|
أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر.
|
........................
وهبتني الخرطوم صديقة في غاية اللطف والحساسية , وأسعد بها كثيراً, فهي عادة ما تفرج عني كاّبتي وكُربي,قامت باهدائي نسخة خطية لمحاولة لها ترجمة مقالة لأدوارد سعيد تعتبر من اخر مقالاته قبل رحيلهُ عنا باسابيع.
جاءت الترجمة بعنوان "الانسية قلعتنا في وجههم البرابرة" ...قفز في زهني رسم المُثقف المجري الماركسي الطيب "لوكاتش" ومفهوم الانسنة, وقد سعي سعيد عبر كتابتهُ هذي لطرح مشروع الفكر الانساني وقيمه واوصي فيه قبل رحيله قوي السلام والتقدم "الكوني" للوقوف أمام العُنف الوحشي والنضال العادل للحفاظ علي القيم الانسانية , وحذر من مغبة رفض الأخر وتناسي التعدد العالمي وتجاهله وان الشعوب عامة تُناصر قضايا الحياة في الارض.
اِدوارد سعيد المُثقف الوضاء ,الفلسطيني طيب الذكر ,يُعد نموذجاً نادراً للمثقف العالمي"الشرقي" الذي تعمد دراسة الثقافة الانسانية والثقافة الغربية وحاول كبح جماحها , والالمام بكُل تياراتها في الفكر والادب والتقدم عموم.مذ عصر الانوار الي هذي السنوات التي أُفسد فيها العالم.!
ويعتبر كتاب "الاستشراق " المشهور مفتاحاً مُهما لكثير من الدراسات والبحوث المُهمة لقضايا النهضة والنمو الشرق أوسطي في امريكا واوربا , وفتح كثيراً من مفاهيم الانشاء الجديدة في افريقيا , وباكستان , الهند وامريكا اللاتينية ,...الخ. أما مخطوطة الثقافة والأمبريالية فقد أُمتعت بها امتاع لا حد له"لذه المعرفة" وهو بالنسبة لي احد مصابيح حياتي –عديمة الجودة- لاستيعاب مفاهيم عُدةبالقراءة الثانية للنُسخة العربيه . تذهب الفكرة المحورية لموضوعة الثقافه والديمقراطية الي ان العالم "عالمنا" هو عالم من المُشاركة والتقاطعات الثقافية المسنودة الي تاريخ الانسانية عينها. المُرتكز الأساسي والموقف الفكري لسعيد ينطلق أساساً من الانسان وضرورة التواصل ,التفاعل وتبادل الثقافات ولضرورة النضال ضد ايدلوجيا الاستعلاء والتسلط وعقلية المركزيه الاوربية. وفي تقديري ان تخصيص هذا الجزء الاكبر من الكتاب لمقاومة نوعيه الفكر المؤدلج والبناء الذي يقوم علي أساس انها نقيض الاخر , وتسعي لأقامة الحواجز والجُذر بينها وبين الحياة. ويذهب المفكر الانسانس الصميمي المهذب المحترم "سعيد" الي ان سلاح الانغلاق الثقافي والاحتماء بهوية ذاتية شوفينية لهو سلاح ركيك وضعيف وهو جدلياً من صُنع العقل الرأسمالي المُتخثر نفسه. ويذهب صاحبنا الي "كما انه لايوجد شعيب نقي صافي كذلك لاتوجد ثقافة نقية محضة , فجُلها متداخلة, بل كُلها مُهجنة ومولودة وهذا هو عُنصر ثراءها.بقاءها ونموها.."
خرج سعيد ادوارد صوب الدعوة للخير والمساواة الكونيهوالحرية والتعايش وصب الأسئلة!
صارع سعيد مُنذ تسعينيات القرن الماضي مرض"سرطان الدم" وما انهزم ..بل مات متطوعاً نبيلاً..!
مات ادورد سعيد
مازالت الحياة تعُج بالخير والجمال وبدعاة الانسنة والتعايش السلمي والعدالة الجمعية.
ابراهيم قرمبوز. الخرطوم"اّوان نهاياتها"
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر. (Re: Ibrahim Algrefwi)
|
وصية المثقف الكلّي ادوارد سعيد... لم أترك سوى ما كنته وما أوقفت حياتي عليه
حسن شامي الحياة 2003/12/3
أحسب أن الشعور بفقدان ادوارد سعيد حمل كثيرين على العودة, ولو بمقادير ولاعتبارات مختلفة, الى نصوص وأعمال المثقف والكاتب الراحل. وأحسب ان هذه العودة لا تخلو من لهفة غامضة لتفقد آثار الرجل, ولمعرفة ما عساها تكون وصية المثقف الكلي او الشمولي الذي كانه سعيد. غنيّ عن القول ان الوصية التي نشير اليها ها هنا, لا تتعلق بالوجه الشخصي والعائلي الحميم لحياته وسيرة الفقيد, بل بالحمولة الرمزية والمعنوية لتجربة ومسار المثقف النقدي كما جسدهما ادوارد سعيد طوال عقود من العمل الدؤوب. وهو فعل ذلك بأناقة روحية تثير الاعجاب. في هذا المعنى, قد لا يكون هناك وصية صريحة غير تلك التي كان في مقدور سعيد ان يلمح اليها بين مناظرتين او في ثنايا نص من نصوصه: لم اترك سوى ما كنته, وما اوقفت حياتي عليه.
