|
الرجال في السجون والحكومة توزّع في الصابون!
|
خط الاستواء عبد الله الشيخ الرجال في السجون والحكومة توزّع في الصابون! بينما كانت مايو تعيد أفراحها بـ ( يوم العودة العظيم) كانت مجالس حلتنا تمضي في الاتجاه المعاكس، وتتناقل أقوال عبد الخالق محجوب قبل صعوده إلى منصة الإعدام.. داهم كومر الحكومة الحلة مرات عديدة أفزع نساء، وفرزع اوراق، و وصلتنا طراطيش كلام بأنّهم قادرون على قلب أي حجر اندس تحته شيوعي. كانت الأخبار تأتينا مشحونة، وملوثة بأقاويل من نوع أن الشيوعيين يقتلون أمهاتهم ويتزوجون أخواتهم، وقليلاً قليلاً هدأت العاصفة، وعاد أهل الحلة إلى سخريتهم وحنقهم على مايو.. ومايو كانت كريمة في تلك الأيام، وتغزو غزواتها لترضية الناس بتوزيع صابون (التراكوما)، وكنت أنا حريصاً على الوقوف في الصف، ولكني كنت أراقب أن العديد من أهلي لا يذهبون إلى هناك وأسمع أحدهم يقول لي : إنتو قايلين إنو مايو دي ممكن تصنع صابون؟ الصابون ده رسلتو للشعب السوداني (الدول المحبة للسلام) فأسالة أنا ببراءة هل هناك دول محبة للحرب؟ واتذكر الآن أن أحدهم كان يقول كلما جاءت مايو لتوزيع الصابون (حكومة لما تهديك تهديك صابونة)؟ وقال لي بزهو إنه شال لوح الصابون ونزل البحر و(حمم) بقرتو بلوح التراكوما، وأضاف: أنا حممتَ بقرتي بصابونة الثورة عشان تعرف إنو (مايو اتولد)، وأذكر أيضاً أنّهم كانوا يردون أغاني مايو خاصة (نقولا نعم عشان أولادنا تتألم)..! بعد كسرة يوليو كانت مجالس الكوتشينة ممتعة جداً، لم يكن يسمحون لنا باللعب، ولكننا كنا نقف ونسمع الونسة التي تطفر (بين القفلة والتعريجة) في جلسة الكوتشينة التي تدور تحت تمراية فوق القيف أو في ديوان أو في نادي حمور، تنطلق السخرية مغلفة بالأسى وتشعر بأنّ هؤلاء الساخرين (بطونهم تقيلة) يدافع أحدهم عن نفسه قائلاً: (البلد كلها نازلة ومعرجة) يعني شنو إذا أنا نزلت ليكم بالتعريجة دي؟ ويقول آخر (سمعتو قال شنو في (....) المكاشفة الشهرية؟ ويقول آخر لصديقه (أمسك الورق دا لحدي ما أمشي وأجي من الاتحاد الإشتراكي! بعد سنوات جئت إلى الخرطوم، ووجدتهم يرددون سخرية مشابهة، وهدأت الأحوال أكثر، و وجدت أنّ علاقة أهلي بالراديو صارت أقوى بعد أن التقطوا إذاعة الشريف حسين، وكنا كتلاميذ صغار توكل إلينا مهمة طلوع رأس البيت أو رأس التمرة لتعليق سلك (الأريل) كان الراديو هو الوسيلة الوحيدة لتلقي الأخبار. وعرفت فيما بعد أنّ هناك نشرات ومناشير وصحيفة أكثر تأثيراً من الأيام والصحافة، ومازلت أذكر والقرية تستمع إلى الراديو في شكل حلقات مازلت أذكر قهقهات متلاحقة ومميزة لبعضهم حين يمر مؤشر الراديو على (القائد الملهم) أو (فكرك وعيك) أو ( تسلم مايو لينا وليك تسلم) كان بعضهم يضحك ويكاد ينشرط من الضحك! هنا ملامح مما أتذكر عن أحداث 19 يوليو ولكن ما جدوى هذه الملامح؟ أعتقد أن نقش الطفولة هذا ترك آثاراً عليّ وعلى أبناء جيلي، وحين (جاءت هذه)..! وجدت نفسي (كاسر ركبة) و(عامل تكويعة) في حلة حمور وقد سبقت حضوري إلى القرية عبارة الاتهام بالشيوعية، تلك العبارة التي إذا حاولت إنكارها رميت نفسك في الكبكبة، واذا قبلت بها (انكبوا عليك)! عدت إلى الحلة خالي الوفاض إلا من كتبي التي (قرضتها) في شهور معدودات فخرجت إلى ناس الحلة باحثاً عن المزيد، و وجدت أنّ الانقاذ قد قدمت لي خدمة لا أنساها ابداً لأن وصفتهم السحرية بأنني شيوعي قد فتحت لي اكثر مما أطمع فيه من المكتبات، وهكذا كانت وصفتهم السحرية تصريح إطلاع رسمي أحظى به أنا وحدي وفتحت لي مكتبات حلة حمور رفوفها، والغريب أن مكتبات حلة حمور لا تذخر إلا بالممنوع والمحظور من النشر والتداول، وهناك قيمة أخرى أيضاً لهذه الملامح من تجربة يوليو، فأنا أظن ظناً أقرب إلى اليقين أنّ هذه القرية خالية تماماً من هذا النوع من العناصر التي تغبر رجليها في سبيل (النفخة الكضابة)! وأن أنسى ما أنسى تلك التي قالت (وليداتنا في السجون والحكومة توزّع في الصابون)..؟!
|
|
|
|
|
|