|
ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها
|
ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة
ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها عثمان أحمد خالد
كاتب وأكاديمي سوداني مقيم بالخارج [email protected]
لقد تعرفت علي كتاباتها منذ أن كانت نجمة تتلألأ في الأفق الأدبي. عندما وقع بصري لأول مره علي حوار منشورلها في صحيفة القدس العريي قبل سنوات حول لغة العشق في الأدب .ومنذ لحظتها جال في خاطري، أن الكاتب النادر محمود المسعدي ( رحمه الله) الذي تطلق مقولاته الخيال في إتجاه الأفق، و تلهب أفكاره الشوق الي المعرفة، وتوشح لوحاته الرائعة الذهن بالوان طيف المعرفة، لم ولن يكون ظاهرة وحيدة في تاريخ تونس الخضراء. بل هو نبوغ ضارب الجذور في أرض قرطاج الخصبة، التي تشربت عير الازمنة بالقيم من الفكر والجميل من الفنون والآداب ولأن المحاورة كانت بنت كل هذا التاريخ الذي أنجبها إنجاب سيوس، لمنيرفا فوق قمة جبل أولمب. لم أستغرب، إن توشحت بنت قرطاج بغصن الشجره التي أبدعتها رمزاً للسلام و المحبة والرخاء بين البشر. ووظفت عقلها المتقد، ومعرفتها الواسعة، لكي تزداد تلك النار المقدسه توهجا و لمعاناً.
ولأنها هي أيضا باحثة في ريعان شبابها الأدبي والبحثي، عندما قدمت عملها بشفافية عالية جمعت بين جمال اللغة وسلاسة الاسلوب، والتلخيص الجيد للافكار والحياد في الاشارة إلي ألأراء المختلفة، كإشارتها إلي السجال الذي دار مابين جاك دريدا ولاكان حول التفكيك والتحليل. . وتقديم أطروحتها في طبق مرصع بكريم الجواهر، وثمين الدرر، يندر أن نجده في الأعمال الشبيهة. ولهذه الاسباب إطمئنت نفسي، أن أبي هريره سيحدثنا كثيراً. وأن ريحانة ستروي ظمأ الحاضر بحكاوي الصحراء*11. طالما أن امثال أستاذة الأدآب كانوا يرددون منذ نعومة أظفارهم أبيات الشابي باخلاص .
ومن لم يرم صعود الجبال يعيش ابد الدهر بين الحفر.
وهي أبيات تؤجج لهيب الطموح في الدواخل، و تحفز الذين لم يستسلموا لواقع حاضرهم الراهن، ولم يعجبهم أن يروا كتاب العربية يبللون خارطة تاريخهم بدموع الحسرة والندم.، علي نضوب منابع ماضيهم الفكري الثر، وأفول شموسهم التي أشرقت أزمنةََ علي عصور بغداد ومعرة النعمان المتوهجة، وقرطبة واشبلية و قرناطة اللامعة الوميض. وغيرهما من عواصم والأدآب والفكر والثقافة.
و لأن القرون لاتنجب دائماً أمثال أبو حيان، أو بن طفيل، أو بن رشد، أو رابعة العدوية أو حتي بنت المعتمد بن عباد بثينة؟ جاز لنا أن نتحرق شوقا الي قراءت أعمال هذه الكاتبة ، التي تستخلص الدرر المدفون في أعماق التاريخ. وجاز لنا ايضاً ان نضرب لها أكباد الابل، لنسمع منها أحدث كشوفات الحاضر. طالما انها تنفض غبار القرون عن هذا التراث الخالد، وتلقحه بلغة بودلير وفولتير . فإن نقلت للسان يعرب شعرية تودووورف، فهي قادرة أن تقرب إلي العقل العربي بناء فوكو، وتفكيك دريدا، وتمدنا بآخر كشوفات تلاميذ المرحوم سيمون فرويد. وغيرهما من ضروب المعارف التي تتطلب العقل الناقد، والتمكن من اللغات التي كُتِبت بها. وجاز لنا أيضأ أن نزعم إنها من أمثال الذين كرمهم فيلسوف المعرة، لجليل أعمالهم وخلود أدآبهم. بإطلاقه لخيال الشيخ بن القارح وتجاوزه به حدود الزمان والمكان، فأركبه نجيباً*1 من نجب الفردوس يسير بين كثبان العنبر، وتلال الزبرجد، وشلالات اللبن، و أنهار العسل ،وغابات كُثر، أشجارها علي إمتداد البصر من أمثال ذات الأنواط، التي كان القوم يعظمونها في الجاهلية، ويستنشق عبق الحور العين. وإن شاء يسقي رحيقاً مختوماً، بأباريق الولدان الموشحون بالسندس الخضر. علي نحو ما صوره لنا أبو العلاء (رضوان الله عليه) في رسالة الغفران، لانه رحمه الله ، لو لمح خياله الواسع توهجها هذا، لأوعدها (متعها الله بشبابها وأطال عمرها)، قبل أعز أحبابه أعشي قيس و زهير و عبيد ولبيد والنابغتين وغيرهم من أدباء العربية، قصرًا فخيماً كقصر الشمس*2، لايبلغ البصر مداه، ولايدرك الطرف آخره. تكتسي مروجه بالسندس، و تُنضّر بالزهر، وتفوح أنفاس حدائقه بأَرج التفاح وعبق الرياحين.
وإذا تثني لنا أن نجاري حبيس المعرة في تفاؤله فأن أقل ما نتخيله أن أستاذة الآداب ستقدم له زميل مهنته (الخالد مثله) دانتي، الذي تأسي به ،وسار علي خطاه، رغم صعبوبة المهمة، ووعورة الطريق .
ولن يدهشنا( رحمه الله عليه) إذا ما قرع هذا النبوغ مسامعه أن يندم علي بيت شعره:
هذا جناه أبي على وما جنيت علي احد.
أو إذا ما تحسر علي شبابه الذي تبدد نسكاً!. أو إذا ما هام فؤاده في مضارب بني هلال أو بني هانبال، وصبّ قلبه، وفتنت نفسه الزاهده، بإحدي حسنواتها. ألم يكن يأسه من تحقيق أماله سبباً في زهده؟
وقال الفارسون :حليف زهُد وأخطأت الظنونُ بما فرَسنهْ ِ
وَرُضْتُ صعاب أمالي فكانت خيُولاً في مراتعها شَمسْنهْ
ولم أعرْض عن ِاللذات إلا لأنّ خيارَها عني خَنَسنهْ*3
فلماذا لايكرم بنت قرطاج، أديب المعرة؟ و قد صارت شمسأ ساطعةً في سماء علم اللغة و الفكر والنقد، وغيرهما من ضروب الآداب؟ . .تدرس أعمالها وتناقش رؤاها، وتخبّر طلعتها الباهية من خلال موقعها علي الإنترنت أهل أوربا ان فيلسوف تنويرهم، إمانويل كانط ، لم ينورهم حقأ.، عندما زعم أن الذكاء والجمال لايجتمعان في شخص واحد.
..................
وأرجو عزيزي القاري أن لا تعتبر إنني أردت بإشارتي إلي جهدها المذكور ومقامها المحترم. القول إن أستاذة الآداب فوق النقد ، بل علي العكس من ذلك تجدني أدعو بشدة إلي نقد انتاجها الفكري. لأن نقد الفكرلاينتطح حوله عنزان. فالإنتاج الفكري والثقافى لابد من الحوار حوله ، والوقوف عليه بالمناقشة النقدية الموضوعية. بل أكثر من ذلك تقام له المحافل وتمنح له الحوافز. ولكني أردت أن أقول إنني لا أجد سبباً يحول دون أن يفكر الناس بحرية؟ خاصة إذا ما علمنا ان الأستاذة المراد منها إلجام عقلها عن التفكير، ولسانها عن التعبير، ناقدة درست النقد! ومفكرة مهنتها التفكير في قضايا اللغة و الفكر الثقافة؟ فلماذا لا تترك لها الحرية لكي تبحث في تراث الفكر العربي والانساني؟ ولماذا لاتدرس تلاميذها بما يقنع ضميرها ؟ وهي باحثة نالت ألقاباً أكاديميهً رفيعةً. وتوفرت لها شروط البحث. وجودة إستخدام أدواته. وتمرست في سبل التدريس. وشهدت لها المؤسسات المختصة بذلك. وإذا ماجانبها الصواب.؟ فمن هو المرجع في هذه الحالة.؟ وما هي الأدوات والأساليب التي يجب أن يحتكم إليها.؟هل هي السجال الأكاديمي.،؟ والمناقشة النقدية المتعارف عليها ؟أم الفتاوي التي تنضح عنفا أوجنسأ؟ كفتوي إرضاع الكبير الطريفة، ذات الميول الأوديبية ؟ فهي تجسد الحنين المدفون في أعماق لاوعي مفتيها إلي حليب الأم الدافي. وهي فتوي تصلح أن تكون دون شك دعماً لتلاميذ المرحوم سيمون فرويد، في مواجهة نقاد شيخهم بإعتبارها( تثبيتاً) fixierung لمشاعر(العشقية الفمية) ، Oralerotik ، بالنذوع لتكرار تلك المشاعر ،Widerholungszwang
والتي زعم فرويد أنها تلازم بعض الراشدين الذين يظلوا يستبطنوها ،لأنهم لم يتخلصوا بعد من رواسب عقدة أوديب .
والغريب في الأمر، أن أحدهم برر هجمة تتار الحاضر علي الدكتورة رجاء بن سلامة، بزعمه إنها لم تقل كل ما تؤمن به !ولكنه لم يخبرنا كيف علم بما لم تبح هي به؟، طالما إنه ليس بنبي يوحي إليه. أو ولى خصه ألله بعلم من لديه. إلا أن يكون في رفقته تابعاً من أهل نصبين*4(من الذين ضربوا في مشارق الأرض ومغاربها) بإمكانه إستراق السمع حتي علي ماخفي فى الصدور. اليس هذا القول كافياً علي التأكيد أن البعض تشابه عليهم البقر؟، ولايدرون حقيقه الدين الذي يريدون حمايته ؟
والتهمة الأخري في مواجهة الأستاذة هي التلويح بقميص عثمان! و الذي ملَ الناس التلويح به. بإتهامها بأنها تحبّط نشاط المقاومه الفلسطينيه ! وكأن المقاومة صارت ديناً مقدساً يحرم نقدها؟ ،و يجوز تكفير ناقديها؟، لأنه إن كان الأمر حقاً كذلك لجاز تكفير نقاد أبو عمار رحمه الله!. وجاز أيضاً تكفير نقاد عباس! وتكفير ما أثمر عنه من تجمعات سياسية فاعله و تقاوم اليوم ! لذلك فإن هذه التهمة دون شك غير أمينة. ولو كان الهدف هو الدفاع عن القضية العادلة؟ كان حرياً بهم أن يذهبوا إلي أمارة غزة التي ضربتها الفتنة في مقتل. ويسألوا المقاومين؟ من الذي يحبّط مقاومتهم؟ وكيف صار حالهم؟وأين يصلّون؟ و أين يعملون؟ ومن من يخافون؟ ومن يقاومون الآن ؟أما الكتاب والمثقفون العرب فلن يخوضوا في أوحال حرب البسوس، لأنهم سجلو أسمائهم في دفاتر محمود درويش ويحفظون أرقام بطاقاتهم . ويتوقون لليوم الذي يستعيد فيه أحمد العربي سلامته وتوازنه الداخلي .خاصة انهم سمعوا بالكثير من مثل الشعر الذي يتوارثه البدو حتي اليوم . يقولون علي لسان كليب:
اسمع يا ابن عمي أياجساس قد أهرقت دمي *5
أيا غدار تطعني برمح ولست انت في الميدان خصمي
واشمت الاحاسد والاعادي وباتت اخوتي تبكي امي
على ناقة تقتل ابن عمك أمير كريم من لحمك ودمك
بيوم الضيق كان يزيل همك ويردي الضد في يوم النزال.
أما عن حرية البحث والتدريس فإني أتساءل هل صارت حقاً رهينة لأحكام أمثالهم؟ وهل يسمح لهؤلاء مواصلة فتاويهم لإشباع رغباتهم السادوماذوشيه بإسم الإيمان بالدين؟ وهل هم المراجع الذين يسمحون لأساتذة الآداب أويحظرون عليهم تقريب مناهج علوم اللغة والنقد الحديث إلي تلاميذهم ومحيطهم الثقافي و الفكري؟.
لو تم لهم ذالك،لحلت الكارثة،فبدون الحرية لا يمكن لباحث أن يبحث ولا يستطيع مبدع أن يبدع. وإذا كانوا حقاً غيورين علي تراثهم الفكري كان خليقاً بهم أن يحافظوا علي أمثالها، حتي لوسلمنا جدلاً بوجهة نظرهم، التي تُخطّيء رؤيتها . ولقد كفي عنا بن زيدون في تظلمه مخاطباً صاحب قرطبة أبا الحزم بن جهور، عناء المجادلة بقوله :
فإن يكن ِ الفعلُ الذي ساءَ واحداً ( فأفعالها) اللائي َسَررنَ أولوفُ *6
فهل نأمل أن يراجع خصوم حرية البحث والفكر انفسهم ويتحلوا بالأمانة قبل أن يصدروا أحكامهم المطلقة التي لا إستئناف لها؟ . حتي لاتصير جامعاتهم خالية من الأساتذة الذين تنتظرهم الجامعات و معاهد البحوث والدراسات الأخري، علي أحر من الجمر. وتبحث عنهم ربما أكثرمن بحث ريال مدريد، ومانشستر يونايتد، عن الموهبين من لاعبي كرة القدم.
لما تقدم فانى أناشد بأعلي صوتي خصوم الدكتورة رجاء بن سلامة، أن يزيلوا من قلوبهم الضغائن عليها. طالما أن الخلاف حول قضية فكرية، تحتمل الرأي و الرأي الأخر، والمساحات واسعة لكي ُتقدم الحجة في مواجهة الحجة، و الفرص متوفرة لمجادلة الفكرة بالفكرة. فعسي ولعل أن يحصحص الحق يوماً ما، في جانبهم أو جانبها . وهذا لن يكون إلا بالحوار الهادى والمنطق السليم .
ولهم في النبي محمد صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة أو الذين فهموا جوهر رسالته أمثال أبو الوليد محمد بن رشد الذي لم ينسي أن يترحم علي الإمام أبو حامد الغزالي في رده علي تهافت الفلاسفة. بقوله : قال أبو حامد رحمه الله: كذا ، و نقول: كذا... فهذا هو أدب الحوار الذي سلكه فيلسوف قرطبة و أمثاله من الذين كانت نواياهم خالصة للوصول الي نورالحقيقة. وليس التشفي والإنتقام . لأنهم فهموا جوهر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق.*
أما سل سيوف التكفير، و سن رماح الارهاب، فلن يقنع احدأ بفكرهم، إذا ما كان لهم فكر. ولن يدعم حججهم، إذ ما افترضنا إنهم من أهل الحجج. و لو كان سلاح التكفير يخدم قضيه لخدم قضيه الامام الغزالي (رغم انه رحمه الله عليه ، كان حجة ً في الاسلام) ضد الفلاسفه و علي وجه الخصوص ضد الشيخ الرئيس بن سيناء. (رضوان الله عليه) فعلي الرغم من تكفيره للشيخ (سامحه الله) مازالت إشارات الشيخ الرئيس، و تنبيهاته ، وأضحويته في المعاد، وغيرها من مؤلفاته حاضرة حتي هذا الزمن، بل في متناول أمثالنا من العوام. يلجؤن إليها لجلي ما لحق بالنفوس من صدأ. رغم انه حذر في حياته بشدة من وقوعها في متناول أيدي أمثالنا من العوام. وخطأ إشهار سلاح التكفير والإستعجال في اصدار الفتاوي يؤكده ماتوصل اليه الامام الغزالي نفسة بعد عزلته المشهورة. وقوله بمبدأ المضنون به على العامة،كما ظل صديقي الأردني، يذكرني دائما : بان الكثيرين من المهتمين لم يقفوا حقيقة على تجربة الامام الغزالي بعد كتابته لتهافت الفلاسفة التي إنتهت به إلي أن يعمل بمدأ المضنون به علي العامة.
نعم . فلقد لجأ أبو حامد للعلوم الاولية للوصول الي اليقين في ما إحتار فيه. وعندما أخطأت حواسه ،وحار عقله، وأعضل به الداء، لجأ الي تصوفهم و توحدهم، إبان أزمته الشهيرة. كما خبر هو بنفسه عنها{ فلما خطرت لي هذة الخواطر , وانقدحت في النفس , حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر اذ لم يكن دفعه الا بالدليل , ولم يمكن نصب دليل الا من تركيب العلوم الاولية . فاذ لم تكن مُسلمة لم يمكن ترتيب الدليل . فاعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين انا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال , لا بحكم النطق والمقال , حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض , وعادت النفس الى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثقة بها على امن ويقين , ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام ,بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر , وذلك النور هو مفتاح اكثر المعارف*7 }.*
ولعل هذا النور هو الذي حمل الغزالي ان يعمل بمبدأ المضنون به على العامة حتى مماته. وهو نفس النور الذي أطاح الإعتقاد به برأس مشاهد الأنوارالإشراقية الشهيد السهروردي شهاب الدين، علي الرغم كتمانه لسره وتحريه السلامة، كما عبر عن ذلك شعراً بقوله :
*بالسر إن باحوا تباح دمائهم وكذا دما العاشقين تباح.*
و ظمأ سيوف التكفير لم ترويه دماء شهيد الإشراق، شهاب الدين السهروردي، ولا شهيد الحلول والإتحاد، الحسين بن منصور الحلاج . فكادت أن تنال من صاحب الفتوحات المكية وفصوص الحكم ، شيخنا الأكبر العارف بالله محي الدين بن عربي. والذي مازال البعض يعيره بسبق إسبنوذا له بالقول بوحدة الوجود. فإن كان إسبنوذا أو غيره قد سبقه القول فلا إشكال في ذلك ( فالحق لايناقض الحق بل يشهد له و يؤيده)*9 فإن كان سابقه إختار طريق البرهنة الرياضية للوصول لغايته، فلقد باح شيخنا بما كشف له عندما لاحت له حقيقة وحدة الوجود ، وأشرقت علي قلبه أنوارها الكونية الساطعة ،وأبصر بروقها اللامعة، ونهل من علومها اللدنية وأسرارها الربانية. فأباح به شعرأ ونثرأ عطر فضاء الأدب الصوفي. ولم ترهبه صياح الذين غلظت أنفسهم وحجبت ابصارهم عن المشاهدة لأنه شأنه شأن( الجيلاني والبسطامي كان قد تمكن وحصن نفسه بالحقيقة ضد سيوف الشريعة وهذا مقام لم يناله أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج،الذي رأئ الحقيقه فنطق بها قبل أن يحصنْ نفسه بها من سيوف الشريعة) *8 والغريب أن يكون في عالم اليوم من يدعي العلم ويكفر في ذات الوقت الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي! بعد أن طبق العالم ما أعلنه البرت اَينشتاين في نسبيته أن الزمان دائري والفضاء مترابط ومنبعج والزمان والمكان مندمجان.بل تجدهم يطلقون تلك الفتاوي بهواتفهم النقالة أو عبر القنوات الفضائيه !ولاعجب! و الجدير بذكره في في هذا المقال إن جراح أهل الفكر والعلم لم تندمل بعد، ومازالت تؤرق مضاجعهم فجيعتهم الكبرى في متصوف السودان العارف بالله الأستاذ محمود محمد طه،(عليه رضوان الله) المفكر الذي أثري ساحات المعرفه و الفكر، والتصوف، وظل وفياً لقناعاته ورفض أن يخسر نفسه ويكسب عالم النفاق والظلام ، حتي أخر لحظة في حياته المادية. بل تجرع كأس المنون بإبتسامة ساخرة علي جلاديه. وهو يواجه مصيراً ترعب له النفوس وترتجف له الأبدان. فسمت روحه الشفافة عن كدرالدنيا الذائلة، التي زهد فيها أكثر من زهد أبو العتاهية. فأشعل رحيله الأسي في القلوب والحزن في النفوس وأدمي الماَقي. وهي مأساة لن يقدر علي تصويرها إلا كُتّاب المآسي العظام أمثال أرسطوفانيس وسوفوكليس وغيرهم من الذين خلدوا أعمالاً اقل مأسوية من مأساة النيل. والأستاذ محمود واجه خصومه وحدد موقفه من محاكمهم التي فاقت فظائعها محاكم التفتيش بقوله تلك الكلمات التي خلدها التاريخ:
أنا أعلنت رأي مرارا ، في قوانين سبتمبر 1983م ، من أنها مخالفة للشريعة وللإسلام .. أكثر من ذلك ، فإنها شوهت الشريعة ، وشوهت الإسلام ، ونفرت عنه .. يضاف إلي ذلك أنها وضعت ، واستغلت ، لإرهاب الشعب ، وسوقه إلي الاستكانة ، عن طريق إذلاله .. ثم إنها هددت وحدة البلاد .. هذا من حيث التنظير .. و أما من حيث التطبيق ، فإن القضاة الذين يتولون المحاكمة تحتها ، غير مؤهلين فنيا ، وضعفوا أخلاقيا ، عن أن يمتنعوا عن أن يضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية ، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب ، وتشويه الإسلام ، وإهانة الفكر والمفكرين ، وإذلال المعارضين السياسيين .. ومن أجل ذلك ، فإني غير مستعد للتعاون ، مع أي محكمة تنكرت لحرمة القضاء المستقل ، ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر ، والتنكيل بالمعارضين السياسيين. *10
عندما أصدر عليه قاضي حديث العهد بالمهنة حكماً بالردة، أملِئ عليه من خصوم الأستاذ السياسين، من حلفاء قوانين سبتمبر 1983سيئة السمعة والصيت، (النميري والترابي)، والأخير حاول في ما بعد أن يغسل يديه وثيابه من دماء الأستاذ. ولكن هيهات !، لأن الحية لاتتغير إن جددت ماتلبسه!. فبعد ثلاث سنوات فقط من تنعمه بخيرات النظام الديمقراطي الذي حرره من سجن حليفه ( أطلق الترابي علي النميري لقب الإمام ومجدد القرن) فاجأ الترابي العالم بإنقلابه فى 30 يونيو 1989م المشئوم الذي مازالت فظائعه تتواصل حتي زادت كوارثه عن حوجه وادي النيل. فصُدروا فائضها إلي من إستطاعوا. وفي مصر حاضنة دار الحكمه سابقاً و الأزهر حالياً لم يسلم كُتّاب كبار من التكفير. علي الرغم من أنهم أساتذة في الأدب وقادة للفكر ومساهماتهم في مجالات الإنتاج الأدبي و الفكري لاتحتاج إلي تذكير. منهم علي سبيل المثال لا الحصر: الشيخ علي عبد الرازق، عميد الأدب العربي طه حسين، د. لويس عوض، د. نصر حامد أبوزيد. وشهيد الفكر د. فرج فوده
. فهل يسير أهل تونس في نفس الطريق المجربة وعورته علي الرغم من أن بعضهم أمثال الشيخ راشد القنوشي وتلاميذه وقفوا علي حقيقة مشروع الترابي الحضاري؟ عندما لاح لهم فجره الكاذب ! فأناخوا عيرهم أمام خيمة إنقلابه العسكري. الجدير بالذكر أن الشيخ راشد (في غمرة نشوته) ضرب عرض الحائط بكتابه الذي رفض فيه الإنقلابات العسكريه من قبل .! وعلي الرغم من هذا التناقض الذي وقع فيه فإن أمام الشيخ راشد، علي العكس من شيخ حسن الذي فقد مصداقيته تماماً، الفرصة لكي يصلح بعض ما أفسده صديقه الترابي .بإعلان موقف واضح من حملات التكفير و التضامن مع ضحاياها والدفاع عن الحريات العامة والديموقراطيه التي ينعم بها، من خلال الرعاية الكريمة التي يتيحها له دستورصاحبة الجلالة .*12
حتي لايكون الدوح حلالاً علي بلابله وحراماً علي الطير من كل جنس
! إن فعل ذلك فإنه يكون قد تجنب أخطاء صديقه وأفاد بلده و طور فكره. وساهم في تقديم الجانب المشرق إلي أهل الغرب الذي يعيش في ديارهم والذين كادوا أن ينسوا الأثر التنويري الهام الذي أسهم به المسلمون في نهضتهم. وهو الأستاذ الذي درس الفلسفة ووقف علي أدب الحوار مذ عهد سقراط . والشيخ القنوشي ليس الوحيد المطالب بالخروج من صمته وإعلان موقف واضح. بل كافة الناشطين في هذا الصدد وعلي وجه الخصوص شيوخ الأزهر.
وشيوخ التصوف والفلاسفه لم يكونوا وحدهم الذين إصطلوا بنيران التكفير، فلقد طالت الجميع، حتي أمثال الذين درجوا على صناعة فتاوى التكفير أمثال المكفر عبد الصبور شاهين الذي إشتهر بتكفيره المفكر المصري المعروف د. نصر حامد أبوزيد و دعواه بتطليق زوجته دون إرادتها منه!. فلقد تجرع الشيخ عبد الصبور من نفس الكأس التي اسقي منها نصر حامد أبوذيد.
هذه أمثله علي نيرانهم. فهل يسلم أحد من تلك النيران. التي طافت بالشرق والغرب وكادت أن تقضي علي الأخضر واليابس؟ولاحقت حتي الذين هربوا من شرها وضحوا بديارهم التي ألفت نفوسهم العيش فيها، وحرموا من دفء الحياه في العشيرة بسببها.
لذلك فإن الإرهاب الذي تتعرض له الدكتورة رجاء بن سلامة لايستهدفها هي فقط، بل يستهدف حرية الفكر والرأي الأدبي والسياسي وكافة الحريات العامة منها والشخصية. ضف إلي ذلك فإنه لايناقض الحقوق الأساسية، العامة والخاصة منها فقط، بل يناقض أيضاً الإيمان بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم نفسه. والتى دعت إلي التأمل والتفكير{ إن في خلق السماوات والأرض وإختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب}.وهذه الآية ليست بالوحيدة التي دعت إلي إعمال العقل والفكر.بل إن الإستدلال علي حرية التفكير بالإستناد للنص القراَني أمر لايحتاج إلي كبيرعناء.
لكل ذلك فإني أعلن عن تضامني التام مع الدكتورة رجاء بن سلامة تقديراً للجهد العظيم الذي تبذله في تنوير الأذهان حتى المظلمة منها و التي عجزت عن إدراك جوهر تراث الفكر الإسلامي. وتقديراً أيضاً لإشعالها شموع الأمل في ظلام حاضرنا الدامس الظلام. ولإستلهامها الجوانب المشرقة والديموقراطية في ماضي تراثنا وتقديم وجه مشرف للاَخر الثقافي والفكري.
وفي الختام تجدني عزيزي القاري علي قناعة تامة بأن الدكتورة رجاء بن سلامة ليست في حوجة الي دفاعي. فهي اقدر مني علي الدفاع عن فكرها. ولكني قصدت التنبيه للدور المدمر الذي ستفودنا له سيوف التكفير إن تركت لها الحرية لكي تكون مسلطة علي رقاب قادة الفكر وحملة مشاعل التنوير. وحتي لايكون الدمار واقعاً فلابد من اعادة سيوف التكفير الي اغمادها والي الإبد. وايداعها في عهدة متاحف تاريخ الخلاف السياسي للذكري والإعتبار.
