دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
صوت إرتدى آلام الناس وآمالهم ... خالد عويس يحكي عن مصطفى سيد احمد / إيلاف
|
"صوته يشبه موجة عريضة تطوف بكل حواف الكون ثم تتكسر إلي ما لا نهاية"، هكذا يصف الموسيقار
الأسترالي روس بولتر، الفنان السوداني مصطفى سيد أحمد (1953 - 1996).
بولتر الذي لا يتحدث العربية، جاز له هذا القول من مجرد الاستماع إلى صوت "يغني من القلب إلي
القلب، ومن الروح إلي الروح، مشبع بأحاسيس المعاني التي يتغني بها، من غير أن أفهم اللغة
العربية، أحس بتصاوير المعاني العميقة التي فيها"، وهي عبارة مواطنته الشاعرة شيلا. ج. في معرض
حديثهما للشاعر السوداني المقيم في أستراليا عفيف إسماعيل.
لكن مصطفى، لدى عاشقي فنه، ملايين السودانيين الذين لفتت انتباههم تجربة غنائية "جديدة" مطرزة من
قصائد رمزية، غاية في الصعوبة أحيانا، وألحان تستمد جذوتها وحرارتها من عذابات روح فنانة، وصوت
قادر على استمزاج أقصى درجات الانفعال بالحزن والأسى، بالأمل، مثّل أنموذجا مغايرا، حمل إليهم من
خلال أغنياته معان مختلفة، طارحة للأسئلة، وراجّة الروح، ومحفزة ليس على التطريب وحده، وإنما
اتخاذ "موقف" من الحياة، والأحداث، والقضايا الكبرى.
واللافت أن تجربة مصطفى سيدأحمد القصيرة نسبيا، بدأت بـ"جلسات استماع" نخبوية من أجل مناقشة
أعماله الغنائية، وتقييمها، وفي غضون سنوات كان صوت مصطفى يرحل مع الرعاة في صحاري السودان،
والفلاحين في حقولهم، والطلاب في مناغاتهم حبيباتهم، والنخب المثقفة بحسبانه تجربة "تقدمية" وغاية
في الانسانية.
انحاز مصطفى منذ بداياته للفقراء وغنى لهم، وللحرية، ولـ"الأطفال الناشفة ضلوعها.. ونازفة" طبقا
لاحدى أغنياته ..(طيبة). وحاول جاهدا أن يفيد من التجارب الشعرية الحداثية، ليحيلها إلى مفردات
وأبيات مشاعة بين الناس في شكل أغنيات ذات ألحان لا تخلو من طابع الحزن الذي صبغ شخصيته.
وكان مصطفى، الذي مات منفيا في العاصمة القطرية، الدوحة في 17 يناير 1996، ومريضا، مدركا للأهمية
البالغة التي يمكن أن تشكلها تجربته في "الوعي السوداني"، وبقدرته مع بقية المثقفين السودانيين
على مراكمة الوعي، شرط أن يكون الفن "نظيفا" وجادا، إنما من دون جمود، وانطفاء.
ويقول مصطفى في هذا الخصوص، للصحافي السوداني خضر عطا المنان في 1995، إن "خصوصية الفنان تأتي
من انتخاب الطبيعة له بتأهيله بنوع من الذكاء الخلّاق، وكل ذلك يتبدى في نشاطه كانسان، أي أنه
يسعى لتحقيق انسانيته من خلال تفاعله بما يجرى حوله مزودا بهذا التأهيل الفطري، أي خصوصية حالته
تأتي في اطار سعيه لتحقيق انسانيته وذاته، وفي ذلك علاقة عضوية تنفي أن تكون حالته منفصلة عن
رسالته".
وباعتباره الفن "رسالة"، لم ينف مصطفى سيدأحمد خلال تجربته كلها، المعطيات الابداعية التي ينبغي
توافرها في أي ابداع راق. لكن مغايرته، تمثلت في أنه أضاف لهذا العنصر، رغبة عارمة في أن يكون
فنه، رسالة انسانية، وابداعية، وثقافية عميقة، قادرة على صنع تغيير ما، بالفن !
ويضيف - مصطفى سيدأحمد - عن تجربته "هي تجربة تتوالد أبعادها من أبعاد، حيث القضايا مازالت
ساخنة وكثيرة، والتفاعل مع الحياة قائم ولم يفتر بعد، كما أن البيئة حبلى وثرية".
وبصفة أكثر تحديدا عن فنه، يمضي للقول " يكفي أن تنصهر كفنان في معامل معاناة هذا الشعب الذي
أنت من صلبه وتنعجن في أفراحه وأتراحه لتصبح لسان حاله في سرائه وضرائه .. وهذا هو الفنان
الحقيقي من وجهة نظري".
ويبدو الوطن / الحبيبة، الذي يتغنى به مصطفى سيدأحمد فاتنا وحانيا وغامضا، يعسر على المرء
الاحاطة بجوانب عظمته. وقدر لهذا الفنان الاستثنائي بالمقاييس كلها أن يمتلك قريحة مكنته من أن
ينضج مواهبه المتشاكلة استنادا إلى عامل جوهري يتمثل في رؤيته لـ"المعاناة الجماعية" التي جهد
في صوغها "أغنيات نبيلة" تخاطب الهم العام وتجهد أيضا في تجميل الحياة ومنحها ألوانا أخرى
اضافية.
واللافت في مسيرة هذا الفنان السوداني الذي أضحى اليوم رمزا ثقافيا وفكريا لدى السواد الأعظم من
الشبان السودانيين، أنها شهدت تحولا خاطفا في مبتدأها من أغنيات عاطفية "عادية" كان يؤديها إنما
بجزالة الصوت ذاتها، إلى محاولته الناجحة في خلق دور جديد للأغنية السودانية كحاضنة ومحفزة في آن
للوعي المجتمعي والسياسي.
وحين النظر إلي تجربته حاليا على الرغم من وفاته وهو في شرخ الشباب، يتوضح أنها استطاعت أن
تتجذر في الوعي الجمعي كعلامة مفاهيمية فارقة مكنت مصطفى سيدأحمد من احتلال مكانة يندر أن يحتلها
مثقف سوداني استمزج الغناء في أرقى حالاته وأكثرها مخاطبة للوعي بنزعة انسانية عميقة بدت واضحة
في تحديده القاطع والواضح انحيازه للأطفال ذوي الضلوع اليابسة والفلاحين والعمال البسطاء،
ولـ"الأمل".
ومن يستمع بعمق إلى أغنيات مصطفى سيدأحمد التي فاقت أربعمائة في فترة زمنية قياسية قبل أن يخطفه
الموت، يتسرب إليه الاحساس بأن هذا الفنان أمتلك مشروعا متكاملا يمثل فلسفته في الحياة ويجسد
منظورا انسانيا رفيعا في تلمس آلام شعب كامل.
ولم يكن غريبا أن يتغنى سيدأحمد بكلمات الشعراء، الفلسطيني محمود درويش، والعراقي مظفر النواب،
والمصري حسن بيومي، متلمسا بذلك قضايا انسانية بعيدة عن بيئته. وبالحس الانساني الرقيق ذاته تغنى
للمناضل الإفريقي الكبير نلسون مانديلا حين أخلي سبيله.
وحين تهادت الطائرة التي تحمل جثمانه عصر يوم شتائي حزين قبل عشرة أعوام على مدرج مطار الخرطوم
قادمة من العاصمة القطرية الدوحة، كان الآلاف من عشاق أغنيات مصطفى سيدأحمد من الشبان والشابات
يلوحون بصوره ويكفكفون دموعا لم تمسحها الأيام إلى غاية الآن من نفوسهم حيث بقي هذا الفنان نقشا
موجعا في قلوب ملايين السودانيين.
وهذا الشلال الهادر من الحب الذي يطوّق تجربته، لم يتأت إلا من انحياز مصطفى التام، بصوته الجريح،
المشبوب بالعاطفة والأسى، وألحانه المترعة بالحزن، وأغنياته الباعثة على الألم والأمل معا، للناس.
فهو الذي غنى لهم من كلمات الشاعر المصري حسن بيومي:
(فإن شئتم تعالوا الآن ..نرقص رقصة البدء ..ونعلم أن نمد الكف ..نحو الشمس للدفء..
تعالوا أيها الجوعى ..تعالوا أيها الفقراء).
وهو الذي أوغل في مخاطبة انسانيتهم بتناوله - غنائيا - حكاية "عم عبدالرحيم" العامل البسيط الذي
تنتهي حياته المتقشفة مهروسا تحت القطار بسبب ضغوط الحياة. وهو الذي جاهر برفضه "قوانين
الطواريء" من خلال أغنية "عمنا الحاج ودعجبنا" الذي أراد إكرام ضيوفه الذين أتوا ليلا، فذهب ليجلب
لهم خبزا للعشاء، فتم جلده لمخالفته قانون الطواريء، فمات مقهورا !!
وهو الذي جعل في أغنياته، الحبيبة ليست مجرد أنثى جميلة فحسب، وإنما إمرأة حرة، مملوءة بالقيم
والنبل، وبعيدة عن الزيف، وعاشقة للوطن. لذا فهو يغني لها بالدارجة السودانية للشاعر السوداني
أزهري محمد علي:
(حركت بيك عصب السكون.. جلبت ليك الغيم رحط
طرزت ليك النيل زفاف.. حرقت ليك الشوق بخور ..و فرشت ليك الريد لحاف).
وغناؤه لأجل الوطن، الحبيبة، البسطاء، يكتسي معان جديدة من خلال حفر الشعراء الذين تغنى بقصائدهم
أعمالا صعبة مثل "واقف براك" للشاعر السوداني مدني يوسف النخلي:
(مطر الحُزن عاود هطل .. جدد عذاب الأرصفة
ضي المصابيح البعيد .. أتعب عيونك وإنطفأ).
أو "الشوق والهواجس" للشاعر السوداني أبوذر الغفاري:
(يا صباحات المواني ..حتى لو دربك ترنح ...
في مشاوير الأغاني ..والجرح إرتدّ بينا ..لي زمان الآهة تاني).
ويبلغ مصطفى سيدأحمد مع عاشقي فنه درجة عالية من الترميز في "مريم الأخرى" للشاعر السوداني محمد
إبراهيم شمو: (وأنا لست أدري ..ما الذي يدفعني دفعاً إليك ؟..ما الذي يجعلني أبدو حزيناً ..حين
أرتاد التسكع في مرايا وجنتيك ..؟ لا عليك ..فعلى هذه السفوح المطمئنة ..نحن قاتلنا سنيناً
وإقتتلنا ..نحن سجلنا التآلف في إنفعالات الأجنة ..وإحتوانا البحر والمد اليقاوم والشراع ..يا هذه
البنت التي تمتد في دنياي ..سهلاً وربوعاً وبقاع ..ما الذي قد صب في عينيك شيئاً ..من تراجيديا
الصراع).
المصدر:
http://www.elaph.com/ElaphWeb/Music/2007/1/205077.htm
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: صوت إرتدى آلام الناس وآمالهم ... خالد عويس يحكي عن مصطفى سيد احمد / إيلاف (Re: حيدر حسن ميرغني)
|
Quote: وحين النظر إلي تجربته حاليا على الرغم من وفاته وهو في شرخ الشباب، يتوضح أنها استطاعت
أن تتجذر في الوعي الجمعي كعلامة مفاهيمية فارقة مكنت مصطفى سيدأحمد من احتلال مكانة يندر أن
يحتلها مثقف سوداني استمزج الغناء في أرقى حالاته وأكثرها مخاطبة للوعي بنزعة انسانية عميقة بدت
واضحة في تحديده القاطع والواضح انحيازه للأطفال ذوي الضلوع اليابسة والفلاحين والعمال البسطاء،
ولـ"الأمل |
نعم ..
هكذا كان
جعل الله حبنا له في رضوانه عليه
| |
|
|
|
|
|
|
|