|
الگتَابَةُ: شِفَاءٌ أَمْ .. تَشَفِّى؟!
|
الگتَابَةُ: شِفَاءٌ أَمْ .. تَشَفِّى؟!
بقلم/ كمال الجزولي
يقول مستعربو السودان ، فى بعض ما وقع لهم من حكمة شعبيَّة ثمينة ، إن (الانسان يؤانسه غَرَضه) ، ويقولون إن (الغَرَض مَرَض). ودلالة ذلك أن من ينحبس عقله فى أسر غَرَض واحد وحيد يظلُّ يهجس به ، بمناسبة وبدونها ، ويكاد لا ينفكُّ عنه آناء الليل وأطراف النهار ، حتى لا يعود بمستطاعه رؤية أو سماع ما عداه ، مهما شعَّ بالسطوع أمام ناظريه أو ملأ صماخ أذنيه صخباً وضجيجا!
وثمَّة من المثقفين والكتاب ، للأسف ، من هم أسرى مثل هذا الغَرَض بالغ المحدوديَّة فى ما يتصل بتطرفهم فى كراهيَّة الأحزاب السياسيَّة ، وبالذات أحزاب المعارضة ، وبالأخص الأكثر راديكاليَّة منها ، إنطلاقاً إما من مواقف مؤيِّدة للسلطة علانية ، فى أفضل الأحوال ، أو تغطية لمواقف متضعضعة حيالها ، فى أسوأها! ورغم اقتناعنا التام بأنه لا فضل لحزبىٍّ على غير حزبىٍّ إلا بالعمل الوطنىِّ النافع ، إلا أن هذه الكراهيَّة تحول ، فى كلِّ الأحوال ، دون انفتاح البصائر على أىِّ معنى سواها ، ولا تشدُّ الأبصار ، ولو قليلاً ، إلى أبعد من أرانب الأنوف.
فمثلاُ ، وفى لجَّة (تسونامى) العِرقى والاجتماعى ـ السياسى الذى ضرب السودان ، بغتة ، مطلع أغسطس الجارى ، بمصرع الزعيم جون قرنق المأساوى ، وما وقع فى عقابيله من فتنة كادت تقضى على كلِّ أمل فى السلام والتحوُّل الديموقراطى ، بل ما تزال ترهص بالخطر الماحق ، وتتهدَّد نسيجنا الاجتماعىَّ الواهى بمخايل رواندا وذاكرة زنجبار ، فى تلك اللحظة بالذات لم يرَ هذا الصنف من الكتاب فى كلِّ هذا الاعصار سوى مناسبة أخرى وفرصة جديدة ، لا للكشف الجاد عن مكامن الأزمة والنقد الموضوعىِّ لمسبِّباتها ، وإنما لمحض مضمضة الأفواه بهجاء أحزاب المعارضة ، ورميها بكلِّ قبيح ، وتعييرها (بإخفاقاتها المشينة) ، و(بالنجاحات الباهرة) للحكومة التى حققت السلام ، مضافاً إليها ، مؤخراً جداً بالطبع ، شريكتها فى قسمة السلطة .. الحركة الشعبيَّة!
ولا يهمُّ بعض هؤلاء الكتاب إن كانوا ، حتى الأمس القريب ، من كارهى قرنق وحركته ، أو أن يصدروا اليوم ، فى ما يصدرون ، عن حقِّ أم عن باطل ، طالما أن (غَرَضهم) ، فحسب ، نفث المزيد من الهواء الساخن من صدورهم التى ظلت تغلى دائماً ، لسبب معلوم أو مكتوم ، بكراهيَّة أحزاب المعارضة فى الظاهر ، بينما كراهيَّتهم منصبَّة ، فى حقيقتها ، على (المواقف) التى تضعهم ، قويَت أم ضعُفت ، فى المحكات الصعبة والاختبارات العمليَّة ، ليس على المستوى الفكرى أو السياسى فقط ، بل والأخلاقى أيضاً! ومن عجب أنهم حين يفعلون ذلك إنما يتمحَّكون ، التفافاً وتخفياً ، (بالحدب) على (الديموقراطيَّة) ، فلكأن هذه (الديموقراطيَّة) ممكنة بدون هذه الأحزاب المعارضة نفسها التى يتشهُّون محوها من على وجه الأرض بضربة سيف!
ينزلق هذا العنف اللفظى ، أحياناً كثيرة ، ليلامس حواف اللامعقول ، فينقلب ، دون أن يشعر أصحابه ، إلى نكتة كبيرة! من ذلك مثلاً أن أحد الكتاب الاسلامويين عزا الفتنة الأخيرة ، جملة وتفصيلاً ، إلى (اليسار اللادينى) ، على حدِّ تعبيره ، والذى ظلَّ يشحن ، طوال العقود الماضية ، أولئك الشباب الغاضبين بالأفكار الهدَّامة الداعية إلى (حكم المُهمَّشين) ، ويوعز لهم بأن فى استطاعتهم (تغيير الدنيا)! سوى أن هذا الكاتب الهُمام نسِىَ ، فى غمرة حماسه للتعبير عن بغضه لخصومه (اليساريين اللادينيين) ، أن أوَّل من بشَّر بحكم المهمَّشين الذى سيغيِّر الدنيا هو القرآن نفسه: "ونريد أن نَّمُنَّ على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئِمَّة ونجعلهم الوارثين" (5 ؛ القصص).
ولئن كان منطلق هذا النموذج دعم السلطة صراحة ، فإن غيره من أصحاب (البقالات الفكريَّة والثقافيَّة) ، مِمَّن ظلوا يملئون الأرض زعيقاً عن (الثوريَّة) و(الراديكاليَّة) ، بينما لا همَّ لهم ، فى الحقيقة ، غير مناصبة الشيوعيين العداء (!) ذهب إلى رمى هؤلاء (بخفة الاحلام) مقابل تمجيد الحركة الشعبيَّة بالمطلق ، كونها تخاطب المستقبل وتفتح أبواب الأمل للمهمَّشين ، أو كما قال.
أمل المهمشين ، بل الثوريين أجمعهم ، فى الحركة الشعبيَّة مِمَّا لا يجوز الاختلاف عليه ، وقد ظلوا يعبِّرون عنه ، ويسدِّدون فواتير هذا التعبير ، طوال ما يناهز ربع القرن ، وقد بلغ قمَّته فى حشود الثامن من يوليو بالساحة الخضراء. غير أن (الغَرَض) ، علاوة على إفرازات الذهن الأحادى ، هما وحدهما اللذان يدفعان ببعض (الثورجيَّة) لافتراض منصَّة يتيمة للعمل الثورى ، إمَّا أن ينطلق منها أو لا ينطلق بتاتاً! مثل هذا المدح المجانى والاطراء الرخيص هو أضرُّ ما يضرُّ بالحركة الشعبيَّة التى هى أحوج ما تكون الآن ، وقدمها لمَّا تزل فى الخطوة الأولى على طريق سياسة السلام ، إلى الذهن النقدى المخلص والحوار الثورى المستقيم ، إلا إذا كانت ترغب ، أو يدفعها البعض دفعاً ، لتجريب القفز فى الظلام مع إدارة الظهر لمجمل كسبها فى الوجدان الشعبىِّ حتى الآن!
أما (خفة الأحلام) التى يحاول البعض إلصاقها بالشيوعيين والديموقراطيين فى بلادنا ، فإنها مِمَّا يصطدم ، يقيناً ، بحقائق التاريخ الباردة. فقد وقفوا وحدهم ، منذ أن كان ذلك ضرباً من التجديف فى مطالع الخمسينات ، يجترحون (الحكم الداخلى) أو (الحكم الذاتى الاقليمى) بمصطلح اليوم ، ليس لقوميات الجنوب فحسب ، بل لكل القوميَّات السودانيَّة ، كحسم جذرى للصراع حول قضية الوحدة من كافة الجوانب السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة. ومعلوم أن تطبيقه يستتبع استفتاء المعارضين له وسط كلِّ قومية ، أى شكلاً من أشكال (تقرير المصير). كما ظلوا ينادون بالتشجيع الفعلى للنمو الحر لثقافات المجموعات القوميَّة ، ببعث لغاتها ، والتوسُّل بها فى التعليم ، كمكوِّنات عضويَّة للثقافة السودانيَّة. وعَمَدوا إلى توطين هذه الخطة جدليَّاً ضمن جملة أشراط إقتصاديَّة سياسيَّة واجتماعيَّة تتمحور حول (الديموقراطيَّة الشاملة) فى علاقات الانتاج ، وفى الحقوق السياسيَّة للجماهير الكادحة ، وفى النظام السياسى. وقاوموا سياسات الأسلمة والتعريب القائمة فى مناهج الادماج القسرى ، أى كسر (الآخر) تمهيداً لإعادة صياغته ضمن السياق المستعرب المسلم ، وبشروا بالتدرَّج والتراضى الطوعى والقبول الثقافى المتبادل ، وأقدموا عملياً على ترجمة وتوزيع منشوراتهم بلغة الزاندى مثلاً ، بين عمال صناعة القطن ونقاباتهم فى مركز الزاندى والمورو. فأين (خفة الأحلام) فى هذا أو الكثير غيره؟!
رغم ذلك فالثوريَّة ، دون كثير لجاج ، ليست حكراً على الشيوعيين فى بلادنا ، وما ينبغى لها أن تكون ، كما وأنهم لم يدَّعوا ، هم أنفسهم ، على الأقل ، شيئاً من ذلك فى أىِّ وقت ، إن كان ثمَّة من يمارى ، حتى الآن ، فى أنهم ظلوا يعلنون العكس تماماً طوال تاريخهم. فقانون التعدُّد والتنوُّع يتمظهر فى هذا المجال أيضاً بقدر تعدُد وتنوُّع الجذور الاجتماعيَّة ، ومن ثمَّ المنطلقات الفكريَّة ، لأقسام النشاط الثورى ، الأمر الذى يستتبع فرضيَّة جدوى الحوار والتنسيق فى ما بين هذه الأقسام ، ضمن الاطار الأوسع لتحالف القوى الوطنيَّة وفق مقتضيات الظرف التاريخى المُعيَّن. مع ذلك ، وربما لذلك ، بل ولأن ذلك كذلك ، فلا مناص من طرح السؤال المُر: لمصلحة من ، إذن ، يتبارى بعض الكتاب (الثورجيين) فى أيَّة محاولة ، بالغة ما بلغت من اليأس والسذاجة ، لهدم هذا القسم أو ذاك؟!
يتساءل الكتاب أحياناً: "لِمَن نكتب"؟! لكنهم قليلاً ما يسألون: "لِمَ نكتب"؟! وهذه مشكلة. لأنه إذا كان طرح السؤال الأول ينطوى على قدر مطلوب من الاهتمام (بشكل) الخطاب الذى يتوسَّل به الكاتب إلى الجمهور عموماً ، أو إلى شريحة أو شرائح معيَّنة منه ، لجهة (اللغة) و(الأسلوب) ، علاوة بالطبع على ماهيَّة القضايا التى تشكل مدار اهتمام هذا الجمهور أو هذه الشرائح ، فإن إغفال السؤال الآخر أو تفادى طرحه يسقط من حساب الكاتب والجمهور معاً أيَّة جدوى للتحقق من جليَّة هدف الكتابة نفسها ومبتغاها ، كنشاط إنسانى واجتماعى ينبغى أن يستهدف ترتيب نفع محدد ، اللهم إلا إذا اعتبرنا (الغَرَض) الذى هو (مَرَض) ضرباً من العمل النافع ، ولتذهب معايير (الموضوعيَّة) ، حينئذٍ ، إلى الجحيم!
الكتابة ، كما فى تعريف قديم طريف لصديقى عبد الله على ابراهيم ، إما أن تكون (شفاءً) أو تكون (تشفيَّاً) .. وعلينا أن نختار!
13 أغسطس 2005
|
|
|
|
|
|