مراجع :
1ـ النجيب من الإبل ـ الخفيف السريع. رساله الغفران دار صادر ـ بيروت من نجب الياقوت 2ـ دريني خشبه أساطير الحب و الجمال عند االإغريق 3ـ مع أبي العلاء في سجنه ـ طه حسين 4ـ جماعه من الجن. راجع السيرة الحلبية 1/359 5ـ موقع قبيلة بني وائل علي الإنترنت 6ـ فإن يكن ِ الفعلُ الذي ساءَ واحداً ( فأفعالها) اللائي َسَررنَأولوف:ُ
إبن زيدون ـ د. عبد المجيد الحرـ دار الكتب العلميه ـ بيروت ـ لبنان 7ـ المنقذ من الضلال تحقيق الدكتور جميل صليباـ والدكتور كامل عيادـ دمشق 63 -57 8ـ شرح إشكالات الفتوحات المكية عبد الكريم الجيلي.تحقيق 9ـ فصل المقال . ابو الوليد مجمد بن رشد. تحقيق د. سليمان دنيا 10ـ موقع الفكرة علي الإنترنت
11ـ راجع ـ حدث أبوهريرة قال. محمود المسعدي دار الجنوب للنشرـ تونس 12ـ يعيش الشيخ راشد القنوشي منذ أكثر من عشر سنوات بالمملكة المتحدة
*كاتب وأكاديمى سودانى مقيم بالخارج
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: doma)
|
تمت إعادة نشر مقال الأستاذ عثمان أحمد بشبكة الإنترنت للإعلام العربى تميز المقال بلغته العالية والغنية .. و إنحيازه الواضح لصوت الحق الذى جن جنون مؤساسات الحنق والحقد لإسكاته ليس بالجدال والفكر .. بل بالتكفير والإرهاب والقتل
هذا المقال يخيف الجبان الذى إستبدل القلم بالحزام الناسف ولا يزال هو الأضعف التحية للدكتورة رجاء بن سلامة
شّهائد المتحصّلة عليها : دكتوراه الدّولة في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة العنوان : العشق والكتابة : قراءة في الموروث. التّبريز في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة سنة 1988، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة. الأستاذيّة في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة سنة 1985، دار المعلّمين العليا. الوضع الحاليّ : أستاذة محاضرة بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات منّوبة، جامعة منّوبة، تدرّس التّفكيك وتاريخ التّصوّرات عن المرأة في نطاق وحدة "تاريخ النّساء". تدرّس الخطاب عن المرأة وعن الجندر في العالم العربيّ في نطاق "ماجستير الدّراسات النّسائيّة" بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة، تونس. تنشر مقالات عن القضايا الدّينيّة وعن وضعيّة المرأة العربيّة في : www.elaph.com ومواقع أخرى أنشطة أخرى علميّة وعالميّة : عضو هيئة تحرير مجلّة Transeuropéennes التي تصدر بفرنسا. عضو هيئة قراءة مجلّة إيبلا (معهد الآداب العربيّة) بتونس. عضو في فريق بحث حول ترجمة الثّقافات في إطار مجلّة تراسأوروبيان المذكورة. عضو في فريق بحث حول "تحليل الخطاب" في جامعة منّوبة. تشارك في "الورشات الثّقافيّة الأورومتوسّطيّة". أنشطة جمعيّاتيّة : تنشط في الجمعيّات غير الحكوميّة الإقليميّة والوطنيّة التّالية : *المعهد العربيّ لحقوق الإنسان *الجمعيّة التّونسيّة للنّساء الدّيمقراطيّات *جمعية النّساء التّونسيّات للبحث حول التّنمية. عضو المكتب النّقابيّ بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة (النّقابة العامّة للتّعليم العالي والبحث العلميّ). المنشورات : الكتب : Les Mots du monde : Masculin –féminin : Pour un dialogue entre les cultures, collectif sous la direction de Nadia Tazi, Paris, La Découverte, 2004. العشق والكتابة : قراءة في الموروث، كولونيا، دار الجمل، 2003. صمت البيان، القاهرة، المجلس الأعلى للثّقافة، 1999. الموت وطقوسه من خلال صحيحي البخاريّ ومسلم، تونس، دار الجنوب، 1997. الشّعريّة، لتزيفطان تودوروف، ترجمة بالاشتراك مع شكري المبخوت، الدّار البيضاء، دار طوبقال، 1987، طبعة ثانية سنة 1990. أهمّ المقالات بالفرنسيّة أو الانكليزيّة : "Le mythe politique de l'étalon", à paraître dans Intersignes : la virilité en Islam, nouv.éd. "Les sphères divisées d'Aristophane à Ibn Hazm", annales del seminario de historia de la filosofia, vol 12, 2002, pp39-51. "Folie censoriale, crise des fondements", Naqd : Revue d'études et de critique sociale, n°17, 2002, pp63-72. "Tarab : exhilarated on an impossible wine : s'enivrer d'un vin impossible", (en anglais et en français), Transeuropéennes : traduire entre les cultures, n°22, 2002, pp 215-230. « Le sacré de l'autre », Actes du IVème Séminaire Maroco-Italien sur « Les Frontières et Zones de contact », organisé par la Commission Nationale Marocaine pour l'Education, la culture et les Sciences, Tanger, du 23 au 27 Juin 1998. « Taire l'amour », Intersignes, n° 6-7, Printemps 1993. « Les pleureuses », Intersignes, n° 2, 1991. أهمّ المقالات بالعربيّة : "أهليّة المرأة للمشاركة السّياسيّة في الخطابات الدّينيّة المعاصرة"، يصدر ضمن سلسلة منشورات مجمع الباحثات اللّبنانيّات". "التّمييز وعنف التّمييز ضدّ المرأة في العالم العربيّ"، www.elaph.com وwww.amanjoradan.org "الحجاب من منظور حقوق الإنسان"، يصدر في العدد القادم من "المجلّة العربيّة لحقوق الإنسان" (المعهد العربيّ لحقوق الإنسان) معركة السّفور الجديدة، www.elaph.com . "التّرجمة والمحو"، عيون، 2003. "في الشّهادة والانتحار"، ضمن أعمال ندوة "المسلم في التّاريخ"، إشراف عبد المجيد الشّرفيّ، الدّار البيضاء، 1999، ص ص 31-50. "في المقدّس والغيريّة"، الحياة الثّقافيّة، عدد 99، 1998، ص ص 7-15. اللّغات : العربيّة والفرنسيّة والإنكليزيّة.
أعيد المقال فى هذا الرابط
(عدل بواسطة رأفت ميلاد on 01-25-2008, 09:46 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
وصلنى بريد ألكترونى من الأستاذ عثمان احمد بعد الإضطلاع على البوست بنقل مقاله هنا فى سودانيز أونلاين
سعيد بذلك
أرفق لى عدة مقالات للدكتورة رجاء بن سلامة يبدو إنه إستجابة لطلب الأخت دومة
حقيقة لفت نظرى المقال من عنوانه وإستغرقت فى السرد الشيق للأستاذ عثمان احمد لم أكن تعرفت بعد على د. رجاء بن سلامة ..
أستمتعت فعلآ بمقالات د. رجاء بن سلامة وسأواصل نشرهم هنا لعموم الفائدة
هنا أرفق رسالة الأستاذ عثمان احمد
Quote: رجاء بن سلامة InboxX
السيد رأفت ميلاد. لك شكري لإعادة نشر المقال والذي اعتبره مساهة متواضعة حول موضوع التكفير. وارجو ان يكون نشر هذا المقال بداية لحوار هادي لأجل إيجاد ساحات حرة تتطرح من خلالها وجهات النظر المختلفة. ولكم وجميع اهل الفكر ترحيبي بملاحظا تكم الناقده علي شكل وموضوع لغة المقال. ولكم جزيل شكري مرفق بعض المقالات للدكتوره رجاء بن سلامة عثمان احمد
8 attachments — Download all attachments حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئل1.doc 46K View as HTML Open as a Google document Download حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئل1.doc 46K View as HTML Open as a Google document Download جنون ما قبل الفطام.doc 54K View as HTML Open as a Google document Download جرارئم الشرف رجاء بن شلمة.htm 40K Open as a Google document View Download الختان والحجاب 2.doc 40K View as HTML Open as a Google document Download رجاء الثّابت في الثوابت العربية.doc 32K View as HTML Open as a Google document Download رجاء الحجاب والختان.doc 37K View as HTML Open as a Google document Download رجاء بن سلامة من قال دلالا.doc 48K View as HTML Open as a Google document Download |
التحية للأستاذ عثمان احمد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
حجاب المرأة قديما وحديثا محاولة تفكيك وتحويل للأسئلة (1من 4) آيات حجب النّساء ودوافعها
رجاء بن سلامة [email protected] الحوار المتمدن - العدد: 1063 - 2004 / 12 / 30
سأحاول في هذا البحث أن أقوم بثلاث مهامّ، أولاها التّحقيق الفيلولوجيّ في جدول الكلمات التي تعني في القرآن حجاب المرأة، وهو تحقيق سيبيّن لنا أنّ حجاب المرأة ليس واحدا بل متعدّدا، وأنّ النّساء المعنيّات بالحجاب لسن صنفا واحدا بل أصناف. والمهمّة الثّانية هي عمليّة ترجمة داخل اللّغة العربيّة، أتحدّث بها عن الحجاب بمفاهيم لا ترد عادة في الخطاب التّفسيريّ والمعياريّ المحيط بـ"آيات الحجب"، أي بجهاز نظريّ يمكّننا من إحلال الحجاب، بشتّى معانيه، في إطاره من البنى العلائقيّة الاجتماعيّة. أمّا المهمّة الثّالثة، فهي عمليّة تحويل للأسئلة المطروحة عن الحجاب وانتقال من سؤال : "هل هو فريضة إسلاميّة أم لا؟" إلى سؤال : "ما علاقة حجاب النّساء بقيم المساواة والكرامة والحرّيّة؟ هل يعوق هذا الشّيء الآتي من عمق التّاريخ ومن عالم الحريم والمقصورات، هل يعوق مواطنة المرأة ومساهمتها في المجال العامّ، وهل يحول دون بناء المساواة بين الجنسين؟ ولكنّ هذا الانتقال لا يجعل السّؤال الثّاني في قطيعة تامّة مع السّؤال الأوّل ، فسؤالنا في نهاية المطاف هو : كيف نبني معياريّة جديدة تأخذ بعين الاعتبار أهمّيّة التّجربة الدّينيّة في حياة الفرد كما تأخذ بعين الاعتبار منظومة حقوق الإنسان، فنعيد مفصلة ما هو دينيّ وما هو دنيويّ؟ كيف نعتبر حقوق الإنسان "صيغة للعلاقات بين الأفراد لا فقط وسيلة للدّفاع عن الأفراد"؟ سأعود أوّلا إلى آيات "الحجب" لأبيّن التّعقّد والتّضاعف في الحجاب، ولأبيّن علاقة الحجاب بوضعيّة المرأة، والوظائف التي كان يؤدّيها. فالحجاب في النّصّ القرآنيّ على نوعين : حجاب فضائيّ لامرئيّ يؤدّي وظيفة الفصل بين النّساء والرّجال، وحجاب جسديّ ثوبيّ مرئيّ يؤدّي وظيفة الإخفاء. أمّا الحجاب الفضائيّ اللاّمرئيّ فهو موضوع "آية الحجاب" (الآية 53 من سورة الأحزاب)، وهي تختصّ بزوجات الرّسول : "وإذا سألتموهنّ متاعا فاسألوهنّ من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ، وما كان لكم أن تؤذوا رسول اللّه ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إنّ ذلكم كان عند اللّه عظيما." وتؤكّد الأسباب المفترضة لنزول هذه الآية على فضائيّة مفهوم الحجاب، فهو يتعلّق بخروج أو عدم خروج النّساء من بيوتهنّ وبدخول أو عدم دخول الرّجال من غير المحارم عليهنّ. فالكثير من الرّوايات تقول "نزلت بسبب قوم طعموا عند رسول اللّه (ص) في وليمة زينب بنت جحش، ثمّ جلسوا يتحدّثون في منزل رسول اللّه (ص)، وبرسول اللّه إلى أهله حاجة، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله."[ii] وبعض الرّوايات الأخرى تقول إنّ سبب نزولها أنّ "رسول اللّه (ص) كان يطعم ومعه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره ذلك رسول اللّه (ص)، فنزلت آية الحجاب." وتقول روايات أخرى "إنّ أزواج النّبيّ (ص) كنّ يخرجن باللّيل إذا تبرّزن إلى "المناصع" وهو صعيد أفيح، وكان عمر يقول : يا رسول اللّه أحجب نساءك، فلم يكن رسول اللّه يفعل. فخرجت سودة بنت زمعة، زوج النّبيّ (ص)، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة-حرصا أن ينزل الحجاب-قال : فأنزل اللّه الحجاب."[iv] وهناك آية ثانية تخاطب زوجات الرّسول أيضا، وتشير إلى هذا الحجاب الفضائيّ، هي آية القرار في البيوت (أو القور أو الوقار، بحسب اختلاف التأويل لـ"قرن") : "...وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن تبرّج الجاهليّة الأولى..." (الأحزاب/32) وقد انفردت بإيرادها والاجتهاد في تفسيرها نظيرة زين الدّين في أوّل كتاب أفرد لمناهضة الحجاب لحجاب والسّفور وصدر سنة 1928.[v] وقد تحدّث المفسّرون والمؤرّخون عن "نزول الحجاب" أو "ضرب الحجاب"، أي عن حدث ابتدأ به عزل نساء الرّسول عن الحياة العامّة، وكان ذلك فيما يبدو في السّّنة الخامسة للهجرة، في ليلة زواج الرّسول بزينب بنت جحش، بعد أن طلّقها مولى النّبيّ زيد بن حارثة، نزولا عند رغبة النّبيّ، وهذا الحدث هو الذي تذكره الكثير من روايات أسباب نزول آية الحجاب، كما سبقت الإشارة. وقد درست الباحثة المغربيّة فاطمة المرنيسّيّ هذا الحدث دراسة دقيقة متأنّية[vi]، إلاّ أنّ اهتمامها انصبّ على علاقة هذا الحدث بآداب الضّيافة والاستئذان و على رغبة النّبيّ في حماية حياته الخاصّة، فسار بحثها في نفس الاتّجاه الأخلاقيّ المعقلن الذي كانت تسير فيه التّفاسير القديمة، وأغفلت عاملين نعتبرهما أساسيّين في ضرب الحجاب، هما العامل المؤسّسيّ التّاريخيّ الذي يجعل الحجاب بنية من البنى الأبويّة الضّاربة في عمق التّاريخ، والعامل النّفسيّ المتعلّق بشخصيّة الرّسول وبرغباته ونزواته البشريّة. فربّما أوهمنا حديث القدامى عن "نزول" أو "ضرب" الحجاب باستحداث الإسلام النّاشئ لهذه المؤسّسة، والحال أنّها أقدم من الإسلام، لأنّها وثيقة الصّلة بتقسيم الأدوار الاجتماعيّة بين الجنسين، الغالب على الثّقٌافات القديمة، والذي تبنّته الأديان التّوحيديّة لأسباب يضيق المجال عن شرحها، أهمّها الحفاظ على النّظام الأبويّ والأسرة الأبويّة القائمة على الزّواج. فالحجاب الفضائيّ يتطابق مع الفصل العتيق بين فضاءين : فضاء خاصّ تلزمه المرأة، وتنعزل فيه، وفضاء عامّ يتحرّك فيه الرّجل، لكي يقوم فيه كلّ من النّوعين الاجتماعيّين بأدوار خاصّة. وهذا الفصل كان صيغة تاريخيّة للعلاقات الاجتماعيّة بين الجنسين دعّمتها دينيّا أو جذّرتها "آية الحجاب". فمجال المرأة الذي يرسمه الحجاب هو القبّة أو الحجَلة[vii] أو الخدر، أي المقابل لـفضاء le gynécée في الحضارة اليونانيّة القديمة، بما توحي به هذه الألفاظ من معاني الصّيانة والتّرف، بحيث أنّ "ربّات الخدور" و"ربّات الحجال" لسن النّساء الممتهنات المبذولات ولسن الإماء. وممّا يدلّ على الطّابع المؤسّسيّ العتيق للحجاب الفضائيّ حدث "ضرب الحجاب" نفسه، ووجود المفهوم ذاته قبل الحدث، وتشبّث عمر بن الخطّاب به : يقول ابن كثير في مستهلّ تفسيره الآية : "هذه آية الحجاب، وفيها أحكام وآداب شرعيّة، وهي ممّا وافق تنزيلها قول عمر رضي اللّه عنه، كما ثبت ذلك في الصّحيحين عنه أنّه قال : وافقت ربّي في ثلاث فقلت : يا رسول اللّه لو اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى؟ فأنزل اللّه (واتّخذوا من إبراهيم مصلّى). وقلت : يا رسول اللّه إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر، فلو حجبتهنّ، فأنزل اللّه آية الحجاب. وقلت لأزواج النّبيّ (ص) لمّا تمالأن عليه بالغيرة : (عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ)، فنزلت كذلك..."[viii] ومن الأدلّة الأخرى على أهمّيّة العامل البنيويّ المؤسّسيّ في ما سمّي بضرب الحجاب، وعلى قدم الميل إلى عزل النساء عن الحياة إشارات بعض المصادر القديمة إلى بعض طقوس العبور المتعلّقة بالبنات اللاّتي أدركن سنّ البلوغ، والتي يطلق عليها اسم "التّشويف" أو "التّعريض" ففي اللّسان : "المعرّضة من النّساء : البكر قبل أن تحجب، وذلك أنّها تعرض على أهل الحيّ عرضة ليرغّبوا فيها من رغب، ثمّ يحجبونها. قال الكميت : ليالينا إذ لا تزال تروعنا معرّضة منهنّ بكر وثيّب." (لسان العرب، ع ر ض، وانظر ش و ف). ولهذا الطّقس الدّالّ على ترسّخ مؤسّسة حجب النّساء عند العرب قبل الإسلام، صلة بالنّوع الثّاني من الحجاب، وهو الحجاب الجسديّ كما سنرى. ومن هذه الأدلّة أيضا ما جاء في وصف أبي سفيان بن حرب في "طبقات ابن سعد"، فهو "عزّ عشيرته"، وهو "شديد الغيرة سريع الطّيرة، شديد حجاب القبّة".[ix] أمّا العامل النّفسيّ المتّصل برغبة الرّسول وبعلاقاته بالنّساء لا بالرّجال، فقد بيّنه منصور فهمي منذ بداية القرن الماضي، وبجرأة نادرة دفع ثمنها باهظا[x]. فقد تحدّث عن "نوبات الغيرة"[xi] التي كانت تصيب النّبيّ، وتحدّث عن دور هذه الغيرة في تشريع الرّسول للآخرين واستثناء نفسه من التّشريع، من ذلك تحريمه نساءه على الرّجال من بعده في آية الحجاب نفسها. وبعد بضعة سنوات، وعلى نحو آخر، بيّن المحلّل النّفسانيّ فتحي بنسلامة تغيّر نوعيّة علاقات الرّسول بالنّساء بعد وفاة خديجة، وتغيّر "اقتصاده اللّيبيديّ" économie libidinale وانتقاله "من موقع تماه أنثويّ ينبني على استقبال الآخر إلى موقف قضيبيّ متماش مع المؤسّسة السّياسيّة لمدينة اللّه."[xii] وليس بين العاملين التّاريخيّ البنيويّ والعامل النّفسيّ تعارض، فطبيعة علاقة الرّسول بالنّساء هي التي جعلته يذكّر بضرورة مراعاة الحجاب، ويلحّ عليه، ويسبغ عليه طابعا دينيّا. أمّا الحجاب الجسديّ الثّوبيّ، فهو في رأينا إحدى آليّات منع ظهور الأجساد الأنثويّة ومراقبة حركة خروجها، وهو أيضا إحدى آليّات الحدّ من مجالات "الاستعمالات المشروعة للجسد". وفي هذا الإطار تتنزّل آيتان تخاطبان جميع المسلمات : "آية الخمار" : "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ ويحفظن فروجهنّ ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ" (النّور/ 30)، و"آية الجلابيب" : "يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين". (الأحزاب/59). [email protected] * باحثة من تونس -انظر هذا التّصوّر في : Janos Kis : L’Egale dignité, trad du hongrois par G. Kassai, Seuil, 1987. [ii] - الطّبريّ : جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1997، ط2، 10/323.
-المرجع نفسه، 10/325. [iv] -المرجع نفسه، 10/326. [v] -زين الدّين نظيرة : السّفور والحجاب : محاضرات ونظرات مرماها تحرير المرأة والتّجدّد الاجتماعيّ في العالم الإسلاميّ، مراجعة وتقديم بثينة شعبان، دمشق، دار المدى 1998، ص ص 158-168. [vi] Mernissi Fatima : Le Harem politique : le prophète et les femmes, Albin Michel, 1997. [vii] -"حجلة العروس : معروفة، وهي بيت يزيّن بالثّياب والأسرّة والسّتور"، والحجل هو القيد أيضا، والمشي في القيد، وهو الخلخال أيضا. حجل، والأحجال : الخلاخيل والقيود. لسان العرب (ح ج ل). [viii] -ابن كثير الحافظ : تفسير القرآن العظيم، تح محمّد إبراهيم البنّا، محمّد أحمد عاشور، عبد العزيز غنيم، القاهرة، دار الشّعب، د ت، 6/440-41. [ix] -ابن سعد : الطّبقات، ص 1481، موقع الورّاق www.alwaraq.com [x] - تعرّض منصور فهمي إلى هجوم شرس عند عودته إلى مصر، إثر حصوله على شهادة الدّكتوراه من السّوربون سنة 1913، ولم تدافع عنه السّلطات الجامعيّة، وأزيح عن التّدريس فيها، ثمّ عاد إلى الجامعة بعد ثورة 1919 لكنّه ألجم ولزم الصّمت. [xi] -فهمي منصور : أحوال المرأة في الإسلام، كولونيا، منشورات الجمل، 1997، ص 20 [xii] -Benslama Fethi : « Le voile de l’Islam », Intersignes, n°11-12, printemps 1998. (La virilité en Islam), p66. وقد عاد إلى هذه القضايا في : : La Psychanalyse à l’épreuve de l’Islam, Paris, Aubier, 20
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
نعم : من قتل "دلالا"؟ رحى العنف الهادئ تدور أيضا
١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٤ ، بقلم الدكتورة رجاء بن سلامة
"من قتل دلال؟" عنوان المقال المؤرّق الذي كتبه عادل سالم في "أرب تايمز" عن الشّابّ الأردنيّ الذي طعن أخته خمسا وستّين طعنة ثمّ ذبحها لا لشيء إلاّ لأنّها هربت من بيت أبيها لتتزوّج الرّجل الذي أحبّته ورفضه أهلها. بعد أن قتلها أخوها على هذا النّحو قطع رأسها عن جسدها وأخذ يجرّه في شوارع قريته "صارخا بأعلى صوته إنّه غسل العار وهو لا يدري انه ارتكب جريمة بشعة ذهبت ضحيتها اخت له لا تستحق هذه العقوبة لا في قانون ولا في اي دين …" و" كان يحمل في يده الأخرى كبد أخته يلوكه بأسنانه مؤكدا غسل العار طالبا من الناس ان تنزل لترى : (تعالوا وشوفوا أنا غسلت العار عشان تبطلوا تعايرونا). بينما انطلقت الزغاريد من بيت الضحية ، من الأم والأخوات وكأنهم في عرس حقيقي…"
سمّاها أهلها "دلال" ثمّ حرموها من أبسط حقوق الإنسان : حرمة الجسد والحقّ في الحياة والحقّ في اختيار القرين والحقّ في المحاكمة العادلة في صورة اعتبارها منتهكة لقانون ما. حرموها من حقوق الأحياء والأموات معا : أبى أخوها إلاّ أن يحاصرها بالعقوبة والتّشفّي إلى ما بعد موتها فانتهك أيضا حقّها وهي ميتة في أن لا يمثّل بجثّتها…
عندما قرأت هذا المقال تذكّرت النّواح على الموتى وقد كانت النّساء يضطلعن به، وكان جزءا من طقوس الموت التي تخلّد ذكرى الموتى. رغبت في الإجابة عن سؤال كاتب المقال وفي التّطريز على إجاباته وأسئلته، وهذا ما سأفعل، كما رغبت في أمر آخر : تخليد ذكرى أموات ليسوا من "عظماء الأمّة" ولكنّهم يمثّلون الطّحين الذي تنتجه رحى جماعيّة تدور باستمرار في ربوعنا، رغبت في كتابة شواهد على قبور منسيّة في ثقافتنا القائمة على التّهريج وعبادة النّجوم والتّزلّف إلى الأحياء الأقوياء. ولكن اصطرعت في نفسي صور كثيرة غير صورة "دلال" : تذكّرت الممثّلة الجزائريّة "مناد الحاجّة" التي أحرقها أخوها في مستغانم يوم 18 أغسطس 2000، لأنّها تتعاطى فنّ التّمثيل. كأنّها أرادت أن تلعب دورا تراجيديّا على الرّكح فلقيت التّراجيديا في واقعها. وتذكّرت عشرات العراقيّات اللاّتي قطعت رؤوسهنّ بتهمة معلنة هي تعاطي البغاء ولغايات غير معلنة أهمّها الانتقام من قريبات المعارضين للنّظام الوحشيّ السّابق، وتذكّرت غير المحجّبات اللاّتي يلقًى عليهنّ بماء النّار (الفيتريول) لتشويه وجوههنّ التّائقة إلى ماء الحياة والهواء، والمرجومات بتهمة الزّنا في البلدان التي تطبّق الأحكام الجنائيّة الفقهيّة القديمة مسمّية إيّاها "الشّريعة"… هؤلاء لا أعرف وجوههنّ، أمّا الطالبة التي قتلت نفسها في مطلع التّسعينات وهي تحاول إخراج جنين من بطنها ووجدتها زميلاتها جثّة هامدة في دورة مياه بإحدى المبيتات الجامعيّة فأعرف وجهها ولا تبرحني صورتها. قيل لي إنّ ممرّضة المبيت لم تبال بها فلم تدر ما العمل بالجنين الذي في بطنها وبالفضيحة التي تنتظرها. أذكر وجهها وعينيها المتّقدتين ذكاء وأذكر أنّني كنت أدرّسها الترجمة وأنّنا كنّا بصدد ترجمة نص ّ فرنسيّ مشهور لألفونس دودي عنوانه "عنز السّيّد سوقان". فهذه العنز فضّلت الحرّيّة على العلف الجيّد والقيد الذّهبيّ وكلّ الرّفاهية التي يوفّرها لها سيّدها فهربت إلى الغاب فأكلها الذّئب. وأذكر أنّ هذه الطّالبة بالذّات سألتني في أثناء التّمرين عن الحرّيّة سؤالا لا أتذكّره بدقّة، فقلت لها تقريبا إنّ لها طَعما سائغا ولكنّ ثمنها المدفوع في الغالب هو اليتم والعزلة والفقر… والمسؤوليّة على أيّة حال. ولم أكن أعرف أنّ الثّمن الذي ستدفعه باهض إلى هذا الحدّ، ولم أكن أعرف أنّها ستكون طُعما سائغا لا للذّئاب بل لرحى تدور على غفلة منّا. لم يقتلها قاتل بعينه، أخ أو أب ولكن قتلتها يد جماعيّة لا مرئيّة. كيف يمكن أن أتجنّب إحياء ذكرها؟ أيّ رحى تدور فتطحن هذه الحيوات الفرديّة؟ لماذا ندفع للحرّيّة ولدفق الحياة فينا أثمانا باهظة؟
لنعد مع ذلك إلى "عظماء الأمّة" ولنتذكّر "رّائدات" الكتابة والحرّيّة في العالم العربيّ. من يجيبني اليوم : لماذا صمتت "نظيرة زين الدّين الحلبيّ" التي ولدت سنة 1908 وتوفّيت سنة 1976، ونشرت "الحجاب والسّفور" ثم "الفتاة والشّيوخ" فيما بين سنتي 1928 و1929 ثمّ صمتت صمتا مطبقا؟ لماذا لم يطبع كتابها الأوّل إلاّ بعد سبعين عاما من نشره (صدرت الطّبعة الثّانية سنة 1998، عن دار المدى بدمشق) وبعد أكثر من عشرين عاما على وفاة صاحبته؟ و"مريانا مرّاش" التي يقال إنّها أوّل امراة كتبت المقال الصّحفيّ، لماذا أصيبت بالماليخوليا في آخر حياتها؟ أيّ رحى جعلت "مي زيادة" تصاب بالوساوس وتقيم في المستشفيات بعد أن كانت تعقد في مصر الصّالونات الأدبيّة التي يحضرها أبرز رجال عصرها؟ لا شكّ أنّ هناك جرائم شرف عنيفة وهناك آلات شرف هادئة تؤدّي إلى الموت البطيء الهادئ والاختناق بالصّمت..
