|
شيوعيو السودان.. حيرة الرفاق.. وثنائية الوطن والعقوق..!
|
شيوعيو السودان.. حيرة الرفاق.. وثنائية الوطن والعقوق..! حسن ساتي
التأمت لشيوعيي السودان المقيمين بالمملكة المتحدة يوم السبت الماضي ندوة محورية بلندن، لمناقشة أفق العمل السياسي في سودان ما بعد السلام المرتقب، ومعه بالطبع أفقهم هم فيه، وعينهم هنا على أدوار تاريخية لعبوها في شارع السودان السياسي، منذ إضراب الشرطة السودانية ضد المستعمِر البريطاني منتصف القرن الماضي، ونهاية بثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 اللتين أطاحتا بنظامي إبراهيم عبود وجعفر نميري العسكريين، وعينهم أيضا على أخطبوط التحولات التي شهدها ولا يزال السودان ودول الجوار، في تعاطيهم مع استحقاقات كثيرة يمليها عليهم ولا يزال نظام عالمي جديد، لا مكان فيه لنظريتهم الشيوعية، ولا يهم بعدها هنا إن كان ذلك النظام أحادي القطب أو متعدد القوى، بقدر ما هو مهم هنا تجربة معسكرهم الاشتراكي السابق مع هذا النظام العالمي الجديد، منذ أحداث بولندا ونقابة التضامن، ونهاية بهجرة دول ذلك المعسكر غربا، ليحتضن بعضها الناتو (التشيك والمجر وبولندا) تاركا البقية للاتحاد الأوروبي، طامعا أي الناتو في التمدد شرقا لالتهام البقية. الندوة كسرت حلقة الانتظار الباردة التي ظل معظم الرفاق يعايشونها من دون تدفئة (مركزية). والرفاق مولعون بالهرمية، ولكن المهم أنهم اجتمعوا وتحاوروا، وربما لمسوا لمسا خفيفا بعض الجراح، وجراح الرفاق كثيرة، وهم معها ومع المستجدات حيارى، فبعض جراحهم غائر، وبعضها أخذ شكل الدمامل، وبعضها طفح كنُتُوءاتٍ على الوجه، ومع المستجدات هم أيدي سبأ، بعضهم يريد التخلي عن اسم الحزب الشيوعي، وبعضهم يريد جبهة وطنية يشتد خلاف الرفاق حولها بدءاً من اسمها ونهاية بميثاقها. وكل ذلك من نكد الدنيا على الرفاق، وأي نكد أكبر من هذا الذي استدار بهم ليجدوا الملاذ في ألفية جديدة بعيدا عن وطنهم في قلاع (الرأسمالية)، عدوهم الأول الذي يتغذى بدماء (الكادحين) من وجهة نظر خطابهم، وأي نكد أكبر من انهيار نظريتهم مع محاولة جراحة بسيطة حاول أن يجريها موهوم اسمه غورباتشوف، لم يحسن معها لا التشخيص ولا العلاج، ولم يتحسب حتى لدور (التمريض) الذي يلي أي جراحة، فخرّ عليه وعليهم البنيان بأكمله، مع إنهم لا يستحقون هذا الواقع بأي مقياس، ولا أقصد كل شيوعيي العالم، وإنما شيوعيي السودان تحديدا. لا لأنهم ملح الأرض فحسب، أو أفضل من غنى لبني وطنه، وأكبر من ساهم في تشكيل الوعي السياسي السوداني منذ أربعينات القرن الماضي والى ثمانيناته، ولكن ولأنهم بمقاييس نصاعة اليد وبراءة الذمة، بل وحسن الخلق، هم في صدارة القائمة القليلة التي صدرها أداء نشطاء السياسة في السودان، ولأنهم أيضا أكبر من قدّمَ التضحيات والقرابين حياة لفيف من قياداتهم التي أعدمها نظام جعفر نميري عام 1971 بعد محاولة انقلاب فاشلة، تكاثرت عليهم معها الخناجر من شعبهم الذي أسهموا في تشييد وعيه (أحيانا بالوجبات السريعة)، ومن مصر التي جاء منها بعد إكمال تعليمهم سائر مؤسسي التنظيم، ومن ليبيا الوافدة على الاشتراكية، والى حد اقتربوا فيه من أولئك القوم الذين لم يسمهم ابن النديم صاحب «الفهرست»، ولكنه قال عنهم «قوم كتبهم مرفوعة، لأن العالم قد تشنأهم وتتبعهم بالمكاره». فعلا، لقد تتبع العالم والظروف الرفاق بالمكاره، ومدت إليهم تربة السودان لسانها، إن بالسخرية وإن بالانفلات، ووجدان السودان وعقله كثيرا الانفلات كناتج لتعقيدات النسيج الإثني والديني والثقافي وترهل الجغرافيا..الخ. غنى الرفاق وغنى معهم الشارع السوداني في ثورة أكتوبر «أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق.. والذي بعثرنا في كل واد»، فاستدار بهم الزمن عام 1989 ليأتيهم سجان من نوع آخر فبعثرهم من جديد. وغنوا لحركة 25 مايو 1969«يا فارسنا وحارسنا»، فاستدارت بعد عامين فقط عليهم عام 1971، فأعدمت أفضل قياداتهم ولم (تحرسهم). وغنوا لانتفاضة أبريل 1985، «يا شعبا لهبك ثوريتك.. تلقى مرادك في ذريتك»، فجاء المراد، بل والذرية في اتجاه آخر مع انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989 . هل هو سوء في الاستقراء، أم هو ضعف في مكونات (الوجبات السريعة)، أم تراه توالي الانفلات في بلد يعيش عذابات التكوين؟ ليس هذا بكاء على لبن مسكوب، أو فتح جهنم لبوابة المواجع على الرفاق، لأن البحث عما يمكن لهم أن يقوموا به في سودان ما بعد السلام القادم (كان سلاما مستداما أو سلام هدنة) لا بد له أن يستلهم ذلك التاريخ، ومعه (ضعف لياقة) بعض أعضاء (فريق اليسار)، وربما بعض (أعضاء فريق الرفاق) أيضا، ففكر كالبعث شاخ وفقد الذاكرة في بغداد، وهو يمارس الآن رقصة المذبوح، وفكر كالناصرية انتقل لمثواه الأخير في منشية البكري مع نعش عبد الناصر، وفوق ذلك، وبعطاءات فضاء نظام عالمي جديد، يتحتم على الرفاق أن يصادقوا المتنبي (الى حين) ليرددوا معه: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته بدٌّ
|
|
|
|
|
|