دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الفاضل سعيد فى أفق التساؤل...بقلم السر السيد
|
الفاضل سعيد في افق التساؤل... (1/2)
بقلم : السر السيد
هذه المقالة نشرت العام 1994م بجريدة «الانقاذ الوطني» في شكل ثلاثة مقالات تباعاً ضمن سلسلة نشرت آنذاك بعنوان صناع الحياة المسرحية في السودان تحديداً اصحاب الوعي المغاير تناولت فيها كلاً من خالد ابوالروس وميسرة السراج والفاضل سعيد وانا اعيد نشرها الآن دون اضافة او حذف يذكر لاجل فقدنا الوطني الكبير صانع جمهور المسرح وصاحب المسيرة المسرحية المبدعة رائدنا المسرحي الاستثنائي استاذنا الفاضل سعيد.
في مسيرة التجربة المسرحية السودانية يحتل الفاضل سعيد موقعاً متميزاً يظل يتأكد باضطراد عبر مسيرته الفنية منذ مطلع الخمسينات وحتى الآن.
يرتبط اسم الفاضل سعيد في دراسات المسرح السوداني بالكوميديا فهو بلا جدال من اقوى الاسماء التي اسهمت في خلق الكوميديا السودانية.
عندما نكتب عن الفاضل سعيد الكاتب والممثل والمخرج والمنتج فاننا لا نكتب عن ظاهرة من ظواهر التجربة المسرحية في السودان وانما نكتب عن حقيقة بكل ما تحمل الكلمة من دلالات فالفاضل سعيد شكل ومازال رقماً صعباً في مسيرة المسرح السوداني كما انه وخاصة الآن يشكل سؤالاً كثير الحساسية في تجربة المسرح السوداني.
على صعيد الكوميديا السودانية يتأكد اسم الفاضل سعيد كواحد من اقوى الاسماء التي اسهمت في خلق الكوميديا عبر مراحل تطورها المختلفة بدأ بشكلها الجنيني المتمثل في المنولوج مروراً بالنمط الى شكلها الاكثر تعقيداً المتمثل في النص عن طريق الكتابة او الارتجال من خلال طرح فكرة النص المركزية ثم العمل على تطويرها من خلال البروفات.
في هذه المقالة نحاول ان نحدد موقع الفاضل سعيد في التجربة المسرحية السودانية كواحد من اهم الذين امتلكوا وعياً مغايراً عبر مسيرتنا المسرحية وكي نتمكن من ذلك نقترح هذين المستويين للقراءة:
1/ موقع الفاضل سعيد من تجربة الكوميديا في السودان.
2/ الفاضل سعيد وسؤالنا المسرحي الراهن.
في المستوى الأول ولاسباب اجرائية لن نناقش البدايات الجنينية للكوميديا في السودان وانما سنركز نقاشنا حول النمط او الشخصيات النمطية وهنا نحب ان ننبه القارئ الكريم الى اننا لا نتفق بشكل تام مع التعريف السائد للشخصية النمطية اي التعريف الذي يقول إن الشخصية النمطية هي شخصية واحدة تتكرر بنفس ابعادها في مسرحيات مختلفة بمعنى ان الشخصية النمطية (م) في المسرحية (س) هي نفس الشخصية (م) في المسرحية (ص)، لا نتفق مع هذا التعريف بشكل تام لانه:
اولاً: ليس دقيقاً بما يكفي لانه كما نرى لم يقف على حقيقة الشخصيات النمطية كتور الجر وبت قضيم وحامد الغرباوي وابو قبورة ... الخ لم يقف على الكيفية التي تبنى بها الشخصية النمطية، لم يقف على لغتها، على قيمها لم يبحث في الاختلاف بين تور الجر وبت قضيم، والاهم من كل ذلك لم يعر اهتماماً للسياقات المختلفة التي تفرضها المسرحيات المختلفة التي توجد فيها الشخصية النمطية كشخصية واحدة تتكرر بنفس ابعادها كما يقول التعريف، هذه السياقات بالضرورة ولو الى حد ما تنفي واحدية الشخصية النمطية وتكرارها اللهم الا ان يكون المقصود بالتكرار هو الاسم والهيئة.
ثانياً: لا اتفق مع هذا التعريف بشكل تام لانه ولعدم دقته وضعف تأسيسه اوحى خاصة الى عقول الجيل الجديد من المسرحيين بطفولة هذه التجربة وسذاجتها مما كرس في نفوس هذا الجيل شعوراً بالازدراء لهذه التجارب حتى دون ان يكلفوا انفسهم ويسألوا السؤال الممكن والمباشر؟ لماذا عبرت الكوميديا في السودان في مرحلة مبكرة وما زالت متمثلة في الفاضل سعيد عن نفسها بالشخصيات النمطية؟ سؤال مباشر وفي متناول اليد ولكنه صعب، ولانه صعب اترك محاولة الاجابة عليه واصطحبه معي في تحديد موقع الفاضل سعيد في ما يطلق عليه كوميديا النمط هذا الموقع الذي يتحدد من خلال علاقة الفاضل سعيد بمن سبقوه ومن عاصروه في هذا المجال ففي حضور هذه العلاقة نحدد موقع الفاضل سعيد وفق مقولتي الاختلاف والاستمرار.
