ما ذالت بطن السماء منتفخــة...و أخالها في الاشهر الاخيرة من الحمل
ويتوقع الجميع مولوداً مطراً ...المدهش ان أنثي السماء الاستوائية كائن وولود .... لا تعترف بتنظيم الهطول... وغيمها لا يستعمل الواقي المطري!
أرتحلت الشمس قبل ما يقارب الساعتين ..لم أكن أرتدي وقتها ساعتي السويسرية... فقد اصابها الدوار في الليلة الماضية ..لانها ركبت البحر...
وتيقنت من ماهية الزمن..لان الارض بدأت تهتز تحت أقدام الراقصين السكاري ...وهم يدكون الارض دكاً دكــّا ...مع نغمات موسيقي الريقي
العالية....
وتتداخل السحنات السوداء مع بعض الوجه الملونة... وينحاز اللون الاخضر
الي معطيات اللوحة مكوناً قاعدة بيانات الخريطة .... وينهزم عند الاعلي قليلاً حين أصطدامه بجدار الكوخ القشي المتناسق...ويتشكل بداخلي
احساس تاّلف الاخضر مع اليابس وتصالح الوحل مع احجار التلة الصغيرة ..في أستقامة امينة مع تجليات ربانية
لا يستطيع سلفادور دالي الا ان يصفق لها أعجاباً ....
وينتقل فكري في فجـــائية الي غيمة جبّارة في المنتصف من الافق .. شديدة الهشاشة في الاطراف ...تتعارك مع نصف قمر ....هي تريد ان تكون اكثر انانيةً وتنعم ببعض البريق.....وهو يريد أن يكون أكثر تحرراً ويأمل في ان يطل علي الغابة ليشتم بعض الرحيق او يرقص رقصة الحصاد مع ظلال الاجساد النصف كاسية أو يدندن مع عازف الغيتار الثمل أغنية ( أفريكا يونيت) ويحيي زكري ( بوب مارلي) .... وتتصارع فيهما الغايات والامنيات....
أستندتُ قليلاً علي الكرسي الخشبي..... وبدات رحلة تفكيري ...و أحسست أن العم ( مــاديسون) يصر علي أن يشركني معه في التدخين ..فقد كان يلسعني في كل لحظة بلفحة من دخان غليونه العتيق .... ولكن هذا لم يمنعني من أستراق النظر الي ملابسه المزركشة الصارخة الالوان في تضاد .. وربطة عنقه التي تشبه مثيلاتها
لدي بحارة السفن الاسبانية وهم يتجولون في أرصفة الميناء...بعد عودتهم من رحلة الشرق الغامض في خمسينيات القرن الماضي ..ويتباهون امام حسناوات قرطبة و أشبيلية صاحبات الاصل العربي .... جميلة جدا هذه الملابس علي جسد العجوز الذي جاوز التسعون عاماً وماذال يحتفظ بحيوية أبن التاسع عشر ... وسمعت ان عدد نسائه بلغ الثلاثة عشر .. يا للهول !! فقد تزكرت جارنا المسكين الذي ما أن أتي بالثانية حتي ابتلاه الله بكل لعنات العالم وخطـطّ الشيب فوديه وهو في ريعان الشباب وبلغ من الخرف عتيــّا.
الله !!! يصر عازق الغــيتار علي اصطحابي معه في جولة فنية... فقد بدأ يدوزن في أغنية ( نو أومان نو كراي) مع اشتداد حدة البرق والرعد و كان السماء أرادت توثيق هذه اللحظة التأريخية الحالمة ببعض الصور التزكارية .... وعدتُ الي الوراء قليلاً حين بدأ عازف الغيتار في تصفّح كلمات الاغنية وبدت أنامله الرشيقة و كأنها تتبرّك بالاوتار في نعومة ورفق ومهارك فريدة.. وبدوت أنا في غاية الاسترخاء والاستمتاع..
وتنامي الي أذناي صوت جلبة ..فأنتبهت حواسي قليلاً لأستجلاء الخبر و
ربــّاه !! أنها الجدة ( روبيكــا) بجسدها الثقيل وكرشها المنتفخ ورأسها الاصلع الصغير.. تشهر عصاها الابنوسية في وجه الساقي المسكين منزرة ومتوعدة بالويل والثبور ... ان لم يسرع و يملأ لها كأسها من الخمر
ولمحت بعض الانزعاج في وجه العم ( ماديسون) فقد كانت زوجته الاولي
ولكنها اصبحت مدمنة شراب بعد أن تزوج عليها للمرة الاولي.. فأومأ العم الي الساقي الذي أتي مسرعاً ومن ثم ذهب ليعود ومعه زجاجة خمر نصفها ماء و النصف الاخر من الخمر الرخيص .. وعندها تهللت أسارير الجدة ( روبيكا) و أهتزّ جسدها الضخم بضحكةٍ مجلجلة و ألقت بنفسها في المقعد الخشبي الذي لم يحتمل وزنها فأنهار فوراً ..وعندما حاول العم ( ماديسون) مساعدتها علي النهوض ثارت في وجهه وقالت له : تقول النبؤة أنك ولدت حين أنتصاف القمر ... وتزوجت حين أنتصاف القمر .... وستموت حين أنتصافه أيضاً .. هكذا قال جدي الكجور الكبير.
