|
حوار منقول مع الاديب والشاعر والمسرحى ممدوح عدوان
|
الأديب والشاعر والمسرحي ممدوح عدوان
الفن الميت هو فن موتى، يكتبه موتى ويتلّقاه موتى.
حاوره سعيد البرغوثي
دار كنعان للدراسات وللنشر [email protected]
* تعمّد الغموض في الشعر.. كتعمّد الوطنية.. وتعمّد البذاءة
* في أعمالي أبحث عن الصلة غير المرئية في النفس البشرية.
يقول مظفر النواب: »قليل من الناس من يترك في كل شيءٍ مذاقاً«.. وممدوح عدوان واحد من هذا القليل فهو الشاعر والكاتب المسرحي، والكاتب الدرامي والصحفي.. والمترجم.. والمثقف الصاخب، الحاضر دائماً بحيوية يُحسد عليها وفي كل هذا وذاك هو ممدوح – الإنسان الذي يترك نكهته بكل ما تلمسه أصابعه، وبغض النظر عمّن يقف إلى جانبه أو ينتقده، فالكل يسلّم له هذا الحضور الإبداعي والثقافي المشّع الذي امتلأ عبر السنين ألواناً وتنوّعاً، وخبرةً، وعمقاً، حتى بات واحداً من أعلام المشهد الثقافي السوري.
في هذا الحوار يلقي عدوان الأضواء على خلفية هذا التنوّع – الهاجس الذي لم يُشبع نهمه بعد إنجاز ستين كتاباً، لكأنه يريد أيضاً أن يطير ويرقص ويغني ويمثّل بجسده وروحه كي يعبّر عن هذا التوق الجارف للتعبير بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة.
* لنبدأ من الماضي، ونتكلم قليلاً عن المكان.. عن الطفولة.. عن البدايات؟! وعن منابع »الوحشة« في أعمالك الأخيرة؟
** حين تكون فتياً، تتوهم أنك تصنع نفسك، وأنك تبني هذا الكيان، الذي هو أنت، عبر جهدك الخاص، بالقراءة والكتابة والمتابعة والتجربة. بعد أن تهدأ الفورة. ويخلد الإنسان قليلاً إلى نفسه، يكتشف داخلها مكوّنات قد تجاهلها، وكلها من مؤثرات الماضي. من الأب والقرية، والطفولة، وأيضاً من الفلكلور والتراث.. مجموعة أشياء مترسبة في النفس هي التي تعطيك خصوصيتك، دون أن تدري.
كل واحد من أبناء جيلنا يتذكر تلك القرية، وذلك الزقاق، أو ذلك الجبل وتلك الشجرة، ويسبح في ذلك الماء الوسخ، الآسن، الذي كان يعتبره بحراً. لقد كنا نعيش مع الطبيعة كجزء منها، الفاجعة الآن هي اكتشافنا أننا في اللامكان لأن المكان أُلغي ولم يعد له حضور إلاّ في الذاكرة، هذا الكلام ينطبق على طفولتي في قريتي، وقد ينطبق على فلسطيني يحلم بفلسطين، هذا الفلسطيني حتى لو عاد إلى فلسطين، فسوف يرى فلسطين أخرى غير التي حلم بها، وبالتالي هو يحلم بشيءٍ لم يعد موجوداً، لأنه بمعنى ما، يريد أن يعود لكي يعيش الحلم، وكأنه يريد العودة إلى رحم أمه، وهذا مستحيل.
أعتقد أن أحد أسرار، أسْر الرحابنة لنا، هو تمسكّهم بهذا الماضي، وكأنه موجود فعلاً، فهم غنّوا للقرية عبر وهم أننا في القرية، ولكن في الواقع، لا القرية موجودة، ولا طفولتنا موجودة.
