|
حِسَابٌ أَمْ .. "كُوَارْ"؟!
|
حِسَابٌ أَمْ .. "كُوَارْ"؟! بقلم : كمال الجزولي (الكوار) لغة فى بعض عاميَّة مستعربى السودان ، (الجلابة) منهم بالأخص ، وتعنى بيع الجملة أو بيع الجزاف بلا كيل ولا وزن ، ولعلها من (كورجة) فى معنى العمى وأصلها تركى (قاموس اللهجة العاميَّة فى السودان لعون الشريف ، ط 3 ، الدار السودانيَّة للكتب ، 2002م ، مادة (كوار) ص 869). قلت: أرجِّح دلالتها فى وسع استخدامها الدارج بمعنى تعمُّد اللجاج فى إجمال الأمور (بلفلفتها) و(كلفتتها) ، تفادياً لما قد يتكشف فيها من حقائق مغايرة إذا انطرحت تفصيلاً. ولعلها تعود بجذرها ، والله أعلم ، إلى أصل فصيح فى مادة (كارَ كَوْراً) بمعنى لفَّ لفاً وشدَّ شدَّاً وجَمَعَ جَمْعاً (لسان العرب لابن منظور ، طبعة دار المعارف بالقاهرة ، ص 3953). ويُضرب المثل الاستنكارى (أهذا حسابٌ أم كوار؟!) على من يَعْمَد (للاجمال) فى محلِّ الحاجة (للتفصيل). إستدعى اللفظ والمثل إلى ذهنى البيان الذى أصدره التجار الشماليون العاملون فى الولايات الجنوبيَّة من خلال المؤتمر الصحفى الذى عقدوه بتاريخ 30/11/2004م ، حيث ناشدوا "الحكومة والحركة الشعبيَّة معالجة قضيَّة حقوقهم المصادرة وممتلكاتهم المسلوبة .. وضمان تمتعهم بحقوق المواطن فى الجنوب فى اتفاقيَّة السلام .. خلال الفترة الانتقاليَّة لأنهم فى حالة الانفصال سيكونون أجانب فى الجنوب ، وأكدوا أن عددهم يفوق المليون تاجر ، وأن الحصر الأولى لخسائر حوالى الأربعة آلاف منهم بلغت أربعمائة مليون دولار ، إضافة إلى الممتلكات التى ستقدَّر لاحقاً" (الأيام ، 1/12/04). بحساب بسيط ، وإذا غضضنا الطرف عن طرح المطالبة (إجمالاً) دون (تفصيل) ، والصمت عن توضيح ما إذا كانت الخسارة أصولاً أم ربحاً متوقعاً ، وما تمَّ سداده من ضرائب بالمقارنة مع هذه الارقام ، فإننا نجد أن هذه الشريحة التى لا يزيد عدد أفرادها عن 1.000.000 (مليون) تاجر ، بنسبة تقل عن 3% من تعداد الشعب ، تطالب بتعويض كلِّ فرد منها عمّا خسره جراء الحرب فى الجنوب بما يبلغ 100.000 (مائة ألف) دولار أمريكى ، أى ما يعادل 26.000.000 (ستة وعشرين مليون) دينار سودانى! وهذا يعنى أن جملة التعويضات التى تطالب بها لأفرادها مجتمعين ، عدا عن قيمة "الممتلكات التى ستقدَّر لاحقاً" ، تبلغ 100.000.000.000 (مائة مليار) دولار أمريكى ، أى ما يعادل 26000.000.000.000(ستة وعشرين ترليون) دينار سودانى ، بواقع 800.000 (ثمانمائة ألف) دينار ، تقريباً ، كمديونيَّة مستحقة لها فى ذمَّة كل مواطن فى بلد يعيش 96% من شعبه تحت خط الفقر! فإذا علمنا أن نسبة موازنة السودان للعام الحالى من جملة المديونيَّة المدعاة لا تتجاوز ، بقضها وقضيضها ، 5.6% تقريباً ، حيث تبلغ 1.451.000.000.000 (ترليون وأربعمائة وواحد وخمسين مليار) دينار لجهة الانفاق ، و1.275.000.000.000 (ترليون ومائتين وخمسة وسبعين مليار) دينار من جهة الايرادات ، بعجز يبلغ 176.000.000.000 (مائة وستة وسبعين مليار) دينار ، ثم افترضنا ، جدلاً ، أن حجم هذه الموازنة سوف يبقى دائماً على حاله لا يتغيَّر ، إذن لترتبت لدينا نتيجة نظريَّة مؤدَّاها أن على البلاد