|
بهجة اللغه فى الطريق الى المدن المستحيله
|
- هناك جانب مهم بالنسبة للكاتب , يتمثل فى الحوار الثلاثى : حوار بين الكاتب ونفسه .. حوار بين الكاتب وادبه , ثم حوار بين الكاتب والقارئ -
الطيب صالح
عندما يحبطنا الواقع المرير , فأن جموح الخيال الذى يؤسس لآمانينا البسيطة والمشروعه - وهى ماتزل فى رحم الغيب - هو الذى يعطينا شعاع التفاؤل
هذا هو الاحساس الذى يعترينى كلما طرقت سمعى اى انباء ساره , حتى لو كانت نغمه سودانيه جديده , او قل عمل ابداعى جرئ شكلا وموضوعا فى الطرح
هذا ما احتوانى يوم اكملت قراءة مبدعنا ابكر ادم اسماعيل - الطريق الى المدن المستحيله -, والتى صرت شغوفا بمتابعة وقائع احداثها منذ لحظة سطرها الاول الذى ولجت اليه تمام الحادية عشر مساء اول امس حتى اكملت قراءتى لها عند الثالثه صباح اليوم التالى ! وعليه
روايه جريئه فى طرحها , خاصة وهى تلامس مناطق يبدو ان الحساسية من الاقتراب منها بدأت بالفعل تتهشم تحت وقع حوافر كثير من مبدعينا السودانيين , وذلك بحكم قسوة ومرارة الواقع الماثل , ولا معقولية او مشروعية الاستمرار فى التعايش معه بهيئته الرثه تلك , وعندما يأتى الاحساس بعدم قدرة الناس على التعايش مع مثل هذا الواقع الذى يكون هو الاخر قد فقد القدرة على الاستمرار والهيمنه عن طريق فرض نفسه فرضا حينها يأتى الطوفان وتقوم قيامة الشعوب ! , وهو ما اخاله يحدث الان فى جبهة الابداع والكتابه التى يشهدها الواقع الثقافى فى السودان , ولا احسب ان هذا الواقع لا يدخل فى نسيج الوضع السياسى الراهن ايضا ! , بحيث ان الفن او قل الثقافه بوجه اجمالى تتقاطع بالسياسى , والعكس صحيح
فقد جاءت دراما الروايه حميمه وجاذبه , وقد عضدت البنيه اللغويه التى شيد عليها المؤلف احداث الروايه من حيويتها , وارى ان عنصر الامتاع الاساسى فى الروايه قد جاء من عادية اللغه وبساطتها الجاذبه
ذكرتنى وقائع احداثها بكتابات باكره لعدد من الروائيين السودانيين كخليل عبدالله الحاج فى - انهم بشر - وابراهيم اسحق فى اعماله الروائيه الاولى حتى الزبير على فى قصته القصيره البديعه - المقاعد الاماميه - , الا ان ما ادهشنى حقا هو قرب احداث الروايه من احداث روايه اخرى صدرت حديثا للكاتب الصديق عاطف عبدالله بعنوان - البقع السوداء - , حيث جاء فى تقديم الاستاذ عبد الجبار عبدالله لها بانها( مست ما تواطأ مجتمعنا فى واقع الامر على المسكوت عنه على المستويين النفسى -اجتماعى والسياسى رغم الجراح لعميقه الغائره ) واحسب ان هذه الاشاره تنطبق بالمثل على هذا المنجز البديع الذى قدمه لنا ابكر ادم اسماعيل فى - الطريق الى المدن المستحيله
واشير الى ان فطنة المؤلف بالطرائق التى لجأ اليها للحكى على المستوى اللغوى الذى ركن اليه , اضافة لتوظيفه بعض المدلولات من مصطلحات الشارع السودانى اليوميه ( تيرمونولوجى - عربى جوبا - رندوق )فى مقابل ثقافة الاستعلاء او الخيلاء العرقيه كما اصطلحها استاذنا عبد الله على ابراهيم , اقول ان هذا الاستخدام قد حقق شرط المتعه وزاد من حيوية الروايه
واحسب ان المؤلف قد اشار الى ذلك بذكاء فى نهاية ( برقرافات ) الروايه على لسان احد شخوص الروايه بقوله - هذا حوار طويل , ويبدو كخطب المحافظ ! , ثم لا داعى لتفخيم اللغه ( هنا ) مسايرة للنقاد ! لقد ضللك لاوعيك ( هنا) فواريت جزءا من الحقيقه ! ارضاءا لما يسمى ( الذوق العام ) عدو الحقائق -
اقول اضافة الى ان لغة الحكى قد جاءت جريئة فى عاديتها بحيث يندر ان نحصل عليها فى اخريات , فانها ايضا حفلت بالكثير من التعبيرات الطريفه بعادية السرد فى اللغه المستخدمه , يختزل مثلا المؤلف كل العمليه المعقده لتجهيز الشراب والطعام والتهامه فى السرد بكلمات بسيطه دون اى اخلال بروعتها فى عمل ادبى , - ابلعك ابلعك .. هدا نداء المصارين فخرج نداء الرأس : اشطفك اشطفك - وعند الاشاره لضنك العيش - عتلك عتلك .. انشرك انشرك .. وسمكرك سمكرك ) وهكذا
تتجلى روعة الحكى الممتلئ امتاعا ايضا فى اللغه الشاعريه التى تتخلل ثنايا الروايه كقوله وهو يشير الى الطالبه ندى وهى تؤدى اغنية فلق الصباح ( كان صوت ندى والاغنيه كمطر يهطل على المدائن فيغسلها ليبدو كل شئ جميلا كما( الخليل) , ومنفعلا بالحياة كما شجر التبلدى فى الرشاش ) , او حكمة رنقو احد شخوص الروايه فى قوله ( لم نسمع ان احدا مات لآنه اكل ما خلفه الآخرون , بل مات الذين لم يجدوا هذه المخلفات ) وهكذا
وعلى رغم الاسقاطات التى شحن بها المؤلف احد شخوص الروايه كممثل صميم ( للتيار الاشتراكى ) داخل الروايه فى زمن تداعى الاحداث , حيث صوره باعتباره متواطئ مع السلطه ( خذلانا, جبنا , خيانة , كيل بمكيالين .. الخ ) , الا ان ذلك امر اخر , ولكل مقام مقال كما يقولون , ولا يقلل ذلك من تماسك وروعة الروايه
قال فى اواخر فقرات الروايه على لسان بطلها انه فى هذا الزمان يحق للحمار ان ينهق كما يحق للعصفور ان يغنى , دون ان يتدخل احد فى غناء احداو يتدخل احد فى نهيق احد , وانه لايحق للعصفور ان يمنع الحمار عن النهيق , كما لايحق للحمار ان يمنع العصفور عن الغناء
نحتفى فى هذه العجاله بالروايه ونستقبلها بكل شغف المتعة بالجديد بعد ان وفرت لنا سودانيز اون لاين امكانية التعرف عليها بعد ان بحثنا عنها طويلا منذ صدورها من ناس حيدر ابراهيم ,وهى روايه جديره عن حق بالقراءة والدراسه المتأنيه معا
التحيه لمؤلفها الاستاذ ابكر , ونردد مع صدى الروايه ما قيل عن احقية الغناء للحمار والعصفور معا فى اى زمان وفى اى مكان , الا ان مسألة ارى انها ستكون عصيه نوعا عن الحل وهى -من يقنع الحمار ان اقتنع العصفور
حسن
|
|
|
|
|
|