|
حيدر ابراهيم...أنهم ينقذون الانقاذ ؛؛؛
|
Last Update 31 August, 2003 09:38:27 AM إنهم ينقذون الإنقاذ ! حيدر ابراهيم شهدت البلاد حمى المبادرات خلال الاسابيع الثلاثة الماضية ولكن بورصة المبادرات سرعان ما واجهت احتمالات الركود والكساد فقد اصبحت اللجنتان الاكثر شهرة : لجنة العشرة ومنبر ملتقى السلام في حاجة الى مبادرة جديدة لتحديد من هو الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوداني في تحقيق الوفاق او الاجماع الوطني ! وهكذا تنكشف الدوافع والنوايا التي غطتها شعارات القومية والغيرة الوطنية فهناك اسئلة محيرة اثارتها حمى المبادرات وهذا النشاط الفجائى الغريب ، وهي تتركز حول التوقيت والشخصيات والغايات والوسائل لذلك بدت القضية كلها وكأنها محاولة ماكرة لانقاذ الانقاذ ومنحها فرصة ترتيب نفسها لمرحلة قادمة تكون الخسائر فيها قليلة ، حيث تتنصل الحركة الاسلامية من مسؤوليات الكارثة التي امتدت منذ 30 يونيو 1989م . ويقفز الناس على كل هذه الاحداث والتاريخ ، وبراءة الاطفال في عينيهم ..!
لابد هنا من جملة اعتراضية هي لزوم ما لا يلزم فلست ضد الوحد الوطنية (ليس الاجماع الوطني) ومع اتفاق على ميثاق قومي ، وقد بادرت قبل ا كثر من خمسة اعوام بطرح فكرة المساومة التاريخية ودخلت بسببها في صراعات مع الذين اصدروا بالامس من القاهرة : مشروع وثيقة الاجماع الوطني ويجئ اعتراضي على ما يدور هذه الايام بسبب غموض الرؤية والوسائل مما يفضي في النهاية الى خدمة النظام القائم سواء بقصد او بحسن نية ، فالمطلوب انقاذ الشعب والوطن وليس انقاذ اى نظام سياسي مهما كانت توجهاته وعليه أن يقوم بهذه المهمة بنفسه من خلال النقد الذاتي والقرارات الصعبة وتحمل المسؤولية بشجاعة عوضا عن الالتفاف واتخاذ اللجان والمنابر المسماة قومية كدروع سياسية .
من البداية يتساءل المرء هل هي مصادفة ان يقود المبادرات عناصر ذات ميول او خلفية شمولية ؟ قد تكون بعض الشخصيات ذات التاريخ الشمولي حيث تعاملت مع نظم غير ديمقراطية ، قد غيرت مواقفها بعد تجربتي النميري والانقاذ ، ولكن هناك من يعلن جهرا بأنه شمولي ، بل يرأس احدى اللجان وهناك من عمل مستشارا للانقاذ واستصدر فرمانا يفرض الاستيقاظ في وقت مبكر على المواطنين وكان التلاميذ يذهبون الى المدارس في السلام فهل يمكن لمثل من صادر حق النوم والاستيقاظ ان يعيد لهذا الشعب المسكين الديمقراطية والسلام ؟ هناك شخصيات تستحق الاحترام على المستوى الشخصي ، ولكن ما يدور الآن ، شأن عام في فترة عصيبة ويحتاج لقدر كبير من الصلابة وحتى المصادمة لو تعارضت مصلحة الشعب مع مصالح السلطة او الاحزاب السياسية المعارضة . ولا اظن ان التشكيل كان بعيدا عن معادلات تضمن للانقاذ وضعا مريحا وغير محرج بمعنى عدم عرض مطالب تملك هي وحدها امكانية تنفيذها مثل رفع القوانين المقيدة للحريات والغاء احتكار الخدمة المدنية والعودة الى معايير الكفاءة بدلا من الولاء والتحزب .