أما »الوحشة« التي أتيت على ذكرها، ربما ناجمة عن إحساسٍ بالخواء، فأنا الآن، في عمرٍ بدأت أحسُّ معه أن المستقبل مغلق، والماضي الذي اكتشفت أنه كونّني، باقٍ فيّ كندوب، وكلُّ ما أحنُّ إليه لم يعد موجوداً، وحتى ما هو موجود، مثل الأب الذي أخاطبه في ديواني الأخير: »وعليك تتكئ الحياة«، أتمنى أن يموت، وهو محتفظٌ بكرامته، لأنني لا أريد له أن يُذّل، كما هو حاصل معنا، فنحن نخشى أن يمضي الحال بنا نحو الأسوأ.
* تذكّرني بمطلع قصيدة لسلمى الخضراء الجيوسي، تقول فيها عند زيارتها لمدينتها صفد: »غريبة أنا يا صفد وأنت غريبة..«
** لا شك أن سلمى تعبّر عن شعور شخصي، إنما تجاه قضية عامة. ذات يوم، عندما جاء محمود درويش إلى دمشق وأجرى معه التلفزيون السوري مقابلة – كنت أتمنى يومها أن أجري هذه المقابلة – لكن حال دون ذلك بيروقراطية تافهة، ولو أجريت المقابلة، كان بودي أن أبدأ الحوار معه بالسؤال التالي: »أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي«، عندما رجعت يا محمود إلى هناك، هل وجدت أمك؟! (حتى لو لم تمت) هل وجدتها؟! وكذلك هل شممت هناك، رائحة قهوتها، أم كنت تحمل ذلك في الذاكرة فقط؟ كل الأصدقاء الفلسطينيين الذين رجعوا بعد أوسلو (وطبعاً لهم عذرهم في هذا التوق للعودة للوطن) لم يجدوا الحلم الذي كان يسكنهم.
* أعتقد أن محمود درويش طرح مثل هذا التساؤل بمعنى ما، لقد تساءل: عندما أعود إلى فلسطين، هل سأجد فلسطين؟ فهل تقصد هذا المعنى؟
** هو كذلك. إنه موضوع جوهري، ودقيق في النفس الإنسانية، وهو أمر ينطبق على كل البشر سواء كانت قضيتهم سياسية، أم نوستالجيا طفولية، أو حتى عاطفية، كأن تكون عاشقاً لفتاة وتغيب عنها عشر سنوات، تعود وأنت في غاية التوق لرؤيتها، ولكن عندما تراها لن تلقى تلك الفتاة التي غادرتها قبل عشر سنوات، بل ستجد فتاة أخرى، ولذلك فإما أن تتآمر على نفسك، وتقول: هذه هي الفتاة التي أحب، أو ستبدأ بعمل شاق جداً في البحث عن تلك الفتاة داخل هذه المرأة.
* التنوّع والغزارة في الكتابة في أكثر من حقل إبداعي (الشعر، المسرح، الدراما.. الصحافة..)، هي من الأمور اللافتة في تجربتك الإبداعية فكيف تجد الوقت والطاقة لمقاربة كل هذه الأشياء؟.
** أعتقد أن هكذا سؤال، يمكن أن يجيب عليه ناقد، ولكن بإمكاني الإجابة عليه بالبساطة التالية: أنا أفعل ما أعتقد أنني أستطيع فعله، وأشعر أن لديّ طاقةً، وتراكماً ثقافياً، وعندي رؤية نقدية (دون أن أكتب النقد) تمكّنني من الكتابة في كل هذه الأشكال الإبداعية.
باختصار، رغم كل ما يقال عني، أو أُسأل عنه حول تعدّد الأنشطة التي أقوم بها، فأنا أحسُّ بالفقر في إنتاجي! وأتمنى أن تكون الأنشطة متاحة أكثر لكي أعبر عن نفسي أكثر. لأنني أخشى أن أتعوّد التعبير عن نفسي بطريقة واحدة، وبمنهج واحد، إذ ثمّة ظلال تبقى في النفس لا يمكنك التعبير عنها لأنها لا تصلح لهذا الجنس الفني أو ذاك، لكنها موجودة في داخلك.
