دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
نحو إمكانية سلام عادل ودائم وشامل بالسودان
|
نحو إمكانية سلام عادل ودائم وشامل بالسودان
بقلم: د. منصور يوسف العجب
رئيس المنظمة السودانية لحقوق الإنسان
ونائب دائرة الدندر سابقاً
هذه الدراسة مهداة للشعب السوداني العظيم وللوطن الحبيب ، الذي لا أسوى شيئا بدونه
[email protected]
--------------------------------------------------------------------------------
تنشر الديمقراطي في هذا الباب الفصل الأول من الدراسة التي ستصدر في كتيب قريباً
--------------------------------------------------------------------------------
الهدف من الدراسة:
1- مساران
2- المعايير في الحكم علي ملائمة المسارين لتحقيق السلام
3- حجم النزاع السوداني
4- أشكال النزاع والتي من أهمها
5- جزيئات الإشكال
6- جهاز الدولة والهياكل المشوهة
7- سمات الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
8- أسباب الأزمة
9- إختيار المسار الأسلم:
(أ) المصالحة الوطنية
(ب) دعائم السلام العادل والشامل والتسوية السياسية الشاملة
10- مرتكزات المرحلة الإنتقالية
اقرأ الفصل الثاني هنا
الهدف من الدراسة :
معالجة لأساليب فض النزاعات ووضع تصور متكامل لإدارة القضايا المتشعبة بالسودان للوصول لسلام عادل وشامل ودائم (management exercise).
1- مساران :
الحديث عن إمكانية السلام في السودان يقود بالضرورة للتمييز بين مسارين اختبرهم الشعب السوداني في مسيرته الطويلة والمريرة للبحث عن السلام والاستقرار والتنمية.
المسار الأول يتميز كما هو الحال الآن بإجراء المصالحات المبنية علي الاتفاقات الثنائية والمؤدية لدرجة من الاستيعاب السياسي الوظيفي . هذا الاستيعاب يتم في إطار الهياكل المشوهة ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة علي أساس القواعد التي يتبناها النظام الحاكم الآن بالسودان.
أما المسار الثاني فيسير في طريق الحل السياسي الشامل أو ما يسميه البعض بالتسوية السياسية الشاملة لتحقيق سلام عادل وشامل ودائم بالسودان وذلك من خلال إعادة هيكلة جهاز الحكم و مؤسساته السياسية والاقتصادية والاجتماعية المشوهة منذ عهد الاستعمار والي يومنا هذا.
2- المعايير في الحكم علي ملائمة المسارين لتحقيق السلام :
في تصورنا أن المعايير التي يجب أن نستند عليها في التمييز أو الحكم بملائمة أيا من هذين المسارين لتحقيق السلام ترتكز علي درجة وحدة وخطورة وتعقيد حجم النزاع.
3- حجم النزاع السوداني :
كما يعلم الجميع أن النزاع بالسودان قد اتسعت رقعته ليشمل مناطق أخرى عديدة بجانب جنوب السودان. نجده الآن بجبال النوبة في جنوب كردفان ومناطق البجة بشرق السودان وبجنوب النيل الأزرق ودار فور في أقصى الغرب. وقد اتسم النزاع في هذه المناطق بدموية حادة واتخذ عدة أشكال.
4- أشكال النزاع والتي من أهمها :
السياسي :
نتج عن ضعف أو غياب التعددية السياسية خاصة تحت النظم العسكرية ، والتي أدت لتجاوزات واسعة في حقوق الإنسان واضطرابات سياسية نشاهدها اليوم بالسودان.
أتسم هذا الشكل بالصراع الحاد حول السلطة السياسية وإمكانيات المشاركة فيها . للأسف الشديد وصل هذا الشكل قمته في الوقت الحاضر للطبيعة الأحادية للنظام العسكري العقائدي الحالي والعازل للآخرين من خلال احتكار الحقيقة الدينية والسياسية وتبني نظام الحزب الواحد المرتكز علي عقلية القلعة (Fortress mentality) الرافضة لتقديم درجة مناسبة من التنازلات بدلا عن العنف المنظم الذي ينتهجه النظام الحالي خاصة الصقور فيه والتي تخاف من المحاسبة علي ما انتهكته من جرائم ضد الإنسانية ولضلوعها في الفساد البيروقراطي.
الأيدولوجي:
يتمثل هذا الشكل في النزاع بين المعارضة والدولة ونتج عن التفاوتات والفوارق الهيكلية الحادة وعدم المساواة بين جماهير المناطق المهمشة وهي الأغلبية عدديا، والمركز والفئات الاجتماعية المهيمنة عليه. هذه التفاوتات الهيكلية والتهميش المرتبط بها أدى لظهور اتجاه رافض للدولة والتي بدأ يعتبرها المهمشون بالأطراف والمدن دولة ناهبة ووهمية. من الضروري أن نعترف بان بالمدن مهمشين نتيجة للتحولات السكانية (الديموجرافية) التي ارتبطت بتدمير الاقتصاد المعيشي بالريف والنزوح نحو المدن الناتج عن ذلك بحثا عن لقمة العيش. ان اعدادا غفيرة بالمدن اليوم تعيش على الهامش مما اعطى المدن خاصية جديدة يمكن تسميتها بترييف المدن من حيث انعدام الخدمات الاساسية لهذه المجموعات كما هو الحال بالريف، ومن حيث الصراع القاسي مع الحياة وامتهان المهن الهامشية. من هذا الفهم يجب تصحيح المفهوم البدائي الخاطئ الذي يعتبر الوجود المتعدد للقوميات المختلفة بالمدن بانه دلالة على ذوبان هذه القوميات في قومية سودانية واحدة. بنظرة بسيطة للتجمعات السكنية بالمدن لجموع النازحين والتي عادة ما تتخذ الطابع الاثني او القبلي نجد بان ما يسمي بالانصهار هي مسألة ظاهرية فقط وليست حقيقية (.(apparent and not real
ولتوضيح مفهوم الدولة الناهبة نجده يرمز لتراجع الدولة عن مسؤلياتها التاريخية في تقديم الدعم والخدمات الاجتماعية للقطاعات الفقيرة في الوقت الذي تفرض عليهم الضرائب الباهظة التي انهكت كاهلهم . ومن هذا المنطلق تصبح الدولة وهمية في نظر هذه المجموعات مما يشجع النعرات الاثنية والانفصالية.
أن انهيار الدولة الذي نشاهده الآن يدق ناقوس الخطر ويهدد بتمزيق وبلقنة السودان أن لم تتخذ التدابير اللازمة لإيقافه باشراك أهل السودان.
أما مفهوم التهميش الذي كثر استعماله في الأدبيات السودانية هذه الأيام فهو يعني غياب او انعدام المساواة وعادة ما يشير إلى عدم الوصول إلى الموارد الأساسية أو عدم توفرها
(non-access to, or non-availability of key resources).
وبغرض تفسير المفهوم قيد البحث يمكن تحديد نوعين من التهميش. عادة ما يقصد بالمهمشين الذين يحرمون من السلع المادية والاجتماعية والثقافية أو الهياكل السياسية التي تسمح لهم بالمشاركة الحقيقية في السلطة والتي مجتمعة تلبي الاحتياجات الأساسية والضرورية لحياة ذات معني لهم. ثم من الممكن أيضا أن نميز بين التهميش الذي يحدث عندما يحرم الناس من الوصول إلى وسائل الإنتاج ، والتهميش الذي يحدث كنتاج لعدم توزيع السلع الأساسية بينهم. إن سبب النوع الأول من التهميش يكمن في حيز الإنتاج في الوقت الذي يكمن فيه النوع الثاني في حيز التوزيع. إن التفاوت الناتج عن ذلك في التعليم والصحة والتوظيف والدخل وفي الوصول للموارد والخدمات والتمثيل السياسي والمرتبط بالتهميش، يعمل علي إدامة عجز المحرومين. (Perpetuate the powerlessness of the excluded ) لذلك نقول لتكون حياة المواطن ذات قيمة ومعني لابد من حصوله علي السلع التي تلبي احتياجاته الأساسية. ولا معني للحق في الحياة إن لم تتوفر سبل الحياة الكريمة.
العرقي:
إنعكس هذا الشكل من النزاع في الصراع بين المجموعات العربية والمسلمة المهيمنة، والعناصر غير العربية ذات الأصول الأفريقية والتي تمثل أغلبية أهل السودان. هذا النزاع تحول لعنف مباشر بحمل السلاح ، وهنا مكمن الخطر. من المهم إن ندرك إن التعدد العرقي لا يقود بمفرده للنزاعات. إذ من غير العادي إن يمزق الناس بعضهم البعض لانهم جاءوا من مجموعات عرقية مختلفة. هذا النوع من النزاعات لا يأتي من فراغ، بل هو نتاج لظروف أو واقع تاريخي معين توفرت فيه الشروط التي وجد فيها المتنافسون أفرادا أو جماعات أو طبقات إن من المناسب اللجوء لهذا العامل. وعلي الرغم من حدوث هذا النوع من النزاعات بصورة متكررة إلا انه غير حتمي ، لكن هناك عوامل كثيرة تساعد في حدوثه ودرجة وحدة كثافته ومن أهم هذه الأسباب:
ضعف الانتماء الحزبي، وضعف التكوينات الطبقية، وضعف الآليات لإدارة النزاعات الاثنية. كما تشمل أيضا خوف الأقليات من غياب ضوابط الحماية لهم، والنظرة للولاءات الاثنية والقيم كمهدد للتماسك والتجانس القومي بدلا من الاستفادة منها كآلية للتنمية والتغيير الاجتماعي الإيجابي، وغياب او ضعف الديمقراطية ومبادئ المساواة في توزيع الدخول والأراضي والوصول للسلطة والموارد والمشاركة السياسية، والممارسات القمعية والإرهابية كوسائل لحل مشاكل الاثنية والمفهوم الضيق لحكم الأغلبية((Majoritarianism وتسييس القضايا التي تكمن فيها بذور التمزق وممارسات النظام السياسي من انتهاكات للحقوق الأساسية للإنسان والمتمثلة في القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية، والقمع المنظم للجماهير.
وللأسف الشديد لعب انتهاك و استغلال الدولة من قبل النخب دورا ضارا في تأجيج هذا النوع من النزاعات. فالدولة تحت النظم الديمقراطية كما يقول بروفيسور شريف حرير ( حصلت لها خصخصة كاملة ليس للمهمشين مكان فيها، كما تمت عسكرتها تحت النظم العسكرية وأخرجت من حيز المجتمع المدني وارتكزت علي الأجهزة القمعية في قمع الجماهير).
البيئي:
تمثل في الصراع حول الموارد الطبيعية والاقتصادية والسيطرة عليها واستغلالها او حتي سوء استغلالها. ومن الأمثلة لذلك الصراع حول البترول والأراضي الزراعية والرعوية.
الثقافي:
بلغ هذا الشكل قمته تحت النظام العسكري الإسلامي الأصولي الحالي نتيجة للتوجه الثقافي والديني الأحادي للنظام واحتكاره للحقيقة وإخضاعه أو إهماله للثقافات الأخرى . الهيمنة الثقافية التي نعيشها اليوم بالسودان مرتبطة ارتباطا عضويا باستغلال دين الأغلبية لرفع الأقلية واحتكارها للقرارات السياسية والاقتصادية مما مكن هذه الأقلية لفرض هيمنتها الثقافية. ساعد في ذلك استغلال أجهزة القمع لفرض التوجه الثقافي والديني للنظام وحملاته العسكرية الهادفة لتدمير التراث الثقافي الأفريقي للمجموعات الأفريقية. كما إن فشل السياسات الاقتصادية وحالة العوز الغذائي المرتبطة بهذه السياسات، فرض واقعا جديدا علي المجموعات ذات الأصول الأفريقية والغير مسلمة النازحة للاستجابة علي مضض لسياسات التعريب والاسلمة القسرية من خلال مدهم بالغذاء الذي هو حق إنساني أساسي لهم. واكب هذا الوضع أيضا غرس ثقافة العنف وعسكرة المجتمع.