جرائم الشّرف العنيفة والهادئة التي تستهدف النّساء لا يمكن أن تنسينا أحداث العنف الآخر الذي يستهدف المدنيّين الأبرياء من رجال ونساء وأطفال، وهو عنف يجب أن نسمّيه "إرهابا" رغم التّحفّظات التي يبديها المتعاطفون مع هذيان زعماء تنظيم القاعدة ومن نحا نحوهم، ورغم التّجوّز الذي يتعمّده السّياسيّون الأمريكيّون عندما يخلطون بين الإرهاب والمقاومة المشروعة. يجب أن نسمّي الأشياء بأسمائها وأن نفضح في الوقت نفسه الخلط المتعمّد، فالقدرة على التّمييز وعلى ترك الانتماءات القبليّة العمياء فضيلة يجب أن تتوفّر في من يتحمّل مسؤوليّة الإعلام والتّحليل والتّفكير.
لقد كانت العناوين والأسئلة الفرعيّة المريرة لناشر المقال على هذا النّحو : "أخ يقتل أخته ويجر رأسها في القرية فرحا، شرطي أردني يقول إنّها جريمة بشعة ولكن لو كنت مكانه سأقوم بنفس الجريمة. أين دور رجال الدين الاسلامي في تحريم هذه الجرائم؟ الجاني يقول : يدي عفنت وسوّست فبترتها".
العنف المؤدّي إلى الجريمة نتيجة للعنف البنيويّ الهادئ الذي يسمّيه عالم الاجتماع الرّاحل بيار بورديو بـ"العنف الرّمزيّ". إنّه قساوة بنيويّة تكون محلّ إجماع صامت أو صريح بين الضّحايا والجلاّدين في الوقت نفسه. فما يسمّيه بورديو نفسه بـ"الهيمنة الذّكوريّة" عبارة عن مصنع منتج للعنف الهادئ الذي يفعل فعله باسم مبادئ تصف نفسها بأنّها أخلاقيّة وتحاط بهالة من التّقديس. هذه المبادئ تقدّم على أنّها بديهيّة وطبيعيّة لا تحتاج إلى النّقاش وهي في الحقيقة تاريخيّة واعتباطيّة وعرضة إلى التّفكّك المستمرّ والانفضاح. ثقافتنا السّائدة مصنع يحوّل الظّلم واللاّمساواة إلى مبادئ وثوابت ومسلّمات.
من قتل دلال؟ قتلها الأخ والأب والعمّ والأمّ المزغردة والقببلة ورجال الشّرطة الذين سلّموها إلى أهلها وهي متزوّجة وقتلها هذا التّصوّر العتيق القبليّ للشّرف… وكلّ ما ذكره صاحب المقال صحيح ومرير. ولكن هؤلاء الفواعل ليسوا إلاّ تجسيدا لبنى وصيغ للعلاقات ما زالت متحكّمة في حياتنا الخاصّة والعامّة من حيث ندري ولا ندري، وما زالت منتجة باستمرار للعنف الرّمزيّ الهادئ ومنتجة من حين إلى آخر للعنف الدّمويّ المحتدم. إنّها البنى التي يمكن أن نسمّيها "صهريّة" لأنّها تقوم على الصّهر والمزج والخلط بين ما يتحتّم علينا اليوم عدم صهره وخلطه ومزجه. إنّنا نصهر أوّلا الأب في صاحب السّلطة. فصاحب السّلطة عندنا ليس مسؤولا أمام مواطنيه بل أب مقدّس معصوم عن الخطإ. أب يُعدّ أبناءه البيولوجيّين لخلافته ويأكل أبناءه "الرّمزيّين" ويكمّم أفواههم ويضع لنفسه الأنصاب في كلّ مكان، ويحرص على تنظيم واجبات الطّاعة والولاء، ويحرص على إيجاد كباش الفداء من أجل إبقاء لحمة المجموعة ومن أجل الحفاظ على مصالحه. فالأب في القبيلة يطاع ولا يناقش، والأب لا يختار ولا ينتخب ويبقى أبا على مدى الحياة. والأب ينجب نفسه : فالابن سيكون أخا مضطلعا بنفس الوظائف القمعيّة. صهر صاحب السّلطة في الأب ينتج صهر الأخ في صاحب السّلطة، ولذلك يحقّ للأخ أن يستبدّ بأخته كما يستبدّ الأب-صاحب السّلطة بالرّعايا. ونحن نصهر جسد المرأة في جسد خياليّ هو جسد العشيرة أو الأمّة. فتعريض جسد المرأة إلى الغير هو تعريض المجموعة والأرض والوطن إلى الخطر. وكم ارتبطت المرأة بالأرض والوطن المفقود في أدبنا النّضاليّ وشعرنا الوطنيّ وكم تمنّيت أن نخلّص جسد المرأة من هذا الرّمز حتى تصبح فردا مسؤولا عن جسده متحكّما فيه
ونحن نصهر الزّوج في صاحب السّلطة، بدل أن نعتبر الزّوج قرينا و"إلفا" و"سكنا". فالزّوج في أغلب تشريعاتنا العربيّة يطلّق زوجته بمحض إرادته ويحقّ له تأديبها ومراقبتها وتقرير مصيرها.
ونحن نصهر الماضي في الحاضر. إنّنا لم ندفن موتانا ولم ننه حدادنا عليهم، ونعتبر السّلف الصّالح نموذجا نقتدي به في كلّ شيء وفي كلّ زمان. ومعلوم أنّ الميّت الذي لم يدفن يعود في شكل شبح يلاحق الأحياء وينغّص عليهم عيشهم ويحكم عليهم بالتّأثّم الدّائم لعدم وفائهم له. ونحن نصهر الدّين في الدّنيا ونصهر أحكام الدّنيا التي يعاقب عليها القانون في أحكام الآخرة التي هي أمر بين الإنسان وربّه. فالأحكام المتعلّقة بالمعاملات يجب أن تصبح قانونيّة وضعيّة ويجب أن نحرّر القرآن من الفقه الذي أحيط به والذي يختزله في مجموعة من الأحكام المحلّلة والمحرّمة. إنّه نصّ تعبّديّ روحانيّ يمكن أن تلهمنا مبادئه الأخلاقيّة في تطوير تشريعاتنا وتطوير منظومة حقوق الإنسان وتهذيب نفوسنا وتعليمنا الرّحمة وعدم التّمثيل بالنّفوس والأجساد، ولكن لم يعد بالإمكان اعتباره مصدرا للتّشريع والاجتهاد في مجال المعاملات والحياة العامّة. لم يعد بالإمكان الإبقاء على اللاّمساواة بين الرّجال والنّساء ولم يعد بالإمكان قطع يد السّارق وقتل المرتدّ وقتل الزّاني المحصن وجلد شارب الخمر…
ونحن نصهر الدّين في السّياسة ولذلك تتضخّم الفتاوى التي لا تعدو أن تكون مواقف سياسيّة ظرفيّة مقنّعة، ولذلك يستعمل أهل السّلطة الدّين لإثبات شرعيّتهم الهشّة التي لم تستمدّ من إرادة الشّعب ومن الممارسة التّمثيليّة الدّيمقراطيّة.
ونحن نصهر الأدب في الدّين، ولذلك نواصل ملاحقة الشّعراء ونواصل منع الكتب وحرقها على نحو يندى له الجبين.
هذه البنى الصّهريّة هي التي تنتج العنف الهادئ والعنف المحتدم في أشكاله المختلفة. فإلى جانب عنف قتل النّساء هناك عنف نهب الثّروات وتكميم الأفواه، وعنف منع النّساء والرّجال معا من الفعل السّياسيّ ومن الانتخاب ومن الجهر بالرّأي والنّقد ومن حقوق المواطنة، وهناك عنف القوانين التي تكرّس دونيّة المرأة وتعتبرها كائنا تحت وصاية الأب أو الأخ أو الزّوج. الثّوابت التي تنتجها هذه البنى الصّهريّة لم تعد مبادئ يمكن التّمسّك بها، والبديهيّات التي ندافع بها عنها لم تعد بديهيّة. ومع ذلك فنحن متأرجحون متردّدون في قبول البنى الدّيمقراطيّة القائمة على الفصل وعدم الخلط. ولذلك فنحن منفصمون : نقول لكلّ شيء لا ونعم في الوقت نفسه، نحبّ الحداثة ولا نحبّها، نريد تحرّر المرأة والفرد ولا نريد، ونلوذ بالماضي من الحاضر، تماما كالمنفصم الهاذي الرّافض للواقع وللزّمن. نتمسّك بثوابت لم تعد تلائمنا ونقفز على النّيران ونرقص بأغلالنا لكي نثبت لأنفسنا وللعالم أنّها تلائمنا وأنّها هي "هويّتنا" الثّابتة.
الإرث اختيار وقرار، واليوم اخترت أن أرث النّواح الطّقوسيّ القديم، على هذا النّحو : النّواح على قتلى الإرث الأبويّ المستبدّ، على مسحوقي طاحونة العادات و"الثّوابت".
[email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
11 أكتوبر 2006
حقّ الإنسان في أن يكون لاأدريّا أو لادينيّا أو ملحدا
الحلقة المغيّبة
د. رجاء بن سلامة
حقّ الإنسان في أن لا يعتنق أيّ دين من الأديان، فيكون لاأدريّا أو لادينيّا أو ملحدا، من الحقوق التي تتضمّنها المادّة 19 من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وهي : "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود."
ورغم ما تضمّنه الميثاق العربيّ لحقوق الإنسان من نقائص، فإنّه يكفل مبدئيّا هذا الحقّ للمواطن العربيّ، فالمادّة 30 منه تنصّ على ما يلي:
1- لكل شخص الحق في حرية الفكر والعقيدة والدين، ولا يجوز فرض أية قيود عليها إلا بما ينص عليه التشريع النافذ.
2- لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده أو ممارسة شعائره الدينية بمفرده أو مع غيره إلا للقيود التي ينص عليها القانون والتي تكون ضرورية في مجتمع متسامح يحترم الحريات وحقوق الإنسان، لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة، أو لحماية حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
هذا من حيث الحقّ، أمّا من حيث الواقع، فإنّ اللاّأدريّين، واللاّدينييّن والملحدين من أصول إسلاميّة موجودون وكثيرون في مجتمعاتنا. إلاّ أنّهم في زمن الظّلمات الذي نعيشه اليوم، لا يجهرون بمعتقداتهم أو يلجؤون إلى التّعبير عنها بوضوح في بعض المواقع الألكترونيّة، وقلّما يمضون مقالاتهم وبياناتهم بأسمائهم الحقيقيّة.
وهذا هو المؤشّر الحقيقيّ لمدى التّسامح وقبول الاختلاف، فالملحد من ذوي الأصول المسيحيّة أو اليهوديّة أو البوذيّة يمكنه أن يجهر بإلحاده دون أن يخشى طائلة رجال الدّين المسيحيّ أو اليهوديّ أو البوذيّ أو المؤمنين العاديّين بهذه الأديان، أمّا الملحد أو اللاّأدريّ أو اللاّدينيّ ممّن ولد في أسرة إسلاميّة، فهو لا يجرؤ على الجهر بمعتقده والتّعبير عنه في الفضاء العموميّ، لأنّ حكم الرّدّة سيلاحقه في البلدان التي تعمل بنظام الشّريعة، وسلطان شيوخ الإفتاء يمكن أن يعرّضه إلى القتل أو النّفي أو حياة التّشرّد، ويمكن أن يعرّضه المؤمنون المتطوّعون للبحث عن كباش الفداء إلى اللّجم والتّهديد، فيحوّلون حياته إلى جحيم.
والنّتائج التي نخرج بها من هذا التّقديم، ونودّ الإسهام بها في الجدل الرّاهن حول التّسامح وحوار الأديان وحرّيّة التّعبير هي التّالية:
1- يمكن للإنسان أن يولد مسلما، وأن يكون لاأدريّا أو لادينيّا أو ملحدا، ويبقى مع ذلك مسلما بانتمائه الثّقافيّ والحضاريّ، وهذا ما صرّح به الكاتب الجزائريّ المرحوم جمال الدّين بن الشّيخ في الثّسعينات، وكان آنذاك يدرّس الأدب العربيّ في الجامعة الفرنسيّة. فقد نشرت له مجلّة فرنسيّة حوارا يحمل عنوان "أنا مسلم ملحد"، ولا أذكر أنّه اضطهد لذلك أو اضطرّ إلى حياة التّشرّد، بل أذكر فقط أنّ إحدى الحكومات العربيّة أجبرت الطّلاّب الذين كان يشرف على أطروحاتهم بأن يتملّصوا من إشرافه ويوجدوا لهم أستاذا آخر. فهل كانت "قوانين الجمهوريّة" تحميه بما فيه الكفاية، أم أنّ مدّ الإسلام التّكفيريّ والجهاديّ لم يكن مستشريا كما هو الحال اليوم؟
ومن بين الأهداف التي أنشئت "جمعيّة بيان الحرّيّات" بفرنسا من أجلها هو التّمييز بين الإسلام والإسلام السّياسيّ، والتّمييز بين الإسلام باعتباره دينا والإسلام باعتباره حضارة أو ثقافة. وللتّذكير، فإنّني أسوق العبارة الأولى من البيان الأوّل الذي أصدرته مجموعة بيان الحرّيّات سنة 2004 قبل أن تتحوّل إلى جمعيّة، وكان لي شرف إمضائه وترجمته إلى العربيّة : " نحن النّساء والرّجال الموقّعين على هذا البيان، من ذوي الثّقافة الإسلاميّة وفينا من هو مؤمن ومن هو لاأدريّ ومن هو ملحد، نعلن إدانتنا بكلّ شدّة ..إلخ." فرجال الدّين لا يمكن أن يمثّلوا مجتمعاتهم، لا لوجود تعدّد للأديان داخل الدّولة الواحدة، بل لوجود سبل مختلفة في الانتماء إلى الإسلام أو المسيحيّة أو غير ذلك.
2- لا يكفي أن يعلن رجال الدّين الإسلاميّ ونساؤه، أو المسلمون المدافعون عن الإسلام، لا يكفي أن يعلنوا عن تسامحهم إزاء المسيحيّة واليهوديّة، بل لا يكفي أن يعلنوا عن تسامحهم إزاء الأديان الوثنيّة، فعليهم أن يقبلوا التّعايش مع هذه الفئات التي لا تعتنق أيّ دين من الأديان، وأن يسمحوا لهم بالتّعبير عن معتقداتهم وآرائهم، ويكفّوا عن أفعال اللّعن والاستعاذة، ويكفّوا عن نعت هؤلاء بالكفر، بل يسمّونهم بما يسمّون به أنفسهم، وتلك أولى قواعد الحوار.
3- وتبعا لذلك، فإنّ كلّ ادّعاء للتّسامح والحوار يكون ادّعاء كاذبا ما لم يقم شيوخ الإفتاء والمسؤولون عن الهيئات والمنظّمات الإسلاميّة الحكوميّة وغير الحكوميّة بالخطوة الضّروريّة التي هي الحدّ الأدنى للتّسامح، والشّرط الأوّليّ لإيجاد قواعد عيش مشترك، وهي إبطال حكم الرّدّة على المسلم، وهو ما دعا إليه مصلحون متديّنون كالتّونسيّ محمّد الطّالبيّ أو المصريّ جمال البنّا.
وعلى تنظيمات الإسلام السّياسيّ التي تعدّ حركة الإخوان المسلمين أبرزها أن تعلن إبطالها لهذا الحكم، وقبولها بوجود اللاّأدريّين واللاّدينيّين والملحدين إذا أرادت فعلا أن يصدّق النّاس رغبتها في التّغيير الدّيمقراطيّ، وفي قبول التّعدّديّة.
4- من حقّ كلّ كاتب ومبدع أن ينتقد الأديان، وينتقد منظوماتها اللّاهوتيّة ورجالها، وما على المعنيّين بالدّفاع عن الأديان إلاّ أن يردّوا الكلام بكلام، لأنّ أدنى قواعد الحوار والتّسامح هو أن لا نشهر السّيف في وجه من أشهر القلم.
والدّفاع عن المفكّرين المضطهدين يجب أن لا يتمّ على أساس الاستدلال على إسلامهم وصحّة عقيدتهم وبراءتهم من الكفر، بل على أساس حقّ كلّ إنسان في التّعبير، وحقّ كلّ إنسان في نقد الأديان ومؤسّساتها وتصوّراتها. فالقيود على حرّيّة التّعبير ليست الغاية منها حماية والمنظومات الفكريّة والميتافيزيقيّة والرّموز، بل غايتها حماية الأفراد الأحياء، ولذلك فإنّ هذه القيود لا تتعدّى في البلدان الدّيمقراطيّة الثّلب والتّحريض على العنف والتّمييز العنصريّ.
5-على الدّول العربيّة أن لا تكتفي بالإجراءات الأمنيّة الدّفاعيّة لتكفل حماية المفكّرين الذين تمّ تكفيرهم أو تهديدهم، بل عليها أن تستصدر القوانين التي تجرّم التّكفير والتّحريض على العنف بدافع دينيّ. نقول هذا ونحن ندرك صعوبة استصدار مثل هذه القوانين في الكثير من البلدان العربيّة التي يسيطر على برلماناتها ممثّلو الإسلام السّياسيّ، أو تنهج حكوماتها نهج المهادنة للإسلام السّياسيّ ولكن من حقّنا أن نأمل ونطمح ونطالب.
فالحرّيّة ليست شيئا نحصّله أو لا نحصّله في قبضة اليد، بل هي أفق نصبو إليه، ويجب أن نصبو إليه لأنّ اليأس أمر لاأخلاقيّ، ولأنّ الجبن والمواقف التّكتيكيّة الباردة لا يتغذّى منها سوى أعداء الحرّيّة، ولا تزيدهم إلاّ عزما على إرهاب حملة القلم بصراخهم وعويلهم وتهديداتهم.
[email protected] * جامعية تونسية
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
سأواصل الإسترسال فى مقالات د. رجاء بن سلامة حتى تبين الصورة كاملة من هذه الحملة الشرسة .. الحملة التى تقودها هى وليست المعاكسة .. مقالاتها طلقات خارقة .. وخصومها بلا دروع واقية .. قصورهم تتهشم وهم يضعون رؤوسهم بين أكفهم .. مهمومين .. منعهم تتابع الطلقات اللا إنقطاعى من ممارسة الجنس ثلاثى ورباعى وخماس من المقهورين .. خلطت الأرقام فى رؤوسهم وهم يحسبون دنانيرهم .. يجب أن يخرص المصدر .. ولكن كيف تتوقف طلقات النار .. سلاح القلم لا يحتاج الى بارود .. ولا يوقفه أن يغيب حامله .. إذآ د. رجاء هى الهجوم .. ويظلون هم الضحايا .. الى ما شاء الله .. ضاع زمن السجون ومصادرة الكتاب وتخرص الألسن .. إنها تلك الشبكة العنكبوتية اللعينة .. بلغتهم ..
قبل الإسترسال فى مقالات د. رجاء .. هل لها نصراء من الصامتين ؟؟!!
نرى رأى لبرالى ولا أدرى إن كان صوت اللبراليين ..
هل تصبح رجاء بن سلامة شهيدة الحق الليبرالي؟ بقلم: شاكر النابلسي -1- تتعرض الكاتبة والناقدة والأكاديمية التونسية رجاء بن سلامة لحملة هوجاء مسعورة في الصحافة التونسية وفي الأوساط الأكاديمية، نتيجة لآرائها وكتبها ومحاضراتها وبحوثها المختلفة. وبلغ بالأصوليين المتشددين في تونس مثلاً حداً، أن فضلوا ما قالته المطربة التونسية المعروفة "لطيفة" عن حزب الله عما قالته رجاء بن سلامة، كما كتبت أسماء القرقني في موقع "تونس نيوز" على الانترنت، في مقالها الذي اختتمته بقولها: " قارنوا أيها القراء بين كلام بن سلامة وكلام لطيفة، وستفهمون الفرق بين ثقافة المقاومة والعز، وثقافة الهزيمة والخراب." وأسماء القرقني هذه، هي احدى طالبات الدكتورة رجاء بن سلامة، والتي يحاول معها التيار الديني الأصولي التونسي، أن يجمع أكبر عدد من طالبات الدكتورة رجاء لكي يشهدن ضدها، بأنها في محاضراتها تهاجم الإسلام، وتهاجم القرآن، لكي يصل الأمر بهم إلى تكفيرها، واباحة دمها. -2- وهنا نتوقف قليلاً. إننا كليبراليين لا نحجب الرأي الآخر. ولا نمنع رأياً يقال ضدنا أو معنا. ولا نستعمل العنف لكي نمنع الرأي الآخر المعارض لنا. ولا نُبيح دماً. ولا نُخرج من الملّة، كما سبق للشيخ ابراهيم الخولي أن أخرجني من الملّة من على شاشة تليفزيون الجزيرة. ولا نُكفِّر من يأتي باجتهاد جديد يخالف اجتهادنا ورأينا، في مسألة من المسائل، أو قضية من القضايا. ولا نستعمل الدين، أو أية أيديولوجية معينة، لكي نسفك من خلالها دماء الآخرين. نحن قومٌ سلاحنا الكلمة، والكلمة فقط. ونتخاصم بالرأي والرأي الآخر، وليس بالسيوف والسكاكين والخناجر والسيارات المفخخة. وإلا لما كنا دعاة حرية وديمقراطية. ونحن رأينا ونرى، أن لا فئة في تاريخ الثقافة والفكر السياسي العربي المعاصر شُتمت وسُبت وهُزئت واتُهمت بشتى التهم البذيئة والرخيصة كما حصل مع الليبراليين العرب من قبل الآخرين. فقد اتُهمنا بأننا عملاء امريكا، وطابور خامس، وحلفاء للمحافظين الجدد، وعملاء اسرائيل، وبأننا صهاينة في دمائنا وافكارنا، وبأننا نناصر اسرائيل على الحق العربي، وبأننا مرتزقة، وبأننا سفهاء، وبأننا نأتمر بأمر البيت الأبيض والأخضر والأصفر، وبأننا... الخ. ورغم هذا لم نقصَّ لسان أحد من هؤلاء، ولم نهدر دم أحدهم. ولكن أن تقود هذه الاتهامات إلى فتاوى بهدر دمائنا، فهذا ما لن نسكت عنه. ويجب أن نتصدى له بالكلمة وبالكلمة فقط، وليس بالسيف، أو السكين، أو الخنجر، أو السيارات المفخخة. فنحن لا نساند ولا ندافع هنا عن رجاء بن سلامة، ضد من يخالفونها الرأي، فهذا من حقهم، ونحن نؤمن بهذا الحق. ولكننا نساند رجاء بن سلامة وندافع عنها ضد من يدفعون ويحرضون - بمقالاتهم - فقهاء السلطان إلى اصدار فتوى لقتل رجاء بن سلامة، أو اهدار دمها، أو الاعتداء عليها، أو على غيرها، حتى ولو كان مخالفاً لنا في الرأي والتوجه. فما زلنا ندافع حتى الآن عن سيد قطب، لأنه شُنق بسبب آرائه، وهو الذي على نقيض تام منا. -3- اليوم، تقول الأخبار الواردة من تونس – ونرجو أن تكون غير صحيحة ولا وجود لها - بأن هناك فتوى دينية صدرت في تونس، أو ستصدر قريباً من أحدهم، تقول بأن رجاء بن سلامة كافرة، وبأنها قالت كفراً في محاضراتها بالجامعة. وجيء بمجموعة من طالباتها، ليشهدن بذلك، ومنهن الطالبة أسماء القرقني التي كتبت مقالاً – أو كُتب لها – في موقع "تونس نيوز"، بتاريخ 8/9/2006 ، تقول فيه "رغم معرفتي بآراء رجاء بن سلامة المعادية للحضارة العربية الاسلامية وللعروبة والاسلام، فإني لم أكن أتصور أن تكتب ما كتبت، وتتجرأ في التبشير بهزيمة المقاومة ونجاح إسرئيل."