فأنا عندما أريد أن أكتب، أشعر أن هذا الشيء الذي يعتمل في داخلي لا يصلح إلا كقصيدة، فأكتب الشعر، وحينئذٍ ألغي مِنْ داخلي: المترجم والمسرحي، والصحافي، وأتعامل مع الحالة بوصفي شاعراً، ثم يخطر لي خاطر ما، فأقول: هذا لا يصلح إلاّ مسرحية فأكتبه نصاً مسرحياً، وعند ذلك يصبح عقلي مسرحياً فقط. أظن أن هذا الأمر ممكن وبسيط لإنسان يعتبر الثقافة همّاً وحرفة، ولا يكتب بدافع الهواية فقط. هاجسي أن أتقن ما أفعله، لكن، لا شك أن التعامل مع هذه الفنون كلها قد أغنى تجربتي في كل جنسٍ من أجناسها، فالقصيدة عندما تكون درامية، تكون أكثر قوّة، وأن يكون في المسرحية شعاع شعري، تصبح أكثر قوة وجمالاً، ولا تكون مسطحة بالمعنى الواقعي المباشر، وحتى الزاوية الصحفية، حين تُكتب بحرارة، وروح شعرية تتألق وتختلف عن كل الزوايا الصحفية الأخرى. وهنا أوّد أن أفتعل هجوماً معاكساً وأقول: أنا سعيد بأن لدي وسائل تعبير أتقنها، وأتمنى لو أن لدي وسائل تعبير أخرى أتقنها أيضاً. أتمنى أن أكون راقصاً وموسيقياً.. أو ممثلاً، لكي أعبّر عن نفسي أكثر.
أيضاً لديّ إحساس دائم بضيق الوقت، الذي لا يمكن تعويضه، وفي هذا السياق أشعر أنني منفعل كثيراً بكازانتزاكي، وأحس أنه يشبهني كثيراً، أو أنا أشبهه!
عندما ترجمت السيرة الذاتية لكازانتزاكي »تقرير إلى غريكو«، لمست هذا التقاطع فهو يقول: »إن إحساسه بالضغط، بمواجهة الأشياء الكثيرة التي يريد أن يكتب عنها كبير جداً، حيث لا يوجد لديه زمن كافٍ لذلك، خاصة وأنه
بالوقت نفسه يريد أن يعيش. يقول: بودي أن أنزل للشارع وأشحذ من الناس الذين يهدرون الوقت بلا معنى ربع ساعة من عمر كل منهم، وطبعاً هذا أيضاً غير ممكن.«
لديّ إحساس مماثل بأن الوقت ضيق جداً، لأن حجم الأشياء التي نتعامل معها أكبر وأوسع بكثير من الوحدة الزمنية المتاحة لنا، مع ذلك ورغم كل ما أنجزته أحس فعلاً أن هناك أشياء في داخلي لم أعبّر عنها بعد.
* انطلاقاً من كون الخطاب المسرحي هو خطاب ثقافي بامتياز، كما الخطاب السينمائي بماذا تفسّر طغيان التلفزيون، وكيف ترى إلى بعث حياة مسرحية وسينمائية تكاد تكون مفتقدة في بلدنا؟.
** هي مفتقدة فعلاً، كم فيلم ينتج سنوياً في سورية؟! الصالات السينمائية بائسة، ولم تتجدّد منذ نصف قرن.. وهذا بسبب عدم الاهتمام بالجمهور الذي يرتاد الصالات، وأيضاً لأن استيراد الأفلام محصور بقنوات ضيّقة، وعقليات رقابية تافهة، في حين يتعذّر علينا رؤية الأفلام التي تغزو العالم، والتي تحصل على جوائز. في النهاية، الجمهور معزول عن رؤية السينما الحقيقية، والمتميزة، إضافة إلى كسل الجمهور المكتفي بمتابعة ما يعرضه التلفزيون.
