|
باريسيات (١)
|
باريسيات (1 )
عدت إلى أهلي ياسادتي بعد غيبة طويلة في بلاد الغرب ، فتعلمت الكثير وغاب عني الكثير، ولكن تلك قصة أخرى. هكذا بدأ الطيب صالح موسم هجرته إلى الشمال وأنا أجد في هذه الكلمات الندية التي تعكس وجدان الطيب صالح ملخصاً بذلك ومن خلال بضع كلمات، قصته الطويلة في الغرب . وأنا كالطيب صالح عدت إلى بلادي بعد غيبة طالت الثلاثة وعشرون عاماًُ في بلاد الغرب متنقلاً بين مرافئ العلم في بلاد الجن والملائكة وبين مراسي بلاد الشاعر المسلم جوته، وتلك قصة أخرى ... حمدت الله وأنني تعلمت الكثير من ضروب الحياة وفي طرق معاشرة الغربيين وغيرهم من الأجناس الأخرى من الأعراب. فكنت طالب علم سوداني ومفتخر بذلك وأي إفتخار. وصلت مدينة باريس يوم 14/11/1984م قادماًُ من أم در بغبرتي وعفرتي وشعري الذي غشته هبوب أم درمان. الطائرة السويسرية القادمة من زيورخ كانت تحمل في طياتها هذا الطفل الشاب اليافع، الذي لم يتسنى له رؤية الغرب بتاتاً فسوف يكون هذا أول لقاء مع أولاد الريف. بعد أن وطأت الطائرة القادمة من الخرطوم أرجلها على مطار زيورخ بسويسرا قمنا بطائرة أخرى قاصدين باريس وبعد نصف ساعة أعلن كابتن الطائرة وصول الرحلة رقم 210 القادمة من زيورخ إلى مطار شارل ديغول. فما أن وطأت قدماي بلاط مرمر المطار الأملس حتى بدأ جسمي يعتليه شعور وكأنما جيوش نمل سليمان قد إمتطته في هرع وذعر وهيبة. قلت لنفسي الكل يتحدث " لغة الطير في الباقير " فكيف يمكن أن أفهم هذه الطلاسم. وبدأت أفواج الأسئلة المتتابعة تزدحم في رأسي: كيف يمكن أن أحول مبلغاً من المال كي أستعين به في مواصلة مشواري إلى مدينة ليون التي جئت قاصداً لها؟ كيف يمكن أن أسري بليل من المطار إلى بطن المدينة؟ كنت أحلم قبل وصولي إلى مدينة الجن والملائكة التي ذكرها الدكتور طه حسين في رائعته الأيام في غير موقع. كنت أحلم بالحي اللاتيني الذي تجتمع في مقاهيه خيرة فناني ومفكري فرنسا، وأحلم بمونبرناس وبالشانزليزيه التي قرأت عنهما في معهد اللغة الفرنسية بالخرطوم. ولكن كل هذه الأحلام التي نشأت في يقظة جميلة قد تلاشت في خضم مملكة النمل التي أعترت جسمي نسبة للخوف. وفي مبعدة مني تراءت إلى صورة رجلين في وجههما إشراقة سمراء إنعكست على بياض مرمر المطار فغشاه رونق على رونق. سألت نفسي في خشوع، أهل يتكلمان العربية؟ أهل هما من السودان؟ هل يعرفان أسرتي كما هو شأن الناس في بلدي السودان القرية الصغيرة التي يعرف فيها فلان فلاناً وفلانة فلانة. أهل لهما طيبة أصيلة فيسألان عن حالي وأحوالي في هذه الضائقة؟ أهل يسألاني عن أهلي وموطني؟ من أين أتت بى سبل الحياة وضروب القدر إلى تلك البقة المرمرية الشاحبة؟ أأنت ولد فلان بن فلان؟ مصحوبة بكلمة "يا سلام!"، بالله، مش ممكن، مش معقول! أأنت فلانه بتقرب ليكم؟ أنا أبو كان مع جدك في ... إلخ إلخ. كعادة أهل بلادي بمحنة تبحث عن نظير في تلك البقعة المرمرية. طاشت الأسئلة وترامت وتتابعت كالسهام على ذاكرتي. كل هذه الخواطر أتت في برهة كلمح البصر والرجلان الأسمرانيان يتقدمان أمام أعيني بأقدام ثابتة توحي وتدل على خبرة وتمرس في السفر! تقدمت حذراً نحوهما مطبقاً يدي المبلولتين بالعرق الناجب عن "الخلعة" إنتو سودانيين؟
إنتظروني في الحلقة القادمة… د.محمد بدوي مصطفى أستاذ اللسانيات والأدب بجامعة كونستانس ألمانيا وعميد تأسيس جامعة نهال الأوروببة بالسودان www.mohamed-badawi.de باريسيات (١)
|
|
|
|
|
|