والخطير هنا، هي هذه التهمة التي توجه علانية لرجاء بن سلامة، بأنها معادية للإسلام. وهي تهمة تكفيرية واضحة وخطيرة في زمن الارهاب الفكري والجسدي الذي يتحكم في العالم العربي الآن، ولا يتوانى أي فقيه من فقهاء السلطان في هذا الزمان الأغبر، من أن يستند عليها، لتكفير رجاء بن سلامة وغيرها، وبالتالي أهدار دمها وقتلها، لتكون أول شهيدة من شهداء الحق الليبرالي. -4- وفي جريدة "الصباح" التونسية 10 /9/2006 كتب محمد الرحموني مقالاً آخر، قال فيه عن فكر رجاء بن سلامة وفكر "رابطة العقلانيين العرب"، الذي تتمثل فيها رجاء بن سلامة وكوكبة كبيرة من المفكرين والمثقفين التونسيين الليبراليين: " إنه الفكر المطلق والمنطلق من كل عقال فكري أو أخلاقي يتجاهل التاريخ، ويتعامل مع الأمر بمنطق ملّة الكفر واحدة." ويتابع الرحموني مقاله، الذي يدفع به نحو تهمة التكفير لرجاء بن سلامة، ونحو تسويغ اصدار فتوى اهدار دمها طبقاً لذلك، بقوله عن مواقف وفكر رجاء بن سلامة وزملائها من "رابطة العقلانيين العرب" في تونس: "صحيح أن هذه المواقف تنقصها الأخلاق والتوفيق، وتكشف عن فكر بلا ضوابط. ولكن الأخطر من ذلك هو ما لا تعلنه صراحة. فكل من يقول كلمة خير أو حق في الإسلام أو الإسلاميين فوعيه بقري وعامي. لأنه ما زال في مرحلة العقل الهيولاني، الذي هو مجرد استعداد لإدراك البديهيات." -5- وفي 13/8/2006 كتب الحبيب أبو الوليد، في جريدة "الوسط" التونسية مقالاً بعنوان (ولم تتحقق نبوءة ادعياء العقلانية) دافعاً فيه نحو الفتوى التكفيرية المنتظرة، مضيفاً المزيد من المسوغات "الشرعية" لإصدار هذه الفتوى، قال فيه: "يكتب هؤلاء من موقع عدائهم للحركة الإسلامية، ودفاعا عن خيارهم في الانحياز إلى جانب الديكتاتورية ، فيدعون أنهم وحدهم الذين فقهوا ما تتطلبه المرحلة من رؤية متبصرة. و بالتالي فهم يسقطون في تبرير جرائم العدوان، وينتصرون للظالم بما ينسجم مع مواقفهم الجبانة وتطلعاتهم الفاسدة . فهم يناصرون الاستبداد في إجرامه ويقفون مع العدو ضد أهلهم." فيكفي أن تكون عدواً للحركة الإسلامية ليهدر دمك وتُقتل. ويدفع الحبيب أبو الوليد بكلام آخر نحو المزيد من المسوغات الموجبة للقتل، فيقول عن رجاء بن سلامة وزملائها: "طالما راهنت في الماضي على أن الصحوة الإسلامية ليست إلا ظاهرة عابرة، ستزول بزوال أسبابها وأنها ردة فعل وقتية على تيار الحداثة الجارف، وما إلى ذلك من أطروحات تبين أنها لا تستوعب حاضراً، ولا تستشرف مستقبلا. وهم يرفضون اليوم أن يصدقوا عناداً ومكابرة، أن كل حديث عن المقاومة والديمقراطية و الحرية بعيداً عن مطالب الصحوة الإسلامية وتطلعاتها و فعالياتها هو باختصار شديد خروج عن الموضوع ." وفي نهاية المقال يأتي حكم الحبيب أبو الوليد على "رابطة العقلانيين العرب" في تونس، بأنهم كفار لا يؤمنون بمبدأ، وهم مهزومون ومستسلمون: "مهزومون ومستسلمون، لا يفكرون في مقاومة، ولا يؤمنون بمبدأ، امتلأت بطونهم بالمال الحرام، وتمكنت منهم ثقافة الهزيمة حتى لم تعد لديهم إشارة حياة". -6- مثل هذه التعليقات، وهذا الكلام الخطير المليء بالتهم الزائفة، فيما لو قرأه أي شاب ارهابي أصولي متشدد، سيكون كافياً لأن يدفعه لقتل رجاء بن سلامة، حتى بدون صدور فتوى "شرعية" بقتلها. فهي تعليقات تفوّر دم الأصوليين، وتدفعهم لارتكاب جريمة سوف يكون مثل هؤلاء الكتاب الذين كتبوا مثل هذه المقالات سبباً في وقوعها. وسيكون دم رجاء – فيما لو سال – في رقابهم جميعاً. فهل تصبح رجاء بن سلامة شهيدة الحق الليبرالي؟! السلام عليكم. * كاتب أُردني. [email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
> آثار الطلقات الألكترونية:
إيلاف>>كُتاب اليوم
حملة شعواء ضد المفكرة الحرة رجاء بن سلامة GMT 8:00:00 2006 الأحد 22 أكتوبر أبو خولة منذ بداية اهتمامي بقراءة إيلاف و أنا استمتع، كغيري من ملايين القراء العرب، بقراءة فكر ثلة من التنويريين و المفكرين الأحرار و في مقدمتهم د. رجاء بن سلامة، التي تمتاز باختيار المواضيع ذات الأهمية القصوى لعالمنا العربي-الإسلامي، و بمنهجيتها العلمية و التحليلية، و بإخلاصها الصوفي للعمل، بالإضافة لطريقتها التربوية الرائعة في عرض أفكارها.و حيث أن جل مشروعها الفكري الرائد منصب على العوائق التي تحول دون تقدمنا على طريق الحداثة، كان رد فعل قوى التخلف و عداء المرأة الدفين قويا منذ البداية، اذكر منه على سبيل المثال لا الحصر، الدعوة الصريحة التي أطلقها راشد الغنوشي، مؤسس الحركة الأصولية التونسية -النهضة- لشنقها في ساحة "الباساج" وسط تونس العاصمة (هكذا!)، مع المفكر العفيف الأخضر. ما أثار حقد الغنوشي حقيقة هو مواصلة د. رجاء بن سلامة نشر مقالاتها الرائعة التي تفضح "ديمقراطيته الزائفة" على موقع إيلاف، لتتلقفه بعد ذلك عديد المواقع الأخرى، مما أصاب شخصيته النرجسية في الصميم. و بالرغم من التجني و الرسائل البورنوغرافية التي تكللت بفضيحة للمعني يعرف تفاصيلها المذهلة قراء إيلاف، واصلت د. رجاء بن سلامة رسالتها بنشر آرائها الجريئة و العميقة، من بينها مقال بعنوان :"نحن و حزب الله...و الهذيان التبشيري" في الأول من أغسطس الماضي، الذي أدى إلى هياج الإسلاميين و القوميين المحبطين الباحثين عن "مخدر" الانتصار على إسرائيل، و لو كانت تفاصيل هذا "الانتصار" لا تساوي إلا هزيمة في واقع الأمر. ويقود تحالف القومجية و"اليسار" هذا، المبشر بأكثر الشموليات طغيانا و دموية، مجموعة غوغائية متشنجة نذكر منها الطاهر الهمامي، الذي شن هجوما على فكر د. رجاء بن سلامة في صحيفة "الشعب" لسان الاتحاد التونسي للشغل. و الطاهر الهمامي لمن لا يعرفه هو ناقد و باحث و شاعر كمان وهب قلمه للدفاع عن الشهير "جدانوف"، راس جهاز قمع "الرفيق يوسف ستالين" ، وجلاد ألبانيا "أنور خوجة" مخلص الطبقة العاملة و منقذ البشرية. و جاء مقال الحبيب أبو الوليد، وهو اسم مستعار و بلا شك لذلك الذي حلم و لا زال يحلم بشنق رجاء بن سلامة، في صحيفة الوسط الإلكترونية التونسية:www.tunisalwasat.com) بتاريخ 13-8-2006 ، الذي يخلص فيه إلى أن الأستاذة و رابطة العقلانيين العرب التي تنشط بها ما هم إلا "كفار لا يؤمنون بمبدأ" (انظر المقال الأخير لشاكر النابلسي بعنوان: هل تصبح رجاء بن سلامة شهيدة الحق الليبرالي؟). و من المهم التنويه هنا بان رابطة العقلانيين العرب غير معروفة في تونس و كتبها لا توزع فيها، وان المتاسلمين هم وحدهم الحاقدون على الفكر النقدي-التنويري، وحده القادر على تغذية فكر الشباب العربي الباحث عن ملاذ عقلاني من هذيان المتاسلمين. كما هو معلوم، تقف حركة النهضة وراء عديد المواقع الإلكترونية التي تعمل بطريقتها المعروفة لتجريم و تكفير حملة لواء الفكر العقلاني و الإسلامي المستنير. و على هذا الأساس جندت الحركة الأصولية أربعة طالبات متاسلمات ليشهدن بان د. رجاء بن سلامة تجاهر بالكفر في دروسها. و القصد الإجرامي من وراء ذلك هو تلفيق تهمة الردة لها و هدر دمها. و هذا ما حصل في عديد المقالات التي نشرت بهذا الصدد على صحيفة تونس نيوز الإلكترونية (www.tunisnews.net. لقائل أن يقول ما العيب في كل هذا، و ما على الأستاذة بن سلامة إلا أن تدافع عن آرائها و تستعمل حق الرد في الصحافة. لكن الطريقة التي تكال لها بها الاتهامات و خطر بعضها (مثل اتهامها بالكفر) تبعد كل البعد عن ابسط قواعد أدبيات الحوار، الذي من المفروض أن يقارع الحجة بالحجة. هذه رسالة توضيح شخصية و متواضعة لمحنة جديدة لاحد ابرز ضحايا خفافيش الظلام و محاكم التفتيش جديدة العهد عندنا ، بعد أن تخلصت منها كافة الثقافات الأخرى تقريبا، وهي أيضا رسالة تحية تضامن مني -و من كل الذين يشاركونني الرأي- للشد على يد الكاتبة و المفكرة الشجاعة د. رجاء بن سلامة، وهي في نفس الوقت رسالة إدانة للطرق الإرهابية للقوى المضادة لحرية الفكر، و حرية النقد و الحوار بين الرأي و الرأي المخالف دون تجريم و لا تأثيم و لا تكفير و لا إهدار للدماء. [email protected]
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
الختان والحجاب 2 رجاء بن سلامة [email protected] الحوار المتمدن - العدد: 1755 - 2006 / 12 / 5
تيّارات الإسلام الحركيّ ما زالت تفضّل الدّعاية والتّعبئة الجماهيريّة وتجييش العواطف على الحوار والتّفاعل، وما زالت تؤمن بالجسد الواحد للأمّة الواحدة المكوّنة من الأشباه ولا تؤمن بالتّعدّديّة، وتـُخضع حقوق الإنسان إلى أحكام الفقه بدل أن تطوّر أحكام الفقه لكي تلائم مبادئ حقوق الإنسان، وتعتمد فكرة المرشد والزّعيم الأوحد، وتحكّم الدّين في كلّ مظاهر الحياة الفرديّة. وإذا كان بعض ممثّلي هذا التّيّار يعمد إلى الآن إلى التّكفير الصّريح في استراتيجيته الخطابيّة، فإنّ البعض الآخر يعتمد أساليب أكثر حذرا ولكنّها لا تختلف عن التّكفير إلاّ في درجة العنف. ومن هذه الأساليب مطالبة الخصم بالاعتذار عن رأيه، ومنها الدّعاء بالهداية للمخالف في الرّأي، وهي أساليب وصاية أبويّة من البديهيّ أنّ ما يفصلها عن أخلاقيّات الحوار الدّيمقراطيّ سنوات من النّضج النّفسيّ الضّروريّ لقيام حياة مدنيّة وسياسيّة. ولذلك، فرغم كلّ الاختلافات في درجة العنف، يبقى مفهوم الفاشيّة الإسلامويّة ذا وجاهة، بحيث لا يمكن أن نتخلّى عنه لمجرّد أنّ الرّئيس الأمريكيّ الحاليّ نطق بالعبارة، وإلاّ تملّصنا أيضا من الدّيمقراطيّة لأنّها أحد الشّعارات التي يستخدمها هذا الرّجل في خطابه السّياسيّ. وما قضيّة الحجاب اليوم، وما منع الإسلاميّين إبداء الرّأي الشّخصيّ فيه في بعض البلدان العربيّة سوى دليل ساطع على الطّبيعة الشّموليّة للإيديولوجيا الإسلاميّة، مهما اختلفت تعبيراتها، ومهما اختلف حاملوها. وهناك مظهر آخر خفيّ من مظاهر الفاشيّة الإسلامويّة يتمثّل في منع المعرفة غير الدّينيّة عن الدّين، واعتبار رجال الدّين وحدهم مؤهّلين للخوض فيه، مع أنّ رجال الدّين يؤهّلون أنفسهم للخوض في كلّ صغيرة وكبيرة تخصّ حياة كلّ مسلم ومسلمة على وجه الأرض، ومن ذلك أيضا مواجهتهم المعارف الحديثة بالمعارف العتيقة التي كان عليها أن تدخل باب تاريخ المعرفة، لولا تضخّم الظّاهرة الدّينيّة في حياتنا ومؤسّساتنا التّعليميّة. فعندما تحدّثهم مثلا عن الأسطورة بالمفهوم الأنتروبولوجيّ يواجهونك بالجرح والتّعديل، وكأنّ ابن خلدون نفسه لم يبيّن في مقدّمته ومنذ مئات السّنين بطلان المقاييس الشّكليّة المعتمدة في نقد الرّجال دون نقد المتون، وهذا أوّل درس في التّاريخ وفي العلوم الدّينيّة تعلّمه طلبة الجامعة التّونسيّة من الجيل الذي أنتمي إليه، وهو جيل مدين بمعرفته إلى أساتذة حرصوا على أن يكون تدريسهم للدّين غير دينيّ، سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين، وحرصوا على أن يبتدئ كلّ كلامه باسمه الشّخصيّ لا بادّعاء الكلام باسم اللّه. هناك مجال للحديث عن الدّين غير مجال الحلال والحرام، وهناك تحليلات مهمّة لظاهرة الحجاب كتبت بلغات أخرى، ولا نجد لها أثرا في الكمّ الهائل ممّا ينشر عن الحجاب في ديارنا، وهناك في مجال التّحليل النّفسيّ محاولات جدّيّة لربط المطالبة الحاليّة به بالتّعبيرات الهستيريّة، بالمعنى الدّقيق للكلمة الدّالّة أوّلا وقبل كلّ على بنية للذّات البشريّة، وعلى علاقة معيّنة بالجسد ونوع معيّن من التّماهيات. فليس شيء يبرز الجسد ويمسرحه ويجعله علامة مرضيّة ومصدرا للشّكوى أكثر من حجاب اليوم وعبادة الحجاب والصّراخ بأنّه حرّيّة في نوع من الإنكار للواقع. وهذا المظهر الهستيريّ للحجاب ممّا لا يتّسع المجال لتحليله في مقال بسيط التزمنا فيه بالحديث عن الحجاب في علاقته بالختان.
من المعلوم في الدّراسات الحديثة أنّ كلّ المجتمعات تنظّم المتعة الجنسيّة للأفراد عبر ما يسمّى بالخصاء الرّمزيّ، أي عبر اللّغة وعبر تحريم الأمّ ونكاح الأقارب، وهي مؤسّسات لا تستقيم الثّقافة إلاّ بها حسب ما بيّنه كلود لفي ستروس وغيره منذ خمسينات القرن المنصرم، ولا تكون الذّات البشريّة سويّة إلاّ بها. إلاّ أنّ بعض المجتمعات التي وصفها فرويد بالبدائيّة لا تكتفي بالخصاء الرّمزيّ، بل تلجأ إلى وضع علامات على الأجساد، منها الجروح التي تسمّى ختانا. هذه الجروح تزيد في تنظيم المتعة وتؤكّد الفصل بين الجنسين، بقطع ما يذكّر بالعضو الأنثويّ لدى الرّجل (القلفة)، وما يذكّر بالعضو الذّكوريّ لدى المرأة (البظر). وقد تبيّن أنّ الختان الممارس على الأجساد الأنثويّة أخطر بكثير من ختان الذّكور لأنّ البظر منطقة حسّاسة تتوقّف عليها اللّذّة. فحظّ الإناث من هذه الجروح أهمّ بكثير من حظّ الذّكور، ومعاناتهنّ أطول وأبعد أثرا. ويمكن أن يتنزّل حجاب النّساء في هذا الإطار، فهو يهدف عموما إلى تنظيم المتعة الجنسيّة والحدّ منها، إضافة إلى كونه يهدف إلى الحفاظ على نظام الاختلاف الجنسيّ بجعل لباس المرأة مختلفا تماما عن لباس الرّجل، وتأكيد نظام تبادل النّساء، بحيث أنّ المرأة تكون محجوبة إلاّ عن المحارم، ويكون لزوجها حقّ النّظر إليها لأنّه هو الذي يملكها بما دفعه إلى أسرتها من مهر. فما يجمع بين الختان والحجاب هو أنّهما شارة توضع على الجسد الأنثويّ لإخضاعه إلى التّنظيم الاجتماعيّ للمتعة وتنظيم الاختلاف الجنسيّ وتبادل النّساء. وضع الشّارة على ما هو جسديّ هو أحد تعريفات الخصاء حسب المحلّل النّفسانيّ جاك لاكان، ولكنّ هذه الشّارة يمكن أن تكون رمزيّة بدل أن تكون واقعيّة، أي يمكن أن يكون لها حضور في الواقع النّفسيّ فحسب. يمكن أن تنتظم المجتمعات بمجرّد وجود تهديد بالقطع والعقاب لا بالقطع نفسه، وبمجرّد وجود حجاب نفسيّ لا بالحجاب نفسه، ومجرّد الشّعور بالإثم النّاتج عن عقدة أوديب القائمة أوّلا على تحريم نكاح الأمّ والأب. وبعبارة أخرى، يمكن للمجتمعات البشريّة أن تنظّم المتعة بالكلام وبالمسارات النّفسيّة التي تجعل الذّات البشريّة تستبطن المحرّم، وتضع الحواجز والحجب لنفسها بنفسها. فهي في غنى عن الجروح والشّارات الإضافيّة. فقطع بظر المرأة ليس ضروريّا لكي تكون المرأة إنسانا سويّا يضع الحدود لنفسه، ووضع حاجز الحجاب أمام نظر الرّجل ليس ضروريّا لكي يحترم الرّجل غيريّة المرأة وحرمة جسدها، ويحترم الحدود والضّوابط الاجتماعيّة. بل إنّ وجود القطع الواقعيّ والحجاب الواقعيّ يدلّ على ضعف المسارات النّفسيّة المنظّمة للمتعة، والمنظّمة للتّعايش بين الجنسين. وممّا يدلّ على ذلك أنّ وجود الحجاب وانتشاره لا يمنعان من التّحرّش بالنّساء ومن الاغتصاب، والوقائع تشهد أمامنا بهذا، والتّجارب الشّخصيّة للنّساء. فنحن لا نرى رجالا أكثر تحرّشا بالنّساء وأكثر انفلاتا جنسيّا، وأكثر تشييئا لجسد المرأة، وأكثر استعدادا لاستغلال جسدها في مقابل ماليّ من أولئك الذين يعيشون في مجتمعات تفرض الحجاب على النّساء، لا سيّما الحجاب القمعيّ المتمثّل في النّقاب. ولا يعني ما قلته طبعا أنّ كلّ الرّجال في هذه المجتمعات هم على هذه الشّاكلة. الحجاب والختان هما الزّيادة التي تخفي نقصا أو هشاشة، الزّيادة الدّالّة على إخفاق المسارات النّفسيّة التي تحدث الخصاء دون خصاء واقعيّ، والحجاب دون حجاب. ولكي أزيد في توضيح هذه الفكرة، أضرب مثلا كاريكاتوريّا : تخيّلوا إنسانا يكمّم فمه يوما لكي لا يقول كلاما غير لائق، أو تخيّلوه يلفّ عضوه الجنسيّ لكي لا يرتكب المعصية، فالتّكميم واللّفّ يدلاّن على فشل هذا الإنسان في وضع الحدود النّفسيّة التي تجعله يصون لسانه ويصون جسده وأجساد الآخرين. فهو يخصي جسده على هذا النّحو لعدم ترسّخ الخصاء الرّمزيّ لديه. ولئن كان الختان عادة بلفّها الصّمت وليست مجال دفاع ومطالبة إلاّ لدى بعض شيوخ الإفتاء، فإنّ الحجاب تحوّل اليوم إلى شعار ومطلب تحرّريّ. فهو أكثر ما يدلّ على حصول كارثة نفسيّة ما، تجعل الحجب النّفسيّة غير كافية أو مهدّدة بالخطر. إنّ الحجاب هو من باب التكميم واللّفّ المشار إليهما، ولذلك فإنّ المجتمعات التي تحجّب نساءها هي المجتمعات القلقة التي يوجد فيها انفلات ما للغرائز، ويوجد فيها عجز عن ترسيخ القيم البشريّة لدى أفرادها، وتضخّم للشّعور بالإثم، نتيجة عدم ترسّخ الخصاء الرّمزيّ.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
الهذيان الدّينيّ الأصوليّ بعض المداخل النّفسيّة لدراسته د.رجاء بن سلامة*
ما الذي يقع بين المفتي الفضائيّ والمتفرّجين المعجبين به، والذين يتحوّلون إلى أتباع له في معتقداتهم وعباداتهم وسلوكهم؟ ما الذي يقع بين كلّ داعية أصوليّ ومن يتقبّلون دعوته؟ بين كلّ "مرشد" وأتباعه من "الإخوان"؟ بين كلّ "مقاوم" مجاهد على نحو الزّرقاويّ وكتائبه التي تبسمل وتكبّر وهي تزرع الموت والدّمار فيما حولها؟
هل توجد فوارق جوهريّة بين القرضاويّ وأمثاله والزّرقاويّ وأمثاله؟
لا شكّ أنّ بين التّحريض على القتل، قتل المرتدّ أو الأمريكان المدنيّين وبين القتل نفسه بلا أدنى شعور بالإثم فرقا مهمّا يتمثّل في ما يسمّى في التّحليل النّفسيّ بـ"المرور إلى الفعل". ولكنّ ما نلاحظه هو خضوع الأصناف المذكورة من الدّعاة، وخضوع نموذجي القرضاويّ والزّرقاويّ بالذّات إلى نفس البنية الفكريّة المتمثّلة في الفكر الأصوليّ، ونفس البنية العلائقيّة الرّابطة بين الشّيخ والمعجبين به، وبين الشّيخ واللّه. هذا ما سنحاول بيانه من خلال ثلاثة محاور أوّليّة، سنحاول بلورتها لاحقا في بحث معمّق ومطوّل.
فالأصوليّة ليست فكرا فحسب، نحلّله بأدوات معرفيّة، وليست مجرّد خطابات تصدر عن سلطة دينيّة فحسب، بل هي "حالة" وبنية علائقيّة، يمكن أن نتوسّل إلى دراستها بما طوّرته المعارف التّحليلنفسيّة عن طبيعة التّماهي في المجموعة وعن النّرجسيّة والتّأثّم والنّزعة التّدميريّة النّاجمة عن انفصال دوافع الحياة عن دوافع الموت... ويمكن أن نعتبر هذه الحالة هذيانيّة شريطة أن نضع في حسباننا أنّ الهذيان ليس بالضّرورة شطحا كلاميّا لا معنى له ولا رابط، بل إنّه قد يكون كلاما منظّما منسجما داخليّا، ويكون في الوقت نفسه إنتاجا لتأويلات خاطئة عن العالم، وتحريفا للواقع وللمدركات يتنافى مع كلّ نظر علميّ أو تاريخيّ. فخطابات بن لادن هذيانيّة رغم انسجامها الدّاخليّ لأنّها تحدّثنا عن عالم وعن قوى لم تعد موجودة إلاّ في ذهنه وذهن أتباعه : عالم بسيط بدائيّ تحكمه ثنائيّات الإيمان والكفر، والجنّة والنّار، والخير والشّرّ، وهي هذيانيّة لأنّها تسقط عالم معارك النّبيّ كما تؤسطرها الأخبار الإسلاميّة على عالم اليوم بكلّ ما فيه من تعقيد وبكلّ ما يفصله عن عالم القرن السّابع من تحوّلات جغرا-سياسيّة مهولة. وليس العالم الذي يبنيه القرضاويّ بخال من هذا الهذيان، رغم كلّ ما يمكن أن يوصف به من "اعتدال" أو من تقلّب تكتيكيّ إيديولوجيّ. فالقرضاويّ يفتي وهو رافض للتّاريخ، مولّ وجهه شطر مؤسّسة الخلافة التي لم تعد موجودة إلاّ في خياله السّياسيّ، وهو إلى ذلك يحتكم إلى نفس الثّنائيّات التي يحتكم إليها ابن لادن، وإن بأقلّ سذاجة وأكثر معرفة بالدّقائق الفقهيّة.
ولكنّ وصفي لهذه الحالة بالهذيانيّة لا يعود إلى طبيعة الخطابات الصّادرة عن هؤلاء الدّعاة فحسب، بل إلى طبيعة العلاقة التي تربطهم بالمعجبين والمريدين : إنّها علاقة تقوم على الإيحاء والتّنويم والتّماهي، وتأجيج الوهم على نحو ما سنبيّنه.
1/ الفتنة والتّماهي
فبين دعاة الإسلام الأصوليّ والمتقبّلين لدعوتهم توجد لعبة تنبني على الفتنة من جانب الدّاعية والتّماهي من جانب المتقبّلين لدعوته. تتمثّل الفتنة في ممارسة الشّيخ الدّاعية للهيمنة عن طريق استدرار الإعجاب، ويتمثّل التّماهي في محاولة أنا المعجب امتلاك صفات الدّاعية محلّ الإعجاب واستبطانها وكأنّها صفاته الخاصّة.
فالفتنة التي ينسبها الأصوليّون للمرأة، ليجعلوها أحد كباش الفداء المفضّلة لديهم، هم الذين يمارسونها في الحقيقة، يمارسونها مع أتباعهم عبر تجربة التّماهي المذكورة. ينتصب الزّعيم الدّينيّ أبا روحيّا يحاول إخضاع الأتباع إليه وتحويلهم إلى أبناء روحيّين، أو لنقل بعبارة أكثر تقنيّة إنّه ينتصب في موقع "مثال الأنا" بالنّسبة إلى كلّ فرد من أفراد المجموعة، فيتّخذه كلّ مفتون بديلا منمذًجا عن الأب، راغبا، من حيث لا يعي، في الحلول محلّ الابن الرّوحيّ للأب الرّوحيّ، في انتظار أن يتحوّل هو بدوره ربّما إلى أب تحيطه هالة الاحترام والتّقديس.
وأوّل ما يطالب به الزّعيم الرّوحيّ، هو التّضحية بالعقل, قبل التّضحية بالنّفس. تتمّ في إطار الجماعات الدّينيّة المنظّمة في الواقع أو الافتراضيّة (عبر الفضائيّات أو وسائل الاتّصال الأخرى) عمليّة غسل دماغ، وتلقيم لليقينيّات، وشلّ للتّفكير النّقديّ، هي التي تفسّر علاقة الطّاعة والاتّباع، وتفسّر عسر تبنّي هذه المجموعات للنّموذج الدّيمقراطيّ القائم على النّقد والحوار. ويستمدّ الأب الرّوحيّ من اللّه ومن النّصّ المقدّس شرعيّة مباشرة، بما أنّ الدّاعية يخفي ذاته، ويتكلّم باسم الإسلام أو باسم اللّه مباشرة، تساعده في ذلك هذه العادة الخطابيّة المستشرية واللاّمعقولة المتمثّلة في بدء الإنسان المسلم كلامه بالبسملة، وكأنّ اللّه يتكلّم فيه، أو كأنّه يتضاعف كذات متلفّظة كما تتضاعف الذّات المتلفّظة في القرآن : هو يقول واللّه يقول معه مراوحة أو في الوقت نفسه. وعندما يشلّ التّفكير، تتضخّم العواطف، عواطف الانتقام والشّفقة والخوف، ويتحوّل الكلام إلى صراخ نُدبة مطوّل، إلى "واإسلاماه" مرتّلة، تستدرّ الشّفقة من ناحية والانتقام من ناحية أخرى.
وعندما بتحوّل كلّ الأتباع إلى أبناء روحيّين، يصبحون "إخوة" لأب واحد يجعلهم التّماهي النّرجسيّ معه أشباها ونظائر كـ"أسنان المشط"، ويجعلهم أمّة مصغّرة لا مجال فيها للفرادة ولا للفكر الشّخصيّ، بما أنّ كلّ فرد لا يعدو أن يكون لبنة من لبنات "البنيان المرصوص."
يقع المريد في قبضة الدّاعية، وتحت رقابته المستمرّة، لأنّ المريد يستفتي في كلّ صغيرة وكبيرة، والدّاعية يُفتي في كلّ صغيرة وكبيرة، مشغّلا آلة التّأثيم المستمرّ، مطالبا بالتّضحية والمزيد من التّضحية.