عجبت من حديث الجدة ( روبيكـا)... وتفرست في وجه العم ( ماديسون)
الذي أمّن علي كلامها بأيمائة صغيرة من رأسه... وتمتم بلغةٍ غريبة ضاعت ملامحها وسط اصوات موسيقي الراب والريقي العالية ..وصرخات السكاري الهستيرية .. و انفض سامر القوم و انقضت الليلة بخيرها وشرها ..وعدت ألي كوخي الصغير الذي أتخذته نزلاً يأويني من المطر ولسعات الناموس والعقارب ...وانا اترنّح في وهن ... و شعرت بأنني سوف أنام شهراً كاملاً فقد اسرفت في الشراب الليلة الماضية و أكثرت من الحركة كثيراً .
مرت ثلاث ليالي كسابقاتها ...و انشغلتُ انا كثيراً ببعض الامور التجارية .. وفي طفولة هذا المساء المشبع برائحة المطر والدعاش .. عدتُ الي ساحة المدينة الاستوائية .. التي يرفض مسرحـــها الاستفـاضات الكلامــية... ويهتم فقط بما هو مرئي ... وتجئ الدلالات دون أيغال في الاستطرادات ..وبنفس سرعــة الانتقــالات المكــانية ..مع وجـود قطع ديكــور مبســطة بطابعهــا التلخيصــي ..تحدد
خصوصـية المكان ...وتبرز الاجـواء المدارية ورموزهــا ومفرداتهـــا الفلكلورية ...دون أسهــاب في التفاصــيل ...ومن ثم يأتي دور الشخــوص الذين يكونون شكــل و وحدة العرض دون تـلكّـــؤ أحداثي
و أيغال في تهميش الحركــــــــة وردود الافعال المنطــــقية.
دخلت الكؤوس في صراعٍ مميتٍ علي الزمن ... وأصبح من الممكن أن يطيح رأسي علي قارعة اللاوعي عند أقرب منحني ... و أنقذني من هذا السباق المحمــوم ... أحتضار كأسي الاخير في معدتي .. وبدأت أستبين ملامح الصور التي تكالبت علي بغـتةً ...
عـازف الغـــيتار ما يذال يتعبــّد بأوتاره .... و ايقنت أنه بدأ مرحلة الدعوة الجهرية لألحانه ... وخرج من غــار الدوزنــة !!! وقال لأغــانيه ...ماذا تريني فاعلٌ بكنّ ...!!؟ وما أظنُّ أنهن كانن من الطلقــاء في تلك الليلة.
الجدة ( روبيكــا) تثور في وجه الساقي المسكين ... والعم ( ماديسون) لم يوقع في دفتر الحضــور .... يزحمني أيقــاع الريقي مهما نأيت بمسامعي ....لأجد نفسي في حصار الطبول ... ولا أجد منفذاً من هذه الضوضــاء...الا الي ذلك الذي يؤدي الي أنتصار الشبكية علي طبلة الأذن ..... في أصطــراع الحواس.... فألمح مجموعة من الراقصين السود السكاري .... وبعض عازفين الوازا .... لينضم القمــر الي تظاهرة الفوضي .. وفـرّت من وجـهه غيمتان شريفتــان ...ليزداد الايقــاع حدّةً
وينهزم الوعي عند هذه المحطــــــــة ...ليعود في في نهاية الامر من غير أجنحـــة .... ولكنهُ ماذال محلقـــاً في فضاءات... جوبـــا....
الجميلة الفاتنة........... جوبــــــــــــا حبيبتي...
و أغادرني ... الي حيث الجدة ( روبيكــــا ) التي وجدتهــا تنمتم بتمتمات غير مفهــومة... وتعــاويز غريبة ... وهي تفترش الوحل.. وبعد قليل تصرخ فجـــأةً ... صرخــةٌ أهتزّت لها جنبات المكان ...وتناثرت حيالها أستار الصمت الي ضجيج ... ويتوقف الزمان والمكان .... وتهتف : مــاديسون مـاديسـوووون ..... ويسقط رأسها الاصلع الصغير علي الارض جـثـّةً هامدة .....
ويزداد القمـــر هياجـــاً .... وتهــرب من أمامهِ بقية الغيمــات ... وتفسح له المجـــــال حدّ الرؤية ....ويموج المسرح مرة أخري بكلما قد يتيحه الستار من تداخل للشخوص و قطع الديكور...ومجري الاحداث يؤكد ان المخرج قد اختار هذه المشاهد ..ختاماً لروايته الاخيرة.... أما المقاعد فقد صرخت صمتاً ...وصمتت ضجـــةً ......
وتشق السكون صرخةً أخري من بيت الزوجــــــة الرابعة عشر للعم ( ماديسون) وتذهب حواس الجميع ...لتغطية هذة اللقطــة النادرة.....
ونسمع زوجته تردد .....: لقد مات رجلاً لقد مات رجلاً..... حــقاً لقد انتصف القمــر.... وصدقت النبؤة..... وهكذا الدنيا.... لا ينتصفُ فيها القمــر..... ألا ليقود خطــانا الي الهــاوية......