لنقل ان غياب الوصية ليس سوى الوجه الآخر للإرث المفتوح, لما يحتمل الشراكة والصداقة والتفاعل بين غرباء يجتمعون بمقادير متفاوتة بطبيعة الحال, على ما هو اساسي في سلوك المثقف الحقيقي: التوثب النقدي والمنهجي المحصن معرفياً والذي يستلزم على الدوام تجديد وصقل الادوات والاسلحة الفكرية. وهذا بالضبط ما نقع عليه في كتابات ادوارد سعيد عموماً, وفي الكتاب الذي عدت اليه مؤخراً, في ترجمته الفرنسية الصادرة عام 1996 عن دار "سوي" في باريس على وجه التخصيص, اي الحامل عنواناً فرنسياً هو "حول المثقفين والسلطة", فيما يبدو العنوان بالعربية "صور المثقف" (بحسب ترجمة ناجحة للكاتب صبحي حديدي) اقرب الى العنوان الانكليزي الاصلي اي "تمثيلات (صور) المثقف". وقد يكون مفيداً ان نذكر بأن هذا الكتاب عبارة عن مجموعة نصوص مشغولة بعناية قدمت في صورة محاضرات لشبكة الـ"بي بي سي" عام 1993, وتدور كلها على وضعية ودور المثقف الحديث من خلال تناول المحاور الكبيرة والوجوه البارزة لنشاطه كما ينبغي ان يكون. ولكن قبل الحديث عن المثقف, يجدر بنا ربما ان نعود, ولو في صورة خاطفة, الى الكتاب الذي استهل به ادوارد انخراطه في المعترك الفكري والسياسي والثقافي, أي "الاستشراق". فمن المعلوم ان صدور الكتاب بالانكليزية عام 1978, وبالفرنسية عام 1980, ناهيك عن ترجمته الى العربية, اثار جدلاً ومناظرات ساخنة في اوساط مثقفة متعددة المشارب لا تقتصر على العاملين في حقل الاستشراق المترامي الاطراف والحافل بتنويعات وتنوعات كبيرة. وجهت انتقادات شديدة الى الكتاب وصاحبه, ولم تكن كلها صائبة, وان كان بعضها مصيباً في نقاط معينة. لقد عيب على سعيد, مثلاً, انتقائيته وعدم احترامه للتحقيب التاريخي, علاوة على اغفاله قسماً بارزاً من الأدب الاستشراقي, وهو تحديداً القسم الاكثر تجرداً عن الغرض كما هي حال الاستشراق, الألماني المتخصص (وهذا صحيح). على ان هذا كله لا ينتقص من قيمة الكتاب ومن شرعية المحاولة ونهجها, المستوحى من اعمال الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو كما يشير ادوارد نفسه, والقائم على تناول النصوص والاعمال لا بوصفها "وثائق" بل معالم وآثار تُستكنه دلالاتها عن طريق حفريات معرفية لا عن طريق التفسيرات والتعليقات الشارحة للنصوص. المناظرة التي اطلقها كتاب الاستشراق لم تكن خلواً من سوء الفهم. وهناك مستشرقون معرفون بالنزاهة تخوفوا من الطابع الاجتراحي النقدي الشامل للكتاب وتعريضه صورة الاستشراق, جملة وتفصيلاً, لمحاكمة ايديولوجية لا نهاية لها ويمكن ان تتوظف فيها اهواء ونوازع خطيرة. وهذا ما حمل مستشرقاً لا يرقى الشك الى نزاهته وتبحره, وهو مكسيم رودنسون, الى تدبيج كتاب حول تاريخ الاستشراق حمل عنوان "روعة الاسلام", في محاولة لالتقاط الاتجاهات الكبرى والمتباينة التي لامست تطور النظرة الاستشراقية, وهي محاولة مليئة بالمعلومات الدقيقة وغزيرة الفائدة. يمكننا القول, في هذا السياق, ان ما حصل لكتاب الاستشراق يذكر في بعض وجوهه بما حصل لكتاب ميشال فوكو حول "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي" لدى صدوره, اذ اثار حفيظة عدد من المؤرخين الذين اعتبروا الكتاب عديم الصلة بشواغل وطرائق أهل الصنعة التاريخية وتعهد ادواتها المناسبة ومستلزماتها. ورد فوكو آنذاك بالقول بأنه سعى الى دراسة مشكلات ذات طابع معرفي - تاريخي وليس الى صوغ رواية تاريخية عن الجنون في اوروبا. ما تناوله ادوارد سعيد في "الاستشراق" كان شيئاً من هذا القبيل, اي اعمال الحفر في ادبيات ونصوص ساهمت في صناعة صورة "جوهرانية" عن الشرق, وعما يقابله, اي الغرب.
كان سعيد يعلم بأن المناظرة حول "الاستشراق" تركت, بعد خفوتها, بصمات وانطباعات قابلة للاستثارة مجدداً, في قوالب وحول مسائل مختلفة, وكان يعلم ايضاً ان الاتهامات الموجهة اليه لم ولن تتوقف, وفي مقدمها اتهامه بالظلامية وتسعيره الحرب الايديولوجية الشرقية الاسلامية ضد الغرب بقضه وقضيضه, كما لو ان النزاع يدور بين كيانين ثقافيين كليين لا جسور بينهما ولا صلات. مثل هذا الاتهام لا يخلو من تحامل وظلم, وان كان قسم من الأدب الاسلاموي الكفاحي استعان بكتاب "الاستشراق" لتعزيز طروحاته التبسيطية والاستغراق في حرب بين كيانين وهويتين محمولين على صورة أصلين طبيعيين لا يأتيهما التفاعل والتركيب والتبادل إلا على معنى الغلبة والإبادة. في "صور المثقف" يعود سعيد غير مرة الى هذه المسائل ليؤكد أن المجتمعات البشرية مركبة وأن مسارات الثقافة معقدة ومن الخطأ الشنيع اختزالها الى تعريفات مبسطة وجاهزة مثل "الشرق" و"الغرب".
