|
رباح الصادق:حول البناء القومي السـوداني
|
في البدء لا بد من أن أثمن مجهودات ومثابرة الأخت رباح الصادق وطرحها لآرائها، بإعتبارها صاحبة قلم ورأي وليس لمجرد أنها إبنة للسيد الصادق، وإن كنت لا أتفق مع كثير من أطروحاتها، وأنقل لكم هنا هذا المقال لها المنشور في جريدة الصحافة، وأدعو الجميع لمناقشته والإنطلاق منه لمناقشة المحاور الآتية(وضع المحاور بحثا عن الموضوعية): - سؤال الهوية هل هو سؤال أزمة أم عافية؟! - دور الفرد في صناعة التاريخ، ومدى براءة البعض الذين عنتهم الأستاذة رباح في مقولتها:
Quote: فإن الافتراض البسيط الذي تنطلق منه تحليلات كثيرة هو أن الفعل السياسي والاجتماعي نتاج أشخاص محدودين تتم تسميتهم وتحميلهم مسؤولية كل الفشل أو تقليدهم شرف كل الإنجاز. |
- هل لغة المقال محايدة أم تضمن عبارات ملغومة.
Quote: رباح الصادق ترددت في الآونة الأخيرة كتابات كثيرة من أقلام مؤثرة على التيارات الفكرية في السودان. وصار هنالك تيار متصاعد يسفه تاريخ السودان الحديث ورواده وفشلهم في بناء الأمة التي ينشدها السودانيون. وصار يلمح من تلك الكتابات كأنما الفشل في حد ذاته «اختراع» سوداني أو هو الشيء الوحيد المميز لنا كأمة. بدأت الإدانات التاريخية لكل دولة أنتجتها «عبقريتنا» المحضة بدءا بالمهدية ثم انتهاءا «بالحكومات المتعاقبة» ما بعد الاستقلال. وتبدو في الاتجاه الجديد في التحليل السياسي أو التاريخي السوداني مظاهر منها الوقوف على غير أرضية فكرية صلبة. والتحليل على شكل الكلمات المتقاطعة التي تعجز عن خلق نص قابل للتحليل أو التطوير. ومنها الاعتقال في «إكليشيهات» معينة مثل «تقدمية»، «إسلامية»، «طائفية»، «تقليدية».. الخ في شكل ألفاظ فقدت الصلة مع معانيها. فمن ينعت بالتقدمية يمكن أن يكون من أكثر التيارات محافظة وعرقلة لقبول الجديد. ومن ينعت بالتقليدية ممكن أن يكون من أكثر التيارات تقبلا لمنطق العصر وتفاعلا معه، وهكذا. ولكن أهم ما يمكن أن نصف به تلك الاتجاهات افتراضات شائهة بشأن الأمة وبنائها. فبدلا من أن يتم تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي لأية فترة بالاستناد على التركيبة المجتمعية ككل واتجاهاتها من القاعدة وحتى القمة، فإن الافتراض البسيط الذي تنطلق منه تحليلات كثيرة هو أن الفعل السياسي والاجتماعي نتاج أشخاص محدودين تتم تسميتهم وتحميلهم مسؤولية كل الفشل أو تقليدهم شرف كل الإنجاز. بل إن عقودا بكاملها تتم نسبتها إلى اسم فرد. والصحيح أنه حتى ولو وجد فرد متسلط في زمان ما، فإنه نتاج عقلية مجتمعية تمجد الفرد وتدفعه للتسلط على الآخرين. وكما يقول المثل المصري «قلنا لفرعون مين اللي فرعنك قال ما لقتش حد يرد لي!».. وهو ما يسنده الحديث «كما تكونوا يولى عليكم» وهي الفكرة التي كانت وراء أطروحة الدكتور عبد الله بولا عن «شجرة نسب الغول» لنقض مقولة أديبنا الطيب صالح حول أهل «الإنقاذ» حينما قال: من هؤلاء ومن أين أتوا؟ مثبتا أن «الغول» تمثل في اتجاهات عديدة في ثقافتنا وفي مجتمعنا وأنه لم يهبط من السماء!!.. والعكس أيضا صحيح، فإذا جاء إلى سدة الحكم حاكم راشد حكيم فلن يفلح في تثبيت الحكم الراشد والصالح ما لم تسنده قاعدة مجتمعية رشيدة.. ولهذا عق المعلق في موقع دائرة المعارف البريطانية في الانترنت على كتاب السفير الأمريكي الأسبق «نورمان أندرسون» البرشامة المضادة للنظام الديمقراطي السوداني (86-1989م) والذي كتب كتابا ينتقد بمرارة التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان ويشخصن الأداء فيها، علق المعلق قائلا: «هذا الكتاب هو المثل الذي يؤكد بصورة مثالية حاجة السفراء لكبح جهودهم في تصوير إدارتهم لمهامهم عبر البحار»..«وينطبق هذا بصورة خاصة على تركيزه على فشل الديمقراطية الذي يفترض أنه حدث نتيجة لأخطاء القيادة السياسية. أما اعتماد المفهوم على ثقافة سياسية ومدنية كدعامة جماهيرية عامة فمفقود تماما». إن الأفراد نتاج مجتمعات يؤثر عليهم منبتهم وثقافتهم. وهم بذلك أدوات لاتباع السائد حولهم هذا من ناحية. ولكن الأفراد أيضا معرضون للاستجابة لأفكارهم الخاصة وتجاربهم الذاتية واطلاعهم على تجارب الآخرين والأفكار التي تتردد من حولهم. وفي العالم علاوة على تعرضهم للمستجدات في مجتمعهم مما يحفز على الخلق والإبداع، وهم بهذا أدوات للتغيير المجتمعي وللخلق والإبداعية. لكنهم إنما ينجحون في ذلك بالدرجة التي يستطيعون فيها تغيير الكتل من حولهم، باستخدام كافة أوعية الخطاب الثقافي والحراك الاجتماعي، وبالتعاون مع الآخرين الذين يشاطرونهم الموقف الفكري والاجتماعي. وبهذا المنطق ننتقل لخاصية أخرى في الكتابات المذكورة التي تنقض كل الأداء السوداني وتنتقده وتود لو تشطبه من الذاكرة. وهي التي تنبي عنها الجملة المتكررة «هذا ما فعلته الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال».. ففي تلك الجملة المبسطة يتم اختزال نقص البناء الوطني في أحد أعراضه، متناسين أن المرض المزمن قد يبقى وتبقى أعراضه رغم وجود محاولات للعلاج الصحيحة منها والخاطئة، إذا لم تعط المحاولة الزمن الكافي أو تنفذ بالطريقة المطلوبة. فهنالك نظم كانت تقوم على الديمقراطية وحكم الجماعة. وما قصرت فيه من فهم مشاكل البناء القومي والاعتراف بالتنوع والتعامل الأفضل معه، كانت الحرية أهلا لتداركه عبر التجربة والحوار والمراجعة المستمرة التي تقوم بها العملية الديمقراطية نفسها، تلك النظم كان يعوقها عدم أقلمة الديمقراطية لثقافاتنا أو رفد تلك الثقافات بالقيم الديمقراطية بالصورة المطلوبة. ويعوقها أن نقص البناء القومي كان يلقي بظلاله على الحركة السياسية وبضبابه على فهمها. ومهما جاء في مسيرة تلك النظم من قائد حكيم أو سياسي عاقل فإن فقدان الدعامة الجماهيرية للثقافة الديمقراطية كان يؤثرسلبا على نتائجها. وهنالك نظم كانت تقوم على الشمولية وفرض الرؤى الأحادية. وتعمل على تعويق نمو الوعي الجماهيري والصفوي بمشاكل البناء القومي وتشوهاته، لأن الانقلاب العسكري يقوم أصلا على افتراض حل حكيم جادت به قريحة البعض ليفرض على الآخرين بقوة السلاح. ومثل تلك النظم تزيد من تعقيدات مشاكل البناء، لأنها تطلق الوعي بالتنوع في شكل «غبينة» سياسية. وتجعله قيمة سالبة بدلا من أن يكون قوة. ومهما حاولت الإنجاز في ملفات تنموية فإنها بسبب ما تفتح من أبواب الفساد لانعدام الشفافية. وما تعكس من أولويات لحساب الدولة البوليسية وأمنها ترهق الاقتصاد الوطني بشكل بدأته مايو بمليارات