ان فكرة الاجماع تسمح بقدر من الشمولية وهذا ما يريح الانقاذ ويعطيها دفعة جديدة فهي لا تستخدم مفاهيم مثل الوحدة الوطنية او الميثاق القومي او التعاهد الوطني ، وفي كل هذه المفاهيم فسحة للتعدد والتنوع بينما في الاجماع قد يعتبر اي خروج عنه يشكل فتنة لا يوجد اجماع في السياسة الحديثة توجد اغلبية او توجه عام وقد تسبب البحث عن الاجماع خلال فترة الديمقراطية الثالثة 86 ــ 1989م في التردد وعدم حسم القرارات المصيرية ، وفي الكيان الصهيوني (اسرائىل) تتخذ القرارات الصعبة باغلبية 61 صوتا مقابل 59 صوتا ولكن حين يتهدد أمن البلد يتوحد الجميع في حكومة وحدة وطنية ثم يعودون للتعدد والانقسام مجددا فالاجماع الاعمى لا يخدم القضايا القومية بل قد توظفه مجموعة معينة تكون احسن تنظيما وتعرف ما تريد في خدمة اغراضها ومصالحها الحزبية ، وهذا ما يحدث الآن ... فقد قدمت القوى السياسية المعارضة سندا ودعما مجانيا للنظام بسبب اندفاعها نحو قبول المبادرات والوساطات ، ولكنها سرعان ما عادت تتحدث عن ان لقاء بيت الضيافة جاء مخيبا للآمال وقررت مقاطعة استمرار الحوار ! ومن ناحية اخرىس كان موقف مصر وكينيا المؤىد للنظام دليلا على توظيف فكة اصطفاف كل القوى السودانية خلف الانقاذ .
استدركت المعارضة موقفها المندفع ، لذلك اصدرت مشروع الاجماع الوطني والذي جاء امتدادا لقرارات مؤتمر اسمرا 1995م وبعض افكار التعاهد الوطني (مبادرة حزب الامة) ابرز المشروع في مقترحاته للفترة الانتقالية ضرورة المحاسبة من خلال تشكيل لجان قومية تكون جزءا لا يتجزأ من الهيكل الدستوري وتقوم باعادة بناء الخدمة المدنية والقوات المسلحة وأجهزة الامن والشرطة والاهم من ذلك ان تقوم لجنة لاعادة بناء السلطة القضائية لضمان استقلال القضاء وحيدته ، واخرى لرفع المظالم والنظر في جرائم انتهاكات حقوق الانسان وتقصي الحقائق حول الاتهامات بالفساد ونهب المال العام وتسوية اوضاع المفصولين ، هذه ترتيبات للفترة الانتقالية ولكن من واجب لجان ومنابر المبادرات ان تناقشها منذ الآن فهل قامت المبادرات بفتح هذه الموضوعات المختلف حولها لضمان الاجماع قبل ان تنسف محاولات التقارب مستقبلا ؟
يخطئ من يظن ان المحاسبة هي مجرد انتقام او ثأر فهي عملية تطهير (catharsis) للنفس مثلما يحدث بالفن مثلا ، خاصة وان ما يسميه البعض تجاوزات قامت بها حركة اسلامية يفترض فيها ان تعطي الاخلاق والقيم اولوية تتجاوز كل الاعتبارات فمن الخطر والغفلة ان تقفز الحركة الاسلامية ممثلة في الانقاذ على هذا التاريخ وان تختفي خلف لجنة العشرة او منبر ملتقى السلام . فالحركة الاسلاموية السودانية لابدان تهئ نفسها للمستقبل ولكن لا يمكن دفن او الغاء التاريخ ، فلابد من التعامل معه بذكاء وشجاعة ، ولا ينفع في ذلك الحيل والفهلوة والاستغفال ، ومن البداية حين نبحث عن الازمة السودانية ، لابد ان نحدد بحسم ان الانقاذ هي من المكونات الاساسية لهذه الازمة ، لذلك عليها ان تساعد في حل المعادلة الصعبة ان تنزع نفسها من وضعيتها كجزء من الازمة لتصبح عنصرا للحل ، وهذا يعني تقديم تنازلات كبيرة هي بمثابة تضحية حقيقية فالمعارضة ليس لديها ما تقدمه من تنازلات وليس لديها سلطة للمشاركة فالمعارضةالتي كانت تهدد بالاقتلاع من الجذور وجدت نفسها خارج عملية تشكيل مستقبل الوطن بما في ذلك قضية الجنوب كما حدث في ماشاكوس وما يدور الان من حركة اقرب الى السيرك السياسي فهي لم تعد متقدمة على النظام في رؤيتها ومطالبها فهو الذي يحرك الخيوط خلف الكواليس اقصد بهذا الاسهاب القول بان النظام هو المطالب بتقديم ما يثبت حسن نيته في تحقيق الاجماع الوطني لانه ببساطة يملك السلطة التي تسبب الازمات او تحلها .