2/ النّرجسيّة ورفض الإخصاء
إنّ توق الإنسان إلى تجسيد القيم المثاليّة أمر طبيعيّ به تستقيم الثّقافة وما تقوم عليه من مؤسّسات دنيا. ولكنّ تحوّل هذا التّوق إلى وهم بإمكان تحقيق الكمال وتحقيق الصّفاء هو الانحراف الذي يمكن أن يتعرّض إليه الإنسان في تجربة التّماهي مع الأب الرّوحيّ هذه. التّعصّب، الذي هو كما يقول فولتير ابن مشوّه للدّين، هو تجربة الإيغال في الارتباط بالمذهب والعقيدة. هذا بديهيّ، ولكنّ التّعصّب أيضا، حسب التّحليل النّفسيّ، رفض نرجسيّ للإخصاء أي: رفض للحدود التي تفرضها المنزلة البشريّة، ورفض للتّعقّد ولتلاوين الفكر، ورفض لخوض تجربة الغيريّة، وإقبال على البساطة والبدائيّة والتّماثل. التّعصّب بحث مهووس عن الصّفاء في عالم لا صفاء فيه، ورغبة في أن يتحوّل الكلّ إلى أشباه وأمثال. يأتي كلّ فرد ضحيّة للدّاعية إلى المجموعة الدّينيّة بقصّة بؤس وجراح لم تلتئم لعدم حصول النّضج الأوديبيّ (فهذا العامل، عامل عدم النّضج النّفسيّ وعدم المناعة أهمّ من العوامل الاقتصاديّة التي يلحّ عليها الخبراء عادة). فيجد هذا الفرد لدى المجموعة تأجيجا للوهم، ووعدا بالجنّة وبالخلود، ويستمدّ من الأب الرّوحيّ رضا على النّفس وشعورا بعظمة الانتماء إلى حلقة المصطفين. وهنا يتأكّد البعد العدائيّ الأساسيّ الذي تتّسم به حالة التّعصّب والتّماهي، أي يتأكّد كره الآخر المختلف قليلا أو كثيرا. فالأصوليّ في تجربة التّماهي هذه، وفي رفضه للإخصاء، لا يريد عيش محنة الاختلاف، بل بالعكس : كلّما احتدّ أمامه اختلاف، اشتدّ ارتباطه بالأب الرّوحيّ وبالمجموعة من الإخوان المتشابهين المتراصّين، ولاذ من خطر قبول المختلف بالعقيدة والمذهب والطّقوس.
وما يجعل كره الآخر مصدرا للتّدمير، تدمير الذّات بالانتحار، وتدمير الآخرين بالقتل، أو تدمير الذّات والآخر معا، هو انفصال الكره عن الحبّ وانفصال دوافع الموت عن دوافع الحياة. فتضافر هذه الدّوافع على نحو متّسق هو مصدر توازن الذّات في توقها إلى الآخر وفي حفاظها على نفسها في الوقت نفسه. ولكي نبسّط مفاهيم غاية في التّعقّد، نقول إنّه لا بدّ من حدّ أدنى من الكره داخل الحبّ لكي لا يذوب الإنسان في الموضوع (المحبوب)، ولا بدّ من حدّ أدنى من الحبّ لكي لا تدمّره الغيرة والحقد والرّفض. هذه الحدود الدّنيا تضمحلّ وينفصل الحبّ والكره سائرين في اتّجاهين مختلفين تماما : يسير الحبّ كلّ الحبّ نحو الأب الرّوحيّ واللّه والمذهب، ويسير الكره كلّ الكره نحو الآخرين المختلفين، فتحصل الكارثة التي تمجّدها الثّقافة العربيّة السّائدة : كارثة العمليّات الانتحاريّة التي تنعت بـ"الاستشهاديّة"، وتحصل الكوارث التي لا تقلّ حدّة : رمي المختلفين بتهمة الرّدّة، والتّكفير والتّفسيق واستمداد المتعة من إلحاق الأذى اللّفظيّ أو الجسديّ بالآخر وإسقاط الأحقاد على النّساء والمختلفين في الدّين وطريقة العيش. كلّ ما يعوق تحقيق الوهم الذي هو الغاية من نمذجة الأنا يجب أن يلغى، ولذلك فإنّ المشاجب التي تسقط عليها الرّغبات والاختلافات المرفوضة يجب أن تلغى. ولهذا السّبب لا يشعر المحرّض على العنف القداسيّ أو المرتكب له بالإثم، بل يرتكب أفظع الجرائم وكأنّه منوّم أو مخدّر، يذبح الرّهينة، كبش الفداء البشريّ وكأنّه يذبح الكبش الحقيقيّ في يوم العيد.
وقد تتدخّل عوامل أخرى تكتيكيّة في هذه التّركيبة القائمة على التّماهي والعداء، تجعل داعية مثل القرضاوي يفتي بضرورة قتل المدنيّين الأمريكان في العراق، ثمّ يتراجع عن فتواه، لأنّه ليس داعية فحسب، بل إيديولوجيّ متاجر في سوق المعتقدات، بالإضافة إلى كونه متاجرا في سوق الأموال، حريصا على مصالحه الشّخصيّة البشريّة جدّا، والتي لا تخفى إلاّ على ضحاياه من المفتونين به.
3/حضور اللّه كلّ الحضور، وحضور "وجه الإله المظلم" على الأخصّ
لا يشعر الأصوليّ بالإثم إزاء مشاجب كرهه وإسقاطه، ولكنّه يشعر بالإثم إزاء اللّه والأب الرّوحيّ. لأنّ التّماهي في الجماعة ينبني على "الرّغبة في رغبة الآخر"، وهذا الآخر الأكبر، (أي اللّه أو الأب الرّوحيّ) يجعل الإنسان يشتهي إخصاءه الواقعيّ (موته) نتيجة لرفضه الإخصاء الرّمزيّ العاديّ، أي رفضه الحدود والنّهايات والغيريّة.
وهنا نقف على بؤرة أساسيّة من بؤر الهذيان الأصوليّ تتمثّل في أنّ الذّات الإلهيّة فيه ليست متعالية ومفارقة بل حاضرة كلّ الحضور، تدلّ على ذلك مقرّرات الأصوليّين فيما تعلّق بالتّأويل وبطبيعة الكلام الإلهيّ. ويمكن أن نقدّم في هذا الصّدد مثالا نستقيه من كلام متولّي الشّعراوي، الذي كان في عهد السّادات يظهر على الشّاشة المصريّة أكثر من السّادات نفسه، والذي نشرت فتاواه في شكل أسئلة وأجوبة تضمّ ستة مجلّدات. في إحدى هذه المحاورات، تساءل محاور الشّيخ عن الآيات التي تبتدئ بـ "ويسألونك عن"، فأجاب : "كلّ سؤال يطرحه اللّه نجد أنّ الرّسول تلقّى الجواب من اللّه بـ(قل) : يسألونك عن المحيض قل هو أذى، كأنّ المسألة ليس فيها اجتهاد لبشر هو الذي قال هكذا... فتسأل أنت كيف؟ ... وهذا يؤكّد المباشرة بين العابد والمعبود، وفيها معنى التقاء الاثنين".
ليس مكمن الخطورة في إلغاء الشّعراوي الاجتهاد البشريّ، وإلغائه وساطة النّبيّ بين اللّه وعباده، رغم أنّه هو المخاطب بـ"قل"، بل في قوله بوجود علاقة "مباشرة" يلتقي فيها اللّه والنّاس. ويتأكّد هذا الإصرار على حضور اللّه في فصل آخر بعنوان "هل لغة القرآن العربيّة لفظا هي عين كلام اللّه؟" يظهر فيه التّعارض بين الشّعراوي وابن سينا : فالشّيخ ابن سينا "يعارض كون كلام القرآن في المصحف عينه كلام اللّه، وإنّما يرى أنّ للّه كلاما لا نعرفه نحن البشر... أمّا الشّعراوي، فيقول إنّ "القرآن المكتوب في المصحف برسمه وهيئته من اللّه سبحانه وتعالى بنفس اللّغة وأعطاني الدّليل الفكريّ الفلسفيّ المنطقيّ... ويعلّق محاور الشّعراوي : ولقد كنت مقتنعا برأي ابن سينا فيلسوف وحكيم عصره. وبعد أن حدّثني الشّيخ الشّعراويّ إمام عصره في هذه المسألة اقتنعت برأيه وأرجحه لأنّه أقرب إلى العقل والفكر والوجدان".
يلتحم "العقل والفكر والوجدان" لتأكيد لحمة جنونيّة غير مسبوقة ربّما بين اللّه وعبده، وللذّهاب إلى أبعد حدّ في الاعتقاد بسلبيّة دور الإنسان في تلقّي الوحي، بحيث أنّ القرآن كلام اللّه المباشر، واللّه ليس مفارقا، ولا داعي إلى التّأويل باعتباره عودة إلى الأوّل، بما أنّ الأوّل، أي الأصل حاضر كلّ الحضور.
هذا الإله الحاضر كلّ الحضور، أليس هو الذي يسمّيه فرويد بـ"الإله المظلم" : أي هذا الأب الغاضب المطالب بالتّضحية، والمطالب برغبة العباد في التّضحية، والمطالب بالتّأثّم والمزيد من التّأثّم إلى حدّ تدمير العبد ذاته في لهاث مستمرّ بين الإثم والتّكفير عنه، بين الحبّ المفرط لهذا الآخر الكبير ذي الحضور النّابي والكره الشّديد لكباش الفداء؟
هذه التّركيبة النّفسيّة التي نجدها في الحالة الأصوليّة، وفي علاقة الدّاعية الأصوليّ بضحاياه من الأتباع، وفي علاقة كلّ هؤلاء بالذّات الإلهيّة هي التي تجعلنا نقدّر مدى الدّمار الذي لحق الثّقافة العربيّة من جرّاء تحوّل هؤلاء الدّعاة إلى نجوم تمشهدهم وسائل الإعلام بكلّ طمأنينة، ومن جرّاء مداهنة السّاسة و"المثقّفين" العرب لهذه الحالات الهذيانيّة الخطيرة التي يغدقون عليها ألقاب "الشّيخ" و"سماحة الشّيخ" و"فضيلة المفتي"...
[email protected]
http://www.middleeasttransparent.com/old/texts/raja_ben...s_hallucinations.htm
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: Salwa Seyam)
|
المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع د. رجاء بن سلامة
حكمت الحاج [email protected] الحوار المتمدن - العدد: 2108 - 2007 / 11 / 23
تُدَرّس د. رجاء بن سلامة نظريات “التّفكيك” Deconstruction مطبّقا على الدّراسات العربيّة في كلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات بالجامعة التونسية، وتدرّس الخطاب عن المرأة وعن الجندر في العالم العربيّ في نطاق “ماجستير الدّراسات النّسائيّة” بالمعهد العالي للعلوم الإنسانيّة، تونس. تنشر مقالات عن القضايا الدّينيّة وعن وضعيّة المرأة العربيّة في عضو هيئة تحرير مجلّة Transeuropéennes التي تصدر بفرنسا. عضو هيئة قراءة مجلّة إيبلا (معهد الآداب العربيّة) بتونس. حاصلة على دكتوراه الدّولة في اللّغة والآداب والحضارة العربيّة، أستاذة محاضرة بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات، منّوبة، تونس، عضو في جمعيّة "الفضاء التّحليلنفسيّ الفرنسيّ التّونسيّ" ، عضو مؤسّس لجمعيّة "بيان الحرّيّات بفرنسا" . التقيناها بتونس للحديث عن الحداثة والحداثة العربية وما بعدها، ونظرية التفكيك، والشأن النسوي في العالم العربي، فكان هذا الحوار:
* ما هو “التفكيك”؟ وكيف نستعمله في الإجراء النقدي، وخاصة حين النظر إلى التراث؟ إلى النصوص عامة؟ - لا أجرؤ على تقديم تعريف بالمعنى التّقليديّ للتّفكيك، وعلى الذي ينطلق من موقع التّفكيك أن يقاوم إغراءات المفهوم والمعرفة الشّموليّة الميتافيزيقيّة. وإذا عدنا إلى النّصّ الوحيد الذي فصّل فيه جاك درّيدا دوافع اختياره للّفظة الفرنسيّة déconstruction عنوانا لتجربته الفكريّة، وجدناه يلحّ على التّعريفات السّلبيّة للتّفكيك، بحيث أنّه ليس هدما وليس نقدا وليس تحليلا… الخ.. وإن كان فيه شيء من كلّ هذا. إنّه تجربة مختلفة ومتموقعة ومعرّضة إلى الاختلاف، وهو لا ينبني على جهاز مفاهيميّ بقدر ما ينبني على “حزمة” من الكلمات المفاتيح التي يردّد بعضها صدى بعض ومنها: النّابتة والتّناثر والأثر والفرماكون والكتابة والاخـ (ت)لاف… ومع ذلك، فقد اضطررت في تدريسي للتّفكيك أن أقدّم بعض الإحداثيّات التّوضيحيّة التي أحاول أن أكون فيها وفيّة لهذا الفكر المفارقيّ والرّاديكاليّ، كأن أقول إنّه ليس الهدم وإن كان يحمل شيئا من الهدم تدلّ عليه الكلمة الفرنسيّة، وإنّه بحث غير مستقرّ عن المفاهيم والدّوالّ والآليّات التي تكوّن المنظومات الفكريّة، ومحاولة اكتشاف لكيفيّة بنائها، وللممكنات التي أحكمت إقصاءها لكي تتأسّس وتنغلق، ولقسط اللاّمفكّر فيها، وللمنفعة غير البريئة التي ترمي إليها. وتفكيك النّصوص الأدبيّة يخضع خاصّة إلى مسار اكتشاف الكتابة باعتبارها تكمن في البصمة الفريدة، وباعتبار أنّ المهمّ في النّصّ الأدبيّ شبيه بالمهمّ في الحلم الذي نحاول تأويله: إنّه الرّاسب الذي يستعصي على العقلنة والبقيّة التي تبقى بعد أن قمنا برياضات الفهم واستخراج البنية. ويضيق المجال عن ذكر تجذير درّيدا للكتابة وانطلاقه منها لمراجعة الأوهام المثاليّة ومراجعة ثنائيّة الدّالّ والمدلول. وعلى سبيل المثال، لتجربة التّفكيك فاعليّة كبرى في اكتشاف مفترضات الخطابات السّلفيّة المعاصرة وتعرية ضروب الدّور والتّسلسل والمغالطات الذي تنبني عليه، وعنف بنائها للموضوع قبل الشّروع في الحديث عنه.
* انطلاقا من كتابك الصادر قبل مدة قصيرة، ما النتائج التي توصلت إليها عبر هذا النوع من المنهجية النقدية، في تحليل مفهوم العشق وعلاقته بالكتابة؟ - هذا سؤال مثقّف كسول لا يريد قراءة الكتاب ويريد مع ذلك معرفة ما فيه.
* كلا، أبدا، إنه سؤال صحفي يهتم بقرائه قدر شغفه بأطروحة جامعية ضخمة وصعبة، كالتي أقدمت على نشرها مؤخرا، والتي هي مدار حديثنا هذا.. لذا اسمحي لي أن أعيد طرح السؤال مجددا.. - سأحاول إجابتك متجنّبة تلخيص الكتاب لأنّه لا يوجد كتاب قابل للتّلخيص، وسأحاول إجابتك انطلاقا من المسافة التي تفصلني حاليّا عن هذا الكتاب. كانت الأسئلة التي حفزتني على كتابة هذا البحث بسيطة: لماذا جنّ المجنون، مجنون ليلى، لماذا أنتجت قرائح العرب ذلك الكمّ الهائل من موتى العشق، إلى حدّ أنّ المعجم الوحيد الذي ورثناه في هذا المجال هو معجم في “من استشهد من المحبّين”، لماذا ارتبط الحبّ بالمرض والحزن، ولماذا ارتبط بالمسّ وبالامتلاك واعتبرت الغيرة فيه فضيلة؟ كتبت هذا الكتاب محاولة الاستفادة من التّحليل النّفسيّ المعاصر ومن التّفكيك معا، فقمت بعمليّة ترجمة للّغة التّراثيّة، هي مظهر من مظاهر التّفكيك ومن مظاهر تحويل الميتافيزيقا إلى ميتاسايكولوجيا كما يقول فرويد: فالحبّ العذريّ يصبح عصابا ثقافيّا دالاّ على العجز عن الحبّ، والعفّة التي تنبني عليها أسطورة هذا الحبّ تصبح تنظيما لمنع حبيبة تلتبس صورتها بصورة الأمّ، والتّقوى التي تجعل العاشق يعصي رغباته تصبح متعة بالمازوشيّة الأخلاقيّة، وموت العاشق على قبر حبيبه الميّت يصبح علامة على رفض الحداد وعلى ابتلاع الحبيب الميّت ومحاكاته في موته كما سبقت الإشارة..الخ فالعشق إلى حدّ الجنون أو الموت ليس دليلا على شدّة العشق بل على العجز عن العشق والعجز عن قبول واقع الانفصال، إنّه رفض للإخصاء الرّمزيّ وتعويض له بالحرمان الخياليّ، إذا أردنا أن نستعمل مصطلحات التّحليل النّفسيّ اللاّكانيّ [نسبة إلى جاك لاكان]. ففي هذا النّوع من العشق يصبح الشّوق اعتلالا يهدّد وحدة الجسد ويصبح المعشوق الممنوع جنّيّا يصرع العاشق، وتصبح كتابة العشق شكوى وبكاء لا نداء وطلبا للوصل المحيي. يستغني العاشق عن المعشوق، وتستغني كتابة العشق عن العالم. وهناك نوع آخر من العشق القاتل يظهر في صور الذين عشقوا “بين يدي الأب”، فقدّموا لنا صورا غير أوديبيّة، الأب فيها ليس مقتولا بل قاتل… وفي هذا البحث تحدّثت عن صورتين عشقيّتين بدا لي أنّهما تمثّلان إمكانيّتين من إمكانيّات تحقيق الذّات في العالم العربيّ: صورة شخص خرج من الوهم وأدرك الواقع، وصورة شخص تمسّك بوهمه ولجّ في جنونه.الصّورة الأولى يمثّلها موسى، كليم اللّه الذي أدرك استحالة رؤية وجه اللّه عندما صعقه نور اللّه من وراء الجبل، فأدرك أنّه من المستحيل الاتّصال المباشر بالذّات الإلهيّة، وعاد إلى الواقع، والصورة الثّانية هي صورة مجنون ليلى الذي يغمى عليه ثمّ يفيق ولا يدرك المستحيل بل يلجّ في ملاحقته كما يلجّ في الجري وراء الظّباء، يظلّ باكيا وهمه مبتنيا المدينة في قلبه، معوّضا الفعل بالانفعال، مستمرّا في بكاء الأطلال على نحو مخالف لما كان يفعله القدامى: فقد كانوا يقفون على الأطلال ويبكونها ثمّ ينصرفون لقضاء حاجاتهم وقد أدركوا أنّ الماضي لا يعود.
* هل يمكن لأي منا أن يتحوّل إلى ناقد تفكيكي؟ وكيف؟ - سؤال طريف وساذج. أوّلا يجب أن أنبّهك إلى أنّ التّفكيك وإن كان يعتني بالكتابة الأدبيّة، فهو ليس نقدا أدبيّا، أو ليس نقدا أدبيّا فحسب، بل هو تفكير وتجربة تبحث في مختلف المنتوجات والأنشطة الثّقافيّة، ومع ذلك فإنّ الأدب يحتلّ مكانة هامّة في فكره لأنّه من الهوامش التي يفتح عليها درّيدا الفلسفة لكسر الانغلاق الميتافيزيقيّ، فالأدب يمثّل ربّما ذلك “الجنون الذي يسهر على الفكر”. الذي يريد أن ينطلق من التّفكيك للتّفكير في النّصوص والمنظومات عليه في رأيي أن يتخلّص من هيمنة قواعد المنطق الأرسطوطاليسيّ، وأيسر سبيل للتّخلّص من هذه الهيمنة هو قراءة فرويد وخاصّة كتابه في “تفسير الأحلام”، لاكتشاف تعقّد الذّات البشريّة، ذات اللاّوعي، فمفاهيم التّكثيف والتّحويل والازدواج والكبت والإنكار… أقدر على تعريفنا بالإنسان وبمنتوجاته الخياليّة من مبادئ الهويّة وعدم التّناقض والثّالث المرفوع. وعليه أن لا يدّعي السّيطرة على النّصوص والأشخاص وأن يحاول اكتشاف غيريّة كلّ مختلف وغرابته بدل جرّه إلى شبكات فهمه الخاصّة. وعليه، وهذا الأهمّ أن يتعلّم ويقرأ نصوص نيتشه وفلاسفة الاختلاف ونصوص جاك درّيدا بنفسه ولا يكتفي بما ينشر هنا وهناك من تعريفات شوهاء أو مجتزأة.
* هل يمكن أن أكون تفكيكيا من دون أن أعتمد مرجعية غربية؟ بمعنى هل يمكن أن أكون سلفيا تقليديا وفي نفس الوقت ناقدا تفكيكيا، كما هو الحال عند بعض نقادنا العرب في المشرق العربي خاصة؟ - التّفكيك فكر تحرّريّ وراديكاليّ وإنسانيّ، ولذلك تتناقض منطلقاته مع كلّ سلفيّة وكلّ إيديولوجيا انتماء قوميّ أو دينيّ. ولكنّنا في العالم العربيّ وكما سبق أن قلت، ننتج كلّ الخلطات العجيبة والممكنة. ترجم فكر جاك درّيدا إلى كلّ لغات العالم، وهو يدرّس في القارّات الخمس، وأعتقد أنّ المثقّفين والنّقّاد العرب، باستثناء بعض المحاولات القليلة، ما زالوا غير مستعدّين لقبول هذا الفكر وفهمه. ولذلك تقرأ أشياء عجيبة عن هذا الفكر لدى أبرز النّقّاد العرب وتتساءل هل يتعلّق الأمر بالتّفكيك أم بأوهام وتصوّرات عن التّفكيك. عوض أن ينكبّ الباحثون العرب على تثقيف أنفسهم ومحاولة قراءة نصوص هذا المفكّر يبادرون إلى الاستغاثات والعاطفيّات، فيشبّه بعضهم التّفكيك بـ”الثّور الهائج في حانوت العاديات” ويسارع إلى الإعلان عن إفلاسه وهو لم يفهم ولم يعرّف على الوجه الصّحيح بأيّ مفهوم من مفاهيمه، وهناك من يحاول إرجاع هذا الفكر إلى اليهوديّة والحال أنّ التّفكيك هو تفكيك لكلّ أنطولوجيا لاهوتيّة، والحال أنّ درّيدا يقول عن نفسه إنّه يهوديّ لايهوديّ في الوقت نفسه، أي أنّ انتماء آبائه إلى هذه الدّيانة لا يعني أنّه يتّخذها مرجعيّة أو مصدرا للتّفكير... وعلى كلّ، فإنّ ما حصل في القاهرة سنة 2000 عندما دعي درّيدا والتفّت حوله مجموعة من المفكّرين العرب لمحاورته له دلالة على منزلة هذا الفكر من ثقافتنا، وعلى المستوى الفكريّ لمثقّفينا، فقد اضطرّ درّيدا إلى أن يقول لهؤلاء: اقرؤوني أوّلا ثمّ ناقشوني. المشكل ليس كامنا فقط في إساءة الفهم وفي ردود الفعل الثّقافويّة والقوميّة المتناقضة مع قواعد القراءة ومع ضرورة نقل المعارف الحديثة، بل في وجود كتّاب عرب مشهورين يتّخذون إساءة الفهم وإساءة القراءة وإساءة التّرجمة منهجا، ويتّخذون أوهام الهويّة والأصالة فلسفة. والمشكل ليس في وجود أشباه المثقّفين والمفكّرين والمترجمين هؤلاء، بل في تحوّلهم إلى نجوم ثقافيّين، وفي وجود مؤسّسات راعية للأدب وللثّقافة تسند الجوائز لمن يبرعون في هذه الخلطات العجيبة، أو لمن يهاجمون المعارف النّقديّة الحديثة، أو لمن يكتفون بإعادة إنتاج المعارف التّقليديّة الباهتة، ويجب أن يكتب تاريخ هذه المؤسّسات والدّور السّلبيّ الذي لعبته في إعاقة عمليّة التّحديث الفكريّ عندنا.
* درّست مادة “قصيدة النثر” في الجامعة التونسية: كيف كانت آفاق تلك التجربة؟ هل أصبحت قصيدة النثر موضوعا مرضيا عنه إلى درجة أن يدرس في الجامعات العربية؟ - درّست قصيدة النّثر من باب الرّغبة في سدّ الهوّة الفاصلة بين المؤسّسة الأكاديميّة المحافظة بطبعها والممارسة الأدبيّة الحيّة والمعاصرة. وازداد حرصي على تدريسها عندما اندلعت سنة 2001 تلك المعركة بين خصوم قصيدة النّثر وأنصارها إثر مقال نشره الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي في الأهرام يشكّك فيه في “شرعيّة” هذا الشّكل، فهذه أيضا معركة أخرى من معارك الحداثة لا تقلّ أهمّيّة عن المعارك السّابقة. وازداد حرصي على تدريسها عندما جابهتني المؤسّسة الأكاديميّة بالرّفض، وتأكّدت أنّ معركة قصيدة النّثر مرتبطة بقضيّة المرأة وأشكال التّسلّط الذّكوريّ. ليس هذا مجال عرض كلّ الملابسات التي حفّت بهذا الرّفض الذي جابهني، والذي كان منعرجا في حياتي المهنيّة والفكريّة، ولست أدّعي لنفسي بطولات خارقة للعادة. ولكن أكتفي بالقول إنّ أحد النّقّاد البارزين في السّاحة العربيّة وممّن يدّعون الدّفاع عن الحداثة الشّعريّة كان من المعارضين لهذا التّدريس، وأنّ من الحجج التي قدّمها لي الرّجل المسيّر لقسم اللغة العربيّة آنذاك ناسبا إيّاها إلى عَلَم كبير من أعلام الشّعر العربيّ هي أنّ هذه القصيدة ليست نثرا ولا شعرا، فهي إذن “خنثى” غير جديرة بالدّراسة. وهو ما يدلّ، بما أنّنا كنّا نتحدّث عن الجندر، أي النوع الاجتماعي، على أنّ “النّظام الجندريّ” الذي يحكم ترتيب الفوارق بين ما هو ذكوريّ وما هو أنوثيّ ويقصي ما هو غير مكتمل الفحولة لا يقتصر أمره على النّواحي الاجتماعيّة بل يتعدّاها إلى الأنشطة الفكريّة، وهو ما يدلّ على أنّ نظام الإقصاء الذّكوريّ يأخذ تلاوين كثيرة، وعلى أنّه نشيط في كلّ عصر، يطرد من مدنه الفاضلة النّساء والخنثاوات والضّعفاء والمجانين، ولكنّه يطرد أيضا كلّ الأشكال الإبداعيّة التي تتجلّى فيها حرّيّة المتخلّصين من عبادة الأصنام. وهو ما يعني أخيرا أنّ قصيدة النّثر ليست مَرْضيّا عنها في الجامعات العربيّة كما تقول، رغم وجود حركة نقديّة جديدة حولها. على كلّ حال، نجحت في تدريس هذا الشّكل في مؤسّسة أخرى غير المؤسّسة العريقة التي أنتمي إليها، في قسم كانت تديره امرأة، فاهتممت بموضوع الرّقابة التي واجهها الشّعراء الذين التفّوا حول مجلّة “شعر” البيروتيّة، فلا ننسى أنّ مجموعة “لن” لأنسي الحاج، التي صدرت سنة 1960 قد صودرت في الكثير من البلدان العربيّة، وقد وجدت في أعداد كثيرة من هذه المجلّة صدى للمشروع التّحديثيّ الذي جوبه بالرّفض آنذاك. ثمّ كان عليّ أن أفكّر في أدوات المقاربة التي لا بدّ أن تكون جديدة. فالنّقد العربيّ القديم ومنظومة البيان بصفة عامّة منظومة ميتافيزيقيّة تقوم على ثنائيّة المعنى واللّفظ وعلى مفهوم قضيبيّ رمزيّ هو “عمود الشّعر”، أي القواعد التي قنّنها الأجداد وخضع إليها الفحول، لا يمكن طبعا أن يكون أداة للمقاربة، والمتّهمون للشّعر الجديد بالغموض لهم في الحقيقة منطلقات بيانيّة لا تهيّئهم لتقبّله. ولكنّ المناهج البنيويّة والسّيميائيّة التي تجرّد النّصوص من كتابتها وتخرج منها بهيكل عظميّ لا يخصّص أيّ نصّ لم تكن ذات جدوى بالنّسبة إليّ، لأنّني لن أنسى درس فرويد في تحليل الأحلام: لون منقار العصفور قد يكون أهمّ من العصفور ذاته ومن الحلم بأكمله. هذه القصيدة الغريبة اليتيمة، التي لا تبحث عن اعتراف الأجداد وتعرض عن مرافئ الأمان القديمة والجديدة: مرافئ الوزن والقافية والمعنى والرّومانسيّات المستهلكة والأسطورة والصّوفيّات، وجدت في التّفكيك والكتابة أدوات لمقاربتها. فالنّقد أيضا يجب أن يتخلّص من مرافئه القديمة وأشيائه المعبودة: معتقدات التّعبير والمحاكاة والمعنى المتحدّد والجملة المفيدة والبنية المتحدّدة والدّلالة الكلّيّة… وفي الحقيقة لا يقتضي التّعامل مع القصائد الجديدة الغريبة منهجا بقدر ما يقتضي وضعيّة قيميّة جديدة، وهيئة نفسيّة أخرى تحترم غيريّة النّصّ وغرابته ولا ترى فيه مجرّد مرآة عاكسة لهواجس القارئ، ولا تريد أن تجرّه إلى شبكات قراءة تقبض على النّصّ كما تقبض العنكبوت على فريستها. إنّها وضعيّة تواضع تكتشف تناثر الدّلالات وتتعجّب من وتعجب بأجراس الدّوالّ، وتقف على “اللاّمتقرّر”، وتريد أن تعرف لماذا وكيف يلفّ الشّاعر كلماته بصمت الفراغ الطّباعيّ. لم يكن من السّهل تعويد من نشأ على البنيويّة والمناهج الواثقة من نفسها أن يقول في أعقاب عمليّة شرح النّصّ: ربّما وربّما…، وأن يتخلّى عن عبادة الأشياء النّقديّة وأن يتخلّى عن وهم السّيطرة على النّصّ… ولكنّها كانت تجربة ممتعة ومفيدة فيما أعتقد.