الهوية:
من أهم عناصر هذا الشكل من أشكال النزاع وكما نشاهدها الآن التي تتمثل في التنافس الاثني والديني والقبلي واللغوي للوصول للسلطة السياسية والاقتصادية وتحقيق العدل الاجتماعي. من المهم إن ندرك إن السودان لم يتكون بعد كدولة أمة (Nation state) بل ما زال دولة أمم (State of nations). إن الأمانة الوطنية تتطلب إن نقولها بكل صدق، إن النتائج الملموسة للصراعات الاثنية وصراعات الهوية في أي مكان هي تدمير فرص بناء الأمة إن لم تعالج ديمقراطيا. ولا يوجد بلد علي الأرض يتحمل بذخ إطلاق عنان هذا الشكل من النزاعات او إهماله بعدم التصدي ديمقراطيا لا سبابه المكانية والزمانية أو باتباع سياسات الإقصاء والقمع ضد الآخرين.
5- جزيئات الإشكال :
من الممكن تجزئة (Subdivide) هذه الأشكال من النزاع علي النحو التالي :
النزاعات الحدودية في إطار الدولة الوطنية ودول الجوار:- ونجدها بدار فور، وجنوب كردفان، وبحر الغزال، والنيل الأزرق، ومناطق البجة، وبين الشمال والجنوب، وعلي مستوي أوسع بين السودان وجيرانه.
النزاعات والمركز السياسي :- تجاوز هذا النزاع الفضاء الجغرافي (Geographical space) لفضاءات سياسية واقتصادية أوسع. فالمناطق المهمشة خاصة بدار فور وكردفان والنيل الأزرق ومناطق البجة والجنوب تنظر إلى النزاع بين الأطراف والمركز شمالا ، باعتباره صراعا مع المركز السياسي وليس المركز الجغرافي. فالكل يعلم إن العديد من أهلنا من الريف سكنوا جغرافيا ببعض المدن التي تمثل في نظرهم المركز شمالا، ولكن معاناتهم الاساسيه والمستمرة ارتبطت بهيمنة بعض الفئات سياسيا واقتصاديا علي المركز وبتبنيها للسياسات والقوانين التى استهدفتهم وأضرت بهم وعمقت من تهميشهم. فبزيارة بسيطة لسجن كوبر وسجن أمدرمان تنكشف لنا بوضوح مدي معاناة هذه الجماعات المهمشة التي هي ضحية للظروف المعيشية القاسية وضرورة صراعهم للبقاء في وجه الظلم والاستبداد والقوانين الجائرة بالمركز السياسي المرتبط بالإسلام السياسي وليس المركز الجغرافي.
النزاع الجيوسياسي :- وجب علينا أيضا إن نذكر بان بعض النزاعات بين الأقاليم المتداخلة مرتبطة بهذا النوع والتي من أهمها النزاع بين الرعاة وصغار المزارعين من جهة والزراعة الآلية والمروية من جهة أخرى والنزاع بين البدو السيارة من إقليم لإقليم والمجالس المحلية في الأقاليم المتداخلة التي تفرض عليهم ضرائب مزدوجة (Double taxation). نشير هنا بالتحديد لقبائل رفاعة الشرق والهوج في رحلتها الموسمية جنوبا وشمالا وقبائل البقارة والدينكا ومجموعات المابان.
نزاعات ألاثنيات والاقليات :- قناعتنا إن كلمة أقلية كلمة جارحة لأنها حقيقة ترمز لمن هو اقل أهمية ولا نري إن هناك من هو اقل او اكثر من الآخر أهمية او مواطنة (No one is a minority or a majority of any body). النظرة السليمة هي إن هنالك مصالح متداخلة بين ما هو مستغل وما هو مستغل نتج عنها تهميشا لقطاعات واسعة علي مستوي التوزيع والملكية. وبالتالي أصبحت الجماعات المهمشة والتي هي اكثر عددية اقل تمكينا (Endowed) واقل استحقاقا (Entitled) كما يقول البر وفسر الهندي امارتا سن الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد. أدى ضعف التمكين والاستحقاق لهذه الجماعات علي إضعاف قدراتهم التنظيمية وبالتالي كان وما يزال صوتهم غير مسموع ولا مشاركة فعلية لهم في القرارات. واعتبرتهم الفئات المهيمنة علي المركز لا قيمة لهم بحسبان قوتهم الاقتصادية والتنظيمية الضعيفة. نحذر من الخطأ في النظر إليهم بالمنظار الاثني الضيق عندما يرفعوا أصواتهم مطالبين بحقوقهم كمهمشين. إن النظرة العلمية التي تساعدنا في الخروج من الاثنية هي اعتبار الأغلبية بالسودان هم المسحوقون والذين لابد من علاج قضاياهم بصورة علمية بالتصدي المسؤول لأسباب تهميشهم.
هـ- الإلزام الديني:- يتمثل في فرض الإسلام السياسي والدولة الدينية وما يرتبط معه من زرع ثقافة العنف والتمييز الديني، من خلال أجهزة القمع وجهاز الدولة والنظام المصرفي والقوانين المقيدة للحريات.إن بالسودان اكثر من 570 قبيلة وربع لغات أفريقيا وبه كل الديانات السماوية. لذلك لا يمكن فرض نهج واحد إلا بالقوة والقوة نتائجها محدودة كما نشاهده اليوم بالسودان. إن مفهوم الإلزام الديني بالسودان ارتبط بنظرة حكومة الجبهة عندما جاءت للحكم لمفهوم الأغلبية علي أساس ديني وعلي أساس تقسيم السودان لجنوب وشمال. إن كلا المفهومين لا يعكسان واقع السودان التعددي المعقد كما إن تقسيم السودان بالتحديد لشمال وجنوب فيه إساءة للأغلبية المضطهدة والمسحوقة. في نظرنا بالسودان هناك شمالان كما يقول الدكتور شريف حرير شمال جغرافي وشمال سياسي ، الشمال السياسي يرمز للسلطة بالمركز/ الخرطوم. إن هذا الفهم يساعدنا في الخروج من الاثنية كما ذكرنا سابقا. فالشمال الجغرافي لا يسبب مشكلة ولكن الشمال السياسي الذي ارتبط بالإسلام السياسي هو المشكلة الحقيقية. يجب إن نتذكر إن ليس بالسودان أغلبية مسلمة وأفريقية، فالأغلبية هم المهمشون والمسحوقون. ولكن الذي حصل كما ذكرنا سابقا هو استغلال الغالبية المهمشة لتحقيق ذلك إن كان في تجنيدها قسرا في الحرب او استغلال قوة عملها كعمالة رخيصة في نشاطات متعددة او بخلق الصراعات بينها لإضعافها وبالتالي الهيمنة عليها.
وـ حق تقرير المصير:- إن حق تقرير المصير لا يعني بالضرورة المطالبة بالانفصال. فهو يتراوح بين الحكم الذاتي الإقليمي والفدرالي والكونفدرالي وفي الحالة القصوى الانفصال. وعلي ارض الواقع رفعت هذا المطلب شعوب جنوب السودان وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق (الانقسنا). الهم الأساسي لهذه الشعوب هو الحياة الآمنة والمشاركة الفاعلة في السلطة السياسية والاقتصادية ومنحها لهم وإنهاء العنف ضدهم وإنهاء الاستغلال الاقتصادي لشعوبهم وسياسة التهميش الثقافي.
6- جهاز الدولة والهياكل المشوهة
من المهم إن نكرر إن هذه النزاعات تجد جذورها في الهياكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المشوهة بالسودان. وعلي الرغم من إن جذورها ترجع للإرث الاستعماري من نمط التنمية الغير متوازنة والتوجه الخارجي للاقتصاد السوداني لكن لا يمكن إن نعفي الحكومات الوطنية التي تبعت ذلك منذ الاستقلال من المسئولية. لقد عملت هذه الحكومات بدون استثناء وعلي درجات متفاوتة علي مواصلة نفس النمط من التنمية الاقتصادية والاجتماعية الغير متوازن. وبالفعل استغلت الدولة بطريقة وسعت وعمقت هذه التفاوتات والتقسيمات بتركيز السلطة السياسية والاقتصادية بالمركز علي حساب الأطراف والقطاعات العريضة للشعب السوداني.وحتى في حالة تطبيق نظام الحكم الفدرالي كما يحدث الآن بالسودان حيث هنالك 26 ولاية لا يعدو ذلك تقسيما للسودان لمناطق إدارية علي أساس جغرافي علي مساحات صغيرة من دون أي اعتبار للمشاركة الحقيقية. كل الهدف من نظام الحكم الفيدرالي الحالي توزيع السلطة لزبانية النظام وعملائه وجيوبه في مناطق الريف ولتقوية تركيز القبضة الأمنية للمركز علي الأطراف. وعلي الرغم من الإنجاز المتحقق في وسائل الاتصالات إلا أنها أصبحت أداة هامة لأجهزة القمع.
من المهم أن ندرك إن النزعة الديكتاتورية والطبيعة الأحادية للنظام السوداني الحالي، لا تسمح أو تساعد بأي حال من الأحوال لأي شكل من أشكال المشاركة الهادفة للحكم السليم بالسودان.
وبالتأكيد أصبحت الدولة مصدرا هاما للحصول علي الموارد وأداة للقمع والاستغلال من قبل الذين يسيطرون علي السلطة السياسية ويحتكرون النشاطات والمواقع الاقتصادية الهامة بالبلاد. لا يفوتنا إن نذكر إن النظام الحالي ومنذ استيلاءه على السلطة عمل علي احتكار الإدارات بالمصارف وتوظيفها لاحتكار النشاطات الاقتصادية باعتبارها أهم المفاصل في العملية الاقتصادية، علي عكس الحكومات السابقة، وبذلك همش الكثيرين مما كانوا نشطين اقتصاديا وأدي لإفلاسهم وخروجهم من حلبة النشاطات الاقتصادية. يجب أن نذكر إن التجاوزات في النظام المصرفي والتي أكدتها لجان التحقيق بالنائب العام أبان الفترة الديمقراطية 89-1986 والتي شارفت علي تقديمها للقضاء ومسائلة بعض قيادات حزب الجبهة آنذاك كانت من أهم الأسباب التي عجلت بالانقلاب. لا يفوت علي أحد أن النظام الحالي ومنذ أيامه الأولى عمل علي السيطرة علي جهاز الدولة وإفراغه من الكوادر المهنية المقتدرة التي لا تنتمي لحزب الجبهة الإسلامية الحاكم ومهما تغيرت الأسماء.
إن إساءة واستغلال الدولة وتراجعها عن مسؤلياتها التاريخية في توفير الخدمات العامة الأساسية قد وصل ذروته تحت النظام العقائدي الأحادي الحالي العازل للآخرين والقامع لهم ونتجت عنه أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية خطيرة نلخصها في الآتي:-
7- سمات الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية:
الانتشار الخطير للنشاطات الاقتصادية الطفيلية للدولة وزبانيتها علي حساب الإنتاج أضرت بالتوازن البيئي ودمرت الاقتصاد المعيشي للملايين بالمناطق الريفية النائية من دون توفير البدائل المناسبة لهم. أدي هذا الوضع لتهميش هذه القطاعات ودفع بأعداد ضخمة منها إلى الهجرة للمدن لتعيش تحت ظروف إنسانية صعبة.
إن تعداد الخرطوم الآن قد تجاوز ال7ملايين وغالبيتهم إن لم يكونوا جميعا يعيشون في ظروف قاسية خاصة بعد تراجع الدولة عن مسئولياتها التاريخية في تقديم الخدمات الاجتماعية. ولقد زادت نسبة سكان الحضر للسكان بالسودان من 8% في عام 1955 إلى اكثر من 30% عام 1993. كما زادت نسبة سكان الخرطوم لإجمالي سكان الحضر وسكان الشمالية من 30% و32% علي التوالي عام 1955 إلى 39% و43% علي التوالي في السنوات القليلة الماضية ، ويتوقع إن تزيد نسبة سكان الحضر بالخرطوم بأكثر من 85%. (راجعDavies H.R.Jص. 34 مجلة الدراسات السودانية لندن).
استياء وتذمر قطاعات واسعة من أداء الدولة مما يهدد بتفتيت السودان.
