلة !!! وتســتّرت هي الاخري علي بعضٍ من السنا و منـّت بالقليل
وكأنها تحتج علي أضواء مصابيح الانارة وبصيص النور الذي ينبعث من لوحات
المحال التجارية المغلقة ,,, فكان هذا الأتحاد الجغرافي الفيزيائي يوحي بالكثير من الغموض الواضح ,,, وحقــّاً أنها ليلة كانت تشتهي أن تنام في حضن الشمس ...
هذه هي الخرطوم ,, وهذا هو السوق العربي بعد أن أفسدت الايام تسريحة ضفائرها وشيئاً فشيئاً زحفت بعض الشعيرات البيضاء علي
الخصل ,, وتبدّلت الضفائر المسدولة ألي ( مساير) و ( السودان قفل) كما
تعلمون !! ولم يعد بأستطاعة أمهر مشـــاطـــة و أجدع كوافير أستعادة مجد الضفائر و أيضاً لن تسعفني الدموع أذا انا قررت البكــاء علي أيام السوق الأفرنجــي وشارع الجمهورية ساعـــة كانت الخرطوم ترتدي بدلة
الرقص بعد منتصف الليل وتشهر الكؤوس في وجـه الوعي الجائر! أيام كانت ضفاف النيل من ذوات الطـــــمي!! قبل أن تفقد خصوبتها و تنقطع
عن الجروف الدورة النيلية !! ويتمسـّك النخيل بفحولةٍ زائفة..
لم أكن متشرّداً ...,, و أن دعتني الظروف لتسوّل الأثارة ,,, فتصنّعت مهنةً
لا أمتلك لها تأهيل كافي ,,, أذا أدركنا ماهية التشرّد كــأدب !! وقتها ...
كنت أمد أنامل الترقـّب للتقويم المستلقي علي جدار غرفتي لأمزّق صفحــةً تقودني في فجــــائيةً ,, للعام العشرين مما مضي من عمري,,
ولم أكن سوي شاب تستهويهِ روح المغامرة وهذا هو دافعي الوحيد
للتنقيب وراء كواليس عالم التشرّد ,, الذي كثر تداولهُ في سوق الكلام
حتي بارت سلعة الاثارة فيهِ ولم تعد الحروف قادرة علي أعادة تصنيع
الدهشة كمنتج جديد !! ..
عرفت الفتي الأبنوسي اللطيف في أحدي فرندات السوق العربي .. حينما
كنت أستعين بي ( مجوك) لتلميع حزائي نصف العمر ,, ووقتها لم يكن هو
مجرد صبي ورنيش عادي,,, فقد كان يضحكني و يثير أعجابي و يروق لي
كثيراً ,, وبعد فترة ليست بالطويلة ,, أستيقظت الجينات الزنجـــــيّة داخل
شراييني وضخـــّت في مشاعري أحساس الصداقة والانتمـــاء.
كان ( مجوك) صاحب فلسفة عميقة جداً ,,, بالرغم من أنه أمي وغير هذا
يصغرني بأكثر من ستة سنوات علومــاً ,,, ولكن الحياة علمتهٌ الكثير ,,
الظروف أجبرتهُ ليكون أبن شارع بعد أن تخلـّت عنهُ أسرته الضائعة والتائهة
في سباق البحث عن طبق كسرة ,, كثيراً ما حكي لي بلغتهِ الشارعية
البسيطة الاعاجيب ,, يجسـّد فيها معاناة الجــياع الحفـــاة العــــراة ,, في
قاع المدينة السفلي ,, وسط المجاري وتحت الكباري ,,, حتي شككتُ أن روح ( فيكتور هــيجــو ) الابداعية قد سكنت الفتي وهو يكتب رواية البؤساء.
أستميح خواطري العذر حتي أتجوّل بحرية عبر شتات خيالاتي .. و أنتبه
لأجد نفسي قبالة الجامع الكبير وفي الطريق المؤدي للقـبّة الخضراء و
موقف البصات ,,,, الوقت مـــتأخـّر نسبيــّاً ,,, بالقدر الذي يجعل حركة
الأرجل شحيحة تماماً ,,, ويخلو الطريق الا من أخوتي و أصدقائي الشماسة ,,, وتلك القطــّة المسكينة التي يطاردها أبن الجيران الشقي
طامعاً في ليلةٍ حمراء !! فلم يجدي المواء ولا أستطاعت المخالب الدفاع
عن شرف المسلمين ,, فلاذت بالفرار طلباً لنجـــدة مغيث او أحد افراد
شرطة اداب الشوارع ,,,, وهربت من أمامها مجموعة من الفئران المزعورة
فبربكم !!! الفئران في شنو وقطتي سميرة في شنو ؟؟؟
أقتربتُ بعض الشئ من ( مجوك ) و رفاقهُ ,,, هؤلاء الصبية الصغار ,, الذين
طافت عيونهم حولي وحجـــّت من كل فـجٍ عميق !! تلك العيون التي لم تكتفي بفريضـــــة النظرة الاولي ,,, و لكنها طمعت في الأعــتمار والتمتــّع ,, ولا بــأس في حجـــّة و زوغـــــــة !!.