في ثنايا تنقلاته البحثية بين أحوال ووضعيات المثقف, يبث سعيد اشارات عدّة تتعلق بتجربته الذاتية. فهو يشير في تقديمه الى ان احدى مهمات المثقف تقوم على كسر النماذج الجاهزة وغيرها من المقولات التي تختزل الفكر والتواصل. وقد عانى هو نفسه من هذه الأحكام المنمطة المسبقة. ففي مرات عدة, عاب عليه صحافيون ومعلقون كونه فلسطينياً, وهي كلمة مرادفة, كما نعلم, للعنف والتعصّب وقتل اليهود, ويشير سعيد في مواضيع أخرى من "صور المثقف" الى انه قرّر منذ أكثر من عقدين من السنين أن يبقى مثقفاً منفياً, وأنه يعلم بأن قدره هو أن يكون فلسطينياً يحمل الجنسية الأميركية, وقد ارتضى قدره هذا وقنع به, وإن كان يعلم أن الغربة مصدر شقاء لا قرار له. والمثقف الحقيقي في نظر سعيد, هو من يختار الهامشية والاقامة "خارج اللعبة", أي لعبة الدفاع عن المصالح الضيقة والأهواء القومية بما في ذلك نوازع أولئك الذين ينتسب اليهم, بشراً وجنسية وأوطاناً. ويعود سعيد الى أطروحتين بارزتين حول تعريف المثقف, الأولى للكاتب الايطالي انطونيو غرامشي الذي يميّز بين نموذجين للمثقفين, أحدهما يتعلق بالمثقفين التقليديين من أساتذة ورجال دين واداريين, والثاني يتعلق "بالمثقفين العضويين" المرتبطين مباشرة بطبقات اجتماعية أو بشركات تستعين بهم لتنظيم مصالحهم وزيادة سلطتها وتوسيع رقعة اشراقها. الأطروحة الثانية وضعها الفرنسي جوليان بندا في نهاية العشرينات وهي في عنوان فصيح: "خيانة الأكليروس" قاصداً بذلك المثقفين. فهؤلاء يمثلون, في نظر بندا, عصبة من الفلاسفة - الملوك الموهوبين والمثابرين أخلاقياً بحيث يشكّلون ضمير الإنسانية, والحال أن نصّ بندا هو بمثابة هجوم كاسح على المثقفين الذين تخلوا عن واجبهم أكثر مما هو محاولة لتحليل الوسط المثقف. ويلحظ سعيد بأن المثقفين يشكلون, بحسب بندا, فئة اكليروس متعلمة, وحفنة من المخلوقات النادرة التي لا تنتمي الى هذا العالم بقدر ما تنتمي الى الدفاع المستميت عن السنن الخالدة للحقيقة والعدالة. ومع أن سعيد يميل أكثر الى تشخيص غرامشي فإنه يعتبر محاولة بندا, على طابعها الرسولي والديني, حاملة لمفهوم عريض عن المثقف يبقى قوياً وجذاباً. ويخلص سعيد الى التأكيد على أن المثقف هو من يتمتع بالضبط بملكة التمثيل والتجسيد والتعبير عن رؤية أو موقف أمام جمهور معين ومن أجله. ولتدعيم مقولته عن اختصاص المثقف بصياغة وانشاء التمثيلات والتعبيرات, يعود سعيد الى ثلاث روايات لتورغييف وجويس وفلوبير, يحتل فيها المثقف وظيفة بطولية تسعى الى نشر الحرية والمعرفة الانسانيتين. وفي هذا السياق يغمز سعيد من قناة بعض فلاسفة ما بعد الحداثة الزاعمين نهاية الحكايات المؤسسة الكبيرة, مثل الفيلسوف الفرنسي ليوتار, الذي يصفه سعيد هو وأتباعه بالكسل وباللامبالاة. الى ذلك يعج "صور المثقف" بأسماء ونصوص كبرى تتعلق بالموضوع, من هذه الزاوية أو تلك, من نايبول الى ادورفو وسارتر وفيرجينيا وولف وريجيس دوبريه ووالتر بنيامين, وبعلماء اجتماع مثل رايت ميلز وغيره من الأحدث عهداً بالمناظرات والتحليلات المتعلقة بالمثقفين. وفي غضون جولاته البحثية هذه يبقى ادوارد متمسكاً باعتقاده بأن المثقف الحقيقي هو الذي يرتضي الهامشية, في معناها الايجابي, ويرفض اغراءات السلطة ومكافآتها, ويبقى على الدوام مدافعاً عن المقهورين والمظلومين, أفراداً ومجتمعات وشعوباً, من دون أن ينسب الى هؤلاء براءة أصلية تعفيهم أو تعصمهم عن الحاق الظلم بغيرهم في أوضاع مختلفة تاريخياً. علاوة على ذلك, يحفل الكتاب بتوغلات جزئية في الحياة الثقافية والسياسية, في أميركا والعالم العربي والإسلامي خصوصاً, ويفصح سعيد خلالها عن بقائه ثابتاً على المبدأ: من واجب المثقف أن يدافع عن الذين لا صوت لهم, ليس من جراء قدرية نازلة نزول الكارثة الطبيعية بل من جراء وضعيات وشروط تاريخية الحقت الاجحاف بهم, أياً كانوا. انتقادات سعيد لاتفاقية أوسلو وللسلطة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات هي شهادة لمصلحة سعيد المثقف المتمسك بحق الشعب الفلسطيني في العدالة والوجود اللائق, سياسياً وثقافياً.