اتساع رقعة الحرب المدمرة لأجزاء أخرى بالسودان والتي تزيد تكلفتها اليومية عن المليون دولار أدى لموت حوالي الـ2 مليون وتهجير 4.3 مليون كنازحين كما أدى لتدمير واسع لراس المال الاجتماعي والإنساني وتدمير البنيات التحتية وإهدار الفائض الاقتصادي، وهجرة أعداد كبيرة لخارج الوطن طلبا للحماية الدولية من الاضطهاد السياسي والديني والعرقي. نجد الآن علي حسب الإحصائيات إن من كل 8 لاجئين بالعالم واحدا سودانيا.
تدني حاد للدخول الحقيقية للمواطنين ، حيث سجل معدل دخل الفرد انخفاضا قدره 40% مقارنة بعام 1998 ويعاني الناتج المحلي الإجمالي (GDP) من انكماش علي الرغم من إنتاج البترول.
ركودا اقتصاديا بالبلاد أدى لان يعيش اكثر من 95% تحت خط الفقر. وفي نفس الاتجاه توضح إحصاءات منظمة الغذاء والزارعة التابعة للأمم المتحدة (FAO) إن هنالك حوالي 8.4 مليون سوداني يعانون من عوز غذائي مزمن (Chronic food insecurity) ليس بمقدورهم الوصول للغذاء خاصة بمناطق كدار فور وجبال البحر الأحمر والجنوب وجنوب النيل الأزرق.
انتشار المجاعات والأمراض والأوبئة كالنزلات المعوية المؤدية لموت الأطفال والإيدز والسل والملاريا والعمي الليلي والدودة الغينية والكلزار والغدة الدرقية.
الضرائب الباهظة والتي تمثل الضرائب غير المباشرة التي يقع عبئها علي ذوي الدخول الدنيا حوالي 78% من عائد الضرائب.
فوارق حادة في الدخل. يوضح البروفيسور محمد هاشم عوض بان 9% يحصلون علي 60% من الدخل القومي في الوقت الذي يقتسم ال91% الباقين ال 40% المتبقية. هذا الوضع يزيد سوء في غرب البلاد وجبال النوبة والشرق وجنوب النيل الأزرق وجنوب السودان ويدحض كل الدعاوى الرسمية بالمساواة.
التفاوتات الإقليمية الناتجة عن تمركز نسبة عالية من الدخل القومي والخدمات الأساسية العامة بالمركز خاصة الخرطوم والمدن الكبرى الأخرى. إن الصراع المسلح في العديد من المناطق المهمشة هو نتاجا للتنمية غير المتوازنة التي كانت سمة ملازمة للسودان منذ الاستقلال.
معدلات عالية للعطالة لأكثر من 20% من القوي العاملة في وقت انعدم فيه الدعم للسلع الأساسية.
التدني الحاد في الخدمات العامة حيث تواجه البلاد تدنيا خطيرا في خدمات الصحة والتعليم والخدمات الضرورية الأخرى. هنالك 33% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون من نقص في الوزن و 34% من عجز في النمو و13% يموتون عند الولادة أي 130 من كل ألف مولود وحوالي 5 مليون يعانون من النقص في فيتامين A الذي يؤدي النقص فيه إلى العمي الليلي و75% يواجهون نفس الخطر. كما تعاني البلاد من نقص حاد في المياه الصالحة للشرب وخدمات التصريف الصحي. تؤكد الإحصاءات إن 49% فقط يحصلون علي المياه الصالحة للشرب و 53% يتمتعون بخدمات التصريف الصحي. إن الآثار السالبة علي الصحة المترتبة عن النقص في هذه الخدمات الهامة لا تغب علي أحد. لقد تقلصت ميزانية الدولة للصحة إلى 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي مما نتج عنه تقلصا في حملات التطعيم من 82% إلى 20% وفي توفير السوائل تعويضا لفقدانها خاصة وسط الأطفال من 7 مليون كيس إلى 2 مليون (راجع البرنامج القطري لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ( UNDP (Country Programme. أدى التقلص الحاد في ميزانية الدولة للصحة مع ارتفاع تكلفة العلاج بتحويل العلاج الصحي إلى سلعة لصعوبة الحصول علي الخدمات الصحية ومعها فقدان القدرة علي العمل والإنتاج. فالان لا تزيد نسبة الحاصلين علي الخدمات الصحية بالريف عن اكثر من 20%
العجز المستمر في الموازنة الداخلية والخارجية حيث تؤكد إحصاءات وزارة المالية والاقتصاد الوطني المبنية علي تقرير بنك السودان لعام 2000 إن العجز في الميزانية العامة يمثل 0.5%من الناتج المحلي الإجمالي أي حولي 57 مليون دولار باعتبار الناتج المحلي بالأسعار الجارية يساوي 11.4 بليون دولار أمريكي لعام 2000. وفي نفس الاتجاه سجل الحساب الجاري في ميزان المدفوعات عجزا حجمه 517.47 مليون دولار في عام 2000 علي الرغم من ارتفاع قيمة صادرات البترول والتي بلغت 1240.7 مليون دولار لنفس العام. الشيء المخيف حقيقة هو إهمال القطاعات الأخرى بالتركيز علي صادرات البترول ومشتقاته حيث بلغت نسبة عائدات الصادر من البترول للعائد الكلي من الصادرات حوالي 74.7% عام 2000 في الوقت الذي انخفضت فيه نسبة عائدات السلع التقليدية كالمواشي والصمغ العربي واللحوم والسكر والذرة والي حد ما القطن.( راجع تقرير بنك السودان لعام 2000).
يعكس ذلك فشل برامج التكييف الهيكلي في رفع الإنتاجية ومن خلالها الصادرات. وعلي الرغم من انخفاض العجز التجاري نسبيا نسبة لتصدير البترول في السنوات الأولى منذ عام 1999 لكن هناك احتمال وارد في المديين المتوسط والبعيد إن ترتفع قيمة الجنيه السوداني ارتفاعا وهميا مما يضعف من قدرة المنتجات الزراعية علي المنافسة في الأسواق العالمية وبالتالي يضر بالاقتصاد الزراعي أسوة بالتجربة النيجيرية حيث تركز الاعتماد علي تصدير البترول. زد علي ذلك فان الاعتماد الشديد علي سلعة واحدة كالبترول يعرض البلاد لتقلبات أسعاره في الأسواق العالمية كما ليس هنالك ضمانا لإعادة توزيع العائد منه بصوره عادله.
انكماش العون الخارجي، حيث انكمش من حوالي 1,129 مليون دولار عام 1985 إلى حوالي 136.5 مليون دولار عام 1997
تدهور الإنتاج الصناعي : سجل القطاع الصناعي تدهورا في معدلات نموه السنوية من 7.3% عام 1996 إلى 3.1% في عام 1999 (راجع الـ IMF) .
ويعاني هذا القطاع من مشاكل عدة من بينها :النقص في المدخلات وقطع الغيار ، انقطاع التيار الكهربائي، ظروف العمل القاسية، الفساد البيروقراطي، القيود الشديدة، الضرائب الباهظة، انكماش التمويل والمحسوبية في التسهيلات المصرفية، ضعف البنيات التحتية، ارتفاع تكلفة وصعوبة المواصلات، سوء ورداءة التصريف الصحي وهجرة العمالة المدربة. لذلك يواجه القطاع الصناعي ضعفا شديدا في طاقته الإنتاجية التي لا تزيد عن ال30% في احسن الحالات. انعكس ذلك سلبا علي تكلفة الإنتاج وبالتالي أسعار السلع الاستهلاكية، وعلي تكلفة استبدال الماكينات القديمة وعلي إمكانية استيعاب الأعداد الغفيرة من النازحين وضحايا الحرب، وعلي الترابطات الخلفية والأمامية لهذا القطاع مع القطاعات الأخرى الهامة كالقطاع الزراعي.
إن الاستراتيجية المتبعة في هذا القطاع ، تتأخذ من مرحلة بدائل الواردات لإنتاج السلع الاستهلاكية نقطة أساسية ، كمرحلة مقررة تاريخيا (historically determined). ولكن التاريخ الاقتصادي للدول المتقدمة صناعيا ، يشير لشئ مختلف . فصحيح أن صناعات السلع الاستهلاكية في هذه الدول التي بدأت فيها الثورة الصناعية ، قد ساهمت مساهمة هامة نسبيا في القيمة المضافة بهذه الدول . ولكن هذه الصناعات أيضا ، قامت في ذلك الوقت بانتاج وسائل الانتاج الخاصة بها ، كما وجدت في نفس الوقت صناعات أخرى لانتاج وسائل الانتاج لصناعات السلع الاستهلاكية . الفهم الخاطئ لهذه الحقيقة التاريخية ، قاد للحيرة الزائفة (false dilemma ) في السودان لاختيار مساره في التصنيع . لذلك كانت الربكة بين تطوير صناعات السلع الاستهلاكية أو صناعات وسائل الانتاج ، وبين تطوير صناعة بدائل الواردات أم الصناعات الموجهة للتصدير ، وبين الصناعات ذات الكثافة الرأسمالية العالية أو الصناعات ذات الكثافة العمالية العالية . وفي النهاية كان الخيار لصناعات السلع الاستهلاكية ، الذي صاحبه اهمالا تاما للصناعات الأساسية والمساعدة وضرورة تحقيق التوازن النسبي المطلوب اقتصاديا بين هاتين الصناعتين .
بعض الادوات المستعملة لتنفيذ سياسة بدائل الواردات كالحماية الجمركية الشديدة ، والحوافز الكبيرة لرأس المال الخاص ، نتجت عنها نتائج سلبية .
هذه السياسة افتقدت لاستراتيجية التنمية المتكاملة ، كما اتسمت الصناعات التي قامت على أساسها بطبيعة معزولة (enclave character ) .
لم يتبع معيار التكامل بين المشاريع الاستثمارية في اختيار المشروعات.
ركز التصنيع على انتاج السلع الكمالية والغير ضرورية والمستعملة بواسطة قطاع صغير من النخبة ، مما حد من اتساع السوق المحلي .
ساهم تركيز هذه الصناعات في المناطق الحضرية ، في تعزيز الازدواجية الاقليمية (regional duality) والتفاوتات بين الاطراف والمركز .
تعرقل التصنيع بالسودان من ضعف وغياب التخطيط الجاد ، خاصة تحت النظام الحالي الذي ألغى وزارة التخطيط .
العديد من الصناعات قامت بدون اجراء دراسات الجدوى الجادة ، مما أدى لفشلها .
ضعف وعدم كفاءة الادارة ، أدى لسوء إدارة هذه المشاريع ، و ارتفاع تكلفة الانتاج .
النقص في المقابل المالي المحلي المطلوب لتنفيذ مشاريع القطاع العام ، عرقل امكانية تنفيذها في الوقت المحدد لذلك .
انعدام الموارد المطلوبة والاستغلال البشع لصغار المنتجين من قبل الممولين وتجار المدخلات ، أعاق انتاج المنشآت الصناعية الصغيرة وانتاج السلع اليدوية .
القصور في القوى العاملة الماهرة المطلوبة على كل مستويات التصنيع لمقابلة احتياجات الصناعة من هذه القوى ، نسبة لهجرة العقول وضعف إمكانات التدريب.
سوء علاقات العمل الخاصة بالعمال ، سمحت بدرجة عالية من الاستغلال ، وسوء ظروف العمل ، كما أن مصادرة النشاطات النقابية الديمقراطية حرمت النقابيين الديقراطيين من ممارسة حقهم الديمقراطي في التنظيم والاضراب .
تخلف القطاع الزراعي وعدم تكامل تنميته مع تنمية القطاع الصناعي .
الحفاظ إلى يومنا هذا على الطبيعة الازدواجية للاقتصاد السوداني مما حد من حجم السوق المحلي وتراكم رأس المال وتطوير العمالة الماهرة .
تبني برامج التركيز الاقتصادي بصورة غير عقلانية .
ضعف الطاقة الانتاجية والاستيعابية للقطاع الصناعي المرتبطة بالتشوهات الهيكلية بالاقتصاد السوداني .
مصادرة الحقوق الديمقراطية أثرت سلبا على كل القطاعات ، خاصة القدرات التنظيمية للنقابات في هذا القطاع .
وجب علينا أن نوضح ، إن بعض المنشآت الصناعية الجديدة لإنتاج السيارات والشاحنات ...الخ لا تعدو كونها تجميعا(Assembly plants). فالمعيار العلمي السليم في الحكم علي فاعلية هذه المنشآت في تحريك ودفع عجلة الاقتصاد الوطني يعتمد في المقام الأول علي القيمة المضافة (Value added) لهذه المنشئات والناتجة عن إنتاج محلي حقيقي للسلع الرأسمالية ومتطلبات هذه المنشآت من مواد خام وسلع وسيطة مصنعة محليا. يلعب تطوير المسابك (Foundries) وتطوير مراكز البحث العلمي التكنولوجي مع استقطاب رأس المال الوطني، دورا هاما في زراعة التكنولوجيا باكتشاف الخبايا التكنولوجية (Missing links) والتي لا تتوفر من خلال نقل التكنولوجيا (Transfer of technology). لقد أكدت التجارب العالمية إن فقدان هذه الشروط الهامة لزراعة التكنولوجيا (Transplant of technology) يجعل مثل هذه المنشئات جزرا معزولة (enclaves) عن بقية القطاعات الاقتصادية وذات آثار سلبية علي تدريب العمالة وتراكم رأس المال وتطوير السوق الداخلية والمساواة في الدخول. كما من السهولة بفقدان هذه الشروط الهامة إن تهرب من البلاد عندما يتغير المناخ الاقتصادي ولذا تسمي صناعات ذات أقدام مفكوكة (Foot loose industries). وعاده لا يأبه المستثمر خاصة الأجنبي بالأضرار الناجمة عن هروب هذه المنشآت من البلاد.
القطاع الزراعي: يواجه هذا القطاع مشاكل عدة حيث سجل انخفاضا في معدلات نموه من 12.3% عام 1997 إلى 8.3% عام 1998 و 7.0% عام 2000. من أهم مشاكله:
غياب الاستقرار السياسي والركود العام في الاقتصاد.
ضعف الأطر المؤسسية زائدا مشاكل التسويق والتوزيع.
غياب سياسات الأسعار الملائمة وتدهور شروط التجارة الخارجية وتشوهات النظام المصرفي والضرائب الباهظة.
النقص في الكوادر المؤهلة لتقييم وتنفيذ ومتابعة ومراقبة برامج التنمية وتحليل السياسات الإقتصادية وتوفير الدعم الفني المطلوب لوضع السياسات الزراعية والحيوانية نسبة لغياب التدريب الملائم.
النقص في الموارد وتقلص الدعم الخارجي.
التدمير المتزايد للموارد لسوء توجيه الاستثمارات.
ضعف المؤسسات لتطوير التكنولوجيا الملائمة والأبحاث.
نظام التسليف الزراعي وسياساته التي تتسم بالتحيز الحزبي، وإضعاف المنتج الصغير خاصة سياسة السلم والتي ترتب عنها الإبعاد من الأرض برهنها كضمان في الشمالية وإفقار المزارعين في مناطق النيل الأزرق برهن المحصول. سياسة السلم رافقتها إجراءات صارمة في استرداد الرهن مستغلة في ذلك أجهزة القمع الرسمية مما قاد لإيداع الكثير من المزارعين في السجون والتهديد ببيع ممتلكاتهم بما فيها منازلهم في الدلالة .
ممارسات زراعية خاطئة وضارة بالبيئة ارتبطت بالزراعة الآلية العشوائية خارج التخطيط التي لا تتقيد بالإرشادات الزراعية السليمة كالدورة الزراعية وزراعة مصدات الرياح والبقول المخصبة للتربة مما جعلها تشابه عملية استنزاف المناجم (strip mining) التي مارسها الأسبان في غرب الولايات المتحدة الأمريكية. همهم الأساسي هوالحصول علي اكبر عائد يمكن استخلاصه مع عدم إعادة استثماره في نفس النشاط بل توجيهه لمناطق أخرى واهتمامات أخرى بذخية كما هو الحال الآن بالسودان من بناء القصور وخلافه. هذا النمط من الزراعة الآلية العشوائية همش صغار المزارعين والرعاة وحولهم لعمالة رخيصة في المشاريع الزراعية بعد تدمير اقتصادهم المعيشي.
الرعي المكثف (Over grazing) ونرفض التعبير المتداول(الرعي العشوائي) لأن الرعي المكثف وليس العشوائي كما يحلو أن يسميه البعض لإعطائه صفة التجني على الزراعة الآلية وخلافها ، هو نتاج طبيعي لتهميش الرعاة وحصرهم في رقع رعوية ضيقة مع حرمانهم من مساراتهم التاريخية التي حاصرتها الزراعة. هذه المسألة هي سبب العديد من الاشتباكات القبلية.
الترسيب الطيني وتقدر نسبة الترسيب السنوي بـ 16.7 مليون متر مكعب مقارنة بطاقة إزالة الترسيب والتي تقدر بـ 10.2 مليون متر مكعب بما يعني إضافة سنوية بمعدل 6.5 مليون متر مكعب للكمية المترسبة والتي تبلغ 46.7 مليون متر مكعب.
انتشار الحشرات ونمو الحشائش.
ارتفاع تكلفة مدخلات الإنتاج مما اضر ضررا كبيرا بالمزارعين.
لكل هذه الأسباب يعاني القطاع الزراعي من تدني شديد في الإنتاجية. تمثل الإنتاجية الزراعية في القطاع المروي بالسودان 60% من تلك التي بمصر كما تمثل إنتاجية الجزيرة من القطن والقمح والذرة والفول السوداني معدلات متدنية حوالي الثلث او الربع مقارنة مع إنتاجية محطات الأبحاث بالمشروع. وفي نفس الاتجاه نجد متوسط الإنتاجية من الحبوب عموما منخفضة ليس مقارنة بالمستويات الدولية ولكن حتى إذا قورنت بالمستويات المحلية حيث نجد الإنتاجية بالزراعة الآلية المطرية لا تزيد عن الواحد طن للذرة مقارنة بالجزيرة حيث إنتاجية القمح تعادل الطنين وإنتاجية الذرة ثلاثة أطنان للفدان.
التوسع الأفقي للقطاع الزراعي بدلا عن العمودي ، أثر سلبا على خصوبة التربة و أضر بالتوازن البيئي .
علاقات إنتاج مجحفة وعدم مبالاة بضرورة إحترام البيئة وإصلاح وتطوير القطاع الزراعي التقليدي .
بنيات تحتية محدودة .
النقص في المدخلات المادية .
قصور الأبحاث الزراعية المساعدة .
التشوهات الحادة في عمليات التسويق .
خدمات زراعية محدودة .
الإستثمار الزراعي وإتجاهاته الغير مرضية .
الإستغلال البشع لصغار المنتجين بواسطة الشيل وما يسمى الآن بالسلم .
إنتشار الفساد البيروقراطي: وصل الفساد بالسودان معدلات خرافية. نهبت الخزينة العامة والمصارف ولاغرض ينقضي إلا بدفع الرشوة. هربت الأموال الطائلة من السودان مما افقد البلاد فائضها الاقتصادي الحقيقي. ارتبط الفساد أيضا بتدمير البيئة لعدم الالتزام بالممارسات العلمية السليمة مما افقد البلاد فائضها الاقتصادي الكامن (potential economic surplus).
تجاوزات في حقوق الإنسان لا مثيل لها في تاريخ البلاد حيث القوانين المقيدة للحريات السياسية والمدنية والسياسات الاقتصادية الضارة بالحقوق الاقتصادية.
دولة ضعيفة و ناهبة مما يهدد وحدة البلاد.
8- أسباب الأزمة :
نظام الحكم الأحادي الديكتاتوري والدولة الدينية البوليسية وسياسات القمع التي أدت لتجاوزات واسعة في حقوق الإنسان. نشير هنا بالتحديد لبيوت الأشباح التي لا مثيل لها في التاريخ السياسي السوداني. هدفت ممارسات بيوت الأشباح لكسر العمود الفقري للمعارضين من خلال القمع الشديد حيث كان يعتقد النظام إن القمع المعتدل او الخفيف يخدر العمود الفقري (sedates) أما القمع الشرس والقاسي يكسر العمود الفقري. هذا الوصف للتعذيب مقتبس من محاضرة متخصصة للبروفسير نبلوك في مركز الدراسات الشرق أوسطية بكلية سانت أنطونيو بجامعة أكسفورد.
الأنظمة العسكرية التي حكمت البلاد لأكثر من 35 عاما من الـ47 عاما منذ الاستقلال. هذه الأنظمة الشمولية حرمت الجموع الغفيرة من الشعب السوداني من إبداء الرأي والمشاركة الفعالة في تنمية البلاد بتفجير وتعبئة القدرات الكامنة لهذه الجماهير. كما إن القمع الذي مارسته هذه الأنظمة ادخل الرعب في النفوس وحرم قطاعات واسعة من ممارسة حقها المشروع في الضغط علي الحكام لتحسين الأوضاع المعيشية وتجنب البلاد الانزلاق في الأزمات ومواجهة سلبيات النشاطات الضارة بالإنسان والبيئة.
سياسة الأرض المحروقة (scorched earth policy) التي مارسها النظام الحالي خاصة في مناطق إنتاج البترول، دمرت الأساس المادي لشعوب هذه المناطق لتعيش حياة ذات معني كما أفقدت العديد من الأرواح. يجب إن لا ننسي تواطؤ الشركات العاملة في مجال البترول مع السلطة بتوفيرها للبنى التحتية كالطرق والمدرجات للطيران والناقلات البرمائية التي استغلها النظام في نقل القوات والمليشيات لتحقيق سياسة الأرض المحروقة التي خلقت جحيما في الأرض لسكان هذه المناطق. هذه الشركات للأسف حادت عن مسئولياتها الاجتماعية كهيئات عامة (corporate social responsibility) في تطوير هذه المناطق والامتناع عن توفير التسهيلات للنشاطات العسكرية التي تنتهك الحقوق الأساسية للإنسان مع ضمان اتباع هذه الشركات للنظم المعمول بها عالميا لتفادي الإضرار بالبيئة خاصة فيما يتعلق بتلوث البيئة الناتج عن التكرير ونقل المواد البترولية بأنابيب تعبر الأنهار. (راجع بيتر فيرني أويل أند كونفلكت إن سودان ، ديسمبر 1999، الصفحات 17 - 20).
غياب الديمقراطية وسيادة القانون وفرض القوانين المقيدة للحريات المدنية والسياسية ومن أهمها فرض حالة الطوارئ في البلاد حيث إنعدمت استقلالية القضاء وحيث رأس النظام يحكم بالأوامر الجمهورية وحيث غابت المحاسبة القضائية لأجهزة الأمن في تجاوزاتها في حقوق الإنسان.
غرس سياسة العنف واحتكار الحقيقة الدينية اضرت بالتماسك الاجتماعي وفجرت الصراعات وفاقمت من عدم الاستقرار السياسي بالبلاد. ارتبط بذلك غرس ثقافة العنف ومناهج التعليم المتطرفة الداعية للاقتتال بدلا عن التسامح.
الدولة الضعيفة الناهبة والوهمية المتراجعة عن مسئولياتها التاريخية في تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية كالتعليم والصحة ...الخ.
حظر وضرب منظمات المجتمع المدافعة عن حقوق عضويتها في مواجهة سياسات التحرير الاقتصادي التي لا حدود لها والتي سحقت المواطن البسيط ، وفي نفس الاتجاه حظر وضرب الأحزاب السياسية ارجع البلاد خطوات كبيرة إلى الوراء واضر بإمكانات رفع الوعي السياسي للمواطن وفرص الوصول لحلول توفيقية تفاديا للنزاعات. عند قولنا ذلك لايفوت علينا بان الديمقراطية التي مارستها الأحزاب السياسية لم تكن حقيقية بالمعني العلمي للكلمة بل كانت إلى حد كبير شكلية. لكنها احترمت إلى حد كبير الحقوق المدنية والسياسية وتوفر فيها قدرا لا يستهان به من الشفافية و المحاسبة كما كانت بها درجة متواضعة لحد ما لمعالجة أخطائها من داخلها لتطويرها (checks and balances) إذا لم تقوضها الأنظمة الديكتاتورية.
التحيز الشديد لعضوية الحزب الحاكم والصفوة مع عزل الآخرين. في تقديرنا هذه سمه مشتركة لكل الأنظمة التي حكمت السودان وبدرجات متفاوتة ولكنها بلغت ذروتها في ظل الأنظمة العسكرية عموما و تحت حكم النظام الحالي خاصة.
إفراغ الخدمة المدنية والقوات النظامية من الكوادر المؤهلة خارج عضوية الحزب الحاكم اضر بكفاءة الأداء في كل المؤسسات العامة وأثر سلبا علي التكلفة الاقتصادية بزيادتها كما افقد البلاد واحدا من أهم الموارد أي العنصر البشري الكفْء.
إحتكار النظام المصرفي وتوجيهه لخدمة أغراض عضوية الحزب خاصة العاملين منهم في القطاع الخاص مع حرمان الآخرين خارج حلبة الحزب. هذا الوضع دمر الكثير من رجال الأعمال الوطنيين المشهود لهم بالكفاءة في هذا المجال وحرم البلاد من خبرتهم الطويلة قي تنشيط عجلة الاقتصاد الوطني وبالتالي حرمها من إمكانية مهولة لتعبئة الفائض الاقتصادي الكامن (potential economic surplus). كما عمل غياب سيادة القانون والمحاسبة علي إن ترتكب تجاوزات مالية كبيرة في التسهيلات المالية والسلفيات المقدمة من هذه المصارف للبعض والتي أصبحت في النهاية دينا هالكا غير مسترد مما أفلس معظم هذه المصارف. يجب إن نتذكر لجنة التحقيق في تجاوزات المصارف في فترة الديمقراطية الثالثة والتقرير المقدم من هذه اللجنة للسيد النائب العام آنذاك لتقديمه للقضاء كما ذكرنا أعلاه.
عدم تبني الديمقراطية الريفية الحقيقية كمبدأ أساسي. إن الديمقراطية الريفية في تقديرنا هي الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية الحقيقية والفاعلة بالوطن. فالديمقراطية الحقيقية التي يمثلها انتشار وتطبيق المبادئ الديمقراطية الحقيقية بالريف تتجاوز الديمقراطية الشكلية التي مارسناها بالسودان والحكم الفدرالي الحالي. وفي الحالات التي كان فيها إيماء بالديمقراطية المحلية نجدها لا تتجاوز الشعارات. أبراهام لينكون يقول في مقولته الشهيرة ( الديمقراطية هي حكم الشعب وبالشعب وللشعب). مضمون هذه الكلمات هو : حكم الشعب يرمز لتمثيل الشعب من خلال الانتخابات الدورية الحرة والعادلة والنزيهة، كما يرمز لتبادل السلطة بالطرق السلمية. وبالشعب تشير للمشاركة الحقيقية على كل مستويات الحكم المركزية والإقليمية والمحلية. وللشعب تعني الشفافية والمحاسبة من خلال الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية واستقلال القضاء مع إمكانية الوصول اليه، ومن خلال الإعلام والصحافة الحرة ومن خلال احترام حقوق المواطن السياسية والمدنية والاقتصادية.
السؤال الذي يطرح نفسه هل حصل وان طبق السودان هذه المقولة بكل تفاصيلها ؟ الإجابة بلا. فللأسف في الأنظمة العسكرية تم التغاضي عنها جميعاً، اما في الأنظمة الديمقراطية تم التركيز على التمثيل النيابي ولدرجة محدودة ومشوهة لمبدأ بالشعب وللشعب ، وذلك في إطار مشوه من الهياكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية من دون محاولة جادة لابتكار سبل جديدة للتوفيق بين تخلف السودان المرتبط بتشوه هياكله وبين التمثيل العريض، والشفافية والمشاركة الفعلية والتي مشتركةٌ تمثل الضمانة الوحيدة لاستدامة الديمقراطية.
مفهوم القيادة تمركز حول الأبوية واستغلال سلطة الدولة مما نتج عنه العديد من التجاوزات والتفاوتات واعادة إنتاج الأزمة.
المشاركة الشعبية ،أُسِئ استعمالها وافرغت من مفهومها ومحتواها الحقيقي حيث افتقدت للمؤسسات الديمقراطية الحقيقية التي تعنى بالفقراء والمهمشين والذين يمثلون السواد الأعظم بالسودان.فعلى العكس اصبح اصحاب السلطة في هذه المؤسسات والتنظيمات المسماة بشعبية ، بمثابة الحراس او البوابين يحدون و يمنعون المشاركة الشعبية الحقيقية (Gate Keepers).
حافظت كل الانظمة وبدرجات متفاوتة على استمرار التبعية الاقتصادية للسودان مع الدول النامية والمنتجة للبترول، مما عمق من تخلف السودان.
الإرث الاستعماري المتمثل في التشوهات الاجتماعية والاقتصادية الرئيسية والتفاوتات الإقليمية الناتجة عن تمركز قرار استغلال الموارد في المركز على حساب الأطراف والتي اعاقت النمو المتكافئ والتنمية. ان استمرار نمط التنمية الغير متوازنة والتوزيع الغير عادل للموارد ساهم في حالة الحرمان الشديد التي تعيشها الأطراف ، مما تولد عنه حساسيات شديدة قادت الى العنف بكل أشكاله المختلفة.
التفاوتات الهيكلية والمؤسسات الأحادية والقمعية المهيمنة ، والتمييز الثقافي والديني ، تولدت عنه أشكال من العنف الهيكلي (Structural Violence) والمؤسسي والثقافي.
الطبيعة المزدوجة للإقتصاد السوداني ، حيث استمر القطاع التقليدي تحت وطأة ظروف مجحفة ومدمرة عاقت وأضرت بإمكانات تراكم رأسمال ، وإتساع السوق المحلي وتنمية المهارات العمالية .
آثار الجفاف وقبل كل شئ الآثار المدمرة للحرب ، فاقمت من الأداء الضعيف للاقتصاد وأطالت (protracted) من التدني في معدل دخل الفرد، وبالتالي ساهمت في التفكك الاجتماعي والاضطرابات وأدت أيضا للمنافسة الحادة والمتزايدة على الموارد الشحيحة، وفرص العمالة وأي فرص اخرى مما فاقم من النزاعات وإضعاف القدرات المو######## والمختبرة تاريخياً في مواجهة الكوارث. لابد ان نذكر أيضا الأثر السلبي على النظم البيئية (Ecosystems) ومعه التوازن البيئي الناتج عن النزاعات السياسية والمسلحة من خلال بعض النشاطات المدمرة والمستنزفة للموارد الطبيعية كإزالة الغابات وخلافه اما كإجراء عسكري او كمورد لتمويل الأسلحة او بإهمال ضرورة إعادة تأهيل البيئة. كل ذلك يفاقم من شح الموارد ويجهد البيئة( environmental stress) مما يطيل من عمر النزاعات ويضر بالقطاع العريض من فقراء الريف بزيادة فقرهم مما يحولهم لطرف في النزاع المسلح.
إخضاع القطاع التقليدي أيضا بالمناطق المهمشة للقطاع الحديث بصورة مدمرة، حيث هُمِّش صغار المزارعين وحوصروا في رقعات زراعية ضيقة وضعيفة الإنتاجية، وتوسعت الزراعة الآلية الغير منضبطة على حسابهم بطردهم من الأرض، اضر ايضا بالتوازن البيئي وساعد على التصحر ودمر إمكانات الاقتصاد المعيشي، مما حول غالبيتهم لعمال زراعيين يكدحون تحت وطأة علاقات انتاج مجحفة. عمل أيضاً هذا الوضع على تكثيف الرعي في مناطق ضيقة مما اضر بالبيئة وفاقم الصراع حول الموارد الشئ الذي قاد لصراعات قبلية وإثنية دموية حادة.
إن القول بان هناك خطاً فاصلاً (dichotomy) بين القطاع التقليدي والحديث ، قولاً مرفوضاً من الناحية النظرية والتجربة التاريخية. تؤكد تجارب السودان ان القطاع التقليدي وموارده قد تم إخضاعها لخدمة القطاع الحديث منذ عهد الاستعمار والى وقتنا هذا. تمثل ذلك في البداية بفرض الضرائب على مواطني القطاع التقليدي ليضطروا لبيع قوة عملهم في مشاريع القطاع الحديث كالجزيرة وخلافها من خلال تحويلهم لعمالة رخيصة بها، ومن خلال التسهيلات المقدمة من المصارف لبعض التجار الناشطين في تجارة المواشي والمحاصيل والصمغ العربي لتصديرها للخارج ، ومن خلال التشوهات في عملية التسويق المنحازة للسماسرة وكبار التجار على حساب صغار المزارعين واصحاب المواشي، وعلى حساب الأجراء الزراعيين ( tenants) من خلال عملية المشاركة في المحصول في مشاريع الزراعة المروية للقطن ونشاطات صيد الأسماك والحقول على ضفاف النيل وحول المدن مع توفير التسهيلات في الترحيل، والتخزين، او المناولة، والثلاجات والتسليف الزراعي وشباك الصيد والقوارب، ومضخات المياه لاصحاب الأراضي والرخص والسماسرة وكبار التجار. كل ذلك اقعد من إمكانية تطوير القطاع التقليدي بالإضافة لعملية الشيل وما يسمى الآن بالسلم والذي رهن المزارع الصغير للتاجر واضعف من قدرته المالية على تطوير انتاجه الزراعي.
هيمنة الفئة الطفيلية على الاقتصاد الوطني ، أعاق امكانات التنمية المتكافئة والمتوازنة مما نتج عنه تفاوتات اجتماعية واقتصادية واقليمية واسعة. توضح دراسة قدمتها دكتورة هدى حسن في ورشة عمل الأطباء بلندن يوم 28/06/2003م الهوة الواسعة في الخدمات بين المدن والأرياف حيث ذكرت" بينما يتمتع بالخرطوم 92% بالمياه الصالحة للشرب يتمتع بملكال 5% فقط. وفي نفس الاتجاه يتمتع بالخرطوم 78% بالتصريف الصحي اما بملكال فـ29% فقط. وسجلت البلهارسيا 179,000 حالة جديدة عام 2000 ويقدر عدد المصابين بهذا المرض بحوالي 5 مليون بالقطر، اما الملاريا فقد أصبحت وباءً خطيراً خاصة بعد ان وقف مشروع النيل الأزرق الصحي" كما توضح بعض الدراسات بأن الخرطوم تتمتع بـ 50% من الدخل القومي الإجمالي ، بينما يتمتع الجنوب بحوالي 4-6% فقط من الدخل القومي (راجع مطبوعات Justice Africa).
إن أنماط الاستهلاك التفاخري والتظاهري والبذخي (conspicuous consumption ) التي اتسمت بها هذه الفئة أضرت بإمكانات تعبئة الفائض الاقتصادي، كما ان نشاطاتها الطفيلية حولت الموارد من الاستثمار المنتج لقطاع الخدمات الغير مرتبط بالإنتاج. للأسف وعندما انتهجت الحكومة سياسة تعبئة الموارد المالية بواسطة سندات الادخار بوزارة المالية (شهامة) والتي بلغت اكثر من 400 مليار دينار، وُجِهَت للحرب ومنصرفات الأجهزة الأمنية والحزب الحاكم. كما ان سعر الفائدة الممنوح والذي هو أعلى بكثير من الذي تمنحه المصارف التجارية ، اضر بودائع هذه المصارف وافقدها السيولة. ان تحديد سعر الفائدة العالي للأسف جاء على أسس سياسية وليست اقتصادية لكسب قاعدة سياسية عريضة للنظام.
ضعف وغياب التخطيط خاصة بعد حل وزارة التخطيط وتحويلها لادارة صغيرة لا وزن لها تابعة لوزارة المالية وبذلك انعدمت أهم آلية لتوفير الأسس السليمة لتخطيط الموارد وتوزيعها توزيعا علميا بين القطاعات الاقتصادية المختلفة لتحقيق التنمية المستدامة، وفي نفس الاتجاه انعدم التنسيق الضروري للتنمية بين الإدارات المختلفة، والمشاركة العريضة في إعداد الخطط التنموية. ان التطهير الشرس للقوى الوطنية المشهود لها بالكفاءة والذي مارسه النظام، افقد السودان واحدا من اهم الموارد أي العنصر البشري المؤهل، كما ان الطبيعة الأحادية والقمعية للنظام حرمت قطاعات عريضة من عكس وجهة نظرها في قضايا التنمية وأساليب تحقيقها وجعل الفني او المهني يستجيب للقرار السياسي الفوقي بدلا عن تطبيق المعايير الفنية العلمية.
عند حديثنا عن أهمية التخطيط التنموي لا نعني به التخطيط المركزي الذي مورس من قبل المنظومة الاشتراكية والذي ارتكز على مركزية القرار ، بل نقصد التخطيط الذي يتكامل فيه القرار قاعدياً ومركزياً بالسماع لرأي القواعد والجزئيات المكونة للمشاريع المدرجة في الخطة. أي بمعنى آخر تخطيطا من اسفل إلى أعلى وليس من أعلى إلى اسفل (bottom up and not top down).
بنيات تحتية مادية واجتماعية ضعيفة ومتدهورة ارتبطت هذه بالنهج الاعمى الذي اتبعته الحكومة في تطبيق سياسة السوق الحر لحسابات خاصة بها ومرضاة لصندوق النقد والبنك الدولي ، ومن دون اتخاذ الإجراءات وتبني الأطر المؤسسية الاقتصادية والرقابية المشروعة والمطلوبة كضمان لسلامة وحماية الاقتصاد الوطني من الفساد والمحسوبية وإساءة توزيع الموارد الوطنية والمساعدات الأجنبية. ان غياب الإجراءات الحكومية الرقابية العادلة والفاعلة والشفافية في الاداء، وغياب او ضعف منظمات المجتمع المدني لتلعب دوراَ متوازناً في كشف الحقائق وعكس مصالح عضويتها والدفاع عنها، سمح للقطاع الخاص الطفيلي بحصد الأرباح الطائلة على حساب القطاعات العريضة من المجتمع السوداني وزاد من إفقارها ومعاناتها، كما وجه الموارد الاستثمارية بعيدا عن القطاعات المنتجة.
برامج التكييف والتركيز الهيكلي المحتوية على برامج التقشف وخصخصة المنشآت الوطنية، تم تنفيذها على أسس منحازة لمصالح مجموعات معينة ولصالح الفئات الاجتماعية المهيمنة. خلقت هذه البرامج نوعاً من الرأسمالية الاوليقارقية ( أي رأسمالية الخاصة والأقلية)، وأفقرت المجموعات ذات الدخول الدنيا ولم تشجع او تعنى بالمصلحة العامة. ان تحرير الاقتصاد بهذه الصورة الغير منضبطة وضع الإنفاق الاجتماعي (social expenditure ) تحت ضغط شديد. وكنتاج لذلك تدهورت الخدمات الصحية وتدهور التعليم وارتفعت معدلات الوفيات وسط الأطفال. ان الضغط على الإنفاق الاجتماعي اضر بصورة أوسع بالفقراء. زد على ذلك نجد ان عدم العدالة في توزيع الدخل المرتبط بهذه العملية اضر بالنمو للآثار السلبية على مكونات الطلب (composition of demand) وعلى إمكانات عوامل الإنتاج (Factor endowment) والتي انعكست سلبا على وفرة راس المال الإنساني (affecting the supply of human capital).
قناعتنا ان التوزيع العادل للدخول يؤدي الى زيادة في الطلب على السلع الصناعية التي بدورها تعمل على تنشيط الإبداع (innovation) والنمو. وفي نفس الاتجاه يرتفع النمو بارتفاع الاستثمارات في التعليم بواسطة ذوي الدخول الدنيا كنتاج لازدياد المساواة في الدخول وراس المال ، مما يسمح لهذه المجموعات بتراكم أسرع لراس المال الإنساني. وعلى العكس يتسبب عدم المساواة في الاضطرابات السياسية ويمنع الحكومات من إدارة الأمور بصورة فاعلة. زد على ذلك تؤثر نتائج عدم المساواة على عدم التماسك الاجتماعي، واستقرار الديمقراطيات الشكلية (Formal) ولا تشجع المستثمرين على الاستثمار في بلد كالسودان يتسم بالنزاعات، مما يؤدي لتدهور اكبر في الظروف المعيشية للمواطنين. وعليه يتوجب ان توفر الديمقراطية العيش الكريم حتى تكتب لها الاستدامة.
ان برامج التكييف الهيكلي (SAP)، عملت على تعزيز الأزمات على الرغم من تطعيمها (grafting) بابعاد اجتماعية لبرامجها. لقد فشلت هذه البرامج في تحقيق أي تغيير أساسي في مشاكل التدني الاجتماعي، او في اتساع عدم المساواة، او اتساع الفقر في السودان. عليه نجدها عجلت بتآكل الأساس للمواطنة الاجتماعية (social citizenship )، والتى تعتبر جزءا أصيلا في العقد الاجتماعي في الفترة ما بعد خروج المستعمر. وفي نفس الاتجاه عمل العداء لدور الدولة المجسم في هذه البرامج، عمليا على إفراغ المواطنة من مضمونها الاجتماعي بتخلي الدولة عن مسئولياتها الأساسية تجاه المواطن. كنتاج لهذه البرامج تآكلت العناصر الأساسية للأساس الاجتماعي لعلاقات الدولة بالمجتمع مما جعل المواطنين ينظرون للدولة باعتبارها وهمية، وقمعية ، وفاسدة وناهبة. وعلى صعيد آخر ادى التوجه المعادي لدور الدولة في هذه البرامج لنتائج سلبية بالنسبة للذين ارتبطت حظوظهم بالقطاع العام. اعداد هؤلاء كبيرة ، علما بان القطاع العام بالسودان وعلى الرغم من تراجعه يعتبر اكبر مخدم للعمالة. ان اكبر الخاسرين هم العمال والطلبة ، وفصائل المهنيين المتعددة الذين كانوا تاريخيا المدافعين عن السيادة الوطنية ومشروع الدولة المدنية.
ان اضعاف هذه القوى الاجتماعية وكما نلاحظه اليوم نتجت عنه سلبيات جسيمة على مشروع بناء الامة السودانية والدولة الموحدة. هذه السلبيات فتحت الطريق لانتعاش التطرف الاثني والجهوي والإقليمي والديني والذي تحيز لعضوية هذه الجماعات وفي نفس الوقت تحدى مشروع الدولة القومية باكمله (nation state). كما نجد ايضا خروج العديد من الكفاءات المؤهلة من القطاع العام ليس فقط لاسباب سياسية ارتبطت بالتطهير بل لاسباب اقتصادية ارتبطت بالضغط على القطاع العام وانهيار المرتبات والمعنويات فيه، وفي نفس الوقت انغمس الذين بقوا فيه في انماط معيشية ومهن موازية ، كل هذه اضرت ضررا بليغا بقدرة الدولة. زد على ذلك ادى تجريد الدولة من اصولها (assets) وتحجيم او تقليص دورها لانعكاسات خطيرة على الهوية الوطنية (national identity ).
ان برامج التكييف الهيكلي وما يسمى بإصلاحات مرتبطة بها ، عمدت على تعزيز النهج الاداري الفوقي والأسلوب المركزي للحكم السائد بالسودان حيث اعتمد تنفيذ هذه البرامج على الحكومة المركزية . كذلك عملت الدول بما فيها السودان ، والتي تبنت برامج التكييف على التخلي عن الجهد الساعي لتبني السياسات الهادفة لخفض التفاوتات في التنمية الإقليمية الغير متوازنة والغير متكافئة. ان إغفال مشكلة التنمية الغير متوازنة في سنوات التكييف الهيكلي ، أدت لاتساع الفجوة بين الأقاليم والمجموعات الاثنية في الحصول على الخدمات الاجتماعية الهامة كالتعليم والصحة والمياه الصالحة للشرب والكهرباء والطرق. عندما نقول ذلك لا نعني تبرئة المشروع الوحدوي الذي تبناه السودان بعد الاستقلال (post colonial unity project ) من أشكاله وأسسه الطبقية والاثنية والدينية والإقليمية المزيفة الا اننا نهدف للفت الانتباه للسلبيات الخطيرة لبرامج التكييف الهيكلي المتعلقة بتمدد هياكل التسلط والعزل وإغفال التماسك الوطني التي يولدها السوق. بالنسبة للعديد من المجموعات السودانية يعني تراجع الدولة لصالح السوق انهيار الدليل الوحيد الغير قمعي لوجود الدولة والرمز للاحتواء (inclusion ) السياسي والاقتصادي في المجتمع. (راجع Olukoshi,1999). ويقول ابقيرن (Abegurin,1998 O. ، في ص 422 ) ، "ان برامج التكييف الهيكلي ترمز لموقف اقتصادي صرف ، ولا تهدف بالضرورة لتحقيق النمو والتنمية للدول المدينة. هذه الحزمة صممت لتساعد على تجنب الآثار الفورية الخطيرة لازمة الديون ، خاصة على استقرار النظام المصرفي العالمي، بدلا من البحث عن إصلاحات أساسية تجعل من حدوث ازمة الديون أقل احتمالا وأقل ضررا في المستقبل".
إذن ان الهدف الاساسي منها هو مساعدة الدول المدينة بالعالم الثالث والسودان واحدا منها على تسديد القروض والايفاء بالالتزامات التعاقدية المعلقة حتى ولو يعني ذلك فرض إجراءات دراكونية اقتصادية واجتماعية وسياسية قاسية على شعوب هذه الدول. اذا كان هذا هو الهدف الأساسي، فإذن السؤال الذي يثار ، لا يتعلق فقط بفاعلية حزمة برامج التكييف الهيكلي ولكن أيضا ببقاء الدول المدينة نفسها . ويتضح لنا هذا الوضع عند إلقاء الضوء على مكونات ما يسمى ببرامج الاستقرار(stabilization programme ) لصندوق النقد الدولي، والتي طبقها السودان بحذافيرها ولأول مرة في تاريخه الطويل في ظل النظام الحالي.
الانكماش الضريبي (fiscal contraction ) بفرض البرامج التقشفية الهادفة لتخفيض عجز القطاع العام (reduction of Public Sector deficit ) من خلال خفض إنفاق الدولة الموجه للاستثمار العام والخدمات الاجتماعية.
الانكماش النقدي (monetary contraction) بفرض القيود على التسليف للقطاع العام (restriction on credit to the public sector) ، وتحديد السقوف الائتمانية الممنوحة للقطاع الخاص من خلال زيادة نسبة الاحتياطي بالمصارف التجارية وارتفاع سعر الفائدة .
مراجعة اسعار العملة (exchange rate revision) وتخفيض العملة الوطنية كشرط للمفاوضات للبرنامج.
تبني السياسات الهادفة لتحرير الاقتصاد من خلال الغاء تدخل الدولة في الاسواق المحلية، وتخفيض الحواجز التجارية (lowering trade barriers) وتخفيض القيود على رقابة النقد (reducing exchange controls) وخصخصة منشآت القطاع العام.
تبني سياسات الدخل (income policy) لتقييد المرتبات (wage restrains) ورفع الدعم وتخفيض الدفعيات المنقولة (reduction of transfer payments).
لقد رضخ السودان تحت النظام الحالي رضوخاً تاما لهذه الشروط النقدية والاقتصادية ، وفشل فشلاً ذريعاً كما يقول العديد من المراقبين في تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب السوداني. فالفقر اصبح ظاهرة مستوطنة ، والعوز الغذائي سمة أساسية وتدنت المستويات الصحية تدنيا خطيرا وهربت الأموال الطائلة من السودان واصبح السودان واحدا من اهم الدول في غسيل الأموال.
تؤكد تجربة السودان في تبني هذه البرامج ان المتضرر الأساسي هم النساء والنازحين الذين يتعرضون اكثر من غيرهم للصدمة العنيفة من ضغوط هذه البرامج عليهم. هذه الضغوط نتاج لخفض الإنفاق الحكومي على قطاعات الصحة والتعليم والذي يؤدي لخفض الوقت المتاح للعمل في الاقتصاد النقدي ، بالاضافة لتركيز هذه البرامج على انتاج المحاصيل النقدية والإنتاج الموجه للتصدير على حساب الاقتصاد المعيشي. تضطر النساء في هذه الحالة لسد العجز المالي الناتج عن خفض الإنفاق الحكومي مما يكثف من زمن التناسل والتوالد ويفاقم من معاناتهن العضوية والنفسية والعاطفية الشئ الذي يعرضهن بصورة اكبر للأمراض الفتاكة. هذا الوضع يصبح اكثر تعقيدا عندما يرتبط بالتمييز الثقافي السائد اصلاً ضد النساء والمتحيز للرجال. في هذه الحالة لابد ان يؤدي تخفيض الخدمات الاجتماعية العامة لأزمات اجتماعية خطيرة. ويذكرنا ديفيد كولمان ( 1994م ص. 43 بخطورة الامر عندما قال " بالفعل هذه هي المجالات التي فشل فيها القطاع الخاص واقتصاد السوق في توفير السلع والخدمات الضرورية لحياة الإنسان الأساسية (basic survival) ، حيث تضطر النساء لسد الفراغ.
من المهم أيضا ان نوضح ان إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي المرتبطة بالعولمة ، تؤثر بصورة حادة على أوضاع النساء بالسودان. فلقد عملت الخصخصة وتدني الرقابة على تنظيم العمالة (regulation of labour markets) المرتبط بها على فقدان الوظائف المحصنة نسبياً (protected jobs) بالقطاع العام وعلى اتساع تشغيل النساء في الوظائف ذات الأجر المنخفض والغير مضمونة الأمد والتي في الغالب لا تحتاج الى مهارة. هذا الوضع يزداد تعقيدا عند الاتساع السريع في الإنتاج للتصدير . زد على ذلك أدى التخفيض في الخدمات ، على زيادة عبء العمالة الغير مدفوعة الثمن او بدون اجر بالمنزل . كما أدى إلغاء الدعم الحكومي على السلعة الأساسية ، بالإضافة لفرض نظام الرسوم على استعمال الخدمات الاجتماعية، الى زيادة الضغوط على النساء لتكميل الدخل الأسري بدخول إضافية مما نتج عنه اتساع شامل للقطاع الغير رسمي. (overall expansion of the informal sector) (راجع انجيلا هيل المجلد الرابع رقم 3، أكتوبر عام 1996).
كما ان التغييرات في طبيعة العمل المرتبطة بإعادة الهيكلة العالمية (Global restructuring) تشتمل على تقليص حقوق التوظيف (employment rights)، وإغفال القوانين التي تضبط الصحة والسلامة في مواقع العمل، وتعزز من إهمال المسئوليات المنزلية. واصبح تراجع قوانين العمل وتآكل حقوق العمال المتأصلة سابقاً في القطاع الغير رسمي ، سمة متسعة للحياة العملية العامة. والان كما نعلم فالنساء في العديد من الدول النامية بما فيها السودان يعملن لساعات طويلة جداً لكي يتمكن أصحاب العمل والمخدمين من الوفاء بمواعيد الطلبيات التي تفرضها عليهم محلات التجزئة والقطاعي الأجنبية.
المجاعات :
إن اختلالات القطاع الزراعي الذي يتسم بتدني حاد في إنتاجيته، وبتبني أنماط للاستثمار غير متوازنة (unbalanced patterns of investment) وبتشوهات في التسويق ملازمة له ومتمثلة في تشوهات (imperfections) أسواق التسليف الزراعي والتوسع الأفقي فيه بدلاً عن العمودي وتكثيف الانتاج، كل هذه العوامل مشتركة وخاصة التوسع الأفقي قد أدت إلى نوع من الزراعة الآلية اتسم بتدمير البيئة ونتجت عنه أضراراً سلبية أضرت بالمحافظة على الموارد ومستويات المعيشة لمواطني الريف.
ساهم هذا الوضع مساهمة أساسية في نشوء المجاعات والعوز الغذائي المزمن (chronic food insecurity ) ، وللمجاعات مكونات او جزئيات (components) والتي من أهمها:
الجوع
الإفقار impoverishment
الانهيار الاجتماعي social breakdown
الموت والفناء
مقاومة الأفراد والأسر والجماعات لكل واحدة من المكونات أعلاه.
(راجع Dr. Alex de Waal، معهد الدراسات الاجتماعية، عام 2000 ، النشرة رقم 107، ص.6).
كما تتنوع المجاعات في الأشكال التالية:
أ) الرعوية: والتي تؤثر على أصحاب المواشي، وتتمثل أسبابها في المدى القصير ، في الجفاف وما ينتج عنه من فقدان للمرعى والمياه للحيوانات. اما أسبابها طويلة المدى فتتمثل في الضغط على الرقع الرعوية لصالح الزراعة الكبيرة والحد من حركة الرعاة بتضييق المسارات. هذا النوع يظهر ببطء، ونسبة لحركة الرعاة يغطي مساحات واسعة ولكنه في الغالب لا يلاحظ خارج المناطق الرعوية ، كما من المحتمل ان يطول جداً. وتمثل الاستراتيجيات المتكاملة دوراً أهم من عمليات الإغاثة في علاجه. ويتطلب التجاوب معه بالإضافة لتوزيع الاغاثات، شراء الحيوانات بأسعار مضمونة (guaranteed prices) مع توفير التسليف اللازم.
ب) الزراعية والرقعات الصغيرة: والتي تؤثر على السكان الزراعيين المبعثرين. ويرتبط هذا النوع بفشل الإنتاج الزراعي الناتج الى حد ما من الجفاف ولكن اسبابه الأعمق ترتبط بالحرمان من الأرض والعلاقات الاقتصادية المجحفة ذات الطابع الاستغلالي. هذا النوع من المجاعات يظهر ايضا ببطء وعادة ما يكون محصوراً محلياً ولكن انواعه الحادة تتمثل في تداخل المجاعات المحلية وانعدام القدرة في كل محلية منها على مساعدة جيرانها. وفي الغالب لهذا النوع من المجاعات مركز (epicenter ) تنبعث منه الإشارات لارتفاع الأسعار وهجرة المتضررين. وتوضح التجارب بانه ما عدا المجاعات الزراعية الحادة لا يظهر هذا النوع خارج المنطقة المتأثرة. ودرؤها يتطلب التركيز على وضع الحلول الاستراتيجية المتكاملة لعلاجها والتي تعتبر اكثر أهمية من عمليات الإغاثة. كما انه من المهم تبني البرامج والسياسات للحفاظ على الأرض واعادة ترتيب المناطق لتخزين الغذاء قبل حدوث المجاعة لمنعها، مع اتخاذ الإجراءات اللازمة لتوفير الإغاثة الغذائية ومشاريع الإغاثة المرتبطة بالعمل (labour based relief project) لتخفيف آثارها.
ج) المجاعات ذات الأساس الطبقي او الوظيفي (class based occupational famines). اكثر الجماعات تأثرا بها هم العمال بالأجر (wage labourers) والحرفيين، وصيادي الأسماك والمهمشين بالمدن. ووقوعها سريع مع اتساع رقعتها، ولكن بصورة انتقائية تؤثر على مجموعات محددة. وتظهر بصورة واضحة نسبة لاندفاع المتأثرين للمدن ولمعاناة سكان المدن أنفسهم. وعادة ما تجد الاهتمام السياسي لقربها من المركز ولتسليط الضوء عليها إعلاميا . ويمثل تدخل الدولة الهام جدا لمواجهتها اكثر فاعلية من غيره. كما تعتبر إجراءات السيطرة على أسعار المحاصيل وإنشاء المشاريع لضمان التوظيف (employment guarantee) اكثر الإجراءات فاعلية لمواجهتها.
د) مجاعات الحروب : وترتبط بالانهيار المؤلم لسبل العيش والناتج عن تدمير الأساس المادي له ومصادره او نهب الممتلكات، وفرض القيود المتشددة على الحركة والنشاط الاقتصادي. طبيعة هذا النوع من المجاعات تعتمد على طبيعة الحرب وإصرار الأطراف المتحاربة على مواصلة خططهم الهادفة لخلق المجاعة. هذا النوع من المجاعات يمكن ان يحدث بسرعة او يأخذ سنينا طويلة ليتطور ، خاصة بالمجتمعات التي ليست هي عرضة للمجاعات. كما انه من الممكن ان يكون محصورا محليا او مغطيا لمساحات واسعة. وعادة ما تصطدم البرامج المعدة لمواجهته برفض المتحاربين على تطبيقها، مما يجعل المتأثرين بها يعتمدون اعتمادا كليا على الإغاثة. وفي بعض الحالات لا تظهر هذه المجاعات لإصرار المتحاربين على إبقاءها بهذه الصورة المستترة.
من المهم ان نوضح ان العديد من المجاعات تتداخل فيها كل هذه الانواع.
في هذا الخصوص يعتبر الكثيرون غياب النظم الديمقراطية، وكما يذكرنا بروفيسور أمارتا سن ، الهندي الأصل ، والأستاذ بجامعة كمبردج البريطانية ، والحائر على جائزة نوبل في الاقتصاد، بأنها تفاقم من هذه الأوضاع. يقول سن" ان النظم الديمقراطية المتسمة بالنظم السياسية المتعددة لا تحدث بها مجاعات. وذلك لان المناخ الديمقراطي يوفر الفرصة للمواطنين ليمارسوا ضغوطا على حكامهم ليتجنبوا الأزمة في الغذاء من الوصول الى مرحلة المجاعة. في نظره المجاعات ترتبط بفقدان الدخل لشراء الغذاء وليس كما كان يعتقد لفقدان الغذاء. وعليه يعتقد ان زيادة دخول الفقراء واتساع فرصهم هو أنجع السبل لمحاربة الجوع ". (راجع Sen, A.K., poverty and famine أكسفورد عام 1981 ).
السؤال الذي يطرح نفسه هل هذه الشروط موجودة بالسودان في ظل السيطرة السياسية الأحادية، واحتكار المواقع الاقتصادية ، وممارسة زعزعة المجتمعات ، وطرد الخبرات المؤهلة من الخدمة المدنية والقوات النظامية؟
ان مواجهة ومنع المجاعات يتطلب العديد من الإجراءات السياسية الفاعلة التي تستهدف تعبئة الإمكانات والتي من أهمها:
أ) الاستجابة الفورية لخطر المجاعة وذلك من خلال نظم الإنذار المبكر والعزيمة السياسية.
ب) خلق الآليات الفاعلة ضد المجاعات. فالعزيمة السياسية لمنع حدوث المجاعات على
الرغم من اهميتها، لا تكفي بمفردها. فلابد من تأكيدها ودعمها بالسياسات الاقتصادية السليمة التي تتصدى لاسباب المجاعات والتي تتكامل مع السياسات السليمة للتغذية، وللصحة العامة، وللزراعة، وللحفاظ على البيئة وللهجرة والنزوح. كل هذه تتطلب استثمارا في المعرفة والخبرات الفنية.
ج) توعية الجماهير وتعبئتها سياسيا لمواجهة خطر المجاعة من خلال وسائل الاعلام والمؤسسات التشريعية.
د) التأكد من ضرورة حماية كل المواطنين من المجاعة كحق انساني اساسي.
هـ) فرض المحاسبة بتحديد المسئولية في المجاعات من خلال المحاسبة البرلمانية والحزبية والحكومية، والمحاسبة الديمقراطية الواسعة المتمثلة في الرأي العام والصحف، والمحاسبة القانونية فيما يتعلق بعدم الاستجابة الفورية لمواجهة المجاعات ومنها سن القوانين التي تجرم المسئولين عن خلق بعض الاشكال من المجاعات، والمحاسبة المهنية للمسئولين الحكوميين، وموظفي الصحة، والمخططين والمدراء والتقييم الدوري لنظم مواجهة المجاعات نفسها.
التكلفة المالية الباهظة للنزاعات المسلحة وأجهزة الأمن ورئاسة الجمهورية، عملت على إهدار الموارد. لقد وصلت تكاليف الأجهزة الأمنية لمعدلات خطيرة حيث بلغت في عام 1997 حوالي 50% من الإنفاق العام للدولة، وسجل الصرف على رئاسة الجمهورية ارتفاعا بمعدل 94.4% عام 1997 مقارنة بعام 1996 ، ( راجع : العرض الإقتصادي السنوي لوزارة المالي ).
التكلفة الاقتصادية والاجتماعية العالية للنزاعات: تكلفة الحرب كما ذكرنا سابقا تقدر بمليون دولار في اليوم ، أي ما يعادل كل الدخل من البترول. وهذه التقديرات قبل نشوء النزاعات بغرب السودان.
كما للنزاعات ايضا تكلفة اجتماعية ومادية باهظة والتي يمكن تحديدها في الاتي:
تحويل الموارد المادية لجبهات القتال.
تحويل القوة البشرية لجبهات القتال ايضا.
مصادرة وسلب ونهب الغذاء بواسطة المتحاربين.
تدمير ونهب العناصر الهامة لانتاج الغذاء وتخزينه، بما في ذلك الحيوانات والمزارع والبذور. تضييق الرقع الزراعية نسبة للالغام ، وتقليل المياه الصالحة للشرب بتسميم الآبار.
حظر ترحيل الغذاء.
منع النشاطات الهامة لبقاء الإنسان في مناطق العمليات كتسويق مواشيهم، والنزوح للعمل، والبحث عن الأغذية البرية ، وصيد الأسماك، والتجارة الخ…
تدمير نظم التسويق بواسطة الرقابة والإجراءات المتشددة، وخطر الهجوم على الأسواق والتجار.
التهجير القسري للسكان المدنيين.
حظر المساعدات وسرقتها.
غرس ثقافة العنف مما يعقد عملية فض وادارة النزاعات.
اضعاف الدولة السودانية بتدمير الموارد مما يخلق الارضية المواتية للتدخلات الخارجية والمناورات السياسية الهدامة.
هجرة العقول والعمالة الماهرة للخارج.
تدمير الفوائض الاقتصادية الحقيقية والكامنة.
تهديد الوحدة الوطنية.
فقدان التعليم بالنسبة للشباب في مناطق العمليات العسكرية.
اضعاف قدرة المواطنيين على مواجهة الكوارث الطبيعية والتعامل معها على اساس التقاليد والمعارف المتراكمة.
اعادة توزيع الموارد والدخول لصالح الاثرياء وتجار الحرب مما عمق من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية وفاقمت من الحساسيات الاثنية.
انتشار مرض الإيدز وسط المحاربين.
الانتهاكات المتزايدة لحقوق الانسان واثارها السلبية على حياة المواطنين.
إضافة الى ما سبق ذكره اعلاه ، نجد من الضرورة عند حساب التكلفة الكلية للحرب ان لا تقتصر فقط على الصرف على التسليح وعلى القوات بل يجب ان تضع في الحسبان العوامل التالية:
القيمة المالية للأموات نتيجة الحرب. صحيح ان حياة البشر يصعب تقييمها ماليا ولكن من الممكن تحديدها على أساس السلع والخدمات التي يمكن ان ينتجها الفرد أثناء حياته.
التكاليف المستمرة لمقابلة احتياجات المعوقين والأرامل واليتامى ، بالإضافة لقيمة الدخل الذي يفقدونه بوفاة الأب او الإعاقة او ظروف الحرب.
قيمة الأصول التي دمرتها الحرب، والقصف الجوي ، والأرض المحروقة ، وممارسات التهجير بواسطة المتحاربين.
قيمة الأرض الغير مستعملة نسبة للألغام المزروعة وتكلفة إزالة الألغام منها.
هروب رؤوس الأموال وفقدان الثقة في الاقتصاد السوداني نتيجة للحرب.
التكلفة الحقيقية ( opportunity cost) للتنمية والنشاطات الإنتاجية التي تركت لاعتبارات الحرب.
من المهم ان نعلم ان النظم الديمقراطية الناضجة هي اقل ميلا للحروب من النظم السلطوية او الديمقراطيات الانتقالية او الغير امنة او غير منضبطة. (transitional or insecure democracies). هذه النقطة يجب استيعابها جيدا اذا كنا ننشد سلاما عادلا وشاملا ودائما. وفي نفس الاتجاه يجب ان نؤكد بان الحرب تقوض النظم الديمقراطية نسبة للاجهاد والتوتر السياسي المصاحب للحروب (political stresses) وغياب الشفافية في الاداء الحكومي نسبة للجوء للسرية التامة التي تتطلبها الاجراءات الامنية، اضافة الى ان الحروب تتطلب فرض حالات الطوارئ وتعليق الحقوق المدنية والسياسية.
9- اختيار المسار الأسلم
التحليل اعلاه قصدنا منه وضع الاطار النظري والعملي الذي على ضوئه يتم اختيار المسار الاسلم والمناسب لمعالجة الأزمة السودانية او إمكانية الدمج بينهما.
أ) المصالحة الوطنية:
الوصول إليها أسهل ، وفي العرف السوداني تعني حل النزاعات بالتراضي، او الجودية بدون الغوص في جذور اسبابها. وتشمل على قدر من الحل ومن العقاب في شكل الدية او التعويض يفرض على الجاني لصالح المجني عليه. ولكنها تتجنب فرض العقوبات الشديدة. هذه العملية تعتمد الى حد كبير على وساطة الكبار في السن، ذوي الحكمة والوقار والراي السديد وعلى مؤسساتهم التاريخية. كلمتهم تعتبر فاصلة لما يحظو به من احترام لم يكتسب بالتسلط او القهر. ولكن نجد الان وللاسف ان النسيج الاجتماعي والمؤسسات الضرورية لهذه العملية قد شوهت كثيرا بالاستقطاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمناورات التي تمارسها الحكومة. لقد تم غرس العنف كما بينا سابقا باشكاله الهيكلية ، والمؤسسية، والثقافية وما يتعلق به من عداوات دينية وعرقية، زعزعت القاعدة الاجتماعية المطلوبة لهذا النوع من فض النزاعات.
ان غياب هذه الشروط، يجعل من اي مصالحة على هذا الأساس محدودة العائد ولا تعدو وقفا مؤقتا للعداءات التي يمكن ان تظهر من جديد في المستقبل نسبة لعدم التصدي للجذور الحقيقية لها. ولكن على الرغم مما سبق ذكره من الممكن ان تساهم في فض النزاعات الضيقة وفي تقارب وجهات النظر بين قبائل التماس على مستوى الحوار والمؤتمرات القاعدية الشعبية اي ما يسمى بالإنجليزية (people to people dialogue). ولكن على صعيد آخر فعلى الرغم من نبل مبدأ العفو من خلال الإجماع المتضمن في هذا النوع من فض النزاعات، الا ان من الممكن ان تفتقد الثقة في نتائجه مما يجعله غير شرعي في نظر ضحايا التجاوزات وبالتالي يهزم القصد منه في الحد من هذه التجاوزات وتجنب ظهور جناة جدد مستقبلا.
ان هنالك شواهد كثيرة في تاريخ السودان المعاصر تدعم ما ذهبنا اليه كقول السيد ابيل الير الشخصية القانونية المعروفة ورجل الدولة" العديد من الاتفاقات لم تحترم".
هناك عاملا آخر لابد من وضعه في الحسبان. فالمصالحات بهذا المفهوم الهش من خلال سياسة الاستيعاب للبعض عادة ما تتم بين القوي والضعيف تاركة القوى الأساسية والمؤثرة خارج اللعبة السياسية، الشيء الذي يجعل هذه المصالحات غير فاعلة في المديين المتوسط والبعيد. يجب الا يفهم من قولنا هذا ان الحركة الشعبية لتحرير السودان ليست بالقوية على ارض الواقع ولكننا نقصد قوى سياسية اخرى تم استيعابها في إطار المصالحات. زد على ذلك إن أي اتفاق مصلحي (convenience) او سطحي بين المركز والقوى الأخرى خاصة بالأطراف، سوف يعزز في نظرنا من هيمنة المركز ويعمق من التفاوتات بينه والأقاليم ويوسع النزاع ويصعده. تأكد لنا ذلك في المحاولات السابقة للنظام الحالي لاستقطاب واغراء بعض العناصر السياسية الضعيفة خاصة بالجنوب واستغلالها في محاربة لحمهم ودمهم مما أجج من نار الحرب وحول النزاع لنزاع جنوبي /جنوبي. وفي نفس الاتجاه تصالح النظام مع بعض القوى السياسية الشمالية الضعيفة باستيعابها في الحكم وتسخيرها لمهاجمة الحركة الشعبية لتحرير السودان ، مما اعطى النزاع بعدا اخرا خطيرا باعتبار ان التحالف الشمالي الجديد والذي قاعدته إسلامية /عربية تحالفا ضد الشعوب الأفريقية العريضة بالجنوب والشمال. هذا الوضع يحمل في جنباته أبعادا إقليمية خطيرة جدا للنزاع.
كما لا يفوت علينا ان نذكر ان الاتفاقات والمصالحات الثنائية بين بعض الفصائل المنقسمة عن أحزابها والنظام في اطار ثوابت النظام وهياكله الأساسية لن يوقف من نزيف الدم، لأنه لن يرض القوى الأساسية الأخرى المعارضة التي تنشد الحرية والديمقراطية وبالتالي لن تلتزم بنتائجه مما يجعل جدواه في حل النزاع غير مجدية ومحل شك كبير كما نلاحظ الآن.
هذا الحكم لا ينطبق بصورة مطلقة على اتفاق مشاكوس، على الرغم من طابعه الثنائي. وذلك لان اتفاق مشاكوس وما تلاه تصدى لاكثر الحلقات حدة في النزاع السوداني ، كما انه يمثل عمليه (process) ذات مراحل مكملة لبعضها البعض ستجد فيها القوى السياسية الاخرى مكانها بالضمانات المكفولة في الاتفاق حول الحقوق الأساسية للإنسان وبقدر ما تبذل من ضغط جماهيري. وعلى مستوى اخر قدمت العديد من المذكرات التي تعكس رؤى القوى السياسية الاخرى ومنظمات المجتمع المدني للوسطاء والتي وضعت في الحسبان. والشئ الآخر الذي يميز اتفاق مشاكوس يتمثل في الضمانات التي يكفلها المجتمع الدولي وقدرته على توفير الجزرة لبناء السلام واستعمال العصا في مواجهة عقلية القلعة.
كما ان الحركة الشعبية لتحرير السودان كانت تضغط في اتجاه تضمين رؤى التجمع الوطني الديمقراطي في الاتفاق ، حيث لم يسمح الوسطاء للقوى الاخرى بالمشاركة قي المفاوضات لاعتبارات عملية في نظرهم . مسالة أخرى هامة وهي ان الاتفاق تم بين اكثر القوى فاعلية على ارض الواقع، اي الحركة الشعبية والتي لديها قوة عسكرية وأراضي واسعة تحت سيطرتها ، وحكومة السودان. اما التجمع الوطني الديمقراطي كتنظيم وعلى الرغم من قناعتنا بأنه الصيغة التوفيقية الملائمة لظروف السودان ، للأسف الشديد ساعد في تهميش نفسه من خلال أدائه الضعيف على ارض الواقع وعلى عدم تجاوبه مع الدعوة الأمريكية للتفاكر معه للاشتراك في المفاوضات قبل بدئها . لا يفوت علينا الهجمة القمعية الشرسة التي مارسها النظام على القوى المعارضة . ولا يفوت علينا ايضاً الدور العظيم الذي قام به المناضليين الشرفاء من أبناء الوطن في مقاومة النظام الحالي . ولكن كما هو معروف لكل شئ ثمن ، والإستعداد للتضحية هو الأساس في القيادة .
إن العالم لن يقف مكتوف الأيدي أمام نزاع دموي وحرب هي من أطول واقدم الحروب بأفريقيا، راح ضحيتها اكثر من مليوني شخص وشردت ما يزيد عن الـ4 ملايين ودمرت الأساس المادي للحياة. وربما رأي المجتمع الدولي أيضا ان الناحية العملية تتطلب البدء بأكثر الحلقات تعقيدا. ولكن على الرغم من كل هذه الاستثناءات ، إلا أن النزاع السوداني قد اتسعت رقعته وان مشكلة الجنوب على الرغم من أهميتها تمثل جزء من أزمة أوسع واشمل تترابط حلقاتها عضوياَ، مما يتطلب حلها بصورة اشمل من ناحية المضمون والمشاركة. علينا أن نعلم أيضا أن الشباك الذي انفتح في مشاكوش في 20 يوليو لن يقفل أبدا. لهذه الأسباب لابد من تطوير هذه المصالحات الوطنية التي يرتكز بعضها على الحلول الجزئية بالاستفادة من إيجابياتها والتراث السوداني الأصيل في حل النزاعات للوصول لحل شامل للنزاع السوداني.
لذلك سنعمل في الجزء الثاني من هذه الدراسة على وضع تصور لحل شامل للازمة السودانية.
تابع لقراءة الفصل الثاني
فيصل محمد خليل
|
|
|
|
|
|
|
|
|