بأسرها ، كى تتمكن من سداد هذا الدين على أقساط سنويَّة متساوية ، أن تذهب فى (إجازة) مفتوحة عن (الوجود) نفسه ، لا لتوقف (إنفاقها) تماماً فحسب ، بل ولتوفر ، إلى ذلك ، ما تسدُّ به العجز من دمها ولحمها وعظمها ، على مدى ما ربع القرن القادم! أما إن كان المقصود سداد الدين من ميزانيَّة الجنوب ، كما يترجَّح من روح المطالبة ، وقياساً على موقف الحكومة من تمويل جيش الحركة ، فقد لا يكفى القرن الجارى بأكمله للوفاء بهذا الالتزام! ذلك أن بند (دعم الولايات) فى الموازنة ، والبالغ قدره 499.000.000.000(أربعمائة وتسعة وتسعين مليار) دينار ، لم يُخصِّص للجنوب سوى 270.000.000.000(مائتين وسبعين مليار) دينار ، بنسبة تبلغ حوالى 55% ، شاملاً نصيبه من بتروله حسب البندين (5/5) ، (5/6) من بروتوكول قسمة الثروة ، ومن الايرادات القوميَّة الأخرى حسب البنود (6/2) ، (6/2/1 إلى 13). ولن يتغيَّر هذا الوضع الأسطورى حتى إذا أضفنا إلى ذلك نصيب الجنوب من ميزانيَّة التنمية المركزيَّة لكل السودان البالغ قدرها 262.000.000.000(مائتين واثنين وستين مليار) دينار ، علاوة على إيرادات حكومته الاقليميَّة المخوَّلة فى تحصيلها بموجب البنود (6/3) ، (6/3/1 إلى 15) من البروتوكول المذكور! على أن هذا كله يظلُّ محض حساب (دُوبْيَة) صرف لا طاقة له على الصمود لحظة واحدة أمام حساب (الاقتصاد السياسى) وحقائقه الدامغة. بعبارة أخرى ، فثمَّة حسابات مضادة بلا عدٍّ ولا حد يمكن أن تنفجر بين أيدى هؤلاء التجار فى ما لو واصلوا استمساكهم بحساباتهم العجيبة هذه ، الأمر الذى لا يبدو ، حتى الآن ، أنه قد خطر لهم ، بأىِّ مستوى ، كى يستبصروه جيِّداً ، أو قل انهم ، فى الغالب ، لم يتفق لهم إدراك أدنى صِلة له بحسابات الدفاتر والمخازن البسيطة التى يُعوِّلون عليها! فبرغم تأميننا التام على الأهميَّة الاستثنائيَّة التى تكتسيها موضوعة رفع الغبن وردِّ الظلامات فى إطار التسوية الشاملة المرغوب فيها ، إلا أننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من أن نلمح خلف المفارقات الضاجَّة فى مطالبة هذه الشريحة من التجار ، وفى هذا الظرف بالذات ، نفس العقليَّة القديمة التى وَسَمَت ، تاريخياً ، غالب نشاط الجلابة فى مدن الجنوب وقراه النائية ، بالشطط فى تحقيق الأرباح ، والمغالاة فى مراكمة الثروات ، استثماراً لشروط التخلف التى اختطها الاستعمار ، واستغلالاً لأوضاع التفاوت الظالم فى مستوى التطوُّر الاقتصادى والاجتماعى بين الشمال والجنوب. فالادارة الاستعماريَّة حرصت ، طوال سنوات حكمها ، على تركيز مشاريعها الاقتصاديَّة "فى المناطق النيليَّة شمال الخرطوم ، ومناطق النيلين الأزرق والأبيض ، ووسط كردفان وجنوب مديريَّة كسلا ، حيث .. المشاريع الزراعيَّة الكبيرة .. بالاضافة إلى الصناعات وخدمات الصحَّة والتعليم الواسعة نسبياً بالمقارنة مع مناطق البلاد الأخرى .. (لدرجة) أن نصيب مديريات الخرطوم والشماليَّة وكسلا كان يعادل ثمانية أضعاف نصيب المديريات الجنوبيَّة" (ت. نبلوك ؛ صراع السلطة والثروة فى السودان ، ص 149). ولكن شريحة (الجلابة) مِمَّن تركز نشاطهم الأساسى فى الجنوب ، والذين