* من منظور التفكيك أيضا، أرجوك أن تعطينا وصفة جاهزة لقصيدة النثر بوصفها موقفا من العالم واللغة والتاريخ الأدبي؟ - لا يمكن تقديم وصفة جاهزة للنّقد فما بالك بالشّعر. ولكن يمكن أن أرسم لك صورة عن الشّاعر الذي ينهض دون ادّعاء بأعباء الحداثة بما هي تجربة يُتْم وتجربة حرّيّة. إنّه لن يسدّ الباب أمام ضيوف الشّعر الثّقلاء أحيانا: الجنون والغرابة والتّداعيات الحرّة والشّطح غير الصّوفيّ، والمحال أو المستحيل، ومع ذلك فإنّه سيظلّ يفكّر بالصّورة ورغم الصّورة. إنّه سيكون سليل الهائمين في أودية الكلام، المطرودين من مملكة المركزيّة العقليّة القضيبيّةّ، ولن يرضخ إلى مقرّرات أجهزة السّلطة النّقديّة التي تعقلن وتغلق أبواب الجنون الخلاّق، وسيبتعد عن اللّغة الخشبيّة الشّعريّة التي يستملحها عامّة المتقبّلين والنّقّاد، ولكنّه مع ذلك لن يكون سجين أيّ صورة مرآتيّة يقدّمها له الآخرون. سيبرح دائما الأمكنة التي حدّدت سلفا، وسيكون شاعرا دون أن يلعب دور الشّاعر. قصيدة النّثر هي هذا التّناقض الإبداعيّ الذي يجعل الشّعر لا يدّعي أنّه شعر، هي نفسها تفكيك لكلّ الثّنائيّات والمعبودات الأدبيّة، قبل أن تكون نصّا قابلا للتّفكيك.
* في معظم كتاباتك النسوية نحد تلك الفكرة المحورية وهي [اسمحي لي بتلخيصها ولو على شكل قد يخلّ بمعناها] إن المرأة في مجتمعاتنا العربية تولد وهي آثمة بل ومؤثمة، إن صحّ التعبير، فإلى أي حد علينا أن ننظر بتفاؤل إلى وضع المرأة ومشاركتها في الحياة العامة؟ - إنّ تطوّر أوضاع المرأة العربيّة نحو المزيد من الحرّيّة والفعل الواعي في الواقع، أي “صنع القرار” أمر تسير المجتمعات العربيّة في اتّجاهه، رغم العوائق ورغم التّفاوت بين مختلف البلدان العربيّة في هذا المجال. إلاّ أنّ المشكل يكمن في بطء هذه السّيرورة في العالم العربيّ عامّة، إذا ما قورنت بالتّدنّي اللاّفت للنّظر لكلّ المؤشّرات التي يمكن أن نقيس بها هذه الحرّيّة المسؤولة التي نسمّيها “صنع القرار”. فالبلدان العربيّة مثلا تأتي في المرتبة قبل الأخيرة من حيث مقياس تمكين المرأة، وتأتي في المرتبة الأخيرة من حيث نسبة تمثيل النّساء في البرلمانات العربيّة في البلدان التي توجد فيها هذا الهيكل التّمثيليّ الدّيمقراطيّ (فهي لا تعدو خمسة فاصل سبعة بالمائة). إنّ ما نقيس به تاريخ الشّعوب غير ما نقيس به أعمار الأفراد التي هي قصيرة مهما طالت. وإذا نظرت إلى المسألة من وجهة نظر الأفراد شعرت بالانقباض. فالكثير ممّا طالبت به النّساء والرّجال منذ ما يزيد عن القرن لم يتحقّق لا سيّما في مجال الأحوال الشّخصية رغم تعاقب عدّة أجيال منذ بذور حركات التّحديث والحركات النّسائيّة الأولى. معنى ذلك أنّ شرائح كبيرة من النّساء العربيّات ستطوى أعمارهنّ دون أن يطالهنّ هذا التّطوّر نحو المزيد من الحرّيّة والمسؤوليّة والمزيد من “صنع القرار”.. وفيما يتعلّق بتجربتي الخاصّة جدّا كامرأة جامعيّة تونسيّة، وكزوجة وأمّ، أقول إنّ الشّروط الموضوعيّة للمساواة من تشريعات وتكافؤ للفرص يمكن أن تتحقّق للمرأة، وتظلّ مع ذلك البنى الفكريّة والعقليّات الذّكوريّة فاعلة بصمت في اتّجاه مخالف للمساواة. فالمرأة الحاملة للشّهائد العليا تظلّ متّهمة بعدم الكفاءة لأنّها امرأة، وعليها دائما وباستمرار أن تثبت العكس، وعليها أن تعمل أضعاف ما يعمل الرّجال، وعليها أن تقاوم باستمرار اختزالها في الأنثى وأن تذكّر دائما بأنّها إنسان متعدّد الأبعاد، فهي الأمّ والزّوجة والمواطنة والكائن البشريّ في نفس الوقت.. وعليها أن تثبت أنّ ما حقّقته من نجاح قد حقّقته بجهدها وعنائها. المرأة في بلداننا، ومهما كان مستواها الاجتماعيّ والعلميّ، تولد آثمة وتظلّ طيلة حياتها تحاول إثبات العكس.
* ما موقفك الكامل والواضح من قضيّة “الحجاب” ومعركته، سواء أكان ذلك في فرنسا، أو في العالم العربي والإسلامي؟ - يجب أن أوضّح أوّلا أنّ كلمة “حجاب” قد تطوّرت، فمعناها في القرآن ولدى روّاد النّهضة غير معناها اليوم، ومعركة الحجاب والسّفور في النّصف الأوّل من القرن العشرين غير معركة الحجاب اليوم. الحجاب بالمعنى القديم هو المؤسّسة الأبويّة التي تقتضي الفصل بين المجال الخاصّ والمجال الذي تلزمه النّساء الحرائر، أي “ربّات الخدور”، والمجال العامّ الذي يتحرّك فيه الرّجال، باعتبارهم قوّامين على النّساء، أي يكتسبون ويتولّون الولايات العامّة إضافة إلى الخاصّة. ولكنّ المسألة لا تقتصر فحسب على مجرّد “هندسة الفضاء الاجتماعيّ”، إنّها أعمق بكثير : فالمجتمع الأبويّ الذي دعّمته الأديان التّوحيديّة ومنها الإسلام، يقوم على أنواع من التّبادل أحدها تبادل النّساء، والرّجال هم الذين يتبادلون النّساء الحرائر في نطاق مؤسّسة الزّواج، وهذا التّبادل كان بضائعيّا ورمزيّا في الوقت نفسه، أي أنّ الرّجل إذا أراد الزّواج كان يدفع ثمنا لوليّ المرأة هو المهر، ولكنّ المرأة لم تكن مجرّد بضاعة بشريّة، لأنّ الزّواج تبادل ذو طبيعة رمزيّة. فالزّوجة الحرّة هي التي تضمن حفظ الأنساب وتساهم في الرّأسمال الرمّزيّ للرّجل، الذي يسمّى الشّرف أو العرض. فالحجاب باعتباره فصلا بين النّساء والرّجال كان يضمن الحفاظ على الأسرة الأبويّة وكان آليّة من آليّات الفصل والتّمييز بين الذّكور والإناث، ولذلك ارتبطت مؤسّسة الحجاب الفضائيّ بما سمّيته بالحجاب الثّوبيّ، وهو في القرآن الخمار والجلباب، والحجاب الثّوبيّ آليّة أخرى من آليّات التّمييز ومن آليّات مراقبة جسد المرأة والتّحكّم في مقدار ظهوره، وخاصّة عندما تضطرّ المرأة المحجوبة إلى مغادرة الخدر. مؤسّسة الحجاب وما ترتبط به من آليّات مراقبة كانت تخصّ صنفا واحدا من النّساء أي النّساء الحرائر، ولكن وجد في المجتمعات الإسلاميّة القديمة صنف آخر من النّساء هنّ الإماء اللاتي يمثّلن بضاعة بشريّة يتمّ تبادلها تجاريّا لا رمزيّا، وهؤلاء النّساء لم يكنّ معنيّات لا بالحجاب ولا بالخمار ولا بالجلباب ولو عدنا إلى كلّ التّفاسير القديمة للآيات التي ذكر فيها الحجاب لوجدنا أنّها تستثني الإماء من هذه الآليّات، فالخمار كان وسيلة للتّمييز بين الحرائر والإماء، حتّى إنّ الخليفة عمر بن الخطّاب كان يضرب بسوطه الإماء اللاّتي يتشبّهن بالحرائر ويحجبن كامل أجسادهنّ، وذهب الكثير من الفقهاء إلى أنّ عورة المرأة الحرّة تختلف عن عورة الأَمَة، فعورة الأَمَة كعورة الرّجل موضعها ما بين السّرّة والرّكبتين، وقد أباح الفقهاء تعرية الأَمَة بلْ ولمس أعضائها الجنسيّة لمن يريد شراءها. فالأمة لم تكن معنيّة بحفظ الأنساب وبالشّرف، إلاّ إذا تغيّر وضعها من أَمَة إلى “أمّ ولْد”. هذه المعطيات التّاريخيّة، وخاصّة اختصاص النّساء الحرائر بالحجاب دون الإماء هي التي يتمّ تغييبها اليوم من قبل الدّاعين إلى الحجاب، فهم يقدّمونه على أنّه أمر إلهيّ لاتاريخيّ ، غير مرتبط بالنّظام الطّبقيّ والأبويّ القديم، ويقدّمونه على أنّه فرض أتى به الإسلام، والحال أنّه موجود قبل الإسلام كما تبيّن الكثير من الدّراسات، إنّما ألحّ عليه الإسلام النّاشئ لأسباب منها ما يتعلّق بحياة النّبيّ الخاصّة جدّا، وبتقلّبات علاقته بالنّساء. في العصر الحديث كان لا بدّ من خروج المرأة من خدرها، أي من الحجاب الفضائيّ، ولكن كان لا بدّ أيضا من رفع شعار السّفور أي تعرية الوجه، ولذلك قاومت النّساء العربيّات النّقاب وثارت عليه هدى الشّعراويّ وثريّا الحافظ ونظيرة زين الدّين وغيرهنّ، فقد اعتبرن النّقاب رمزا للحجاب ولعدم إمكان مساهمة المرأة في الحياة العامّة. ثمّ خرجت المرأة إلى العمل وطلب العلم، وتضاءل دور الأحجبة التّقليديّة، وإذا بالحجاب يعود في شكل آخر “معولم”، في شكل الزّيّ الإسلاميّ الذي يقوم خاصّة على الخمار، وظهر نموذج المرأة العاملة والنّاشطة ولكن المحجّبة في الوقت نفسه…
* فهل يتناقض هذا الحجاب الأثوابيّ مع حرّيّة المرأة والمساواة رغم أنّه لا يحول دونها والعمل والحركة؟ - جوابي واضح، وهو أنّ الحجاب مهما تجدّد شكله واستعماله يتناقض مع المساواة والمواطنة والكرامة. إنّه يذكّر بأنّ المرأة كائن من نوع خاصّ يجب التّحكّم في ظهوره وتحرّكه، يذكّر بأنّها موضوع تبادل بين الرّجال، مباح لمن يمتلكه وممنوع على من لم يمتلكه. ثمّ إنّ الحجاب يفترض اختلافا جوهريّا بين الرّجل والمرأة أساسه هو أنّ الرّجل ناظر والمرأة منظور إليها، فلا شيء أكثر اعتباطيّة من الحكم على المرأة وحدها بأنّها مصدر فتنة، ومن تغييب وجهة نظر المرأة التي تجعل الرّجل أيضا مصدر فتنة، إن أردنا أن نساير هذا المنطق الأخلاقيّ الذي يتّهم الأجساد ويعتبر الرّغبة أمرا فاسدا وخطيرا. والحجاب يتناقض مع المواطنة، لأنّ المواطنة انتماء للدّولة لا للدّين، وهو متناقض مع المواطنة أيضا لأنّ المواطنة مشاركة في الحياة العامّة والحجاب يرتبط بكوكبة من السّلوكيّات الهوسيّة التي تتناقض مع هذه المشاركة، أقصد رفض المصافحة ورفض الاختلاط والخلوة…، وكلّها آليّات رقابة قديمة لم يعد من مبرّر لها. والحجاب يتناقض مع مبادئ المسؤوليّة والكرامة، لأنّه يفترض أنّ الرّجل لا يمكن له التّحكّم في غرائزه والمرأة كذلك، ويفترض أنّ المرأة وسيلة لا غاية، وسيلة لحفظ الشّرف وللإنجاب وليست غاية في حدّ ذاتها. * هذا فيما يخصّ الخمار، فماذا تقولين عن “النقاب”؟ - أمّا النّقاب فإنّه ينبغي في رأيي أن يصنّف ضمن “المعاملات المهينة” والمتنافية مع أبسط حقوق الإنسان، فما معنى أن تكون المرأة بلا وجه، وأن تتحرّك في الفضاء العامّ وكأنّها شبح من عالم الجنّ لا يعرف ولا يُرى ولا يَرى؟ وقد سبق أن اقترحت على النّاشطين في مجال حقوق الإنسان أن يتحدّثوا عن حقّ لم ينتبه إليه محرّرو الإعلان العالميّ، وهو الحقّ في الوجه. ويكفي أن نعود إلى كتاب نظيرة زين الدّين عن “الحجاب والسّفور” لكي نكتشف العنف الذي تعيشه امرأة يكمّم وجهها الذي هو “مجتمع الحواسّ” لدى الإنسان، والمميّز بين إنسان وآخر. أمّا خطاب الذين ينادون بالحجاب باسم الحرّيّة الشّخصيّة، فإنّه ينبني على نفاق أساسيّ : إنّهم يستغلّون النّموذج الدّيمقراطيّ الحديث للدّفاع عن قيم قديمة منافية للدّيمقراطيّة، ثمّ إنّ هؤلاء المدافعين عن الحجاب أنفسهم يتفنّنون في تجزئة المبادئ الدّيمقراطيّة، فدعاة الحجاب في فرنسا مثلا لا يقبلون مبدأ حرّيّة المعتقد ولا يقبلون حقّ الإنسان في الخروج من دين آبائه أو تبديله. وفي خطاب بعض المثقّفين الفرنسيّين المدافعين عن حقّ النّساء المسلمات في الحجاب أيضا نزعة ثقافويّة عنصريّة تؤول إلى احتقار المسلمين واعتبارهم غير جديرين بحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة : إنّ هذا الخطاب يخوّل للآخرين استعباد آخريهم، يخوّل للرّجال المسلمين الحقّ في خصوصيّة استعباد نسائهم.
* هل تدافعين عن استصدار قوانين تمنع الحجاب؟ ألا يتنافى هذا فعلا مع الحرّيّة الشّخصيّة؟ - قلت إنّني لا أرى معنى لحرّيّة المرأة في اختيار قيدها، كما لا أرى معنى في حقّ الإنسان في بيع جسده مثلا. المرأة التي تبيع جسدها لا حرّيّة لها ولا كرامة، ولا يمكن للمثقّف أن يدافع عن حقّها في هذه العبوديّة، والمرأة المحجّبة امرأة تستبطن القيم العتيقة التي تعتبر المرأة آثمة إلى أن تثبت العكس، وتعتبرها حريما ممنوعا، ولذلك فلا أرى معنى للدّفاع عن هذا الحقّ، حقّ المرأة في هذا الاستثناء التّمييزيّ. ثمّ إنّني لا أعتبر الحجاب لباسا، بل شطبا لجسد المرأة، الدّليل على ذلك أنّ أشكاله وأنواعه تتعدّد ولكنّ المهمّ فيه هو وظيفة التّغطية والمنع التي يؤدّيها. أمّا أن تلبس المرأة الحجاب وتكون مع ذلك مزيّنة وتتفنّن في اختيار الألوان الزّاهية على الطّريقة المصريّة خاصّة فذلك لا يغيّر شيئا، بل هو دليل تناقض وعدم تحمّل لمسؤوليّة الحرّيّة وعدم نهوض بعبء الرّغبة، أي بأن يكون الإنسان راغبا ومرغوبا فيه وأن يتحمّل مسؤوليّة اختيار الشّريك ووضع الحدود لنفسه وللآخرين. وفيما يخصّ استصدار القوانين، أقول إنّ ما حقّقته المرأة من مكاسب يجب المحافظة عليه، وقد أثبتت التّجربة أنّنا نحتاج إلى قوانين لحماية الفئات المستضعفة، نحتاج مثلا إلى قوانين تحمي الطّفلات من العنف الذي يسلّطه عليهنّ الآباء عندما يفرضون عليهنّ الحجاب ويمنعونهنّ من حرّيّة الحركة واللّعب ويفرضون عليهنّ قبل الأوان ما لا طاقة لهنّ به. نحتاج إلى قوانين تحمي النّساء من عنف إكراههنّ على الحجاب، كما نحتاج إلى قوانين مدنيّة تحمي الكتّاب والمفكّرين من الاتّهام بالرّدّة مثلا. إلاّ أنّ استصدار القوانين لا يكفي، فلا بدّمن فتح منابر الحوار، ولا بدّ من نشر الثقّافة المدنيّة وثقافة حقوق الإنسان، لمواجهة الإيديولوجية الإسلاميّة والقوميّة، فكلتاهما تعتبر المرأة راية الأمّّة، وتماهي بين جسدها وجسد الأمّة الخياليّ ولذلك تكون المرأة أوّل من يدفع ثمنا للأمجاد الوهميّة والطّوباويّات.
* كيف ترينَ إلى موضوع “الجندر” أو النوع الاجتماعي من زاوية العلاقة مع حقوق الإنسان من جهة، والنضال النسوي من جهة أخرى؟ - البحث في الجندر يندرج ضمن اتّجاه عالميّ هامّ في البحث يعود خاصّة إلى السّبعينات من القرن المنصرم، والجندر مقولة ثقافيّة وسياسيّة تختلف عن الجنس باعتباره معطى بيولوجيّا، وتعني الأدوار والاختلافات التي تقرّرها وتبنيها المجتمعات لكلّ من الرّجل والمرأة. وهذا التّوجّه في البحث مهمّ لأنّه يمكّننا من تعويض الماهويّة البيولوجيّة بالبنائيّة الثّقافيّة، بحيث يتبيّن لنا أنّ الاختلاف بين الرّجل والمرأة مبنيّ ثقافيا وإيديولوجيّا وليس نتيجة حتميّة بيولوجيّة. فالانطلاق من وجهة نظر البنائيّة الثّقافيّة يمكّننا من مواجهة الخطاب السّلفيّ الذي يريد إيهام النّاس بوجود فوارق “فطريّة” وبيولوجيّة أساسيّة بين النّساء والرّجال. حجّة الطّبيعة والفطرة هي التي يخرجها السّلفيّون والتّقليديّون عامّة لتبرير اللاّمساواة، وهذه الحجّة قديمة ولكنّها متجدّدة، قديما كانوا يقولون إنّ المرأة ناقصة عقلا، واليوم يقولون إنّها مختلفة فطريّا عن الرّجل، أو إنّها سلبيّة والرّجل إيجابيّ ، والنّتيجة هي نفسها، فالمرأة كائن له خصوصيّة، ونحن قوم لنا خصوصيّة، وباسم الخصوصيّة الثّقافيّة نتحفّظ على مبدإ الكونيّة، كونيّة الحقّ الإنسانيّ : هذا ما يقوله العرب للعالم اليوم، من خلال تحفّظاتهم الكثيرة والمخجلة على كلّ الاتّفاقيّات الدّوليّة الرّامية إلى إقرار المساواة. ولكن على المنطلقين من وجهة النّظر هذه أن يستفيدوا من النّقد الذي تمّ توجيهه إلى مفهوم الجندر، وهو على نوعين : نقد ينبّه إلى عدم كفاية مفهوم الجندر كمحدّد للهويّة الاجتماعيّة، فلا بدّ من مراعاة محدّدات أخرى كالطّبقة والعنصر والوضعيّة المدنيّة… ونقد آخر يحذّر ممّا قد يؤول إليه اعتماد الجندر من وقوع جديد في فخّ جوهرة الفوارق بين النّساء والرّجال، وهو ما يعوق إبداع أشكال الحياة والرّغبة، فلكلّ شخص أن يبتدع أشكال أنوثته أو ذكورته أو غير ذلك. وهناك من يرى أنّ مفهوم الجندر لا يتلاءم مع متطلّبات الحركات الجديدة التي تطالب بحقوق الأقلّيّات الجنسيّة والأصناف التي تعتبر نفسها خارج التّصنيف الجندريّ، وخارج الأقدار المسطرة سلفا.
* شاركت مؤخرا في مؤتمر مؤسسة تحديث الفكر العربي الذي عقد ببيروت أواخر شهر نيسان المنصرم وجاء تحت شعار “الحداثة والحداثة العربية” صحبة جمع من المفكرين والمثقفين العرب.. هل ما زلنا نتحدث عن مفاهيم مثل الحداثة والحداثة العربية، والحال أن البشرية تخطو الآن في مجاهل القرن الحادي والعشرين؟ - إذا كانت الحداثة موقفا تأويليّاً ونقديّاً من الماضي والحاضر، وتوقاً إلى الخروج من وضعيّة القصور التي تجعلنا نفضّل الطّاعة على التّفكير، ونفضّل التّعويل على سلطة السّلف بدل تحكيم العقل، وإذا كانت الحداثة محاولة تجاوز للفكر الميتافيزيقيّ الذي يعتمد على “الهويّة” بدل “الاختلاف” ويردّ المُخْتَلف إلى المُؤْتلف، والحاضر إلى الماضي، ولا يقبل اختلاف الذّات عن نفسها، وإذا كانت الحداثة تعني أيضا تعريض كلّ المسلّمات إلى الانهيار، وتعرية أو وعيا بتعرّية البنى اللاّمرئيّة التي تتحكّم في منظوماتنا الرّمزيّة التّراثيّة وتتحكّم فينا و تعوقنا عن الحرّيّة، وإذا كانت الحداثة في بعدها الإنسيّ التّنويريّ تعني أيضا الإقرار بفكرة الإنسان باعتباره قيمة في حدّ ذاته، بقطع النّظر عن جنسه ودينه ومعتقده ولونه، وبأنّه غاية في حدّ ذاته لا وسيلة، إذا كانت الحداثة الفكريّة تعني كلّ هذا، فإنّها ما زالت مشروعا غير مكتمل، وما زالت وعدا نسعى إليه، وخاصّة في عالمنا العربيّ الذي ما زال يلهج بالهويّة وفي أحسن الأحوال لا يعي بالاختلاف إلاّ في معناه السّطحيّ الذي يعني التّعدّد ولا يعني اختلاف الواحد عن ذاته، وانشطار كلّ هويّة. فالمجتمعات العربية خضعت إلى عمليات تحديث في الكثير من بناها الاجتماعية والسّياسيّة ومنظوماتها القانونية لكنها ما زالت ترفض الحداثة باعتبارها خروجا وقطيعة مع دواعي القصور والاتّكال على السّلف.
* لكن حدث شئ في فترة النهضة والإحياء.. أوائل القرن العشرين.. فكر أو ربما نظرات إلى الموروث والى العالم الجديد المعاصر… - لقد كان فكر النّهضة حداثة متعثّرة باهتة، لأنّ النّهضة كانت عودة وإحياء ولم تكن خروجا ووعيا بضرورة الخروج والقطيعة. وهذا ما جعل فكر النّهضة ينتج توليفات باهتة وإجابات مأساويّة في تردّدها، أهمّ مثال عليها قضيّة المرأة، فالكثير من روّاد النّهضة دعوا إلى تعليمها وخروجها من الحجاب، ولكنّهم حافظوا على كتل أساسيّة من كتل التّقليد أهمّها مبدأ قوامة الرّجال على النّساء، وهو مبدأ ما زال إلى اليوم يهيمن على أغلب المنظومات القانونيّة العربيّة في جانب الأحوال الشّخصيّة منها خاصّة، وما زال يهيمن على تصوّراتنا للشّرف والأخلاق.