من الملاحظات الهامة في فورة المبادرات عودة بعض المثقفين السودانيين للاهتمام بقضية الوطن بغض النظر عن صحة التحليل ورؤية الحل فهي ظاهرة تستحق التأمل والمناقشة ولكننا نبدأ بسؤال محوري هو اين يقف المثقف من السلطة ؟ امام السلطة اى هو الذي يوجه ويرى (رؤية ورؤيا) ويحدد المستقبل ام مع السلطة اى حليف وتابع ومبرر ومطبل ، ام خلف السلطة اي تستدعيه ويهرول ليلبي ما تريد رغم انه غير مؤىد لها ، وفي الازمة السودانية المثقف المطلوب هو الذي يتقدم السلطة بكثير لذلك يمكن ان ينقدها وينصحها ويعنفها لذلك المسؤولية كبيرة حين يقرر مثقف الولوج في هذا المجال والا اكرم له تهمة البرج العاجي وحين قرأت في الصحف ان الدكتور كامل ادريس المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية قد قابل السيد النائب الاول لرئيس الجمهورية تساءلت في نفسي : هل يا إلهي تحدث عن الحريات الفكرية ؟ وهل ادان تهديدات القتل والتكفير بسبب الآراء والافكار وطالب بحماية الكتاب انفسهم وليس مليكتهم الفكرية فقط ؟ ام يا ترى ردد حديثا عن الاجماع الوطني يمكن ان يكرره اي سياسي حزبي ؟ هنا دور المثقفين والفرق بين الآخرين ، ان يوظف معرفته وموقعه في حل المشاكل الحقيقية وفي انكار ذات وتضحية بعيدة عن المكاسب الذاتية والطموحات الشخصية .
اخشى ان تكون غاية هذه المبادرات تأسيس تكتل شمالي مقابل كتلة جنوبية (وجود جنوبي في احدي اللجان لا يبعد هذا الشك) فهناك من يفهم الحديث عن الاخطار المحدقة بالسودان بأنه اشارة الى ان جون قرنق صار قريبا من القصر الجمهوري ومثل هذا التفكير يمثل خطرا ويدعم روح الانفصال لان الخطر الحقيقي هو استمرار الاجواء الشمولية وتدهور مستوى المعيشة واهمال المناطق الهامشية .
ان الضجيج والصخب مجرد حركة مزعجة تؤكد عمق الازمة وعقم الحل ومن الواضح اننا نعيد انتاج الازمة فالنظام يحاول انقاذ نفسه والانتقال الى مرحلة جديدة مختلفة ليس بالضرورة ان تحمل جديدا للوطن واخراجه من المأزق وفي الطرف الآخر قوى سياسية عاجزة تماما انتهى العمر الافتراضي لبعضها ويستغل النظام هذه الوضعية لتحريك الامور في صالحه ويجد من يساعده على ذلك تحت دعاوى قومية ووطنية .
نقلا عن الصحافة
|
|
|
|
|
|