عرفت من اطلق عليها كوميديا النمط شخصيات نمطية كثيرة اهمها تور الجر للاستاذ عثمان حميدة واب دليبه لعثمان احمد حمد، حامد الغرباوي للاستاذ حسن لوفا وبت قضيم وكرتوب والعجب للاستاذ الفاضل سعيد وفي هذه الشخصيات مجتمعة نلاحظ الآتي:
أ/ جميع هذه الشخصيات من الرجال عدا بت قضيم.
ب/ بعض هذه الشخصيات انتهت واختفت تماماً كشخصية اب دليبة وحامد الغرباوي.
ج/ بعضها استمر وما زال قادراً على المواكبة والتجديد والابتكار كشخصية بت قضيم والعجب للفاضل سعيد.
د/ بعضها توقف نموها وتطورها رغم انها استمرت ولم تمت كشخصيتي تور الجر وابو قبورة.
من خلال هذه الملاحظات نستطيع تحديد موقع الفاضل سعيد من خلال شخصيتي بت قضيم والعجب، واختلافهما عن الشخصيات النمطية الاخرى فالشخصيات التي انتهت كأبو دليبة، وحامد الغرباوي انتهت لان عنصر الكوميديا فيها مرتبط بالموقف التي هي فيه وهو موقف في علاقته بالمشاهد مرتبط لحظته ولا تتعدى قوته قوة النكته كما ان الشخصية لم تعد تملك معادلاً قوياً في الحياة الاجتماعية السودانية المتحولة يستمد منها الضحك شرعيته، فمن المستحيل ان يضحك الناس الآن من خلال (لكنة) في مفردة او مفردات، اذن انتهت هذ الشخصيات بتصدع شروط وجودها، ولانها كانت شخصيات بسيطة التركيب والبناء، شخصيات ينقصها العمق الفني، اما الشخصيات التي توقف نموها وتطورها رغم انها استمرت ولم تمت كشخصية تور الجر وابوقبورة.. توقف نموها وتطورها لانها عبرت عن مفاهيم مرتبطة بشروط معينة فالكوميديا التي يخلقها تور الجر عبر مواقفه تفهم على ضوء علاقة الريف بالمدينة وصورة المدينة في وعي الريفي فالمفارقة يجسدها عثمان حميدة في كسر تور الجر للتقاليد المتبعة في المدينة في العلاقة مع الطبيب مثلاً أو العلاقة مع الاشياء كالعربة والثلاجة او في نطقه لبعض منجزات التكنولوجيا بطريقة خاطئة او عندما يسأل اي شخص عن اسم قريب له في مدينة كالخرطوم او كما يفعل ابو قبورة عندما يحور مدلولات الالفاظ ويبتدع (القفشة) تلو القفشة كقوله ان تذاكر تسافر بدلاً من ان تذاكر تنجح العبارة الشهيرة او كقوله قبورة leaveme بمعني love me.. في حالة تور الجر يضحك المشاهد من المفارقة التي تقوم على عدم قدرة تور الجر في التعامل الصحيح في المواقف التي يوجد فيها وفي حالة ابو قبورة يضحك المشاهد من خلال القفشات والمفارقات اللفظية لذلك فهاتان الشخصيتان بسيطتا التركيب والبناء ومنغلقتان وهذا كفيل باعاقة نموهما وتطورهما وسبب آخر يرتبط بتغير الظروف التي اكتسبت فيها شخصيتا تور الجر وابو قبورة سلطتيهما فالمدينة لم تعد مدينة فهي الآن قد استريفت كما ان الضحك اصبح صناعة معقدة، اما اختلاف الفاضل سعيد الذي هو سر استمراره فيكمن في عدة اسباب.
اولها ان شخصيات الفاضل سعيد خاصة بت قضيم والعجب شخصيات مفتوحة لا يحدها زمان ولا مكان، شخصيات بعدها الرمزي اكبر من بعدها الواقعي لذلك استطاعت ان توجد على مر الازمان والظروف لانها رمزياً تمثل دور الشاهد الذي يفترض ان يكون حاضراً كي يشهد واكثر من ذلك ان يكون مدركاً لما شهد عليه فبت قضيم من اسمها فقط يمكن ان نستوحي اكثر من دلالة لعل اهمها انها تنادى كبنت ابيها ولا تنادى باسمها فلا احد يعرف حتى الآن ما هو اسم بت قضيم حتى الفاضل سعيد نفسه، بل حتى بت قضيم نفسها كما ظهر هذا في اكثر من مسرحية ففي مسرحية الكسكتة التي تعرض حالياً بالمسرح القومي وهي مسرحية جديدة تماماً تقول بت قضيم (مما قمت لقيت اسمي بت قضيم ولي هسه ما عارفه انا اسمي منو).
