دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الاستقلال ومأزق المشروع الوطني..دراسة هامة .. لماذا غيبت من احتفالات الجالية بالاستقلال بالدوحة
|
السودان .. الاستقلال ومأزق المشروع الوطني
52 عاماً من ألازمات السـياسية والحروب الاهلية تيسـير محمد احمد علي مقدمة:
هذه الورقة كان المفترض تقديمها في ندوة بدولة قطر بدعوة من الجالية السودانية. غير أن السفير السوداني وسفارته ومنسوبي المؤتمر الوطني بالدوحة، آثاروا العديد من المصاعب ووضعوا العراقيل أمام قيام هذه الندوة، رافضين مشاركة المتحدث على وجه التحديد، من دون حتى أن يطلعوا على الورقة أو فحواها والآراء التي تعبر عنها(!). على الرغم من أن الندوة لم تكن عن الدبلوماسية السودانية أو المؤتمر الوطني أو الجبهة الإسلامية أو منسوبيهم. هذه الورقة ـ كما ستطلعون عليها ـ هي مجرد دعوة للتفكير بصوت عالي في المأزق السوداني في محاولة لتحليل طبيعة الأزمات السياسية المزمنة التي حاقت بالوطن منذ إعلان الإستقلال السياسي، والحروب الأهلية التي إنتشرت بطول البلاد وعرضها. والرؤية التي تقدمها الورقة تفترض إن أعلى درجات الأزمة السياسية تمثلها الإنقلابات العسكرية والتي نفهمها كتجسيد لفشل البنيات والعمليات السياسية الوطنية في التصدي لتطورات الأوضاع والصراعات حول السلطة بغرض الهيمنة وجهود المقاومة للمشروع السلطوي. ولتفادي شخصنة موضوع الندوة، والذي رأت السفارة السودانية في قطر ومتحزبي الإسلام السياسي، أنها تشكل خطراً قومياً، عملوا على مقاومته، حبذنا الغاء الندوة و نشرها، آملين أن يعمل كل سوداني عقله لنفهم معاً سبب الأزمة في بلادنا، ولا نعرف لماذا يتخوّف البعض من حديث قائم على البحث العلمي والتحليل الأكاديمي، وتجربة عمر من أجل السلام والتحرر والعدالة والديمقراطية في السودان
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: الاستقلال ومأزق المشروع الوطني..دراسة هامة .. لماذا غيبت من احتفالات الجالية بالاستقلال بال (Re: nadus2000)
|
طوال نصف قرن، وعلى مختلف الأنظمة السياسية التي مرت على السودان، وفي الأول من يناير من كل عام، يقف السودانيين مهنئين بعضهم البعض بمناسبة الإستقلال، مرددين نشيداً حفظوه عن ظهر قلب ... اليوم نرفع راية إستقلالنا. والسؤال الذي عادة ما نتغافل عنه، هو ما أثر الإستقلال علي طبيعة الدولة بعد رحيل قوات الإحتلال(؟) وعلي حياة غالبية المواطنين. وما علاقة ذلك بالأزمات السياسية المزمنة في بلادنا، وإنتشار الحروب الأهلية السودانية، وما هي علاقة كل ذلك بالكيفية التي نلنا بها هذا الإستقلال (؟). الرواية الرسمية المدونة في كتب التاريخ تقول أنه وفي 19 ديسمبر 1955، أعلن الإستقلال من داخل البرلمان، ومن ثم قام إسماعيل الأزهري برفع العلم ذو الثلاثة ألوان صبيحة الأول من يناير 1956، ليكون بذلك هو التاريخ الرسمي لإعلان السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وإنتهاء عهد الإستعمار الثنائي.
وإذا أعدنا قراءة الظروف والكيفية التي تحقق بها الإستقلال ـ ومن دون أن نقلل من دور الذين ناضلوا ببسالة في عهود سابقة من أجل قيام دولة سودانية وطنية مستقلة، وفي ذات الوقت لا نعطي من يدّعون ذلك أكثر من حقهم التاريخي ـ ينكشف أمامنا إن هذا الإستقلال لم تصنعه أيدينا وحدها، بل كان في المقام الأول بسبب التسويات التي أفرزتها الصراعات الإقليمية عقب الحرب العالمية الثانية في السيطرة على ممرات التجارة العالمية عبر أفريقيا والشرق الأوسط، وتضارب المصالح فى المنطقة بين أمريكا وبريطانيا والقوي الاستعمارية الاخري الساعية لترتيب الاوضاع في مصر والسيطرة علي الملاحة عبر قناة السويس. كلها ملابسات وتحولات إقليمية وقفت وراء حصول السودان علي استقلاله، ووراثة النخبة السياسية المحلية للسلطة قبل الموعد الذي خطط له المستعمر في نهاية الستينيات، والتي ورثت كراسي الحكم وواصلت تنفيذ نفس البرامج دون ادني مراجعة للاهداف والرؤى أو الاستراتجيات التي شكلتها.