أما أنا ..... فتسارعت عيوني ,, وتمهّلت خطاي في توجــُّس و ترقُّب ,,,,
و أنا أمعن النظر في هذه الاجساد العارية في غير تعــرِّي ,, وكان واضحاً
أن البؤس مسيطر علي مسرح الاحداث ,,, وبائن في ديكور المكان ,
والفقر تفضـحــهُ الخرق القديمة والكراتين التي صارت أســرَّة ومراتب ,,
فلم تجدي مظاهر الحضارة الباهتة في ستر تفاصيل البؤس الجاثم علي
صدر بيئة السوق العربي الخرطوم .
ألقيت التحية عليهم ,,, و أقترحتُ أن أفعلها بلساني قبل أن تقولها الايادي
كشئٍ من جسِّ النبض ,, وفعلاً ... تواثبت حولي العيون في غير ترحيب
ولكن صديقي ( مجوك ) عندما لمحني هبّ مرحباً وهزم توجـُّسي قبل
أن أنتصر انا للدم الزنجي الذي يمشي في شراييني حافي القدمين .
مجوك : دينك ؟؟!! ووين يا فردة ؟؟
قلت مصافحاً : كيف حالك يا مجوك ؟
مجوك: شنو يا عب مالك بيجاي ؟
انا: والله قلت أسلم عليكم و أشوف دنيتكم
مجوك: يا مان انت دنيا دة قايلو سنو ؟ سندويش و كوس موية ؟ .. شوف
يا ساحبي دنيا دة هاجة كبيرة أسحن هاجة تخش في السلسيون دة
وتأمل نايم !!
سالته : كيف يا مجوك؟
رد: أنت سمك دة لو طلع برّ بحر مش بتلحس؟
قلت له: اها
قال: وطيب انت ما تعمل تفتيحة وما تكون فارة ,, أشان أيي دقسة فيها لحسة .
انا : ؟؟
يقول مضيفاً : نحن هسة بقولو علينا أولاد شمس وما نافعين وبرضو ما سابونا في هالنا .. كل يوم الهكومة ساكانا,, هسة لو بقينا كبار برضو
يجازفونا ناس الألزامية يودونا دارفور أشان لو مشينا جوبا ما نقوم نأمل هركات
سألته: أها انت رأيك شنو يا مجوك؟
قال لي: شوف يا عب ... انت اولاد راحات ديل مش بسفـسفوا باسطة و
أسكريم و بتعشوا بي شاورمة ؟
انا ؟ اها
قال: نحن بنسفسف أيي هاجة ,,, أيش بايت كسرة ناشف ويوم الهميس
بوش بالزيت .... انت مرة شفت واهد من الفرد ديل أتلحس؟
قلت له : لا والله
فقال في ثقة: خلاس يعني شاورمة وتعمية كلو واهد ... ودنيا كلو مجازفات
يا فردة ,,, وبقرة واهد ناس دنيا كلو يشربوا لبن .. في سنو ؟
يا الهي !! .. ما أشد عمق هذا الكلام ,, لو أستطعنا تثقيفهُ ,, و أستخلاص
الزبدة منه ,, فهل يشير الفتي للأشتراكية في حديثه كما شرحها حكيم
موسكو ( خرشوف) حين قال مقولته الشهيرة ( البقرة التي يملكها صاحبها
تدر من اللبن أكتر من البقرة التي تملكها الدولة ) ؟؟
هل تراه يبســِّط لنا تعقيدات هذه الحياة ؟؟ و دأبنا علي تهميش أساسيات
و التأسيس لهشـاشـة معتقدات لا تسمن ولا تغني من جوع ,, لقد أثار
الابنوسي الصغير حيرتي و مخاوفي في الوقت نفسه ,,.. وثم ثانيا ..
من هذا الفتاة يا ملعون ؟؟ تلك التي أطلّت ولاحت لي فجأةً من بين كومة
الاجساد نصف العارية ؟؟
دي منو يا مجوك؟؟
يرد ضاحكاً: دي الجــاحة حقت أخوك؟
جاحة شنو يا مشوطن ؟
يرد علي وهو يغمز : يا ساحبي دي المدام .. الجو بتاع أخوك
شكيتك علي الله يا ود الحرام ,, و قاعدة بتسوي في شنو فلانات دي؟
قال في مساخة: قاعد يقرأ في جامعة .. انت قسدك سنو يا مان ؟؟
وضحكنا بقدر أحتمال الفرح ,, وبدأ الزمن في الركض ,,, و أنتصب عقرب
الساعات لكي يفـضّ بكارة المساء ويلقي تحية الوداع لعذرية الظلام,,,
و فعلها ... فصفعني النعاس فور رؤيتي لسائق التاكسي العجوز وهو يترجّل بسيارتهِ البيجو القديمة عن قلب الطريق ,, ويبدو ان صديقي
(مجوك) سينفق جل نهار هذا اليوم نائماً ,, أما انا فعدت أدراجي و
محفظتي مثقلة بالدروس والعبر و التجارب و لم أدري الا وسائق التاكس
العجوز ييلكزني في عنف قائلاً : يا ولدي خلاس وصلنا أنزل حاسبنا...
|
|
|
|
|
|