استأثروا ، ضمن قوى اجتماعيَّة معلومة ، بتركة الاستعمار سلطة وثروة ، لم يقصِّروا ، من جانبهم ، فى المحافظة على تلك الأوضاع لاستحلابها بأقسى ما فى الرأسماليَّة التجاريَّة من جشع متأصِّل ، بطبيعتها ، والذهاب بها إلى أقصى حدود المراكمة البدائيَّة لرأس المال الذى ظلت غالب أرباحه تصدَّر كى يُصار لإعادة استثمارها فى الخرطوم ومدن الشمال الأخرى ، دون أن يعود منها أدنى خير على إنسان الجنوب! ولا تزال الذاكرة الشعبيَّة تحفظ وتتداول حكايات (السُكسُك) الذى يُستبدل (بالذهب) ، و(الملح) الذى يقايض بالمحاصيل الغذائيَّة التى يتمُّ تخزينها انتظاراً لمواسم الندرة ، حيث يُعاد بيعها للأهالى بأبهظ الأثمان ، وما إلى ذلك! وقد يصعب أيضاً ، بهذه المناسبة ، أن نتجاهل الحوار الذى أجرته بعض الصحف العربيَّة قبل أشهر طوال ، مع السيد إدوارد لينو ، مدير مخابرات الحركة ، والذى أشار فيه ، تلميحاً ، إلى استقطاب الحكومة (لتجار شماليين) قال إنهم ".. كانوا يعملون فى الجنوب ، وفقدوا أموالهم خلال الحرب ، والآن هناك تنظيم من قبل الحكومة لتمويلهم ليعودوا إلى الجنوب مرَّة أخرى. ولذلك فإن النظام ما زال يريد المضى والاستمرار بذات الأساليب القديمة ، وليس بأساليب الصراحة والشفافيَّة والوضوح والتفاهم .. وإذا ما استمرت هذه الحِيَل فسوف تؤدى إلى تفتيت البلاد وتمزيقها بصورة أوسع ، ولن تتوقف بانفصال الجنوب ، بل ستمتد إلى أبعد من ذلك" (الشرق الأوسط ، 23/5/04). حسابات الاقتصاد السياسى قد تذهب ، إذن ، إلى مساءلة هذه الشريحة الاجتماعيَّة ، فى ما لو أصرَّت على مطالبتها هذه ، عن دورها التاريخى فى دفع الأمور إلى هذه الهاوية المريعة ، وعن ممارساتها التى أفضت لإشعال هذا الحريق الشامل ، وعن الأساس المادى الذى أرسته لبروز (حركات التمرُّد) ، والأساس المادى الذى لم ترسه لبروز فئات وشرائح من التجار الجنوبيين ، وعن (منطق الاستقواء) الذى جعلها ، وما زال يجعلها تطلب (الربح) ، و(الربح) فقط ، وفى كلِّ الاحوال ، بينما القاعدة أن (التجارة ربح وخسارة) ، وهم ، فى الأصل ، قد ذهبوا يتاجرون ، طوعاً واختياراً ، فى جغرافيا يعلمون مسبقاً أن احتمالات (الربح والخسارة) تتكافأ فيها على قدم المساواة ، إن لم تكن كفة الميزان أمْيَل ، فى مثل هذه الحالة ، وحسب الطبيعة التى تجـرى بها الأمور فى الحياة العاديَّة ، إلى مخاطر (الخسارة). ضف إلى ذلك كله ، مشروعيَّة مساءلتهم عن الفرص التى تسرَّبت ، بسبب تلك الحرب اللعينة ، من بين أصابع الوطن ، وعن كلفتها الباهظة التى تحمَّلها المواطن فى الشمال وفى الجنوب ، ضيقاً فى سبل معاشه ، ووسعاً فى مهدِّدات أمنه ، بل وعن تقديرهم (للتعويضات) التى تستحقها أسر ملايين القتلى الجنوبيين والشماليين الذين قضوا فى الحريق وفى الهاوية ، دَعْ المفقودين والمعوَّقين والجرحى والمشرَّدين والنازحين واللاجئين ، فكم تساوى ، يا ترى ، (قيمة الإنسان) فى حسابات (مسك الدفاتر) و(جرد المخازن)؟! وهل فكر أصحاب هذه المطالبة ، لحظة ، فى شئ من ذلك؟! وعموماً ، إذا كانوا لا يحفلون ، أصلاً ، بهذا النوع من الأسئلة ، فما الذى يريدون: حسابٌ أم .. كوار؟!
|
|
|
|
|
|