ما يسترعي الانتباه أكثر في محاولة ادوارد سعيد عن المثقفين, هو العودة المتحولة لشخصية الزاهد والعارف والممتنع عن مجالسة الملوك ومتاع دنياهم, والعودة هذه متحولة لأنها تتشكل داخل قوالب جديدة, دنيانية وعلمانية. وإذا كان لنا ان نلخص سلوك ادوارد المثقف فإن عبارة الزهاد الروحيين العارفين تصلح ولو مجازاً في هذا المقام: "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً, بل ألا يملكك شي". فسيرة المثقف العالمي كما جسدها سعيد أشبه بقول مأثور, أو وصية, مفادهما ان المثقف العالمي أو المنفي ليس من لا ينتمي الى وطن, بل من يرفض ان يجعل هذا الانتماء مطية لتبرير الخطأ والظلم والجهل, ويستمسك بعالمية المعايير الحقوقية والأخلاقية وتساوي الناس كلهم ازاءها. ويبدأ هذا بمقاومة أكبر الأخطار التي تتهدد دور المثقف في زمن الشبكات الاعلامية, والاغراءات الدائرة على شراء الذمم, وامتهانها, نعني بهذا, مقتفين تشخيص ادوارد نفسه, خطر "الاحتراف" في مزاولة دور المثقف.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر. (Re: Ibrahim Algrefwi)
|
الأخ ابراهيم الجرايفاوي .. الكاتب و الناقد ادوارسعيد .. المثقف الغير منتمي ، هاو .. كتب في كتابه : صور المثقف .. ما ملخصه .. يجب ان يكون المثقف غير منتمي .. خاصة للبلاط حتي يستطيع ان يفكر .. كما عرف المثقف بالمفكر أيضا .. واليك اخر ما كتبه قبل رحيله في 25/9/2003 آخر مقال للدكتور ادوارد سعيد
احلام واوهام
بقلم: د. ادوارد سعيد*
خلال الايام الاخيرة من تموز (يوليو)، افصح النائب توم ديلاي (جمهوري) من تكساس، وهو زعيم الغالبية في مجلس النواب ويوصف عادةً باعتباره احد الرجال الثلاثة او الاربعة الأقوى نفوذاً في واشنطن، عن آرائه في ما يتعلق بخريطة الطريق ومستقبل السلام في الشرق الاوسط. وما صرّح به كان يقصد منه الاعلان عن رحلة قام بها في وقت لاحق الى اسرائيل وبلدان عربية عدة حيث عبّر بوضوح، كما اُفيد، عن الرسالة ذاتها. لم يترك ديلاي مجالاً للشك في أنه يعارض تأييد ادارة بوش لخريطة الطريق، خصوصاً ما تتضمنه بشأن قيام دولة فلسطينية. وقال بلهجة حازمة انها "ستكون دولة ارهابية"، مستخدماً كلمة "ارهابية" كما اصبح مألوفاً في الخطاب الاميركي الرسمي من دون اعتبار لظرف او تعريف او خصائص ملموسة. وتابع قائلاً انه توصل الى افكاره بشأن اسرائيل بفضل ما وصفه بمعتقداته كـ"صهيوني مسيحي"، وهو تعبير لا يعد مرادفاً لتأييد كل ما تفعله اسرائيل فحسب بل ايضاً لحقّ الدولة العبرية الثيولوجي في ان تواصل القيام بما تقوم به بغض النظر عما اذا كان سيلحق الأذى في سياق ذلك ببضعة ملايين فلسطيني "ارهابي".
ويراوح العدد الكلي للاشخاص الذين يفكرون على شاكلة ديلاي في جنوب غربي الولايات المتحدة بين 60 و70 مليون شخص، وينبغي ان يُلفت الى ان من ضمنهم جورج دبليو بوش الذي يعد ايضاً من المسيحيين الذين عادوا بحماس الى ديانتهم، ويُفترض بالنسبة اليهم ان يؤخذ حرفياً بكل ما يتضمنه الكتاب المقدس. وبوش هو زعيمهم وسيعتمد بالتأكيد على اصواتهم في انتخابات 2004 التي لن يفوز بها، حسب اعتقادي. ولأن رئاسته معرضة للخطر بسبب سياساته المدمرة داخل البلاد وخارجها، فإنه والمخططين الاستراتيجيين لحملته الانتخابية يحاولون ان يجتذبوا المزيد من اليمينيين المسيحيين من مناطق اخرى في البلاد، خصوصاً الوسط الغربي. اجمالاً اذاً، تمثل آراء اليمين المسيحي (بالتحالف مع افكار ولوبي حركة المحافظين الجدد المؤيدة بتطرف لاسرائيل) قوة هائلة في الحياة السياسية للولايات المتحدة، وهي الفضاء الذي يدور فيه، واحسرتاه، الجدل حول الشرق الاوسط في اميركا. وعلى المرء ان يتذكر دوماً ان فلسطين واسرائيل تعتبران في اميركا اموراً محلية وليس شؤوناً تتعلق بالسياسة الخارجية.
هكذا، لو ان تصريحات ديلاي كانت مجرد افكار احد المتحمسين المتدينين او هذراً غامضاً لحالم غير ذي شأن، يمكن للمرء ان يصرف النظر عنها بسرعة باعتبارها هراء. لكنها تمثل في الحقيقة لغة سلطة لا تقاوم بسهولة في اميركا، حيث يؤمن الكثير من المواطنيين بانهم يخضعون مباشرة لتوجيه الله في ما يرونه ويعتقدونه، واحياناً في ما يفعلونه. ويقال ان وزير العدل جون اشكروفت يبدأ كل يوم عمل في مكتبه بصلاة جماعية. حسناً، يريد الناس ان يصلوا، وهم يتمتعون بحرية دينية كاملة بموجب الدستور. لكن في حالة ديلاي، عندما يصرح بما قاله ضد شعب بأكمله، الفلسطينيون، بانهم سيقيمون بلداً كاملاً من "الارهابيين"، أي من اعداء البشرية حسب تعريف واشنطن الحالي للكلمة، فإنه يعرقل على نحو خطير تقدمهم في اتجاه تقرير المصير، ويمضي شوطاً في فرض مزيد من العقاب والمعاناة عليهم، وكل ذلك بالاستناد على منطلقات دينية. بأي حق؟
لننظر في وحشية موقف ديلاي وغطرسته الامبريالية: من موقع مهيب يبعد عشرة آلاف ميل يمكن لاشخاص مثله، ممن لا يعرفون شيئاً عن الحياة الفعلية للفلسطينيين العرب، ان يتخذوا عملياً قراراً ضد تحرر الفلسطينيين ويؤخرونه، ويضمنوا سنوات اخرى من الاضطهاد والمعاناة، لمجرد انه يعتقد انهم جميعاً ارهابيون ولأن صهيونيته المسيحية - حيث لا يعني الاثبات او المنطق شيئاً - تبلغه ذلك. اذاً، بالاضافة الى اللوبي الاسرائيلي هنا، ناهيك عن الحكومة الاسرائيلية هناك، يتعيّن على رجال ونساء واطفال فلسطين ان يتحملوا مزيداً من المعوقات ومزيداً من العقبات التي تعترض طريقهم في الكونغرس الاميركي. هكذا ببساطة.
ما لفت انتباهي ايضاً بشأن تصريحات ديلاي ليس افتقارها حس المسؤولية واستهانتها غير المتحضرة (وهو تعبير شائع الاستخدام كثيراً في ما يتعلق بالحرب ضد الارهاب) بالألوف من الاشخاص الذين لم يلحقوا به أي اذى اطلاقاً فحسب، بل ايضاً الواقع الزائف المضلل الذي تشترك فيه تصريحاته مع الكثير مما يصدر عن واشنطن بقدر ما يتعلق الأمر بالنقاشات حول (والسياسة تجاه) الشرق الاوسط والعرب والاسلام. وقد بلغ هذا مستويات جديدة من التجريد الانفعالي، وحتى الفارغ، في الفترة منذ احداث 11 ايلول (سبتمبر). ويسود الفضاء العام الغلو، أي اسلوب ابتكار المزيد والمزيد من التصريحات المتشددة لوصف وضعٍ ما والافراط في وصفه، ابتداءً بالطبع من بوش ذاته، الذي نقلت تصريحاته الغيبية بشأن الخير والشر، ومحور الشر، ونور الله، ومقولاته المكرورة المقززة للنفس بشأن شرور الارهاب، اللغة التي تتحدث عن التاريخ الانساني والمجتمع الى مستويات جديدة مختلة من الجدل التجريدي الذي لا يقوم على أساس. ويتداخل هذا كله مع عظات واعلانات مهيبة الى بقية العالم للتحلي بالبراغماتية، وتجنب التطرف، واظهار التحضر والعقلانية، حتى في الوقت الذي يمكن فيه لصناع السياسة الاميركيين بما لديهم من سلطة غير مقيدة ان يشرّعوا لتغيير نظام هنا، وغزو هناك، و"اعادة بناء" بلد في مكان آخر، كل ذلك من داخل مكاتبهم المترفة المكيفة الهواء في واشنطن. هل هذا اسلوب لوضع معايير لنقاش حضاري ولتطوير قيم ديموقراطية، بما في ذلك فكرة الديموقراطية بالذات؟
كانت احدى الافكار الرئيسية لخطاب الاستشراق كله منذ منتصف القرن التاسع عشر ان اللغة العربية والعرب مبتلون بذهنية وايضاً بلغة لا فائدة منها للواقع. وصدّق عرب كثيرون هذا الهراء العنصري، كما لو ان لغات وطنية بأكملها مثل العربية والصينية والانكليزية تمثل بشكل مباشر عقول مستخدميها. وهذه الفكرة هي جزء من الترسانة الايديولوجية ذاتها التي اُستخدمت في القرن التاسع عشر لتبرير الاضطهاد الاستعماري: "الزنوج" لا يستطيعون النطق كما ينبغي ولذا يجب، وفقاً لتوماس كارلايل، ان يبقوا مستعبدين. و"اللغة الصينية" معقدة وبالتالي فان الرجل او المرأة الصينية، وفقاً لإرنست رينان، شخص مراوغ وينبغي ان يقمع، وهلم جراً. لا أحد يأخذ مثل هذه الافكار على محمل الجد في الوقت الحاضر، الاّ عندما يتعلق الأمر بالعرب واللغة العربية والمستعربين.
