قبل أسابيع، عقد في الخرطوم مؤتمر نخبوي كان من أبرز نجومه، رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد، وهذا أمر محمود، أن نستمع لتجارب الغير، ولكن نميل دائماً في السودان، لتشخيص الأمور وربط سر نهضة ماليزيا بشخصية مهاتير، بينما النهضة الحادثة المسماة بنهضة النمور الآسيوية (إندونيسيا – تايلاند – كوريا الجنوبية – هونج كونغ – تايوان – سنغافورة ) أمر عام لا تختص به ماليزيا، بل مستوى الدخل الشخصي في سنغافورا ذات الملايين الثلاثة يتجاوز بكثير متوسط الدخل الشخص للماليزي أضعافاً، إذًا ما هو السر في تطور هذه البلاد التي كانت في عام 1956 ربما بعضها أقل من السودان حداثة ونمواً، السر هو تدفق المال الأمريكي والحيوية الصينية، ففي ماليزيا الصناعات والشركات نتاج للمال الأمريكي وقدرة الصينيين على الإنتاج – والحقيقة أن مسلمي ماليزيا هم أقل الفئات استئثاراً بثمرات النهضة، لأن الصناعة والمال في يد الهنود والصينيين بينما أهل البلاد من الماليين لهم السلطة السياسية والأمنية، مثل حال السود في جنوب إفريقيا مقارنة بماليزيا – وجنوب إفريقيا كذلك متطورة ونامية والسر التدفقات المالية الغربية والأقلية البيضاء – وليس الأمر مربوطاً بمانديلا أو أمبيكي أو زوما بل في عهد الثلاثة الآخيرين تراجعت معدلات الدخل القومي .
وللأسف فإن الرئيس مهاتير ارتكب مخالفات في سبيل بقائه في السلطة وتسلط على نائبه أنور إبراهيم، كما أخذ الفساد ينخر في عائلته, وفي الذين خلفهم في السلطة، حال الرئيس الحالي، الذي يقال إنه أضاف إلى حسابه الخاص مئات الملايين من الدولارات، ولكن يحمد لمهاتير عدم اعترافه بإسرائيل وسماحه بنافذة للبنوك الإسلامية، كما أن الشهيد اسماعيل الفاروقي وجماعة معهد الفكر الإسلامي في أمريكا أهدوا ماليزيا الجامعة الإسلامية العالمية التي استقطبت نخباً إسلامية في مجتمع ودولة علمانية ذات توجهات ديمقراطية ويحمد لها أي ماليزيا أنه ما يزال فيها قدر من المحاسبية والقضاء المستقل والشورى – وإن كان الرئيس مهاتير لم يضف الكثير لهذه المؤسسات الموروثة من التجربة الاستعمارية، ولكن يحمد له أنه لم ينقض عراها كما فعلنا في السودان.
أما عن السودان، فإن مشروع السودان الحديث والذي أهم معالمه الدولة الحديثة والتي قامت على المؤسسة العسكرية، ويكفي أن سلاح المهندسين الذي خرجت من صلبه مؤسسات الجيش السوداني والدولة السودانية استطاع في عام 1898- أي قبل 130 عاماً أن يبني خط السكك الحديدية بين حلفا وأبي حمد في 180 يوماً وأن يبني كبري عطبرة في 81 يوماً – بينما سلاح المهندسين اليوم وبكل آليات القرن الحادي والعشرين ليس لديه قدرة على إنجاز كهذا، وقبل عشرات السنين كان سلاح المهمات يخرج الحرفيين الناجحين من النجارين والسباكين وأهل الميكانيكا والصناعات الصغيرة أين هؤلاء الآن، وما ضربنا به المثل، ينعكس على كل مؤسسات الدولة، القضاء بهيبته وأحكامه حتى شعارات الشريعة الإسلامية أين هو من مؤسسة القضاء فيما قبل 1956م، نهضة الدولة لا تقاس بنمو المجتمع الاستهلاكي والسيارات وآبار أنابيب البترول التي اكتشفها الأمريكان وبنى عليها الصينيون، ولكن تقاس بالإنتاج الحقيقي – فتركيا ليس فيها بترول وشعبها ضعف سكان السودان، ولكن ناتجها القومي مائة ضعف الناتج السوداني – وقل ذلك عن لبنان بحروبه والأردن على ضعف موارده . فمشكلة الدولة السودانية، ضعف القيادة وضعف الإنتاجية وارتفاع عقلية الاستهلاك نتيجة للاغتراب وهجرة الكفاءات والعقول والتي أصبح الملايين من السودانيين يعيشون على ريعها وفائض تحويلاتها وأصبح المجتمع السوداني يستهلك حسب مطلوبات الحداثة، ولكن لا ننتج داخلياً ربما إلا ما مقداره 10% من مطلوبات المجتمع.