الآن هناك ما أسميه: حصار التفاهة.. عندما تعوِّد مجموعة من الناس على الاستمتاع بالتفاهة، عبر القصة البوليسية أو القصة الجنسية إلخ.. فهذا الأمر يروّض العقول ويعودّها على الاستمتاع والاسترخاء، أمام هذا النوع من الأداء. وبالتالي عندما يأتي أداء أكثر عمقاً يصبح متعباً وعبئاً عليهم، فلا يقبلون عليه.إذن المشكلة ليست بالمسرح أو الشعر، ولا بالشاعر، وإنما بهذا المناخ الذي أفسد الناس.
* أنت تكتب دراما تلفزيونية بأكثر من موضوع. هناك فرق شاسع مثلاً بين »دائرة النار« كدراما اجتماعية معاصرة، وعملك الأخير »الزير سالم« كدراما تاريخية.. أو عملك الذي يصور حالياً »المتنبي«.. ما الذي تقدمه هذه الأخيرة للمتلقي.. وهل من تقاطع مع الراهن؟
** شرعت في كتابة الدراما التلفزيونية، وأنا أحس أن هذه الشاشة التي تقتحم البيوت يجب ألا نتركها لعديمي الموهبة ومروجي التفاهة إلخ.. ومن خلال ملاحظتي لما يُطرح هناك أشياء تعجبني.. وأشياء لا تعجبني، وحين أُصدم بما لا يعجبني أقول لنفسي: لو كنت الكاتب لكتبت كذا.. ولأنني قادم إلى الكتابة الدرامية من المسرح والشعر، كان يهمني بطريقة غير مباشرة، وحتى تعليمية أن أقول للكتّاب: »هكذا يجب أن تخدم الشخصية الدرامية«، لكنني بالتأكيد لم أكتب بهدف إعطاء الدروس. أنا كتبت الدراما لأروي قصصاً، وأقدم متعة، كما يفعل الفن، ففي التلفزيون، كما هو الحال في المسرح، وربما كما الحال مع الشعر، كنت أبحث عن الصلة غير المرئية في النفس البشرية. إنسان اليوم الموجود حولنا نراه في الدراما السائدة ضمن نمط واحد؛ فمعظم الأعمال الدرامية تقدّم لنا نمط الشرير أو الخائن.. والخائنة.. إلى الشريفة.. أو المرابي إلخ.. هذه كلها أنماط، وهذا أسوأ ما في الدراما، أنا أردت منذ البداية أن أبيّن كل شخصية كما هي، فكل شخصية قادرة على الدفاع عن سلوكها، حتى اللص، يمكنه أن يبرر، لماذا هو لص، فإذا سُئل أمام المحكمة لماذا سرقت، فسيقول لأني محتاج وجائع، وهكذا فدائماً هناك حجة ما.. لماذا اغتصبت امرأة؟ يقول أنا مكبوت، أو ربما يقول هي كانت متعرية وأغرتني.. فأنا أريد للشخصية أن تقدم حجتها، وهي مقتنعة بها. لقد عودتنا الدراما المصرية والهندية على تقديم الشرير شريراً مطلقاً، والخير خيّراً مطلقاً. برأيي في أعماق كل واحد منا –بما في ذلك أنا- يوجد لص وفدائي، وشريف، وشاعر، ومرابي، لولا ذلك لما استطعت أن أفهم هؤلاء الناس. طبعاً تساعدني الثقافة على فهمهم وفهم نفسي، ومعالجة هذه المسألة تتم في الدراما التلفزيونية، كما في الشعر والمسرح بناءً على هذا الفهم وسواء كان الحدث واقعياً أو تاريخياً، لذلك فأنا لا أرى على الإطلاق أي فرق في معالجتي بين »الزير سالم« و»دائرة النار« وبين »ليل العبيد« و»الخدامة«، ففي كل هذه الأعمال، هناك بشر يجب أن نفهمهم. هؤلاء البشر ليسو مصنّعين، بل هم بشر مثلنا، فالزير سالم يمكن أن يتكلم مثلنا، والمدير العام في مسلسل ما، يشبه مثيله في الحياة. كلهم يتكلمون مثلنا، ولكن كل واحد ضمن الظروف والشروط المحيطة به مضافاً إلى ذلك إيقاع العصر الذي يعيش فيه.
* لنعد إلى الشعر، وأنت الشاعر. يرى البعض أن الشعر الحداثي، يفتقر للغنائية ومغرق في الغموض، وهذا يحيل إلى قطيعة مع المتلقي. كيف تنظر إلى ذلك عبر تجاربك الشخصية، وعبر رصدك لشعراء آخرين؟ وما هي برأيك أهمية وضرورة الغنائية في الشعر؟.
** بشكلٍ شخصي أرى أن الغنائية ضرورية جداً، ولكن من الممكن أن يكون لهذه الغنائية معنىً متطوراً، فأنا أرى مثلاً محمد الماغوط الذي يكتب قصيدة نثرية هو شاعر غنائي، وأرى المتنبي شاعراً غنائياً، إذن الغنائية هي كل ما يلامس
الأعماق الإنسانية. وهي ليست في الصيغ اللغوية. هناك صياغات لغوية ركيكة، وهناك شعراء مدّعون للشعر، وهذا دائماً موجود حتى في زمن المتنبي »في كل يوم تحت إبطي شويعر«، لكن المتنبي بقي هو الشاعر. فوجود شويعرون ومدعوّ شعر، يجب ألا يلغي قدرتنا على رؤية الشعر، لا شك أن الحداثة كانت مربكة في الحياة العربية، فهي حتى بصرياً أدت إلى تغيير في شكل القصيدة، وإلى تغيير في شكل التعامل مع القارئ، أيضاً تعمقت الحداثة أكثر من ذلك عندما أخذت تتعامل مع موضوعات لم يكن يتم التعامل معها أو الاستفادة منها سابقاً وأعني الموضوعات التي تتناول الأعماق النفسية وتستفيد من المكتشفات في علم النفس والانتربولوجيا. فهذه المكتشفات إضافة إلى العقل المعرفي للشاعر نفسه هي إضافات يقولها الشاعر بينما ظل القارئ بعيداً عنها تماماً.
وبرأيي، إذا كان الشاعر شاعراً حقيقياً فهو يستطيع أن يستفيد ويمتص كل هذا النسغ الخارجي ويصنع منه قصيدة يقبلها القارئ المتوسط وليس الأمي أو الجاهل، ولكن القارئ المتوسط الثقافة ليس همه الشعر أولاً، ثانياً الشاعر اللبيب يضيف على هذه التقنية الماهرة حسّه الشعري العميق.
* لم تحدثني في إجابتك عن بعض الشعراء الذين يتعمدون الغموض ويرون في ذلك الغموض تمايزاً، ألا ترى أن ذلك الغموض يمكن أن يحيل إلى قطيعة حتى مع النخبة؟
** الغموض هو صفة الجمال، وكل جمال هو غامض، ولكن تعمّد الغموض كتعمد الوطنية، وكتعمد البذاءة.. أي تعمّد في القصيدة يفسدها.. وأنا أريد أن أدقق قليلاً في هذه المسألة فأحياناً ثقافة الشاعر تطغى على القصيدة ، فربما يستفيد الشاعر بطريقة ما من الفولكلور ويوظفه في القصيدة، بينما فولكلوري آخر لا ينتبه لذلك الأمر، أيضاً هناك مسؤولية البحث في القصيدة. أرى أن الفن الجيد في هذا العصر لم يعد ما تتلقاه وأنت مسترخٍ، هذا ينسحب على الموسيقى والرسم والشعر وحتى الغناء.. فالغناء الذي تتلقاه باسترخاء هو غناء رديء! كل فن جيد يجب أن يوثّب ذهننا، ويوقظ في نفوسنا أسئلة ما، فضولاً ما، تنبهّاً ما. ذلك هو الفن، أما الفن الذي يؤدي بنا إلى الاسترخاء فذلك هو الفن الميت، وفن الموتى، يكتبه موتى ويتلقاه موتى..
* لا أريد أن أسألك ماذا قدّمت للتلفزيون فالكل يعرف ذلك، بل أريد أن أسأل ماذا قدّم لك التلفزيون؟
أتاح لي التلفزيون اقتحام عالم فني لم أكن أعرفه، وقدّم لي فرصة تعميم أفكاري الدرامية وتثبيتها، وقدّم لي أيضاً، مورداً مالياً لم تقدّمه لي كل الفنون الأخرى التي أمضيت عمري فيها، ومع ذلك لم أتنازل عنها، فأنا ما زلت شاعراً ومسرحياً و.. إلى جانب التلفزيون.
كذلك قدّم لي التلفزيون الشهرة، لأن ظهوراً واحداً على الشاشة يُغْني عن ثلاثين سنة من كتابة الشعر.
* دعنا ندخل بخصوصية أكثر، كيف تنظر للمرأة الأم، الزوجة، الحبيبة وضمن أية صيغة استطعت مع »إلهام« زوجتك الحفاظ على استمرار هذه الجذوة؟
** أنا كنت أعيش خائناً دائماً، أُحبُّ لكي أخون. كان لحبي متعته، ولخيانتي متعتها، ثم أحببت »إلهام« ولا أستطيع أن أوصّف المسألة عقلانياً، لكن وجدت عذرها أنه يستحيل أن تستقيم الأمور بيننا إلاّ إذا عشنا سوية، وهذا معناه أن نتزوج، وقصة الزواج بالمعنى العقلاني مرعبة، قلت لنفسي: قد تكون هذه حالة مؤقتة، نتزوج ونطلّق (أقول ذلك بصدق) وفي مقابلة سابقة أجراها معي الشاعر أحمد الشهاوي، سألني سؤالاً قريباً من ذلك فقلت له: هذه المرأة، أعني زوجتي »الهام« كل يوم أريد أن أطلّقها منذ خمس وعشرين سنة! (يضحك) لكن بالأعماق يتولد بعد الحب الذي هو توق، وعواطف، وشوق، وشهوات، يتولد شيء من الحاجة. تحس أن لديك حاجة لا يلبيها إلا هذا الشخص »الشخصة«.
* أليس في هذا أنانية؟.
** أكيد ثمة أنانية في النهاية، فهناك حاجات لا يمكن لأحد أن يلبيها حتى ولا كل جميلات الدنيا. كل العلاقات العابرة وكل الشغب الذي يحصل حول واحد معروف مثلي، يُمكّنه واقعه من »تجاوزات«، بحيث يشاكس هنا، ويغازل هناك.. لكن الحاجة الأساسية في النفس لا يلبيها إلا هذا الطرف بالذات. لا شك يمر الإنسان (سواء أنا أو الزوجة) بما يشبه ما أسميه في الفيزياء التفاعل الحروري. ضع كمية من الماء البارد مع أخرى من الماء الساخن تمر فترة فيصبحا بدرجة حرارة واحدة، فأنا لي مجموعة من المزاجيات وكذلك هي، أنا أدّعي أنني كزوج تفهمت مزاجياتها وتقبلتها على الأقل بحدود تسعين بالمائة. وفي هذا الشرق، ولأنني لا أريد أن أرتكب إحدى الخيانتين كأن أقنعها حتى تصبح ملائمة لي، وبالتالي، ولدى استجابتها، سأكون فعلياً أمارس العيش مع امرأة غير التي هي، أو أن تَقْمع هي نفْسَها، وتقدم لي بالتالي شخصية مختلفة. من هنا كنت حريصاً على عيش مناخ نكون فيه كلانا نحن تسعين بالمائة على الأقل كما نحن، ضمن اختلاف خصوصية كل منا، وهكذا أصبحت الحياة ممكنة. ولو كان الأمر مختلفاً لاختلف كل شيء.
|
|
|
|
|
|