في ورقة بحث كتبها قبل بضع سنوات فرانسيس فوكوياما، الفيلسوف المتغطرس اليميني الذي اُحتفي به لفترة وجيزة لفكرته الحمقاء حول "نهاية التاريخ"، قال ان وزارة الخارجية الاميركية ستحسن صنعاً اذا تخلصت من المستعربين والناطقين باللغة العربية لديها لأنهم بتعلم هذه اللغة تعلموا ايضاً "اوهام" العرب. وفي الوقت الحاضر، يهذر كل فيلسوف متخلف في وسائل الاعلام، بما فيهم خبراء مثل توماس فريدمان، بالطريقة ذاتها، ليضيفوا في توصيفاتهم العلمية للعرب بأن أحد الاوهام الكثيرة للغة العربية هو تلك "الاسطورة" الشائعة التي يحملها العرب عن انفسهم كشعب. وبحسب خبراء من امثال فريدمان وفؤاد عجمي فإن العرب هم مجموعة مفككة من المتشردين، وقبائل تحمل رايات، متظاهرين بأنهم ثقافة وشعب. ويمكن للمرء أن يلفت الى أن هذا بالذات وهم استشراقي يتصف بالهلوسة، لا يختلف عن اعتقاد الصهاينة بأن فلسطين كانت خالية من السكان، وان الفلسطينيين لم يكونوا موجودين هناك ولا يعتبرون بالتأكيد شعباً. ونادراً ما يحتاج المرء الى المجادلة ضد صحة مثل هذه الافتراضات، فهي تنبع بجلاء من الخوف والجهل.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فالعرب يوبخون بقوة دوماً لعجزهم عن التعامل مع الواقع، وتفضيلهم اللغة الطنانة على الحقائق، والانغماس في الرثاء للذات وتبجيل الذات بدلاً من انغماسهم في سرد رصين للحقيقة. والموضة الجديدة هي ان يُشار الى تقرير برنامج التنمية التابع للامم المتحدة الذي صدر العام الماضي باعتباره عرضاً "موضوعياً" لادانة العرب لأنفسهم. ويتم تجاهل حقيقة ان هذا التقرير، كما بيّنت سابقاً، اشبه بورقة بحث لطالب جامعة في علم الاجتماع، تمتاز بسطحيتها وافتقارها الى التأمل بعمق واُعدّت لاثبات ان العرب يمكن ان يقولوا الحقيقة عن انفسهم، وهو أدنى بكثير من مستوى عقود من الكتابة النقدية للعرب منذ زمن ابن خلدون وحتى الوقت الحاضر. يُطرح هذا كله جانباً، كما هو ايضاً حال السياق الامبريالي الذي يتجاهله مؤلفو التقرير من دون اكتراث، وربما كان ذلك مفضلاً اكثر للبرهنة على ان تفكيرهم يتوافق مع البراغماتية الاميركية.
وغالباً ما يقول خبراء آخرون ان العربية، كلغة، تفتقر الى الدقة وعاجزة عن التعبير عن أي شيء بدقة حقيقية. ومثل هذه الملاحظات، حسب رأيي، عابثة ايديولوجياً لدرجة انها لا تستدعي المجادلة. لكن اعتقد انه يمكن الحصول على فكرة عما يحرّك مثل هذه الآراء بالقاء نظرة، كمقارنة مفيدة، على احد النجاحات الكبرى للبراغماتية الاميركية وكيف يبيّن الطريقة التي يتعامل بها زعماؤنا وسلطاتنا الحالية مع الواقع باسلوب متزن وواقعي. وآمل بأن تتضح بسرعة المفارقة المثيرة للسخرية في المسألة التي اناقشها. المثال الذي يخطر ببالي هو التخطيط الاميركي للعراق في مرحلة ما بعد الحرب. ونشرت صحيفة "فايننشال تايمز" تقريراً مفزعاً بهذا الشأن في 4 آب (اغسطس) الجاري يشير الى ان دوغلاس فايث وبول ولفويتز، وهما مسؤولان غير منتخبين يعدان من الأقوى نفوذاً وسط المحافظين الجدد "الصقور" في ادارة بوش وتربطهما علاقات وثيقة على نحو استثنائي بحزب ليكود في اسرائيل، كانا يديران مجموعة خبراء في البنتاغون "ادركوا منذ البداية ان هذه (الحرب وما يعقبها) لن تكون مهمة تنجز بسهولة فحسب، اذ ان (الأمر كله) سيستغرق 60-90 يوماً، يعقبه تغيير سريع وتسليم... الى الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي. ويمكن لوزارة الدفاع الاميركية آنذاك ان تنفض يديها من المسألة كلها وترحل بسرعة، وسلاسة، وخفة. وسيكون هناك، في اعقاب ذلك، عراق ديموقراطي متجاوب مع رغباتنا وطلباتنا. وهذا هو كل ما يقتضيه الأمر".
نعرف الآن، بالطبع، انه جرى خوض الحرب بالفعل وفقاً لهذه المنطلقات وجرى احتلال العراق عسكرياً بناءً على هذه الافتراضات الامبريالية المستبعدة كلياً في الواقع. فسجل الجلبي كمخبر ومصرفي لم يكن، في أي حال، جيداً. ولا أحد بحاجة الآن الى التذكير بما حدث في العراق منذ سقوط صدام حسين. فالفوضى الفظيعة، من سلب ونهب المكتبات والمتاحف (وهو ما يتحمل مسؤوليته كلياً الجيش الاميركي كقوة محتلة)، والانهيار التام للبنية التحتية، ومشاعر العداء وسط العراقيين - وهم ليسوا، بأية حال، مجموعة واحدة منسجمة - تجاه القوات الأنكلو اميركية، وفقدان الأمن وغياب الكثير من متطلبات الحياة اليومية في العراق، واولاً وقبل كل شيء الافتقار البالغ الغرابة الى الاهلية البشرية - أشدد على كلمة "بشرية" - لدى غارنر وبريمر وكل مرؤوسيهم وجنودهم، للتعامل على نحو ملائم مع مشاكل العراق في مرحلة ما بعد الحرب... هذا كله دليل على ذلك النوع من البراغماتية والواقعية الزائفة المدمرة للتفكير الاميركي الذي يُفترض انه في تناقض صارخ مع براغماتية وواقعية اشباه الشعوب الأقل شأناً مثل العرب الممتلئين بالاوهام فضلاً عن لغة مَعيبة. وحقيقة الأمر هي ان الواقع لا يخضع لمشيئة الفرد (مهما كان قوياً)، كما انه لا يخلص الولاء لبعض الشعوب والذهنيات اكثر من غيرها. فالحالة البشرية تتألف من التجربة والتأويل، وهذان شيئان لا يمكن اخضاعهما كلياً بالقوة: انهما ايضاً المجال المشترك للبشر في التاريخ. والاخطاء المريعة التي ارتكبها ولفويتز وفايث ترجع الى الاستعاضة على نحو متعجرف بالتجريد وبلغة جاهلة في النهاية عن واقع اكثر تعقيداً وعناداً بكثير. وها هي النتائج المروعة لا تزال ماثلة امامنا.