أما قيادة البلاد، فكان شغلها الشاغل، الإنتاج السياسي، بالشعارات والمحتشدات، ويعتقدون أن ذلك غاية تعبير عن القوة والتأييد، وأن المقدرة على الحشد تعني النجاح، ولكن العكس هو الصحيح، المحتشدات تدل على الفراغ العريض وتدل على الإفلاس، فبدلاً من سوق وقيادة الجماهير صوب الإنتاج، أصبح من مطلوبات السلطة حشد العاطلين والمهمشين والحيارى في المحتشدات وبرمجة العقول على الشعارات التي ما قتلت ذبابة.
والكارثة أن هذه المحتشدات، أصبحت ملاذًا للسماسرة يملأون العربات، ويسوقون الناس لاستقبال فلان ويملأون فراغ المهمشين والعاطلين في الانتظار والهتاف المدفوع الأجر، وفي أوقات العمل، فلا هم دخلوا دنيا العمل ولا سمحوا للذين يريدون العمل بالعمل.
وأصبح الحشد وظيفةً وعملاً، ومطلوب سياسات لتغطية الفشل والعجز وستر العورة، وإيهام الآخر أنه ما تزال للنظام بقية من سطوة قوة.
بل إن الفشل وفقدان القدرة على إدارة الدولة والميل إلى بيروقراطية الدولة- حيث ما عادت هناك خدمة مدنية فعالة ذات تسلسل هرمي قادرة على تنزيل السياسات والعطاء والإبداع وتنزيل سياسات الدولة – كما ظهرت الأجهزة الموازية من أمن شعبي ودفاع شعبي ودعم سريع وتعليم خاص وصحة خاصة وميزانيات موازية وتجنيب، بل حتى ما عادت كل موارد البلاد من العملة الصعبة حتى في وزارات السيادة تنزل في حسابات البنوك وإنما تتناقل بالأيدي في خزائن المؤسسات.
والسياسات المالية والسلوك الغريب لجهاز الدولة يفرض عليك فرضاً الذوبان للسوق الموازي لاستبدال العملة – أما البنوك فمشغولة بالسطوة على الودائع بحجة أن لا تخرج من الجهاز المصرفي، وللأسف فإن الشعارات الإسلامية والفشل في تنزيل هذه الشعارات أحال المشروع الإسلامي إلى مجرد وهم أيدلوجي حيث يتم مأسسة للآليات القادرة على انتزاع الموارد للكسب الشخصي والحزبي.
ولكن مع ذلك هناك نور في آخر النفق، نسبة لانتشار التعليم وانتشار الوعي، نتيجة لكسر احتكار أجهزة الدولة للإعلام والدعاية، فهناك التواصل الإسفيري بزخمه وهناك التواصل العالمي في عصر المعلوماتية – وفي تقديري أن المجتمع السياسي السوداني سيصل لأهدافه في الحرية والانعتاق من سلطة الحزب أو النظام أو الأجهزة القابضة نحو المشروعية والمؤسسية والمحاسبية وسلطة القانون ولو بعد حين. ولكن تقتضي الموضوعية كذلك الإشارة لإنجازات كبيرة مثل ثورة الاتصالات وثورة الطرق والخزانات والبترول والإسكان الشعبي والتعليم ولو أن هذه الإنجازات جاءت مصحوبة بالشورى والمؤسسية والتداول السلمي للسلطة لكان للسودان شأن آخر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة