|
لكم سودانكم .. ولى سوداني!!
|
لكم سودانكم .. ولى سوداني!!
د. حيدر إبراهيم علي [email protected] مازال السيرك السياسي منصوباً في السودان، ويحتل الساحة السياسية عصبة من الحواة والبهلوانات وبالعو الأمواس وآكلي النار. والشعب حائر ومندهش (أو حسب التعبير السيَّار: مِدَهول) مشغول بسبل كسب العيش المغلقة. وكل الامور تدحرجت الى هاوية لن يدركها الجميع حتى حين نصل الى القاع: فالدولة مستبدة ومكابرة، لأنها تحتقر شعبها، وبالتالي لا تسمع صياحه ولا تهتم إلا باستمرار سلطتها ولو احترقت روما كلها. والقيادات المعارضة ضاعت بوصلتها وحبلها السري مع الجماهير، هذا سودان غريب عن كل الصادقين، والمخلصون موجودون فيه جغرافياً وغرباء روحياً ونفسياً. سبقني للعنوان والمضمون المبدع اللبناني المهجري: جبران خليل جبران، حين خاطب مواطنيه قائلاً: لكم لبنانكم ولي لبناني. لكم لبنانكم ومعضلاته ولي لبناني وجماله. لكم لبنانكم بكل ما فيه من الأغراض والمنازع، ولي لبناني بما فيه من الأحلام والأماني. لبنانكم حكومة ذات رؤوس لا عداد لها، أما لبناني فجبل رهيب وديع جالس بين البحر والسهول جلوس شاعر بين الابدية والابدية. لبنانكم حيلة يستخدمها الثعلب عندما يلتقي الضبع والضبع حينما يجتمع بالذئب، اما لبناني فتذكارات تعيد على مسمعي أهازيج الفتيات في الليالي المقمرة. لبنانكم طوائف وأحزاب، اما لبناني فصبية يتسلقون الصخور ويركضون مع الجداول. لبنانكم شيخ قابض على لحيته، قاطب ما بين عينيه ولا يفكر الا بذاته. اما لبناني ففتى ينتصب كالبرج ويبتسم كالصباح ويشعر بسواه شعوره بنفسه. وجدت نفسي أجاري جبران وليس لي ملكاته، ولكن آلام سوداني أعظم من خيبات لبنانه بكثير. ولقد قام لبنانه من وسط رماد الحرب الاهلية الطويلة مثل طائر الفينيق أو تموز، جديدا وأخضر ومليئاً بالحياة والمغامرة والايمان بالمستقبل وبالغد. وأخشى على سوداني لأن قمعه وتخريبه استهدف الإرادة والكرامة والثقة، ولم يكتف بتخريب الاقتصاد والتعليم، بل عمد الى تخريب الاخلاق والقيم والكبرياء من خلال الفقر والخوف والاهانة. وهنا صعوبة أن ينهض سوداني دون جهد وتضحيات والتسامي فوق الصغائر، والشعور الجماعي بالخطر وبضرورة مواجهة التحديات والصعوبات. تحول سودانهم إلى شركة مساهمة حسب النسب والكوتة والغنيمة. وسوداني واحد موحد لا يقبل القسمة جغرافياً ولا سياسيا ـ سلطوياً أي بنسب الوزراء والولاة والمعتمدين والمديرين، فهو وطن يتساوى فيه الناس بقدر الحب والاخلاص: إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنا بقدر الحب نقتسم والآن القسمة بقدر الطمع والمناورة والقوة المتوهمة. سوداني حقوق وواجبات ومسؤوليات وتطلعات للنهضة والتقدم، وبحث عن أنجع الوسائل لتحويل الأحلام الى واقع. وسودانهم ـ كما رأينا قبل أيام ـ ضيعة مستباحة يستفز أصحابها الشعب السوداني ويحتقرونه. وذلك لأن المسئول المتهم في ذمته، تتم ترقيته وترفيعه غصباً عن غضب واستياء الشعب. وهذا ليس غريبا على نظام مازالت جذوره وأصوله الأولى ترابية، فالترابي تم إقصاؤه ولكن بقيت رؤيته وسلوكياته، فهو صاحب مفهوم «المكايدة السياسية» أو المكاواة بالدارجة السودانية، الذي استخدمه المؤتمر الوطني عامداً استفزاز الشعب، إذ لم يضع أي اعتبار لنظرة المواطنين لبعض المسئولين، إذ توقع محاسبتهم على الأقل بإبعادهم عن مواقع السلطة إن لم تتم محاكمتهم. كان سوداني يحلم بالتحول الديمقراطي كخطوة صوب تأسيس السودان، إذ بسودانكم ينتقل من التمكين الشمولي الذي انطلق صباح 30 يونيو 1989م، إلى الاستباحة الكاملة للوطن. وهنا تعنى الاستباحة حق النظام وحزبه ودوائر اتخاذ القرار، في ان تفعل ما تشاء دون أي اعتبار للآخرين أو للقانون او الاعراف. وأكرر بأن النظام يعتقد انه يحكم باسم الله او بالحق الإلهي المقدس (Divine Right) ولذلك فهو غير مسئول او محاسب امام الشعب. وقد عرف تاريخ الاسلامويين الجدل حول خطأ مبدأ: الأمة مصدر السلطات، باعتبار ان الحاكمية لله، حسب الخوارج الجدد. وحتى الفساد المالي له مبرره في سودانكم، لأن المال في رأيكم مال الله وليس مال الامة او الشعب، وهم موكلون باسم الله، ان يديروه حسب مصلحة الدين او التنظيم!! سوداني هو تكريم واحترام وتقدير هذا الشعب، ولكن سودانكم يذكر بمعاوية بن ابي سفيان، خاصة حين أعلن مسئول كبير التشكيل الوزاري، وختم حديثه بان من يريد الاستوزار عليه ان يلحق بحزب المؤتمر الوطني!! ذكرني كلامه ونظراته معاوية حين قدم عام الجماعة وتلقاه رجال قريش، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، فوالله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضيت لكم نفسي على عمل ابن ابي قحافة (ابي بكر) وأردتها على عمل عمر، فنفرت من ذلك نفارا شديدا، فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة (......) والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يستشفي به القائل بلسانه، فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي). (العقد الفريد ج 4 ص 147). كانت المواكلة الحسنة والمشاربة الجميلة قد تجلت في 30 وزيرا و36 وزير دولة ومساعد للرئيس ونائبين له، بالاضافة الى 12 مستشارا، هذا عدا الولاة والوزراء المحليين ومديري وأمناء المؤسسات العامة، هذا ما يظهر ويعلن وما خفي عظيم. وسوف تسكت أفواه كثيرة أملاً في نصيبها من المواكلة والمشاربة التي ستكون الايديولوجيا السائدة في الفترة القادمة. وعلينا ان ديمقراطية اللسان أو الكلام متوفرة لدى معاوية، مثل توفرها في النظام الحالي. ويمكن أن نكتب ونتحدث ونصرح، ولكن الخط الأحمر الذي سماه معاوية رفع السيف، هو في السودان: التظاهر او الاضراب او الحشد او التنظيم القوي. سودانكم صراع الديكة حول وزارة الطاقة، وسوداني اطلاق الطاقة الروحية والنفسية والفكرية والثقافة لدى هذا الشعب، بين المثقفين والناس العاديين. فقد نجح النظام الاسلامي في اماتة طاقات السودانيين على الابتكار والابداع والاستمتاع بالحرية وبالحياة. فقد استطاع النظام الاسلامي من خلال تزييف الوعي اعلاميا