اذاً دعونا لا نقبل بعد الآن الديماغوجية الايديولوجية التي تترك اللغة والواقع ملكاً وحيداً للقوة الاميركية، او لما يسمى بالمناظير الغربية. ان جوهر الأمر هو بالطبع الامبريالية، أي تلك المهمة المتغطرسة (التافهة في النهاية) بتخليص العالم من اشرار مثل صدام باسم العدالة والتقدم. وهناك التبريرات المعدّلة لغزو العراق والحرب الاميركية على الارهاب التي اصبحت احدى القضايا الاسوأ المستوردة من امبراطورية فاشلة سابقة، بريطانيا، وساهمت في اضفاء فظاظة على الخطاب وتشويه الحقائق والتاريخ بفصاحة مفزعة، تلك التي يطلقها صحافيون بريطانيون مغتربون في اميركا ممن لا يملكون الأمانة كي يقولوا بشكل صريح، نعم، نحن متفوقون ولدينا الحق في ان نلقّن السكان الاصليين درساً في أي مكان في العالم نشعر فيه بأنهم اشرار ومتخلفون. ولماذا نملك هذا الحق؟ لأن اولئك السكان الاصليين ذوي الشعر الأصوف فشلوا، ونحن نعرفهم من تجربتنا في ادارة امبراطوريتنا طوال 500 عام ونريد الآن لأميركا ان تقتدي بها: انهم يعجزون عن فهم حضارتنا، وهم مدمنون على الخرافة والتعصب، وهم طغاة متمسكون بعناد بتقاليد بالية ويستحقون العقاب، ونحن، والله، من سينفذ المهمة باسم التقدم والحضارة. واذا كان بعض بهلوانات الصحافة المتقلبين (الذين خدموا سادة كثيرين لدرجة أنه لم تعد لديهم اية معايير اخلاقية اطلاقاً) يستطيع ان يستشهد بماركس وعلماء ألمان - على رغم عدائهم المعلن للماركسية وجهلهم التام بأي لغات او عــلوم غير انكلــيزية - لدعم ما يقولونه، فانهم سيبدون اكثر ذكاءً بكثير. لكنها في الواقع عنصرية فحسب، مهما جرى تجميلها.
المشكلة هي في الواقع أعمق وأكثر إثارة للاهتمام مما تخيل المجادلون بعنف لمصلحة القوة الاميركية ووكلاء الدعاية لها. فالناس في ارجاء العالم يعانون المأزق الذي آلت اليه ثورة في الفكر ومفردات اللغة اصبحت الليبرالية الجديدة و"البراغماتية" الاميركية تمثل فيها، من جهة، على ايدي صناع السياسة الاميركيين معياراً شمولياً، في حين أن هناك - كما رأينا في مثال العراق الذي اشرت اليه اعلاه - شتى انواع الزلات والمعايير المزدوجة في استخدام كلمات مثل "الواقعية" و"البراغماتية"، وكلمات اخرى مثل "علماني" و"ديموقراطية" بحاجة الى اعادة نظر واعادة تقويم كاملتين. فالواقع اكثر تعقيداً وتنوعاً من ان يستسلم لصياغات تافهة مثل "سيؤدي ذلك الى عراق ديموقراطي متجاوب معنا". ومثل هذا التفكير لا يمكن يجتاز اختبار الواقع. ان المعاني لا تُفرض من ثقافة على اخرى، مثلما لا تملك لغة بمفردها او ثقافة بمفردها سر كيفية انجاز الاشياء بكفاءة.
لقد سمحنا، كما أرى، كعرب وكأميركيين لوقت أطول مما يجب لبضع شعارات جرى الزعيق بها كثيراً عنـ"نا" وعن طريقتـ"نا" ان تؤدي مهمة النقاش والجدل والحوار. واحد الاخفاقات الكبيرة لمعظم المثقفين العرب والغربيين في الوقت الحاضر هو انهم قبلوا من دون نقاش او تمحيص دقيق تعابير مثل العلمانية والديموقراطية، كما لو ان كل شخص يعرف ما تعنيه هذه الكلمات. لدى اميركا حالياً سجناء اكثر من أي بلد في العالم، كما تنفذ فيها عمليات اعدام اكثر من أي بلد في العالم. وكي ينتخب المرء رئيساً للولايات المتحدة، لا يحتاج الى الفوز باصــوات الناخبين بل يتعيّن عليه ان يـــنفق اكثر من 200 مليون دولار. كيف تجتاز هذه الاشياء اختبار "الديموقراطية الليبرالية"؟
اذاً بدلاً من تنظيم شروط النقاش من دون شكوكية حول بضعة مصطلحات غير متقنة مثل "الديموقراطية" و"الليبرالية" او حول مفاهيم غير مدروسة عن "الارهاب" و"التخلف" و"التطرف"، ينبغي ان ندفع باتجاه نوع اكثر تطلباً من النقاش يجري فيه تعريف المصطلحات من وجهات نظر متعددة ووضعها دوماً في ظروف تاريخية ملموسة. ويكمن الخطر الكبير في ان يُقدّم التفكير "السحري" الاميركي على طريقة وولفويتز وتشيني وبوش على نحو مضلل باعتباره المعيار الأسمى الذي ينبغي ان تتبعه كل الشعوب واللغات. لذا علينا، حسب اعتقادي، واذا كان العراق مثالاً بارزاً، الاّ نسمح لهذا الأمر ان يحدث من دون نقاش جاد وتحليل معمق، ويجب الاّ نسمح بتخويفنا لنتصور بان قوة واشنطن مرعبة على نحو لا يقاوم. وبقدر ما يتعلق الأمر بالشـــرق الأوسط، يجب ان يتضمن النقاش العرب والمسلمين والاسرائيليين واليهود كمشاركين متساوين. واحض كل شخــص على ان يشارك في هذا النقاش ولا يخلي ميدان القيم والتــعاريف والثــقافات من دون نــزال. انها قطــعاً ليســــت ملك بضعة مسؤولين في واشنطن، مثلما هي ليست مسؤولية بضعة حكام في الشرق الاوســط. يوجد ميدان مشترك لمشروع إنساني يجري انشــاؤه وإعادة انشائه، ولا يمــكن لأي قدر من الصخب المتبجح الامبراطوري ان يخفي هذه الحقيقة او يلغيها.