*ولكن أليست القطيعةُ ارتماءاً في المجهول، قد لا نسيطر على نتائجه؟ - لست أدري لماذا يخاف المفكّرون العرب المدافعون عن الحداثة أنفسهم من فكرة أو صورة الخروج والقطيعة، والحال أنّها شرط أساسيّ لبناء الذّات وللفعل في الواقع، أي لصنع الحدث والإحداث الذي تحيل إليه كلمة “حداثة”. فالطّفل الذي يخرج من بطن أمّه ليس أمامه من خيار سوى الخروج، وليس أمامنا من خيار سوى قطع الحبل السّريّ الذي يربطه بالأمّ، ثمّ ليس أمامه خيار سوى الانفصال تدريجيّا عن هذا الأصل الذي تمثّله الأمّ، هذا لا يعني مع ذلك أنّه سيلقي بأمّه عرض الحائط وسيتجاهلها، بل إنّ بناء كيانه يستدعي هذا الانفصال، وأخطر الاضطرابات النّفسيّة المرتبطة بالنّفاس تعود إلى عدم تحقّق هذا الانفصال أو عدم اضطلاع هيئة ثالثة بتحقيقه، وهو ما يؤدّي إلى البقاء في دائرة لحمة ثنائيّة مستحيلة ينجرّ عنها رفض الواقع والهذيان. ما ينطبق على الطّفل البشريّ يمكن أن ينطبق على الذّات الجماعيّة العربيّة في علاقتها بالأصل، فلماذا نخاف من كلمة القطيعة والحال أنّها شرط ضروريّ لبناء الكيان لا يعني إلغاء للماضي بل انفصالا مسؤولا عنه؟ قلت إنّ المجتمعات العربية خضعت إلى عمليات تحديث في بناها ومنظوماتها، بل تعرّضت إلى قطيعة جعلتها علاقتها بعالم التّقليد تهتزّ، وجعلت أساطيرها الكبرى عن أصل العالم وعن طبيعة الإنسان فيه تهتزّ، و لكنها مع ذلك لم تنتج الفكر المسؤول الذي يعي بهذه القطيعة ويعي بضرورة الخروج، بل أنتجت بالأساس ثقافة تعيش على أرضيّة التّحديث وترفض الحداثة، ومن هنا الانفصام الذي يسم الثقافة العربيّة والذّات العربيّة، والذي يشير إليه الكثير من المثقّفين العرب، منهم من نقرأ لهم على صفحات إيلاف” على سبيل المثال.
ـ هل جاء هذا المؤتمر استجابة لحاجة ملحة في مسار الفكر العربي، أم هو ترف فكري أكاديمي لأناس بعيدين عن الواقع؟ - إنّ اجتماع عدد من المثقّفين والمثقّفات العرب للإعلان عن قيام مؤسّسة فكريّة مستقلّة عن الحكومات العربيّة والهيئات الحكوميّة الإقليميّة العربيّة، تحمل شعار التّحديث الفكريّ حدث هامّ، يستجيب في رأيي لحاجة ملحة إلى مواجهة ما سمّيته بثقافة رفض الحداثة في العالم العربي، وهي ثقافة ماضويّة تكتسح الإعلام كما تكتسح منظوماتنا التربوية وتظل فاعلة في منظوماتنا القانونية. والمؤسسة التي دعت إلى انعقاد هذا المؤتمر تطرح بوضوح إشكاليّة التّحديث لأنّ من الأهداف التي ينصّ عليها ميثاقها تطوير الفكر التّقدّميّ والإنساني في العالم العربي، وقلما نجد مؤسسة ثقافية عربية تطرح هذا الهدف بوضوح. إضافة إلى كلّ هذا، يترأس هذه المؤسّسة مثقّف كان ضحيّة رفض الحداثة في أبشع مظاهرها فقد اتّهم بالرّدّة وسلّطت عليه أحكام الحسبة بسبب أرائه وشرّد، وتضمّ هيئتها مثقّفين عرب عرفوا بمواقفهم التّحديثيّة المواجهة للتّعصّب والانغلاق. وربّما قامت هذه المؤسّسة بدور مهمّ هو دور الوساطة بين عالمين منفصلين: عالم الناشطين العرب في مجال حقوق الإنسان، وعالم المثقّفين العرب، فما ألاحظه دائما هو وجود هوّة تفصل بين العالمين، وانعدام الثّقافة الحقوقيّة الإنسانيّة لدى قطاع عريض من المثقّفين العرب، ممّا يسم تفكيرهم في القضايا الرّاهنة بالمزايدات العاطفيّة واللاعقلانيّة. وقد شعرت في هذا المؤتمر بوجود شعور عامّ بأنّنا وصلنا إلى حالة قصوى لم تعد محتملة، كما شعرت بوجود رغبة ما في الخروج من وضعيّة الصمت، وبإطلاق الكلام والتّفكير في قضايا يلفّها الصّمت عادة، وقد اتّسمت بعض الورقات المقدّمة والكثير من النّقاشات فعلا براديكاليّة ووضوح في الطّرح قلّما يتوفّران في المنتديات والمهرجانات التي تنعقد على النّطاق العربيّ، والتي تشعر فيها بأنّ المؤدّين لطقوس الاستعراض الكلاميّ متّفقون ضمنيّا على خطوط حمراء لا يتخطّونها. لا يمكن أن نتنبّأ بمصير هذه المؤسّسة وبما ستنجزه من عمل ثقافيّ، ولا يمكن أن نطلق أحكاما مسبقة على مسار ما زال في بدايته ولكن يمكن اعتبار المعطيات التي ذكرتها عوامل إيجابيّة تبعث على الأمل وتجعل من هذه المؤسّسة بادرة تستحقّ الانتباه والمشاركة النّقديّة.
* كانت مشاركتك في هذا المؤتمر تعقيبا على مداخلة الأستاذ عزيز العظمة، فهل بإمكانك تقديم فكرة إجماليّة لنا عن الورقة الفكرية التي قدّمتها ؟ - لقد كانت مداخلة الأستاذ عزيز العظمة ثريّة وصريحة. وإضافة إلى التّعقيب الذي قدمته، ركزت الحديث على حركة رفض الحداثة في العالم العربي من حيث أنّها تفاعلت مع الفكر التحديثي لكي تنتج جانبا من العناصر المكوّنة للمأزق الرّاهن : وضعيّة النّكوص أو ما عبّرت عنه بالصّمت والغمغمة والتعاويذ وقصدت به آليّات رفض للتفكير في بعض القضايا ذات الأولوية وآليّات رفض الإفصاح، والتّوليفات العجيبة التي جعلت العرب المسلمين مثلا “يتحفون” العالم أجمع بـ”إعلان إسلاميّ لحقوق الإنسان” أساسه إلغاء فكرة الإنسان وفكرة الحقّ. كما حاولت في هذه الورقة تفكيك الخطاب النهضوي العربي الذي أنتج كما قلت فكر عودة لا فكر قطيعة، وفشل في إثبات قيمة الإنسان في حدّ ذاته بقطع النّظر عن جنسه ودينه ومعتقده ولغته وأيّ شكل من أشكال انتمائه. أكتفي بالإشارة إلى محاولة تتبّع الأثر التي قمت بها للبحث عن الممكنات الحداثيّة التي تمّ إقصاؤها لصالح ممكنات أخرى تحقّقت. هناك لحظات فريدة تم إلغاؤها من الذاكرة الحية وإحلالها وتجميدها في أرشيف منسي ومهمل. وهذه اللحظات أو الممكنات المقصاة تمثل الوعي الفكري بالحداثة باعتبارها قطيعة وخروجا. ففي مجال إمكانيّات الإصلاح الديني، ذكّرت بانطلاق محمّد إقبال من فكرة ختم النبوة للإعلان عن انفتاح عهد تعويل الإنسان على عقله بدل تعويله على الشّرائع الموروثة، بحيث أنّ النبوة تحمل في ذاتها صيرورة إلغائها. ومن تلك اللحظات المنسيّة أيضا رفع بعض المثقفين المصريين ومنهم علي عبد الرازق في بداية القرن العشرين لشعار السفور باعتبار انه لا يعني فقط خروج المرأة من حجابها، بل وخروج المجتمع بأكمله من الحجاب. وقد اعتبرت أنّ الحداثة العربية كان يمكن لها أن تسمى سفورا وان تعني في الوقت سفور المرأة كما تعني السفر خارج الذات لاكتشاف الآخر كما تعني التعرية، تعرية الوجه وتعرية البنى الرمزية اللاواعية التي تحكم علاقتنا بالأصل وتحكم الأنظمة الاجتماعية الموروثة عن السلف. ومن هذه اللحظات أيضا الانطلاق من عملية حداد على الماضي بكل ما تحمله كلمة حداد من معنى نفسي عميق. فالحداد كما يقول لنا فرويد عمل ضروري يمكن الذات من الانفصال عن موتاها وإحلال هؤلاء الموتى في قبور يتحوّلون عبرها إلى رموز بدل أن يكونوا أشباحا حاضرة غائبة، لان الموتى الذين لا يدفنون يتحولون إلى كائنات ملازمة ومؤرقة وباعثة على التّأثّم والبؤس. عدم الحداد على الموتى وعدم فقدان وهم بقائهم على قيد الحياة يؤدي إلى وضعية الماليخوليا باعتبارها عجزا عن فقدان الوهم ورغبة في الموت وفي محاكاة الموتى. فهي عجز عن قبول الواقع، واقع الانفصال والقطيعة والمستحيل. ومن المفكّرين المنسيّين الذين يمكن أن نقدمهم مثالا على إمكانية عيش الحداثة باعتبارها قطيعة وحدادا على الموتى منصور فهمي الذي طرد من الجامعة المصرية بعد أن أصدر بحثه الأكاديمي عن أحوال المرأة في الإسلام سنة 1913. هذا البحث الرّائد لم يستسلم فيه منصور فهمي إلى النّمذجة الطوباوية لعصر الرسالة بل حلل وضعية المرأة في الإسلام بكل وضوح ونزاهة، علما بان كتابه هذا لم يترجم إلى العربية إلاّ مؤخرا. واللحظة الأخرى الفريدة التي تم نسيانها أيضا بل وتنظيم نسيانها هي اللحظة التي نادى فيها بعض رواد ورائدات الحداثة بضرورة تنظيم مجالات الدين والدنيا والفصل بينهما. فالكاتبة السّوريّة نظيرة زين الدين مثلا أشارت سنة 1929 إلى ضرورة الفصل بين العبادات والمعاملات على أن المعاملات والأحكام الفقهية التي تنظمها خاضعة للتاريخ فيجب أن نزيل عنها طابع القداسة. كل هذه اللحظات الفريدة تم إقصاؤها لبناء صرح فكر النهضة في روايته الرسمية التي درسناها في المعاهد والجامعات وهي رواية تلفيقية توفيقية تبقي على أهم معاقل التقليد في ما يتعلّق بالحرّيّات الفرديّة وبالأقلّيّات الدّينيّة وغيرها. فكر النّهضة بما هو فكر عودة وإحياء هو الذي مهد لظهور مقولة “الشريعة صالحة لكل زمان ومكان”، وهي مقولة جديدة تم تلقيننا إياها في المدارس، وأدّت إلى حالة الانفصام التي نعيشها: نقبل التّحديث في بعض الأمور ونتمسّك بخصوصيّات التّخلّف في بعضها، نستعمل أحدث الأجهزة ووسائل الاتصال ونتمسك على نحو هذياني بأنماط علائقية عتيقة عن الفرد والأسرة والعلاقة بين النساء والرجال. نستعمل الانترنت لنشر فتاوى تحرم القول بكروية الأرض ودورانها حول الشمس أو لنشر فتاوى تدعو المرأة إلى الحجاب، بل إلى النقاب وانعدام الوجه. أو على نحو آخر: نتمسّك بالنّموذج الدّيمقراطيّ لنطالب بحقّ المرأة في أن تكون محجّبة، ونحوّل الحفاظ على اللاّمساواة بين النّساء والرّجال إلى حقّ في الاختلاف.
*هل يعني هذا أننا ما زلنا ننشد الحداثة وأننا لم تصل إليها بعد في الوقت الذي غادرها غيرنا إلى ما بعد الحداثة؟ - أعتقد أن لبعض الباحثين العرب تصورا مشوّها لما يسمى بما بعد الحداثة ولما يفضل بعض الغربيين أنفسهم تسميته بالحداثة المعاصرة. فما بعد الحداثة ليست إلغاء لفكر الأنوار وللموقف الحداثي من العالم بل هي امتداد نقدي وتأويلي للتنوير يعي بحدوده ويستشرف ممكناته الجديدة. فما أستغربه دائما هو تشكيك بعض الرافعين العرب لشعار ما بعد الحداثة في الديمقراطية وفي حقوق الإنسان، على نحو لا نجده لدى المثقّفين الغربيّين أنفسهم، باستثناء بعض أنصار اليمين المتطرّف ربّما. يوجد مثقفون غربيون يطالبون بتطوير التصورات السائدة عن الديمقراطية والمؤسّسات التي تجسّدها، ولكن لا يوجد على حدّ علمي من يطعن في المبادئ الدّيمقراطيّة في حدّ ذاتها، أي مبادئ المساواة والفصل بين السّلط وضمان الحقوق المدنيّة والسّياسيّة… يوجد مثقّفون فرنسيّون يطالبون مثلا بـ”علمانية” مفتوحة أو حيّة ولكن لا يوجد، على حدّ علمي مثقّفون جادّون يطعنون في مبدإ العلمانية في حدّ ذاته. وفي عالمنا العربيّ المتخلف من الناحية السياسية والحقوقية لا يؤدّي مثل هذا التّشكيك إلاّ إلى تأجيج الجنون الدّينيّ الرّافض للحداثة وتأبيد الأنظمة الرجعية. (انتهى)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: Salwa Seyam)
|
يبدو يا سلوى الأستاذ عثمان أحمد خالد متابع معنا
وصلنى منه إيميل الآن
Quote: Khalid to me show details 8:59 PM (47 minutes ago) Reply
سلام استاذ رأفت مرفق لك الحوار المطلوب. عثمان
3 attachments — Download all attachments حوار شامل مع الباحثة التونسية د.doc 123K View as HTML Open as a Google document Download المرأة والحداثة والتفكيك والجندر في العالم العربي في حوار مع د. رجاء بن سلامة.htm 96K Open as a Google document View Download جميعنا مع رجاء بن سلامة « KOL YOM.htm 102K Open as a Google document View Download |
ولكنى كنت أسرع منه .. وهو لا يدرى فى أى جب من المعرفة قد ألقى بنا
التحيات له .. وجزيل الشكر سأعود أيضآ للمقالات الأخرى التى أوردها
سلامى
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
تحت عنوان وجدت هذا النداء ومرفق معه مقال لدكتورة رجاء
جميعنا مع رجاء بن سلامة أكتوبر 22, 2006 at 10:04 am | In Kolyom | 1 Comment
فلنقف جميعا في صف الدكتورة رجاء بن سلامة، الكاتبة والمفكرة التونسية العربية الشجاعة، ضد كل انواع العنف والمصادرة والتشويه والرقابة والحسبة الموجهة ضدها هذه الايام بتهمة التفكير الحر وابتكار الاسئلة. ومهما كانت الاختلافات من أي طرف كان، مع فكر د. رجاء بن سلامة، إلا اننا جميها وبلا استثناء مسؤولون عن امنها وسلامتها وحرية التعبير عن فكرها، مسؤولية شاملة لا تتجزأ.
شفاف الشرق الأوسط- حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة أكتوبر 22, 2006 at 9:49 am | In Kolyom | No Comments
حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على العبادة د. رجاء بن سلامة*
مقال الأستاذ أبو خولة المنشور بإيلاف يوم 15 أكتوبر 2006، تحت عنوان “اجتهادات تونسية للإفطار في رمضان “، فيه الكثير من الوجاهة، ومن الحجج المستقاة من داخل المنظومة الدّينيّة على إمكان تطوير فريضة الصّيام، وإعادة تأويلها وفق مقتضيات العصر. ورغم أنّني أحترم رأيه وأدافع عن حقّه الشّخصيّ في الاجتهاد وإعادة التّأويل، بل وأعتبر مثل هذه الدّعوات دليل حيويّة وسير في اتّجاه خلق تديّن من نوع جديد، فإنّني من موقعي المتواضع كمدافعة عن الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، أذهب مذهبا آخر في المطالبة بإصلاح سلوك المسلمين في رمضان، لأنّني أعتقد أنّ أمور العبادة في حدّ ذاتها لا يمكن أن تكون مجال مطالبة حقوقيّة، ومجال تدخّل للقانون وللدّولة، إنّما هي مجال اجتهاد شخصيّ داخل المجموعة الدّينيّة نفسها، أو مجال حوار واجتهاد بين القائمين على أمور المقدّس، أو مجال مطالبة من قبل المنتمين للمجموعة العقديّة الواحدة، كما هو الشّأن في مطالبة النّساء المؤمنات بإمامة الصّلاة، فهي مسألة داخليّة موكولة إلى ضمائر النّاس المنتمين إلى الدّين الواحد، والأفضل للدّولة أن لا تتدخّل فيها إلاّ بحماية حرّيّة الرّأي والمعتقد للجميع. وما يدعونا إلى اتّخاذ هذا الموقف ليس عسر تغيير العبادات لما تحاط به من هالة قدسيّة فحسب، بل الأمران المواليان : 1- يجب أن نحافظ على الفصل الذي طالب به بعض المصلحين بين العبادات والمعاملات، فالعبادات مجال العلاقة الأفقيّة بين الخالق وعبده، وهي موكولة إلى ضمير الإنسان وعقيدته وحياته الخاصّة، والمعاملات مجال العلاقات البشريّة الأفقيّة وهي موكولة، أو يجب أن توكل إلى القوانين المدنيّة الوضعيّة، وكلّ ما نطالب به من مساواة وحرّية ومن تحوير للقوانين المعمول بها يتنزّل في هذا الباب. أنصار الشّريعة، وأنصار مبدإ “الإسلام دين ودولة” يريدون إسقاط العموديّ على الأفقيّ، أي يريدون تحويل هذا الدّين إلى إيديولوجيا شموليّة تقنّن كلّ مجالات الحياة من عبادة وقانون وسياسة وأخلاق وسلوك يوميّ، فهم يرفضون القيام بهذا الفصل الذي يحرّر النّصّ الدّينيّ من استعمالاته البشريّة المعاملاتيّة. هذا الفصل بين العبادات والمعاملات هو الذي يساعدنا على جعل الدّين تجربة فرديّة مستبطنة وروحانيّة، قد تكون حافزا على احترام المبادئ الأخلاقيّة السّامية التي لم تلغها التّطوّرات الحديثة، ومنها احترام الحياة، وحرمة الجسد الحيّ والجسد الميّت، والتّكافل الاجتماعيّ، والرّحمة، والرّفق بالوالدين، وعدم حبّ المال والجاه حبّا جمّا… هذه القواعد الأخلاقيّة العامّة هي غير الشّريعة التي تفرض نظاما للمعاملات قائما على اللاّمساواة بين المرأة والرّجل، والعبد والحرّ، والمؤمن وغير المؤمن، واللّقيط والصّريح النّسب… وهذه المبادئ الأخلاقيّة العامّة، هي خلافا لأحكام الشّريعة غير متناقضة مع منظومة حقوق الإنسان، بل يمكن أن تكون مصدرا من مصادر تطويرها المستمرّ.
2- العلمانيّة على النّمط الذي أرساه كمال أتاتورك، رغم ما قامت عليه من إيجابيّات، ولّى عصرها ولم تعد ممكنة اليوم، بل ربّما تتناقض مع العلمانيّة الدّيمقراطيّة التي نطمح إليها، وهي ترمي إلى إرساء قواعد للعيش المشترك بين كلّ الأديان، وبين المؤمنين وغير المؤمنين، ولا ترمي إلى فرض قواعد معيّنة في السّلوك الفرديّ. العلمانيّة ولا شكّ تقتضي تغييرا لمجال المعاملات، وهذا ما نجح فيه إلى حدّ كمال أتاتورك وبورقيبة كلاّ في زمانه وفي سياقه، وقد أعطت تجربتهما أكلها في تحرير المرأة والتّحديث الاجتماعيّ. ولكنّ محاولتهما في تغيير معتقدات النّاس وعباداتهم ليست محبّذة وليست ممكنة اليوم.
فالسّياق الرّاهن غير سياق الزّعماء الكاريزميّين الذين يطوّرون مجتمعاتهم، أمثال أتاتورك وبورقيبة، بل هو سياق زعماء من نوع آخر، لا يحملون مشاريع للبناء والتّحوّل الاجتماعيّ، بل يحملون شعارات للتّجييش الدّينيّ والعاطفيّ ولا يهدفون إلى البناء بل يهدفون إلى الصّدام والمواجهة، ويكفي أن يكونوا مجرّد دعاة أو قادة لميليشيات حزبيّة. هؤلاء هم الذين تتماهى معهم الأغلبيّة، بل ويتماهى معهم جزء هامّ من النّخب اليساريّة والقوميّة التي أصبحت تفتخر بعدم إعمال العقل، وتتباهى بعدم الاهتمام بالمشروع المجتمعيّ الذي تخفيه عباءات هؤلاء الزّعماء. أمام هذا التّراجع الطّفوليّ للنّخب وللشّعوب، وهذا الانحدار في طبيعة الزّعماء الجدد، لا يسعنا اليوم إلاّ أن نتمسّك بتعويض التّعويل على الزّعماء بالتّعويل على الحركيّة الاجتماعيّة والثّقافيّة التي تؤدّي، وإن ببطء، إلى التّأثير في صانعي القرار، والتّأثير في المنظومات التّربويّة والإعلاميّة والثّقافيّة، ولذلك نكتب ونطالب، ونأمل.
ولنعد إلى قضيّة فريضة الصّيام، لنقول إنّ بين العبادات والمعاملات مجال تقاطع، يتمثّل في القواعد المدنيّة التي لا بدّ من فرضها لكي لا تكون عبادة المؤمن سلبا لحرّيّة غير المؤمن، أو غير المتعبّد، وهذا مكمن الدّاء الذي أردت لفت الانتباه إليه، لأنّه مؤشّر آخر من مؤشّرات عدم التّسامح، وعلامة أخرى من علامات التّناقض بين خطاب التّسامح من ناحية والممارسات والقوانين السّائرة في اتّجاه آخر، والتي أصبحت مسلّمات وبديهيّات غير قابلة للنّقاش. هناك فئات من غير الصّائمين تفرض عليهم قواعد الصّيام وتفرض عليهم في بعض البلدان العربيّة عقوبات قانونيّة يعدّ وجودها نفسه إخلالا بالحرّيّات الأساسيّة : المؤمنون غير القادرين على أداء الفريضة، أو المؤمنون الذين أوصلهم اجتهادهم الشّخصيّ إلى إمكان عدم القيام بالفريضة، والمؤمنون الذين اختاروا أن يكونوا مؤمنين دون أن يأدّوا الطّقوس الدّينيّة، وهؤلاء يعبّر عنهم باللّغة الفرنسيّة بـ”غير الممارسين” للشّعائر (وهي عبارة ليس لها مقابل حديث في العربيّة، وللأمر دلالة). نضيف إلى هذه الأصناف : معتنقي الأديان الأخرى من المواطنين والأجانب، واللاّأدريّين واللاّدينيّين والملحدين. هؤلاء جميعا لا مكان لهم في ظلّ الممارسة الحاليّة لفريضة الصّوم في البلدان، بل هم ضحايا للمقاربة الشّموليّة للإسلام، وهي في هذا المجال مقاربة يشترك فيها الإسلام السّياسيّ مع الإسلام الرّسميّ، مع الإسلام الشّعبيّ الذي غذّت فيه الفضائيّات بؤر التّعصّب والنّرجسيّة الجماعيّة. وهو ما جعل رمضان رغم مباهجه وفوانيسه الجميلة وسهراته الحافلة يتحوّل إلى جحيم دنيويّ بالنّسبة إلى غير الممارسين لهذه العبادة. فالمطاعم والمقاهي تغلق في النّهار أو تفتح على نحو يشعر فيه المفطر بالمهانة، إذ توصد عليه الأبواب وكأنّه يقترف جريمة نكراء، ويلاحق بالنّظرات المستنكرة. ويمنع بيع المشروبات الكحوليّة للجميع، ويعتبر أيّ جهر بالإفطار اعتداء على حقوق الصّائمين، والحال أنّ حقوق الصّائمين مكفولة ولا يعتدي عليها أحد. ما يمارس من عنف على غير الصّائمين في هذا الشّهر يدلّ على أنّ التّعصّب ليس حالة خاصّة أو إيديولوجيا معزولة، بل نمط من العيش ونظام للعلاقات بين النّاس ومناخ فكريّ. ولعلّ النّموذج الذي نجح في بنائه الإسلام المتعصّب بأنواعه هو نموذج المسلم الذي نقدّمه كالتّالي : · المسلم العاجز عن التّحكّم في غرائزه، والذي يسيل لعابه طوال اليوم، يسيل لعابه كلّما رأى مفطرا في رمضان، كما يسيل لعابه كلّما رأى جزءا من جسد امرأة : شعرا أو وجها أو مجرّد أذن. · نموذج المسلم “المسلوخ” الذي لا جلد يقيه من الجروح، فكلّ شيء يعدهّ مهينا له جارحا لعواطفه ولعقيدته. ولذلك فهو يقضي يومه وليله في رصد ما يقال وما يكتب عن الإسلام، وفي التّألّم من جراح المشاعر والعواطف. · نموذج المسلم الذي لا يعبد اللّه لمحبّته إيّاه، بل ليحصل في كلّ لحظة على الثّواب والجزاء، ولذلك فهو يحوّل مأكله وملبسه وكلامه إلى عبادة متواصلة، أو إلى مؤسّسة للرّبح الآخرويّ، ويختزل علاقاته بالنّاس في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. · نموذج المسلم الذي ينتمي إلى عصرين في الوقت نفسه، فيحوّل المؤسّسات الدّيمقراطيّة إلى منابر لإنتاج القرارات المنافية للدّيمقراطيّة، ويحوّل كل مطالبة بالحرّية إلى مطالبة بالحقّ في العبوديّة.