عدم ذكر اسم بت قضيم منذ ميلادها في الخمسينات في برنامج المرأة الذي يشرف عليه الاستاذ محمد حسين خليل مروراً بنضالها الطويل ومشاركتها في محاربة العادات والتقاليد البالية عبر الاذاعة ثم صعودها على المسرح الذي استمرت فيه حتى الآن فهو فيما يبدو استطاع استيعابها.
عدم ذكر اسم بت قضيم لاكثر من ثلاثين عاماً اسهم في تعميق اطلاقية شخصية بت قضيم وعدم محدوديتها رغم انها شخصية تنتمي للمواقع وتفهمه وتشهد عليه وثمة ملاحظة اخرى تتعلق بالاسم (بت قضيم) وهي ما يحتويه الاسم من رنة صوتية موحية وساحرة وعميقة تأسس استدعاء نفسياً لتقبل حضور بت قضيم والتفاعل معها اما اخطر ما يميز بت قضيم فهو اسلوبها فبت قضيم تمتلك قاموساً ثراً وعميقاً من الحكم والامثال والبلاغة والجمال كما لديها قدرة فائقة على الاضافة المستمرة لهذا القاموس فكلام بت قضيم ليس متكرراً لانها ليست متكررة رغم انها ظلت وفي كل مسرحيات الفاضل سعيد التي فيها بت قضيم ظلت تردد عبارة (الناس بالناس والكل بي رب العالمين) وكذلك تردد عبارة (الفراغ يا يمه الفراغ).
ولعل في عبارة (الناس بالناس والكل بي رب العالمين) تكمن فلسفة الفاضل سعيد ورؤيته للعالم.. هذه الملاحظات كلها اضافة لما لم يسعفنا الوقت لذكره حول شخصية بت قضيم جعلها تختلف عن ابوقبورة وعن تور الجر، جعلها تستمر وستستمر على مر العصور والايام كما اتاح لها قدرة على الحكي والسرد يستمد قوته من ارثنا الثقافي الشعبي فاذا كان الزين كشخصية روائية مسلحة بالحب المطلق حتى باتت شخصية من لحم ودم فبت قضيم كشخصية مسرحية مسلحة بالمعرفة والبصيرة النافذة باتت كذلك شخصية من لحم ودم.
ويبقى سؤال حول بت قضيم تطرحه مسرحية «الكسكته» هو كيف يتحول الشاهد الى ضحية؟
وهنا نعترف اننا طرحنا اسئلة وقدمنا عدداً من الملاحظات الاولية غير اننا سعداء لانه وبغير الاسئلة والاسئلة الجديدة بالذات لا يمكن ان يتهيأ ذهننا المسرحي الراهن لانتاج معرفة بتجربتنا المسرحية، فاذا كانت تجربة مثل تجربة الفاضل سعيد بما لها من تاريخ وتواصل وجماهيرية وتفرد فني ظلت رغم عمرها الطويل بعيدة عن المقاربات النقدية، اللهم الا من ذلك النوع الانطباعي سلباً وايجاباً وفيما عدا ذلك سكتت الاقلام وردد لسان حالها سراً بشئ من الغيرة او الخوف، الفاضل سعيد هو الفاضل سعيد، ولاننا لسنا من انصار تفسير الماء بالماء اضافة لاعتقادنا الجازم بامكانية تملك تجربة الفاضل سعيد معرفياً وانتاج انشاء نظري مواز لها طرحنا تلك الاسئلة وقدمنا تلك الملاحظات الاولية.
نعترف اننا لم نقدم اجابات لكل ما طرحناه من اسئلة وذلك لرغبتنا في اثارة ذهن القارئ واثارة قلق المتخصص وفوق هذا وذاك تعميم الفرضية التي تقول: إن طرح الاسئلة اكثر قدرة وامكانية في فضح ما يراد بحثه، لذلك فكل ما طرحناه من اسئلة قد تشكل مجتمعة بعض ادوات قراءة تجربة الفاضل سعيد.
اذن كيف يبني الفاضل سعيد عرضه المسرحي؟ ما هي الاستراتيجية التي يقوم عليها العرض السعيدي؟ نقلا عن الراى العام السودانية عدد 26 يوليو 2005
|
|
|
|
|
|
|
|
|