لذلك فإن إعلان السيادة الوطنية من داخل البرلمان بكل تلك البساطة، وقبول الإنجليز بذلك، تظل كلها وقائع في حاجة لإعادة قراءتها وكتابتها من جديد، وفقاً لحقائق المنطق والتاريخ، حتي نعي جيداً الظروف الموضوعية التي نتج عنها الإستقلال. فلا يعقل بعد أكثر من نصف قرن أن ننقل إلى أجيالنا بطولات وهمية لنيل بلادنا إستقلالها، لإن تاريخ الغزاة يعلمنا أنهم لا يخرجون من أرض إلا مرغمين. فالإستقلال الذي حصلنا عليه، كان سهلاً لم نقاتل من أجله، وما يأتي بسهولة ـ كما يقال ـ يضيع بسهولة أيضاً.
ومع ذلك، فقد ظل "المعلم الأبرز" في مسيرتنا ـ وعلى مختلف أنواع حكوماتنا الوطنية بلا إستثناء ـ أن السياسات والنظم والهياكل والعلاقات التي خلفها الإستعمار بقيت عموماً كما هي، تخدم المصالح الضيقة للنخب المستفيدة من وجودها. فإنحصرت التنمية الإقتصادية والإجتماعية في وسط السودان، بينما بقيت الأطراف محرومة منها، تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. لقد أقام الإستعمار البني التحتية من طرق وسكك حديد وميناء ومشاريع زراعية في الوسط (المثلث الذهبي بين النيلين) لخدمة أهدافه في إستنزاف الموارد والثروات الوطنية لمصلحته الإقتصادية، بنقلها إلى الخارج وللاستفادة منها. وكان حرياً بنخبنا المحلية أن تعمل على تغيير هذه البنى والهياكل والعلاقات بأخرى تخدم المواطن السوداني إينما كان، ولأنها ـ أي هذه النخب ـ إفتقرت للمشروع الوطني، والرؤية الإستراتيجية، أوصلت بلادنا إلى حافة التمزق والإهتراء كنتيجة حتمية لذلك. فالذي يستخدم نفس الآليات والسياسات الإستعمارية التي خطط لها لخدمة مصالحه، لآ يعقل ان يتوقع ان تخدم المصلحة الوطنية.
في غالب الأحوال ما يكون الإستقلال المرحلة الأولى في عملية البناء الوطني، مربوطة بالشعور بنمو الحقوق السياسية والتحرر من السيطرة. ولابد أن يتضمن؛ ليس فقط التخلص من المستعمر، بل التحرر الكامل من كافة العلاقات، والبني، والهياكل، وحتى المفاهيم التي خلفها المستعمر، وإستبدالها بأخرى تأطر لمشروع وطني كامل يقابل إحتياجات الشعب والدولة المستقلة.
إن بلادنا اليوم تقف على مفترق طرق، جراء السياسات التي مارستها هذه النخب، والتي أوصلت الدولة إلى الدرك الأسفل، والمجتمعات السودانية إلى نقطة تفضيل خيار الإنفصال همساً أو علانية، وسيطرة المنظمة الأممية على مايربو من ثلثي مساحة السودان(دارفور، الجنوب وجبال النوبة)، فماذا تبقى إذاً (؟).
لذلك، يظل السؤال المؤرق بعد أكثر من نصف قرن على رحيل المستعمر، هل نحن فعلاً نلنا إستقلالنا(؟؟). أم تواصلت العلاقات والهياكل والممارسات الإستعمارية على نحو آخر. لأننا حقيقة قد نكون إستبدلنا في يناير 1956 اللافتات وسيد بسيد، بينما بقيت السياسات والنظم الإستعمارية كما هي. بل الأدهي من كل ذلك ما يلوح في الأفق من إصرار هذه النخب على العودة والرجوع إلى ما قبل التركية السابقة، عهد الدويلات المتفرقة. فإن كانت دوافع الإستعمار منذ 1821 قد أضطرته لتوحيد السودان في دولة مركزية خدمة لمصالحه في إستنفاذ ثروات البلاد، فإننا اليوم وفي الألفية الثالثة نقف امام سعى النخبة المتسلطة التمسك بكراسي الحكم وإكتناز الثروة حتي وأن أدي ذلك إلى تفتيت وتقليص السودان إلى مثلث دنقلا، كوستي والأبيض(!!) كما دعي علانية القيادي بالموتمر الوطني الحاكم عبدالرحيم حمدي.
هذه المقدمة كان لابد منها حتى نبدأ في محاولة تحليل ما نراه اليوم من أن تاريخ السودان الحديث منذ الحكم الذاتي، ومن بعده الإستقلال السياسي، هو سلسلة أزمات سياسية متفاقمة ومزمنة ـ بإعتبار أن الإنقلابات العسكرية ذاتها تعبير عن أعلى مراحل إحتدام الأزمة ـ وحروب أهلية بدأت في الجنوب، وبسبب الفشل المتواصل في التعامل معها، تمددت شرقاً وغرباً". إذاً بإختصار، فتاريخنا الحديث هو حلقات متصلة من أزمات متصاعدة الوتيرة وحروب أهلية، ترتبط فيها الصراعات الدموية بالأزمات السياسية إرتباطاً عضوياً كنتيجة طبيعة لنوعية الهياكل والمكونات الموروثة لدولة ما بعد الإستعمار. وإن كنا لا نري داعي للتفصيل، لكن لفائدة المتشككين في ذلك نلفت نظرهم للرصد التالي:
أغسطس 1955، عامين من بعد الحكم الذاتي تفّجرت شرارة "أحداث/إنتفاضة توريت"، والتي شكّلت المرحلة الأولى للحرب الأهلية.
1958، عامين من بعد الإستقلال السياسي في 1956، قام إنقلاب الفريق إبراهيم عبود.
1964، الإنتفاضة الجماهيرية في الخرطوم والتي أشعلتها ندوة ضد الحرب الأهلية.
1965، فشل مؤتمر المائدة المستديرة الوطني في الوصول إلى نهاية للحرب الأهلية.
1969، إنقلاب العقيد جعفر النميري.
1971، إنقلاب الرائد هاشم العطاء ضد النميري.
1972، إتفاقية أديس أبابا للسلام ونهاية المرحلة الأولى للحرب الأهلية والتي تحققت بسبب بحث النميري عن حلفاء لدعم بقائه في السلطة.
1976، تحالف الأخوان المسلمين وحزب الأمة والإتحادي الديمقراطي، فيما سمي بالجبهة الوطنية يسيطر على الخرطوم لأيام قليلة.
1977، المصالحة الوطنية بين النميري والصادق والميرغني والترابي، وإنضمامهم جميعاً للإتحاد الإشتراكي.
1981 ـ 1983، خروقات متواصلة لإتفاقية أديس أبابا للسلام بإعادة تقسيم الجنوب، وتحويل مصفاة البترول من بانتيو إلى الشمال، إعتماد نظام النميري على القوات الصديقة.
مايو 1983، لجوء الحركة الشعبية للسلاح وبداية المرحلة الثانية من الحرب الأهلية في الجنوب.
1985، الإنتفاضة الشعبية الثانية في الخرطوم وإسقاط نظام مايو والدخول في أزمة مداها سنة لحكم المجلس العسكري الإنتقالي برئاسة سوار الدهب( وزير دفاع جعفر النميري).
1987 ـ 1989، مذابح جنوب كردفان التي قامت بها قوات المراحيل المدعومة من قبل حزب الأمة ووزير دفاعه فضل الله برمة ناصر، وإعلان أن المعارضة المسلحة في المنطقة مجرد عصابات للنهب المسلح.
1989، إنقلاب الجبهة الإسلامية لتمكين الإسلام السياسي، وإجهاض أي إتفاق سلام يقوم على إلغاء قوانين سبتمبر، مما كان سيؤدي إلى أن يربط غالبية السودانيين بين الحروب الأهلية وثمنها الفادح من قتل ودمار، وبين السلام وثمنه المتمثل في إلغاء قوانين الإسلام السياسي.
1992، نظام الإنقاذ يعلن الجهاد في الجنوب مما أجج نيران الأهلية ومهد لإنتشارها في الشرق والغرب.
1994، إنتشار الحرب الأهلية في الشرق، ثم في 2003 بدارفور.
2005، تصاعد الضغوط الإقليمية والدولية يجبر نظام الإسلام السياسي على توقيع إتفاقية السلام الشامل بنيروبي.
2006، تواصل الضغوط الخارجية يقود لإتفاقيات متعجلة في أبوجا والقاهرة وأسمرا.
2007، إستمرار الحرب في دارفور بفشل إتفاقية أبوجا مع تضعضع إتفاقية السلام الشامل وإتفاقية الشرق وإنهيار إتفاقية القاهرة.
هذه محطات مثلت بإختصار حصيلة 52 عاماً من الإستقلال السياسي(!!!)، وبالتالي ومن خلال هذا الرصد، يتضح أن أزماتنا السياسية في السودان لم تتفاقم في بدارفور ولا بدأت من شرق السودان، أو حتى الحرب الأهلية في الجنوب، ولا بساقية الإنقلابات العسكرية، إنما هي مظاهر تؤكد عن الفشل المتواصل للدولة السودانية والنخب الحاكمة من بعد الإستقلال. فالنزاعات المسلحة والأزمات السياسية هي في نهاية المطاف إنعكاس لصراع بين مختلف المجموعات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية في جدلية الهيمنة والتحرر داخل المجتمع.
وبما أن دولة سودان ما بعد الإستقلال السياسي في طبيعتها وهياكلها وتكوينها كما ورد في المقدمة، لم يتم "توطينها"، إنما تخلّقت في رحم النظام الإستعماري، وتم توريثها إلى البنيات السياسية المحلية. وأن الاستقلال السياسي جاء كمنحة بسبب تطورات إقليمية خارج السودان ذات صلة بالتنافس الدبلوماسي والسياسي الذي تفجر من بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك لم يكن هناك صراع حقيقي يخلق ويعيد صياغة الدولة والمجتمع حسب أهداف وطنية متفق عليها ورؤية إستراتيجية لخدمة هذه الأهداف وتحقيقها.
وبالتالي؛ ومن بعد الإستقلال، ولعدم وجود رؤى بديلة، إستمرت الإدارات المختلفة تعمل وتطبق مفاهيم وسياسات الإستعمار كضامن راسخ للإستقرار. فلا عجب أذاً أن تفشل المنظومات الحزبية ومؤسساتها في التعامل مع القضايا الوطنية، وتُدخل البلاد في نفق الإنقلابات العسكرية، كدلالة عن وصول الأزمة السياسية أعلي درجاتها كما شاهدنا عبر السنوات من 1958 إلى 1964، ومن 1969 إلى 1985، ومن 1989 وحتى الآن، بنشوء النظم الديكتاتورية العسكرية وغياب الديمقراطية.
لقد خاض السودانيين ـ ومازالوا ـ حروب دموية طويلة، لكن آخر معارك القوات السودانية المسلحة ضد قوي أجنبية، كانت ضمن صفوف جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. من بعدها، وإلى يومنا هذا، تواصلت عملياتها الجيش السوداني العسكرية ضد إخوتهم في الوطن، المنتفضين ضد الظلم وعدم المساواة. هي إذاً حروب إستعمار داخلي وطدت للقهر والتهميش، على نحو ما رأينا على مدى 39 عاماً بالجنوب، من 1955 وحتى 1972 في المرحلة الأولى للحرب، ومن 1983 وحتى 2005 في المرحلة الثانية. ثم من 1994 إلى 2006 في شرق السودان، من 2003 و إلى الآن بدارفور.
وغني عن القول أن الحروب الأهلية لا تقع لأن البشر يغوون قتل بعضهم البعض، ولا لأنها مفروضة من قبل قوى أجنبية شريرة تدفعها الإمبرالية، الكنائس، الصهيوينة، إسرائيل، الشيوعية....إلخ، أو أن السودانيين يختلفون عن بقية البشرية ويدمنون العنف. فمجتمعاتنا في أي بقعة من بقاع السودان بسجيتها مسالمة، دائماً باحثة عن الإستقرار. إن الصراعات الدامية التي تفجّرت داخلياً، هي بسبب غياب العدالة والتهميش السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي المتواصل. وتعلمنا تجارب الشعوب أن أي نظام دولة يسمح ويحمي الظلم، هو حقيقة يوجه دعوة مفتوحة للعنف. لذلك؛ الوصول إلى نقطة الصراع المسلح في السودان، هو نتيجة منطقية، لإن طبيعة الدولة الإستعمارية هذه ـ كما أوضحنا سابقاً ـ لم تتغير حتى من بعد جلاء قوات الإحتلال الاجنبي بالرغم من تعاقب مختلف أشكال الحكومات الوطنية على السلطة، والتي حافظت جميعها على نفس الهياكل والعلاقات القديمة.
وقبل أن نستطرد في التحليل لابد من وقفة مختصرة لما نعنيه بـ "الدولة" في واقع العالم الثالث (أي دولة مابعد الحقبة الإستعمارية Post Colonial State). وكما هو معلوم أن الدولة ليست هي الحكومة فقط، وإنما هي ذات مفهوم أشمل، يضم قوى المجتمع المدني، الأحزاب السياسية، المؤسسات والسياسات التعليمية والصحية والخدمية... إلخ. هناك من يظن أن الدولة جسم محايد مستقل عن المجتمع، كأنما سقط من السماء، وآخرين يتخيلون أنها توجد لخدمة وحماية جميع "مصالح كل المواطنين"، أو ما يسمى "بالمصالح الوطنية العليا". وفي بعض البلدان التي من ضمنها السودان، تُصبغ على الدولة درجة من التقديس الذي يفرض الإنصياع للحاكم لدرجة أشبه ما تكون بالعبادة. وعلى النقيض السياسي الآخر، نجد رؤية الشيوعية الكلاسيكة تقلص الدولة إلى مجرد أداة لخدمة طبقة إجتماعية واحدة بحيث تصبح مجرد لجنة تنفيذية للبرجوازية تخدم مصالحها الضيقة.
أما النهج الذي نعتقد أنه أفيد لفهم ماهية الدولة وجذور الحروب الأهلية والأزمات السياسية المزمنة في السودان، هو المفهوم الذي يقترح التعامل مع الدولة كإنعكاس للعلاقات الإجتماعية والإقتصادية ولكن بشكل مكثف، أو بإعتبارها دينامية تنافس وتعاون وصراع متواصل بين الفئات المختلفة. وفي قول آخر، الدولة هي تكثيف للعلاقات الإجتماعية/الإقتصادية عبر عمليات تنافس وصراع وتفاوض بين القوى المتطلعة للسيطرة والفئات المقاومة لها. لذلك فالدولة ليست مؤسسة أو هيكل جامد، إنما هي شبكة معقده من العمليات والعلاقات المتولدة من واقع إقتصادي وإجتماعي متغير.
إلا أنه في السودان ـ كما أبنا ـ فإن سياسات الدولة بقيت، وإلى حد بعيد، حتي من بعد جلاء المستعمر دون تغيير جذري. فالخطط الإقتصادية للدولة المستقلة سياسياً حافظت على نفس الأسس القديمة من إستخلاص الثروة بواسطة إخضاع المزارعين ـ الذين يشكلون غالبية القوى العاملة في البلد آنذاك ـ وعمليات الإنتاج الزراعي والتي كانت تشكل في مجملها 80% من ثروة الدولة، قبل ان تحل ببلادنا لعنة النفط.
حقيقة الأمر، أننا في السودان إستمرينا على مدى 41 عاماً نحارب بعضنا البعض، ومازلنا مستمرين، وطوال ذلك الوقت بقينا عاجزين وغير قادرين على إعادة هيكلة الدولة بما يحقق الإنتقال نحو تحقيق الإستقرار والسلام والتنمية. وقد بقي هذا حالنا بالرغم من إختبارنا لكل أنواع أنظمة الحكم المتخيلة، من حزبية تعددية، لنظام الحكم الواحد للدكتاتورية العسكرية، مروراً ببعض أشكال الليبرالية الديمقراطية، أو أشباه الإشتراكية، وأخيراً حكم الإسلام السياسي المتزمت. وعبر كافة هذه التجارب ظل ثابت الأزمات المتواصلة والصراع المسلح، سمة من سمات الدولة والمجتمع.
ولكي نوضح هذا الرأي بطريقة بسيطة، نشبّه الدولة في السودان بالشخص الذي لم يتمكن من النوم بإرتياح على جانب، فقرر الإنقلاب على الجانب الآخر، لكنه أيضاً لم يرتاح، فإستلقي على ظهره ومن بعدها على بطنه وكل ذلك دون جدوى، فظل هذا الشخص مستمراً على هذا المنوال ليلة بعد أخرى دون أن يفكر يوماً في تغيير سريره (!!!). أي أننا ظللنا نتقلب على جانب (نجرب كل أشكال الحكم)، لكننا لم نفكر في إعادة هيكلة هذه الدولة لأنها فشلت في تحقيق الإستقرار والتنمية والسلام،(تغيير المرقد).
وعندما نعود مرة أخرى للكيفية التي وصلنا بها إلى الإستقلال السياسي، بإعتباره مسئول عن تشكيل طبيعة الدولة بعد رحيل المسعتمر الأجنبي، نكتشف حقيقة وبصراحة، أنه لم تكن هناك أجندة وطنية محددة أو مشروع وطني. وإذا رجعنا لمذكرة الخريجين ـ التي يحتفي بها البعض بإعتبارها ذروة سنام نضالنا الوطني ـ سنجد أنها وللأسف الشديد لم تكون سوى قائمة مطلبية بحتة، تعلقت بالوظائف والتجارة لخدمة مطامح فئات إجتماعية، تدربت على أيدي المستعمر في كلية غردون التذكارية، فئة الأفندية كما يسميها البعض. وقد تجاهلت المذكرة تطلعات وحقوق غالبية المواطنين في مشاريع صحية وإجتماعية. بمعنى؛ أنها خلت تماماً من أي عمق ورؤية السياسية.
لذلك نعتقد أن مكمن الداء في أغلب قضايانا متأصل في حقيقة شكل النظم الموروثة من المستعمر والمنقولة إلى تجربة السلطة الـ "مابعد كلونيالية"، والتي لم نحقق فيها أي إعادة لهيكلة الدولة أو أهدافها. ومن المحير، كيف لنا أن نتوقع أن دولة أقامها المستعمر لحماية وجوده وخدمة أهدافه في الهيمنة السياسية المطلقة، ونهب الثروة، كيف لهذه الدولة، وبذات الشكل والمضمون أن تحقق التنمية المتوانة والعادلة وتخدم "الأهداف الوطنية العليا"، وتنتج مشروع سوداني وطني، كيف يمكن ذلك(!!).
حقيقة الأمر إن التطورات الإقليمية ومصالح القوى العالمية التي أدت لإستعمار السودان، هي ذاتها التي أنتجت إستقلاله، ذلك لأن الإحتلال الإستعماري لقوات الحكم الثنائي في عام 1898 كان بسبب إستراتيجيات إقليمية وعوامل أخري، مثلت رد فعل لمهددات الدولة المهدية، وعدم الإستقرار الذي تسببه لمصر. هذا الدفع الإستراتيجي لإحتلال السودان شكل نوعية إدارة الدولة الإستعمارية بمركزيتها الشديدة وطابعها العسكري، وذات الصفات إستمرت أثناء المرحلة الإنتقالية للإستقلال، ومن بعده مباشرة أو بشكل غير مباشر، أثرت على شكل الدولة المستقبلي في بلادنا. على سبيل المثال فإن آليات الدولة الإستعمارية للعنف المنظم (بوليس، جيش، أمن وخلافه) ساهمت في التخلق الذهني المرتبط بظاهرة الإنقلابات العسكرية، وهي لا تختلف من العقلية التي تعاملت لاحقاَ مع الصراعات الإجتماعية/الثقافية/السياسية ومقاومة التهميش، كتحدي عسكري، وتمرد يستحق الردع. كذلك السياسات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية للمستعمر في تركيز الإستثمارات والخدمات في منطقة ما بين النيلين (الأزرق والأبيض)، تواصلت دون إنقطاع بعد الإستقلال. وبالتالي فاقمت إشكاليات التنمية غير المتوزانة والتهميش في بلادنا. ولعل الورقة التي أشرنا لها لوزير مالية الإنقاذ السابق عبدالرحيم حمدي تؤكد ما نرمي له، فقط أنها وسعت رقعة المثلث الذهبي لتشمل دنقلا ـ كوستي الأبيض.
الهدف من هذا التحليل، هو أن نبين أننا ورثنا شكل للدولة مسئول عن الأزمة المتواصلة والحروب الأهلية لأنها ضمن عوامل أخري أديرت بقيادات فرخت أغلبهم كلية غردون التذكارية.[2] والذين كانوا جلهم نتاج حقيقي لدولة طابعها عسكري ومركزي، فظنوا أن هذه الصفات هي أساسية لضمان الإستقرار، وإعتبروها مرجعية تاريخية لا يجب التخلي عنها، ليس فقط على صعيد الممارسات لكن حتى في رؤاهم المستقبلية فأصبحو منغلقين على هذه الوضعية، متشربين بهذا السلوك وفرضيات الدولة الإستعمارية، دون أن يتعمقوا في منطلقات هذه السياسات أوأهدافها. وبالتالي هذه القيادات لم تكن قدر تحديات بناء مجتمع سياسي عادل وديمقراطي. هذه العقلية زاد من ضبابية رؤاها أن الإستقلال جاء بسبب التطورات الإستراتيجية الإقليمية التي أبناها، وقبل أن تنمو حركة وطنية كاملة التكوين، ذات أفكار واضحة لمستقبل الوطن كما كشف شعارهم (التحرير قبل التعمير).
إن الإستقلال لم يأتي بسبب عملية نضالية منظمة كاملة المعالم، لكنها كانت أقرب لمناورات دبلوماسية إستفاد منها محلياً قيادات القوى الطائفية، وتكنوقراط أحزابهم. فسياسة المستعمر، خلقت إرستقراطية دينية في المركز( لملء الفراغ الناجم عن هزيمة الحركة المهدية). وبالتالي منحتهم قطاعات شاسعة من الأراضي في المدن والحيازات الزراعية إضافة إلى التعاقدات الحكومية الضخمة. وعلى رأس هذه الإرستقراطية وقفت القيادات الطائفية التي أعطيت أرفع الألقاب الإستعمارية والأنواط، فأصبحوا رسمياً ضمن صفوف فرسان الإمبراطية البريطانية، في وقت أن مواطنينهم يرزحون تحت نير الهيمنة الأجنبية. وهم نفس القيادات التى رعت مالياً وجماهيراً أكبر أحزاب البلاد. في ذات الوقت كانت مجموعات من البيروقراطية السودانية، والتي تدربت على يد النظام الإستعماري قد أدركت أنهم بالضرورة مستفدين من توسع عمليات القطاع الخاص والتنمية الرأسمالية التي تقودها الطائفية، وبالتالي سعت لتوطيد علاقاتها بها.
من خلال هذه "الشراكة الذكية" برزت قيادات الأحزاب السياسية الكبرى والتى لم يخطر ببالها أفكار للتغيير البنيوي، أو التحول الديمقراطي للمجتمع السوداني. فمثل هذه الأفكار كانت نشازا مقارنة بالتدريب الذي تحصلوا عليه أثناء خدمتهم في أجهزة المستعمر القمعية (جيش، بوليس، إدارة أهلية وحكومات محلية)، كما أنها كانت تواكب تمامً نوعية التعليم في كلية غردون التذكارية التي أشرنا إليها أعلاه.
هؤلاء البيروقراطيين الذين شكلوا قيادات الإحزاب التقليدية، ومهندسي سياساتها وعلى الرغم من كونهم "أولاد بلد ومجاملين"، إلا أنهم حملوا معهم عدم مرونة تدريبهم البيروقراطي. فعكس تنظيميهم للأحزاب التشكك الأكيد في الممارسات الديمقراطية الحقيقية، وفي المشاركة الجماهيرية والإجماع الشعبي العريض. ففي حدود تدريبهم فإلإجماع الشعبي هو إجماع الصفوة. وبدلاً من الدفاع عن قضايا الظلامات والتطلعات الوطنية، عملت هذه القيادات على حماية مصالح البيوتات الطائفية. ذلك لأن الإرستقراطية الدينية لم توفر الدعم المادي فقط، وإنما والأهم من ذلك، وبسبب مكانتها وسطوتها الروحية، وفرت هذه القيادات التبعية العمياء المتعصبة والغير عرضة للتساؤل من قطاعات عريضة في المجتمعات الريفية في الغرب والشرق وأقصى شمال السودان.
ويبدو أن ستين عاماً لم تغيير كثيراً في واقع الأشياء، فقد حملت صحف الخرطوم إنباء في ديسمبر 2007، عن إحتفال بعيد ميلاد الكم وسبعين عاماً لأحد الزعامات الطائفية، والذي يرأس أحد الأحزاب الكبرى بحضور العديد من صناع الرأى السوداني، والمؤسسات الصحفية، من بينهم صحفي لامع وقيادي بارز محسوب على الطليعة الشابة من رموز قبائل اليسار، والذي لم يجد حرجاً في التأكيد على أن " إن لاغرو أن يصادف الإحتفال بميلاد الزعيم الطائفي أعياد ميلاد المسيح"!.
عند الإستقلال كانت الأحزاب الكبرى من أمة وإتحادي مثلها مثل المجموعات السياسية التي ظهرت من بعد عدة عقود في شرق السودان ودارفور، لا تمتلك أي برامج (سياسية/ثقافية/إجتماعية) محددة، أو من أي نوع. ولا كانوا جميعهم في الماضي أو الآن، يفرضون رسوم عضوية لمؤيديهم. وكما هو معلوم فإن العمل السياسي يتطلب ميزانيات لتغطية الإحتياجات المالية. إلا أن الأحزاب الكبرى إعتمدت على إريحية الإرستقراطية الطائفية، وشركائها في الإستثمارات التجارية والزراعية، ومن قبل كل ذلك مصادر التمويل الخارجي.
عليه؛ فإن سنوات التكوين الأولي للأحزاب السياسية في الأربيعينات لم تختلف كثيراً عن حالتها الآن بعد ما يقارب الخمسة عقود أو عن حال العديد من الحركات المسلحة، في كون أنهم أقرب إلى شركات تجارية منها إلى آليات للتحرر الوطني(!) ومن بعد الإستقلال وإلى يومنا هذا، بقيت الأحزاب مهتمة أكثر بالمناورات والخداع السياسي بدلاً عن مواجهة القضايا السياسية والإجتماعية والإقتصادية المصيرية. إن رؤى الصفوة العسكرية/المدنية المتعاقبة على الحكم في الخرطوم توجهها في أغلبة الأحيان ردود الأفعال والعصبية والمصلحة الذاتية، وبالتالي بقيت منشطرة ومحدودة الأثر. وهذه هي ذات الخاصيات السلبية التي طبعت التجمع الوطني الديمقراطي، والذي في أوج المعارك في الشرق والغرب، لم يفتح الله عليه حتى ولو ببيان إدانة لمجازر بورتسودان أو دارفور.
أن سلبية الصفوة السياسية، ونقضهم للوعود، ونهج تعاملهم مع الظلامات التاريخية للمهمشين في كافة أنحاء السودان، تظل من أهم العوامل التي أججت نيران الحروب الأهلية في بلادنا. فقد إستباحت هذه الصفوة بشقيها المعارض والحاكم كل المقدسات، فهي تارة تلعب بالعواطف الوطنية(التحرير قبل التعمير) ومرات عديدة بإسم الدين، ولكن دائماً من أجل تحقيق مكاسب سياسية وإقتصادية. وهذا الإستغلال للمقدسات كما هو معلوم للجميع وصل أعلى درجاته في ظل نظام الجبهة الإسلامية، ومجاهدي الدفاع الشعبي، والذين لم تتورع ققيادات الاسلام السياسي في توزيع مفاتيح الجنة عليهم، مع وعود الإقتران بالحور العين(!). غير أن الواقع العلمي يوضح أن هذا الإستغلال للمقدسات لم يكن حصرياً على أحزاب الإسلام السياسي، وإنما واكبت ذات هذه الممارسات بدايات تكوين الأحزاب فمنذ سنوات رصد الباحث سيدأحمد نقدالله في إحدى دراساته ذلك الزعيم الطائفي الذي أراد نظافة أراضيه لزراعة القطن بأقل تكلفة، فوعد أتباعه بأن من ينظف ويزرع شبر من أراضي السيد، سيجد جزاءه مماثلاً في الجنة (!).
إلا أن حسن الترابي، أظهر عبقريته في عدة مناحي، وفاق بدهائه الأرستقراطية الطائفية، لأنه أدرك أهمية القاعدة الإقتصادية في العمل السياسي، وعرف كيف أن القوى التقليدية تقامست فيما بينها إحتكار الزراعة والتجارة حتى لم يعد هناك مجالاً لبناء قاعدة إقتصادية جديدة مستقلة. فعمل قدراته العالية على إستدراج النميري باللأمامة مقابل السماح له بإنشاء بنك إسلامي معفى من كل أنواع الضرائب، مما خول له السيطرة على القطاع المصرفي، وتمويل كافة العمليات الإقتصادية من زراعة، تجارة صناعة، ... إلخ. وبالتالي في زمن وجيز تمكن من خلق قاعدة إقتصادية صلبة للحركة الإسلامية، أحكمت فيما بعد قبضتها على كافة القطاعات الأخرى. وذات العبقرية الترابية تضعنا اليوم في موقف غريب، وهو أن واقع الدولة السودانية يكشف أن أقوى تنظيم حزبي حاكم هو فرع لحركة الإسلام السياسي، كما أن أقوى تنظيم في المعارضة هو من ذات الأصل.
في نهاية المطاف وفي ظل هذا الرصد المختصر المبنى على مراجعة تحليلنا للستين عاماً الماضية، فإن الدولة السودانية مسئولة مباشرة عن إستمرار التهميش، القمع والتنمية الغير متوازنة والإحتراب في بلادنا قبل أي عوامل اخري خارجية والتي علي اي حال يظل دورها تأجيج نيران اشعلتها اولاً سياسات الصفوة الحاكمة. إن ماحاولنا عرضه في الصفحات السابقة نلخصة في التالي:
الصفوة الحاكمة في احزابها وباقي مؤسساتها عجزت أو لم تهتم بتقديم برامج سياسية أو إقتصادية لمصلحة الوطن كله.
القرارات داخل الأحزاب يتخذها البطارقة وتفرض من علٍ، بأقل قدر من المشاركة القاعدية.
ظلت الدوائر البيرقراطية حبيسة ممارسات وسلوكيات مرتبطة تاريخياً بالإدارة الإستعمارية.
هذا في مجمله أدى إلى أن الآليات والعلاقات والهياكل والمؤسسات التي وضعت أساساً قبل 60 عاماً لحماية إستمرارية وخدمة علاقات الهيمنة والإستغلال الإستعمارية في السياسة والإقتصاد والثقافة، إستمرت إلى حد بعيد بعد خروج قوات الإحتلال. ولا غرابة أذن أن بنيتنا السياسية عبر الستة عقود الماضية فشلت في التعامل مع الواقع المتغير للأمة السودانية، أو حتى أن تتوسط بنجاح بين المتطلبات المتنافسة لمختلف المجموعات الإجتماعية وشعوب السودان.
ففي السودان الحديث بقيت ـ كما كانت قبل 60 عاماً ـ أكثر الأجهزة تأثيراً، وإمكانيات، ويخصص لها النصيب الأكبر من الدخل القومي، هي مؤسسات الجيش والأمن والبوليس وآلياتهم، بمعنى أن إهتمام الدولة الإستعمارية بأجهزة القمع إستمر وتطور من بعد الإستقلال وإنتشر. فنحن نعيش في دولة حسب قول وزيرة الصحة قبل أسابيع، تصرف على صحة مواطنيها 2% فقط من جملة الميزانية، في الوقت الذي لا توجد سقوفات مالية لمصروفات أجهزة الأمن والقوات المسلحة.
خاتمة:
السودان اليوم حبيس رؤيتين متصارعتين، للهوية الوطنية وبالتالي مستقبل البلاد. فهناك التعريف التقليدي للأوضاع أنه ليس باللإمكان أبدع مما كان، وهي نظرة الصفوة الحاكمة التي أدمنت الإصرار على أنها قادرة على حل كافة الإشكاليات وفق هواها ورؤاها المبنية على أن الإسلام واللغة العربية، ليست مجرد أسلحة آيديولوجية وثقافية فحسب، وإنما هي أساس الشرعية الدستورية. وهي رؤى عبر عنها الصادق المهدي في الماضي بقوله: "أن الصفة الغالبة لأمتنا هي إسلامية والتعبير الغالب لها العروبة، فهذه الأمة لن تكون لها كينونة وكرامة ومكانة، إلا بالتجديد والهوية الإسلامية" ولا يختلف ذلك عن قول الترابي " ان من دون الإسلام، فالسودان لا كينونة له ولا توجه". إن الرؤية التقليدية للمجتمع السودان التي هيمنت على بلادنا منذ رحيل المستعمر، لا يمكن تبرئتها من وزر الصراعات والأزمات السياسية والحروب الأهلية، وبالتالي هي رؤية لا تحمل غير الدمار.
على النقيض من هذه الرؤية الإقصائية الضيقة، تقف مدرسة السودانوية، تتحدى النظام القائم بالدعوى لسودان أكثر عدالة وديمقراطية، قائم على أسس جديدة، رفضاً للأوضاع السائدة التي قادت للحرب والخراب. ورائد هذه المدرسة سياسي سوداني، لعله رجل الدولة الواقعي الوحيد الذي على مر على تاريخنا المعاصر، وهو إستراتيجي محنك أكد: "أن السودان يبحث عن روحه، عن هويته الحقيقية، وفشله في العثور عليها، يدفع البعض للجوء للعروبة، وفشلهم في ذلك يدفعهم للجوء للأسلام كعنصر توحيد. آخرين يلجئون لدعاوى الإنفصال. وفي كل تلك الحالات هناك تعتيم وإختلال في الرؤية يناسب المصالح الطائفية الضيقة. المطلوب منا أن نتخلص من كل هذه الولاءات المحدودة، وأن ننظر بعمق داخل بلادنا وفي تجارب الآخرين. إن بإمكاننا صياغة حضارة سودانية متفردة لا تحتاج أن تلجاء إلى أي مكان آخر".
للأسف هذا القائد الفذ فقدناه لمصلحة إستمرار الأوضاع السائدة، أنه الدكتور جون قرنق ديمامبيور الذي نادى من قبل "بضرورة" التغيير الجذري للدولة والحكومة المركزية، وبشكل ينهي وللأبد، احتكار السلطة بواسطة عصابات لصوص ومجرمين نصبوا أنفسهم علينا، بغض النظر عن خلفيتهم، إن كانت أحزاب سياسية، أو أسر متوارثة، أو طائفية دينية أو ضباط القوات المسلحة".
وأضيف الي كل ذلك ما نتلمسه يومياً في الصحف السودانية من أن السودان على شفير الهاوية بسبب نظام الاسلام السياسي، بالإضافة لفساده وعنصريته وإستغلاله للدين، وهو نظام أعطي لعدم المساواة و التهميش بعداً إثنياً واضحاً، مما ينذر بالمزيد من المخاطر المهولة مستقبلاً، وتضاعف المخاوف من تفجر العنف في أي إنتخابات قادمة بشكل يجعل ما حدث بكينياً مؤخراً مجرد نزهة صيف.
لكل ذلك عندما نحتفل بذكرى الإستقلال ياليتنا نخرج من بهرج الإحتفالية بعزم قوى وإصرار متجدد لوضع نهاية لـ 60 عاماً من الأزمات السياسية المزمنة والحروب الأهلية. وأن نعمل على إعادة هيكلة الدولة الوطنية لتصبح قادرة على الوقوف ضد كل أشكال التهميش والظلم، وليتحقق ذلك، لابد أن نعمل كما دعى الشهيد د. جون قرنق لقيام سودان على مرتكزات جديدة، وليتحقق ذلك على قوى التغيير أن تتجمع لإعادة هيكلة الدولة حتى نصل لأعتاب سودان جديد، واثق من هويته، فخور بتعدديته، ملتزم بحماية وداعم الكرامة الإنسانية لكل مواطنيه بالتساوي. بذلك وحده سيكون السودان في أمان وسلام مع نفسه ومع جيرانه وباقي العالم أجمع.
يناير 2008
| |
|
|
|
|
|
|
|