ديونها المتكاثرة كل عام بسبب الفوائد، حيث قلبت الاقتصاد السوداني من مجد إلى عاجز، وواصلته الإنقاذ حيث وصل التضخم لأرقام فلكية. وتضاءلت قيمة العملة الوطنية خاصة في سنواتها الأولى إلى أقل من جزء من المائة. ومحاولات العلاج السودانية المسؤولة هي التجارب الديمقراطية، بينما تشكل التجارب الديكتاتورية طموحات غير مسؤولة لعلاج إلتهاب «الكلى» مثلا بالكي! ومن المعلوم أنه إذا مرض شخص بإلتهاب الكلى فإنه يحتاج إلى مضاد حيوي لا إلى قضيب حديدي حام!. إن أمراض البناء الوطني المتمثلة في نقص التكوين القومي وانعدام تجربة الحكم المؤسسي وغربة نظم الحكم الحديثة عن بيئتنا الثقافية والاجتماعية، والتي تعمقها ذهنية العشائرية والأبوية الصارمة التي تحد من الإبداع وتقيد التجارب الديمقراطية، وعلو معدلات الأمية بشكل كبير، وإعطاء أولويات متدنية لقيم العمل والبناء لصالح أولويات أكبر لقيم المجاملة والتكتل والعصبية القبلية. وغيرها من ضروب التخلف المجتمعي في كافة المناحي.. هذه الأمراض لا يعالجها الانقلاب العسكري بل يفاقم من أعراضها كلها بانتعاش العصبيات وتفاقم الأزمات المجتمعية واستحالة التعايش السلمي.. مثلما يفعل الكي. ويجربه بعض المتطببين الشعبيين- بمريض الكلى الذي وإن جرب برشامة الطبيب فهو لم يكمل «كورس» العلاج وأقلع عنه استعجالا لنتائج سريعة واستبطاءً لمعالجات الطبيب الممرحلة، مما فاقم من مرضه مرتين: فإيقاف العلاج يؤدي إلى هجوم المرض بشكل أشرس من البداية. والكي يزيد من معاناته ويفاقم الألم!! حقيقة أن العلاج لم يتم لا تعني أن العلاج ليس في برشامة جربناها من قبل ولم تؤد للشفاء، لأن العلاج في هذه الحالة هو ذات البرشامة ولكن عبر «تركيبة» تراعي مناخنا وتناسب درجة امتصاصنا للدواء.. لأن شأن الثقافة التي تختلف مضامينها من جماعة لأخرى، يختلف عن شأن البيولوجيا التي يكاد الناس يتحدون حولها. وآخر كلمات نختتم بها أحاديثنا حول الأمة والبناء القومي، هو أن ذلك البناء ليس مسألة سهلة. وقد قال الأوربيون من قبل «روما لم تبن في يوم» ولا العراقيل في البناء القومي هي مسألة خاصة بنا في السودان.. إننا امة حديثة الولادة نسبيا. والمشروع السوداني القومي الوليد واجهته تحديات الغزو الأجنبي والتطاحن الوطني الذي غذاه صراع الرؤى وفاقمه اتخاذ منطق القهر والعنف، ثم الحرب الأهلية.. لم يكتمل البناء القومي للسودان ولن يكتمل إلا في إطار السلام والحرية والتعايش والعدالة، ليكتمل عندنا «الكورس» بالصبر والمواظبة والعمل الدؤوب، والإقلاع نهائيا عن الحلم بـ«فكي» موهوب يأتينا عبر دبابة!! قال السياسي السوداني الفذ إبراهيم أحمد رحمه الله: «إذا كانت هنالك أية فائدة نجنيها من سيرنا في آخر قافلة الأمم، فعلينا أن نستفيد من غلطات الذين سبقونا».. إن لنا تجارب ناجحة لأمم من قبلنا مثل اليابان وألمانيا بنت نفسها في ظروف صعبة. وهنالك الكثير من الشعوب التي تعاني من عرقلة البناء القومي ربما أكثر مما نعاني مثل الصومال وأفغانستان وغيرهما. ويمكننا أن نفيد من نجاحات الماضي كما يمكننا أن نستفيد من إخفاقاته وقد قيل: كل ما لا يكسرني يقويني!! وليبق ما بيننا.
|
وسأعود وليت الزميلة رباح تعود فقد إفتقد المنبر قلمها.
|
|
|
|
|
|