والنّتيجة هي أنّ المسلم أصبح كاريكاتورا للإنسان الحديث، لا لأنّ الإسلام أراد له ذلك، بل لأنّه أراد هذا الإسلام، أو أراد هذا للإسلام. إذا اقتنعنا بأنّ الإيمان لا يفرض بحدّ السّيف، فيجب أن نسلّم بأنّ الشّعائر الدّينيّة لا تفرض بحدّ القوانين الجزائيّة والتّدابير الإكراهيّة، وبأنّ حرّيّة عدم العبادة ليست اعتداء على الحقّ في العبادة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: رأفت ميلاد)
|
رجاء بن سلامة [email protected] الحوار المتمدن - العدد: 2075 - 2007 / 10 / 21
المرأة ذات "الفرج المقلوب" بحث في نظريّة هواميّة غريبة (1)
كيف بنى العرب القدامى الاختلافات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة بين الجنسين، وما هي مدلولات هذا البناء؟ وما الذي جعلهم يتصوّرون أنّ للمرأة عضوا ذكوريّا باطنيّا أو "فرجا مقلوبا" حسب تعبيرهم؟ وما العلاقة بين هذا العضو المفترض والعضو الصّغير الآخر غير المفترض، وهو البظر؟ هذه الأسئلة توجّهنا إلى دائرة في البحث تغيّبها الدّراسات النّسائيّة والدّراسات الجندريّة لأنّها تقفز على الفوارق الجسديّة بين الجنسين لتهتمّ بالفوراق الثّقافيّة، أي لما يعود إلى التّنشئة الاجتماعيّة من اختلافات تراتبيّة وسلطويّة أساسا، والسّرّ في ذلك يضيق عنه مجال هذا البحث، أو لعلّ القارئ يتبيّنه في نهايته. نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ من مظاهر تغييب الاختلاف الجنسيّ في الأبحاث العلميّة العربيّة المصير الذي لقيه كتاب توماس لاكور Thomas Laqueurوعنوانه "مصنع الجنس : الجنس والجندر من الإغريق إلى فرويد"، وقد صدر سنة 1990 بالإنكليزيّة وسنة 1992 بالفرنسيّة. هذا الكتاب الذي سننطلق منه وسنحاول محاورته على ضوء النّصوص العربيّة من ناحية، والتّحليل النّفسيّ من ناحية ثانية، لم يترجم إلى اليوم إلى العربيّة، ولم أجد له أثرا في الكمّ الهائل من الأبحاث الصّادرة عن المرأة أو عن تاريخ العلاقات بين النّساء والرّجال، رغم أهمّيّته ودقّته، ورغم أنّ صدوره مثّل حدثا مهمّا في تاريخ الفكر الطّبّيّ والتّشريحيّ وفي تاريخ التّصوّرات الغربيّة عن الجسد البشريّ. ويمكن أن نذهب أوّلا إلى أنّ أهمّ النّتائج التي توصّل إليها لاكور في فضاء الفكر الغربيّ شبيهة في مجملها بالنّتائج التي يتوصّل إليها الباحث في فضاء الفكر العربيّ، وإن كنّا نفتقر إلى اليوم إلى دراسة ضافية للموضوع، في مثل جودة دراسة لاكور، ونقرّ بأنّ هذا البحث لا يسدّ هذا النّقص بقدر ما يقترح مقدّمات إليه. توصّل لاكور في رصده للتّحوّلات في تاريخ المعرفة عن الجسد، إلى أنّ الاختلاف بين جسمي المرأة والرّجل مغامرة حديثة لم يخضها مفكّرو الغرب إلاّ في حدود القرن الثّامن عشر، وأنّ نموذج الجنس الواحد modèle unisexe المأخوذ عن الإغريق هو الذي ساد الفكر الغربيّ. يقول معرّفا بهذا النّموذج : "نموذج الجنس الواحد الذي سيطر على الفكر التّشريحيّ طيلة ألفي عاما فهم المرأة على أنّها رجل معكوس : فالرّحم هو مثانة المرأة، والمبيضان خصيتاها، والشّفرتان قلفتها، وفرجها عبارة عن عضو ذكوريّ." كما قام هذا النّموذج على التّناظر شبه التّامّ بين الرّجل والمرأة في عمليّة الإنجاب، فالجنسان يخضعان إلى نظام قذفيّ انتشائيّ واحد، ولكلّ منهما منيّ يساهم في الانعقاد (أي تكوّن الجنين). كان جسد المرأة صنوا لجسد الرّجل في التّشريح وفي نظام الأخلاط، أو إن شئتم كانت المرأة رجلا معكوسا يحمل أعضاء الذّكورة في الدّاخل لا في الخارج، لافتقارها إلى الحرارة الحيويّة التي يمكن أن تدفع بأعضائها إلى الخارج. هذا التّصوّر الموروث عن أبقراط وجالينوس كان معارضا إلى حدّ ما للتّصوّر التّكامليّ التّراتبيّ الرّاجع إلى أرسطو. لقد جذّر هذا الفيلسوف الاختلافات بين الجنسين فجعل المرأة عاجزة عن إنتاج المنيّ، وجعل دورها مقتصرا على توفير المادّة الدّمويّة التي تظلّ في الرّحم منتظرة إلى أن يمنحها السّائل المنويّ الذّكوريّ الصّورة. ورغم مكانة أرسطو في الفكر الغربيّ، فإنّ الغلبة كانت لنظريّة الجنس الموحّد التّناظريّة على نظريّة أرسطو التّكامليّة. ومن النّتائج المهمّة التي خرج بها لاكور أنّ الفوارق الاجتماعيّة والثّقافيّة بين الجنسين، أو ما يمكن تسميته بالجندر، كانت أهمّ من الاختلاف الجنسيّ. ونكاد نجد اللّوحة نفسها لدى الأطبّاء والكتّاب العرب الذين كانوا ورثة للطّبّ اليونانيّ. فبقدر ما كانت ثنائيّة المذكّر والمؤنّث محوريّة في المجتمع، وبقدر ما كانت الأدوار الاجتماعيّة موزّعة بوضوح وموضوع رقابة مشدّدة، تعكس التّصوّرات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة االعالمة نظريّة في الجنس الواحد، كانت هي السّائدة. فمن النّاحية التّشريحيّة، يقول ابن سينا (ت 428هـ) : " نقول إنّ آلة التّوليد التي للإناث هي الرّحم، وهي في أصل الخلقة مشاكلة لآلة التّوليد للذّكران، وهي الذّكر وما معه، لكنّ إحداهما تامّة متوجّهة إلى خارج، والأخرى ناقصة محتبسة في الباطن، فكأنّها مقلوب آلة الذّكران، وكأنّ الصّفن صفاق الرّحم، وكأنّ القضيب عنق الرّحم، والبيضتان للنّساء كما للرّجال، ولكنّهما في الرّجال كبيرتان بارزتان متطاولتان إلى استدارة، وفي النّساء صغيرتان مستديرتان إلى شدّة تفرطح، باطنتان في الفرج، موضوعتان عن جنبيه في كلّ جانب من قعره واحدة، متمايزتان يختصّ بكلّ واحد منهما غشاء لا يجمعهما كيس واحد، وغشاء كلّ واحدة منهما عصبيّ. وكما أنّ للرّجال أوعية للمنيّ بين البيضتين وبين المستفرغ من أصل القضيب، كذلك للنّساء أوعية للمني بين الخصيتين وبين المقذف إلى داخل الرّحم..." ونجد هذا التّصوّر لدى المصنّفين لكتب الباه، إذ يقول التّيفاشيّ صاحب كتاب "نزهة الألباب" : "... آلات التّناسل في الإناث موضوعة داخل البطن ومطبوعة على الميل إلى ما هناك. وأمّا الذّكر فخارج البطن مجبولة ومطبوعة على الميل إلى ما هناك". ومن حيث الوظيفة، أي من النّاحية الفيزيولوجيّة، إذا استثنينا بعض الفلاسفة الأوائل ممّن ينحون نحو أرسطو في اعتبار الجنين يتولّد من منيّ الرّجل ودم المرأة، أمكن لنا القول بأن نظريّة ازدواج المنيّ كانت هي السّائدة. انتقد الأطبّاء العرب تصوّر أرسطوطاليس، كما انتقده جالينوس، وانتقدوه في نقطة أساسيّة هي سلبيّة دور المرأة في الإنجاب، ونفي المنيّ عنها : يقول ابن سينا في كتاب الطّبيعيّات : "واعلم أن الولادة انما تكون إذا توافي الزّرعان من الذكر والأنثى معا، فان اختلف الوقتان لم يعلق… والمرأة والرجل يحتلمان جميعا ويصبّان المنيّ كل على نحو صبه. أقول: إنّه لا عذر لمن يسمع هذه الفصول وغيرها، ثم يظن أن المعلّم الأول يقول بأن المرأة لاتصب فضلة نطفية..." ولم يقتصر هذا الرّأي على الأطبّاء، بل إنّنا نجده لدى فقيه كالغزالي، فقد اعتبر ماء المرأة "شرطا في الانعقاد" ومتصوّف كابن عربيّ فقد خالف "أهل علم الطّبائع" في قولهم بأنّه "لا يتكوّن من ماء المرأة ولد" واعتبر أنّ عيسى بن مريم "من ماء أمّه" فحسب. بل ربّما قطع الأطبّاء شوطا أبعد في الأخذ بنموذج الجنس الواحد، لأنّهم عندما تحدّثوا عن أمراض الرّحم، وهي المتسبّبة في الهستيريا حسب تصوّرات أطبّاء الإغريق، ذكروا اختناق الرّحم النّاجم عن انحباس دم الطّمث أو المنيّ، ولم يستبعدوا أن يصاب الرّجل بالأعراض النّاجمة عن ها النّوع من الهيستيريا : يقول الرّازي (ت313 هـ) :"... فإنّه كما يعرض للرّجال الكثيري المنيّ عند ترك الجماع من القلق وثقل الرّأس وسقوط القوّة والشّهوة كذا ليس ينكر أن تعرض أعراض أشدّ من هذه لهؤلاء النّسوة..." فما نسمّيه "الشّرق" ونقصد به العالم العربيّ قد اشترك مع "الغرب" في إنتاج أو إعادة إنتاج التّصوّرات التّشريحيّة نفسها، ونسبوا إلى المرأة عضوا ذكوريّا مقلوبا ومنيّا. وربّما يتّضح لنا الآن تنسيب عبد الكبير الخطيبيّ لأهمّيّة الاختلاف الجنسيّ في القرآن، وقوله : "لكي نحسن تحديد موقع "الجنسانيّة" في الإسلام، يجدر بنا أن نعتبر الاختلاف الجنسيّ ثانويّا إذا ما قورن بالاختلاف بين الإيمان والكفر، وبين الوجود المطلق للواحد، و"إشراك" أيّ ثالوث أو آلهة أخرى أو عبادات وثنيّة به." ويمكن الآن أن نحاول التّأويل وأن نتساءل عن أسباب غلبة نموذج الجنس الواحد غربا وشرقا وطيلة قرون طويلة، فلا تكفي عوامل التّداخل الثّقافيّ وتناقل الإرث الطّبّي اليونانيّ في تفسيرها. كيف يمكن أن نفهم إصرار المنظّرين القدامى للجسد على اعتبار فرج المرأة أيرا، وإصرارهم على عدم النّظر إلى الاختلافات التي تنتج الاختلاف الجنسيّ رغم وبعد كلّ ازدواجيّة جنسيّة بيولوجيّة أوّليّة؟ لقد انتبه لاكور إلى حدّ ما إلى طبيعة هذا الإصرار، وامتنع عن تفسيره بعامل قصور الذّكاء العلميّ لدى القدامى، لأنّه إصرار من لا يريد أن يرى، وليس إصرار من عجز عن الرّؤية. إنّه "عنت" أو "عمى" علميّ وصفه قائلا : "كان بإمكان التّشريحيّين أن ينظروا إلى الأجساد على نحو مختلف-كأن يعتبروا فرج المرأة شيئا مختلفا عن العضو الذّكوريّ-ولكنّهم لم يفعلوا هذا لأسباب ثقافيّة. ثمّ إنّهم لم يبالوا بالمعطيات التّجريبيّة-بالأدلّة مثلا على إمكان الحبل بدون انتشاء-لأنّ هذه المعطيات لم تكن تتّفق مع أيّ جدول علميّ أو ميتافيزيقيّ."
ولكنّ تفسير لاكور لهذا العنت لم يكن بحجم العنت نفسه. لقد قدّم عاملين مختلفين لتفسير نموذج الجنس الواحد وطول عمره، العامل الأوّل ثقافيّ ويتمثّل في تسليط الثّقافة نظامها ومراتبيّتها على عالم الأجساد من الخارج، بحيث أنّ الأجساد مجسّدة لأفكار وغير محدّدة، والعامل الثّاني له علاقة بالسّلطة المرتبطة بالجنس : فهذا النّموذج يقوم دليلا على أنّ الرّجل هو مقياس كلّ شيء، وأنّ المرأة "ليس لها وجود باعتبارها مقولة أنطولوجيّة منفصلة". إنّنا نرى أوّلا أنّ هذا التّفسير ليس مميِّزا مخصِّصا، فهو ينطبق على كلّ التّصوّرات التّشريحيّة القديمة، ولا ينطبق فحسب على نظريّة الجنس الواحد وفكرة العضو الذّكوريّ للمرأة. فالرّجل كان المقياس مثلا في نظريّة أرسطو التي تعتبر المرأة رجلا منقوصا ضعيفا. ونرى ثانيا أنّ عامل الهيمنة الذّكوريّة لا يكفي لتفسير هيمنة هذه النّظريّة وطول عمرها. لا شكّ أنّ تصوّرات الجسد لا يمكن أن تفلت من نظام الهيمنة الذّكوريّة باعتباره ركنا أساسيّا من أركان الحضارات التّقليديّة. إلاّ أنّ النّظريّة التّشريحيّة الأقدر على توفير دعامة تبريريّة إيديولوجيّة له ليست نظريّة الجنس الواحد، بل النّظريّة الثّنائيّة الأرسطوطاليسيّة بما أنّها تقوم على الفصل التّامّ بين الجنسين، وبما أنّ التّراتبيّة بين الجنسين أوضح فيها. ولو تأمّلنا مكوّنات هذه النّظريّة لوجدناها في تطابق تامّ مع آليّات قمع النّساء : فالإعلاء من شأن الأمومة على حساب الأنوثة يتطابق مع حديث أرسطو عن الوعاء السّلبيّ الذي توفّره المرأة، والاعتقاد في نقص النّساء عقلا ودينا يمكن أن يستند إلى تصوير أرسطو المرأة على أنّها كائن مجبول على النّقص والمرض. وهو ما يفسّر عودة الخطباء الإسلاميّين اليوم إلى النّموذج الأرسطوطاليسيّ، ربّما بصفة لاشعوريّة، ليجعلوا المرأة "سلبيّة" والرّجل "إيجابيّا"، وليجعلوا المرأة الكائن الوحيد المجبول على الخصاء والنّقص. فعندما يتعلّق الأمر بأفكار ملحّة رغم أنّ الإدراك والواقع التّجريبيّ يكذّبانها، تبدو لنا العوامل النّفسيّة أعمق وأكثر تجذّرا من عامّة العوامل المعرفيّة والثّقافيّة، ويبدو لنا الحديث عن العنت اللاّواعي أكثر جدوى من الحديث عن "خطإ يكذّبه الفهم وتكذّبه التّجربة". ربّما تقف هنا حدود البحث في تاريخ الفكر، ليبتدئ التّساؤل عن تجذّر الفكر في اللاّمفكّر فيه، أي فيما يرفض التّفكير فيه، وفي علاقة الفكر بالجنسانيّة وبالكبت.
هذه الخطوة هي التي لم يقم بها لاكور، نظرا إلى المنزلة التي خصّ بها التّحليل النّفسيّ ومؤسّسه فرويد. ففي هذا الكتاب لم يكن فرويد ندّا ومحاورا بإمكانه تقديم مبدإ تفسير للعضو الذّكوريّ النّسائيّ ولنموذج الجنس الواحد، بل كان موضوع دراسة من بين المواضيع المختلفة. لقد خصّص لاكور لفرويد فصلا أخيرا وقدّمه على أنّه وريث لنموذج الاختلاف الجنسيّ الحديث و"مطيح به" في الوقت نفسه، نتيجة فرضيّته في الأحاديّة اللّيبيديّة. فنظريّة النّموذج الواحد لا تعدو أن تكون نظريّة جنسيّة ولكنّها من صنع الكبار، لا الأطفال، أو من صنع الكبار من حيث أنّ الطّفولة النّفسيّة تلاحقهم من المهد إلى اللّحد. هذه الأبنية المفهوميّة المنتجة لنموذج الجنس الواحد تنطق ولا شكّ عن فكر قائم على التّناظر وعلى منطق الهويّة، واختزال المختلف، ولكنّنا نجد فيها أصداء لهوام المرأة ذات العضو الذّكوريّ، وهو هوام تبيّن مختلف الميثولوجيات والتّعبيرات الفولكلوريّة والأحلام أهمّيّته منذ العهود السّحيقة وفي كلّ مكان. إنّ الأساس في نظريّة الجنس الواحد هو نفي خصاء المرأة ومنحها أيْرا داخليّا قد لا يرى، أو لا يهمّ أنّه يرى أو لا يُرى ولكنّه يفترض، ولذلك ليس من الإجحاف اعتبارها شبيهة من حيث الوظيفة بأولى النّظريّات الطّفوليّة الجنسيّة الثّلاث التي وصفها فرويد سنة 1908 : "أولى هذه النّظريّات الجنسيّة ترتبط بإهمال الاختلافات بين الجنسين، إهمالا نبّهنا منذ البداية إلى أنّها من خصائص الأطفال. وتتمثّل هذه النّظريّة في إسناد عضو ذكوريّ كالذي يعرفه الصّبيّ انطلاقا من جسده إلى كلّ الكائنات البشريّة بمن في ذلك الكائنات الأنثويّة." وفي الصّفحة نفسها، وقبل أن يتحدّث سنة 1937 عن "صخرة الأصل" كتب فرويد : "وبعد ذلك يعود تصوّر المرأة ذات الذّكر إلى الظّهور من جديد في أحلام الكهول." إنّها أحلام يقظة، أحلام كهول تلبس قناع البناء المفهوميّ العالم وتسمح بمداراة الخوف من الثّغرة المخيفة التي يمثّلها العضو الأنثويّ "بطريقة ملتبسة، إمّا لأنّه يصبح مصدر التّهديد للعضو المتّهم، أو لأنّه على العكس يمثّل نموذجا لاختفاء العضو." كان الرّجال إذن مستسلمين إلى هوامات وتخاييل نظريّة تجعل المرأة كائنا مماثلا لهم وتسند إليها عضوا ذكوريّا من نوع خاصّ. ومن البديهيّ أنّ منح المرأة هذا العضو لا يمكن أن ينجرّ عنه أيّ مبدإ من مبادئ المساواة بين الجنسين، لا لأنّ النّشاط الذي ينتجه ذو طبيعة خياليّة، بل لأنّ العضو الذّكوريّ الذي يفترضونه لدى المرأة، يبقى غائرا كـ"عيني الخلد" حسب عبارة جالينوس ، خافيا محجوبا في حضارات تمجّد الظّهور والانتصاب والقوّة القضيبيّة. ويمكن أن نعتبر هذه المعاني مكثّفة في دالّ "البيان" باعتباره ظهورا ووجودا وقوّة قضيبيّة ترمز إليها القدرة على الخطابة، وهي قدرة منسوبة أساسا إلى القرآن وإلى الرّسول والرّجال الفصحاء. ولكنّ قلق الإخصاء وما ينجرّ عنه من هوامات مطمئنة لا يكفيان لتفسير هذه البدعة النّظريّة الغريبة، لوجود سؤال أساسيّ يمكن أن يطرح هو : لماذا لم يكن البظر أساسا لنموذج الجنس الواحد، رغم انّ شبهه بالعضو الذّكوريّ أوضح، ورغم أنّ هذا العضو الصّغير هو الحاضر في جنسانيّة الطّفل الأنثى ، وفي أحلام الكبار والنّظريّات والممارسات الجنسيّة الطّفوليّة التي تمّ وصفها وتوثيقها في أدبيّات التّحليل النّفسيّ؟ لماذا لم يؤسّس منظّرو الجنس الواحد نموذجهم على اعتبار البظر عضوا ذكوريّا والشّفرتين خصيتين؟ إذا كان الحافز على إنتاج نظريّة المرأة ذات الفرج المقلوب إنكار خصاء المرأة وحجب ثقبها الغوريّ الباعث على الخوف، فما كان موقع بظر المرأة من هذه النّظريّة ومن هذه الحوافز اللاّشعوريّة؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: ليس دفاعاً عن الدكتورة رجاء بن سلامة .. ولكن دعوة لإعادة سيوف التكفير الي أغمادها (Re: doma)
|
يا دومه أقريى المقال ده
عبودياتنا المختارة
من الأطياف المرفرفة التي ستظلّ تحوم بنا طيف لابواسّي، ذلك الفتى الفرنسيّ الذي كتب سنة 1548، وهو لم يبلغ سنّ العشرين، مقالة في "العبوديّة المختارة". فضْلُ لابواسّي هو أنّه نبّه النّاس في زمانه، وينبّهنا اليوم إلى ما نميل إلى الغفلة عنه، وهو أنّ للضّحيّة الباكية أو المتباكية قسطا من المسؤوليّة في نظم الاستبداد وفي الكثير من سيناريوهات العنف المتكرّر. نبّهنا إلى ذلك بلغة بسيطة فريدة، فيها الكثير من حميّة الشّباب وتوهّج الفكر، وفيها شيء من الغضب، عندما يكون الغضب طاقة مولّدة للتّفكير، لا مجرّد "هوى" من الأهواء التي تحول دون التّفكير أدهش كتيّب لابواسي النّاس وشدّهم على مرّ العصور، لأنّه يتجاوز السيّاق التّاريخيّ الذي أراد بعضهم اختزاله فيه، وهو سياق احتجاج البرجوازيّة النّاشئة على إكراهات النّظام الإقطاعيّ الأوروبّيّ، ففي كلّ نصّ نابع من شوق تترجمه الكتابة، يوجد بالضّرورة بعد يتجاوز مقتضيات التّاريخ والسّياق، كثيرا ما تضيّعه المقاربات المستلهمة من الماركسيّة. وربّما تمثّل فكرة العبوديّة المختارة اليوم أداة مهمّة لتحليل دوائر الاستبداد وأشكاله المختلفة، أو ربّما تمثّل منفذا لإدخال نفحة من الهواء الجديد على طرحنا لإشكاليّات السّلطة والهيمنة لا في المستوى السّياسيّ فحسب، بل في مستويات أخرى.
ولقد أصاب لابواسّي المقتل عندما قلب النّظرة السّائدة للهيمنة، مبيّنا أنّ العبد هو الذي يبني في خياله السّيّد ويسلم إليه مقاليد نفسه في واقعه، وليس السّيّد الذي يتغلّب على مصارعه فيحوّله إلى عبد كما في الجدليّة الهيجليّة الشّهيرة. يقول لابواسي حسب التّرجمة العربيّة البديعة التي خصّه بها مصطفى صفوان (صدرت سنة 2005) : "من أين له (الطّاغية) العيون التي يتبصّص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدّها منكم؟ ومن أين له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه".
ولكن لا حدّ لإمكانيّات التّأويل والتّصريف التي يفتحها حدس لابواسي هذا في تفسير إماتة الشّوق إلى الحرّيّة والاستكانة إلى الآخر. فما العبوديّة المختارة سوى السّادومازوشيّة الممارسة على نطاق اجتماعيّ وسياسيّ في عصرنا هذا الذي يعدّ عصر إنسان الجموع سليب الإرادة، وفي السّياق العربيّ الرّاهن الذي لا يعيش فيه العربيّ عبوديّة البضاعة والصّورة والاستهلاك المعولم فحسب، بل يعيش عبوديّات أخرى: عبوديّة تخضعه إلى أنظمة تحتكر السّلطة والثّروة ولا يبتعد زعماؤها كثيرا عن صور الطّغاة كما رسمها لابواسّي منذ حوالي أربعة قرون ونصف، وعبوديّة تخضعه إلى رجال الدّين في دين ليس فيه كنيسة ولا بابا، ولكن كلّ جماعة فيه وكلّ فرد يمكن أن ينتصب كنيسة وبابا.
يمكن أن يفيدنا لابواسّي في تعرية لعبة عبادة "الواحد" الذي "يكفي النّطق باسمه لإيقاع الفتنة والسّحر" كما يقول، الواحد الذي نجعله فوق القانون وفوق كلّ شيء، والذي لا نكتفي بعبادته، بل نعيد إنجابه، أو نؤبّد النّظام الذي يعيد إنجابه. فالسّؤال الذي يمكن أن نطرحه على أنفسنا ليس فحسب : لماذا نواصل إحلال من نولّيهم أمورنا محلّ الآلهة التي تحاسبنا وتعاقبنا دون أن نحاسبها ونعاقبها، بل: لماذا ينهل الكثير من معارضي عبادة الأشخاص من المعين الاستبداديّ والجموعيّ نفسه، فيخلقون في دوائرهم الخاصّة زعماء آخرين يستولون على سدّة الحكم في الدّائرة الضّيّقة، بحيث تفقد مطالبتهم بالدّيمقراطيّة كلّ مصداقيّة، وتفقد تنظيماتهم كلّ طابع مؤّسّسيّ مدنيّ؟ لماذا تتحوّل كلّ تجارب الحرّيّة الجميلة إلى بوتيكاتات لقضاء المصالح وبناء التّحالفات وإنتاج "الواحد" المتألّق في صيغة مفردة أو متعدّدة، المتألّق بمجرّد النّطق باسمه أو عرض صورته؟
وهناك أسئلة أخرى من وحي لابواسّي يمكن أن نطرحها: لماذا تتواصل سلطة رجال الدّين على النّفوس والعقول رغم ما اتّضح من خواء فتاواهم وصغر نفوسهم وعقولهم في الأغلب الأعمّ؟ ألم تعل أصوات المكفّرين بصمتنا وخوفنا؟ ألم نشلّ أيدينا لنساعدهم على توجيه أصابع الاتّهام نحونا كما في صورة لابواسي؟ إذا كان غير المؤمن لا ينهض بعبء "كفره"، بالمعنى الضّيّق الأوّليّ للكلمة، أي عدم إيمانه، فيتكلّم لغة المؤمنين، ويتظاهر بالعبادة مثلهم، ويحشر نفسه في زمرتهم، ويبسمل ويحوقل مثلهم، ولا يريد أن يحلّ في موقع غير المؤمن الذي هو موقعه، ألا يترك المجال لمن يتّهمه بما هو عليه في حقيقته، أي لمن يكفّره؟ أليس جهر غير المؤمنين بمعتقداتهم هو إحدى الوسائل المدنيّة الرّاقية لمواجهة التّعصّب والأصوليّة التي لم تنتشر إلاّ لأنّها وجدت السّاحات قفراء صامتة؟
ويسمح لنا لابواسّي بتعرية لعبة احتمال ما لا يحتمل وبطرح أسئلة من هذا القبيل: لماذا تحتمل النّساء ما لا يحتملنه، وتدافع الكثيرات عن خصوصيّات تأسرهنّ وتفقدهنّ ذواتهنّ وفرادتهنّ ووجوههنّ؟ لماذا ينتشر حجاب النّساء وهو الوسم الدّالّ على عبوديّتهنّ العتيقة، ويتحوّل إلى علامة على التّحرّر والإرادة الشّخصيّة؟ لماذا تواصل النّساء الالتحاف بالسّواد في حرّ القيظ ولماذا يواصلن جرّ عباءاتهنّ وخمرهنّ كما جرّ المسيح صليبه؟
تبقى صيحة لابواسي الشّابّ جديدة متجدّدة رغم القرون الطّويلة التي تفصلنا عنه، وأهمّ دليل على ذلك عودة بعض المحلّلين النّفسانيّين إلى هذا الكتاب لينظروا إلى العبوديّة المختارة على أنّها تنظيم مرضيّ يوجد في الكثير من الأبنية الذّاتيّة، ويتجسّد في الكثير من المصائر الفرديّة والجماعيّة. فهذا الكتاب حسب آخر دراسة من هذا القبيل (عياديّة العبوديّة، جاك فليسيان، باريس، 2007) "يربط بين السّياسيّ واللاّشعور فاتحا الباب لإيطيقا الشّوق"، لأنّ الحرص على خدمة الآخر في نطاق العبوديّات المختارة ليس شوقا للذّات "بل استعمالا لما بقي لها من متعة لكي تضمن متعة الآخر". فلا يوجد أمر لا يحتمل، إلاّ وتوجد لعبة أحد أطرافها يحتمل ما لا يحتمل، ويكلّف نفسه ما لا طاقة به خدمة لآخر خياليّ أكثر منه رمزيّا، وهو في ذلك إمّا يتظاهر بالشّكوى ويستمتع بها، أو يعلن أنّ قدره المحتوم أو منيته وضالّته واجب احتمال ما لا يطاق، والنّتيجة في كلتا الحالتين هو أنّه يغترب عن ذاته، ويغطّي ما لا طاقة له به بكوكبة خطابات الواجب والهويّة والوفاء الخادع، ويواصل بناء صروح العادة، وهي أوّل سبب من أسباب العبوديّة المختارة حسب لابواسّي.
الإنسان يولد حرّا نعم، ولكن علينا أن نضيف إنّه يولد وبين جوانحه شوق دفين إلى الحرّيّة، والعبوديّات المختارة هي كلّ ما تراكم من حجب تحول دون الوعي بهذا الشّوق ودون مسايرة حركته.
د رجاء بن سلامة
| |
|
|
|
|
|
|
|