وثقافيا، وبالتعليم التجهيلي والظلامي والتجاري، ان يقوم بعملية حيونة الانسان السوداني، أي يعيش بغرائزه فقط: البحث عن الطعام والتناسل والنوم والاخراج. وهذه مفارقة عظيمة، ان ينتهي نظام اسلامي ـ تفترض فيه الروحانية - بتشيئة الانسان وتضخيم المادي فيه على حساب كل روحي. سودانكم جاء باسم الدين ليبعد الناس الطيبين عن الدين المترف والقامع، ومارس التاريخ عليكم مكره، اذ جاءت الاساءة للدين على أيديكم وليس على يد العلمانيين والشيوعيين واليساريين، كما روجتم لذلك سنوات طويلة. سودانكم يبحث عن مواقع في سلطة متهالكة او مواقع عقارية وسكنية في اراضٍ منزوعة او منشآت مبيوعة. وفي سوداني ينشيء جيل صاعد مواقع وسيمة وشاسعة في الانترنت، لربطنا بالقرن الحادي والعشرين، بينما الدراويش في سودانكم وقفوا بنا في القرن الخامس عشر تماما على بوابة دولة الفونج 1504هـ. وفي سودانكم نعيش الفوات التاريخي، حيث الزمن الفلكي هو هذا القرن، بينما الزمن العقلي والفكري والابداعي متأخر ستة قرون. وسوداني يتشابى لنجوم الحداثة، ولكن سودانكم يحشد جنود الشعوذة والتخلف ليجره من اقدامه إلى أسلف. يعود بنا سودانكم الى الولادة بالحبل والى التلاميذ الجالسين القرفصاء، لأن مشروع اجلاس التلاميذ ومشروع الفلل الرئاسية اكتمل والحمد لله في وقته!! وعادت اوبئة السل والجرب وأمراض الفقر كلها مظفرة، لأن البعض يقوم بالخدمات الصحية، لدرجة انه يقال بأن هؤلاء يأكلون غذاءات المرضى نيابة عنهم. وفي سوداني أتوق لتلبية كل الحاجات الاساسية التي قال بها المجتمع الدولي والانسانية عامة مجاناً، فهذا دور الدولة الناجحة التي ترى الامن الحقيقي في توفير هذه الضمانات، ولا تخلط بين الامن والقمع. ولا ترى الخصخصة وسيلة لاهانة المواطنين واشعارهم باللا قيمة حين يطرقون ابواب المستشفيات او المدارس. سودانكم يخلط بين الثقافة والصرافة، ويظن ان انتاج الثقافة مثل زراعة الفتريتة يحتاج للمال فقط من البنك الزراعي او غيره من مصادر التمويل. سودانكم بعيد عن الثقافة، لانه عدو الحرية والجمال والعقل، وفيه يتحول وزير ـ كان شاعراً ـ الى لغة سائقي اللواري ـ مع الاحترام للمهنة واختلاف اللغة ـ حين سئل عن تراجع الانقاذ الممكن بعد اتفاقية السلام الشامل، ليرد: الانقاذ ماسكة الدركسون جيدا! سوداني دعوة لابداع حر طليق قد يجعل من كل سوداني ـ في المستقبل، بالضرورة ـ شاعرا او موسيقيا او نحاتا او ممثلا لأن الحاجة تنعدم، ولكل حسب حاجته، هذا شعار لم يعد مستحيلا، لان الاتحاد السوفيتي انهار. وحين أتيت لخاتمة هذا المقال، قرأت أدونيس وهو يبكي العراق وبالتأكيد السودان، إذ يكتب: وقولوا كيف يمكن أن يكون الفرد طائراً في بلاد ليست إلا قفصاً؟ وكيف يمكن أن يكون أفقاً في وطن ليس إلا كهفاً؟ أو كيف يحدث لبلاد ليست إلا شمساً، أن تنقلب الى مجرد مسرح للظل؟ قولوا ايها الاصدقاء (انتهى) بالتأكيد التاريخ ينتظر أن نفعل شيئاً، ولن تحل معضلتنا بالمهاترات والإقصاء، هذا وطن يتناقص كل يوم ويتبخر مع كل شمس.
|
|
|
|
|
|