* استاذ الانكليزية والادب المقارن في جامعة كولومبيا- نيويورك.
25 آب 2003
--------------------------------------------------------------------------------
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر. (Re: Ibrahim Algrefwi)
|
سليمان نزال
كاتب وشاعر فلسطيني مقيم في الدانمارك
[email protected]
9/26/2003 مرثية للخالد ادوارد سعيد أحاولُ أن أهربَ من النبأ الحزين إن هربتُ أنا, كيف أحزاني تهربْ قد رحلتْ سنديانةُ النبوغِ و إنتقلت إلى الخلودِ الموسوعةُ الأرحبْ.. سنعزي البلادَ بموتِ العظيمِ و سنعزي النجومَ بوفاةِ الكوكبْ.. صعبٌ هذا الرثاء على جرحي بعد جفافِ النبع من أين أشرب؟
تسطيع أن تكتبَ عن شجرة معرفة, بأغصان مُحددة, بفاكهة معروفة, بجذور محدودة..كيف تكتب عن غابة معارف و علوم و إبدعات و مواقف و علامات و تأثيرات و ظلال كونية؟ كيف تكتب عن رجل عظيم, بحجم المفكر العبقري الفلسطيني العربي العالمي أدوارد سعيد, دون أن "تضيق العبارة" وتلف حول خصرها حزام العجز عن الإحاطة بكل مكونات هذا الثراء الإنساني الغير محدود؟ من أي باب تدخل إلى هذا العالَم العالِم, و قد أمتلكَ ألفَ نافذة للشروق المعرفي و الف باب للإبداع الكوني الهائل؟ كيف سترثي رجلا و أنت ترى إلى الزمن يقرأ بإهتمام أقماره"كتبه" السبعة عشرة, فلا يستطيع ان يضيف إلبها شيئاً سوى الإعجاب بفلسطينيته الفذة, بعبقريته النادرة؟ من يجرؤ على رثاء موسوعة من نقد و أدب و موسيقى و فكر سياسي و أدب مقارن و شمول عاقل و تأثيرات عالمية, بكل هذا الإتساع الفريد؟ هذا الرجل, الرجل الحقيقي, صاحب العقل الفعّال, الذهن المتوقد الرائد, دافعَ عن فلسطين و شعبها و قضيتها و همومها أكثر من كل قادتها, في المدى المعرفي الشاسع, القويم, المعافى البليغ. هذا الرجل العربي الفلسطيني, الإنساني, هذا الكنز الكوني , إنحازَ إلى البسطاء العارفين بحقهم في الحرية والإستقلال و العدالة, فكان صوتهم المؤثر, الذي ترك الأعداء من الصهاينة و اعوانهم, يحاولون ان يجرحوا صداه, حقداً و غيظاً, ولم يفلحوا..و لن يفلحوا حتى بعد غيابه. هذا الرجل كتبَ عن عذابات و نكبات و أحزان بلاده المحتلة,فنجحَ في تحويل نزيف شعبه الفلسطيني, إلى أنصار وأصدقاء و مواقف مؤيدة للقضية الفلسطينية, كما لم ينجح, في تلك المهمة, كل السفراء و الإعلاميين و الكتاب العرب و الفلسطينيين..أدواته في ذلك, كانت واضحة, علمه, إخلاصه, صدقه, تفانيه, و فوقها, عبقرية لا يجود الزمان بمثلها إلاّ بمشقة و صعوبة. و الراحل الكبير البروفيسور إدوارد سعيد, لم يكن مجرد أستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا..كان مدرسة لتنظيم و فهم الوعي بالأخر بين الشعوب. لم يجلس في برج أكاديمي عاجي, مكتفياً بالتنظير عن بعد..خياراته السياسية كان واضحة..عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني كان, فاعلا و نشيطا كان..و عندما تم عقد إتفاقية أوسلو, إنسحب بهدوء..وقف ضد عيوبها و مساوئها, و أصدرَ في ذلك عدة كتب, و كتبَ مئات المقالات السياسية,مبيناً ثغرات أوسلو و بؤس السياسة الخاطئة التي تنتهجها القيادة الفلسطينية الرسمية. و من منا لا يذكر ذلك الحجر/الموقف الجريء الذي رماه الراحل الكبير أدوارد سعيد عند بوابة فاطمة , ضد الجنود الصهاينة غداة إنسحابهم مذعورين, أذلاء, من جنوب لبنان؟ هل يستطيع الفلسطينيون أن يدعوا , ومعهم كل العرب, أنهم يملكون الكثير من أمثال المفكر العالمي أدوارد سعيد , إبداعاً عالمياً, و مكانة مرموقة لا تضاهى, و إسهامات متنوعة في صوغ أبنية للعقل الحديث, بالغة العمق و الـتأثير؟ بالرغم من الأحوال العربية السيئة, و التي لا تسر العدو و لا الصديق! فإن مجرد ذكر إسم أدوارد سعيد كان كافياً, لإضفاء مهابة على قومية تعاني من أزمات و مشكلات يصعب حصرها..أسمه كان يضيء ظلمة الوقائع الكئيبة, فيجعل وجوه الأيام العريية أقل تجهماً. أسمه حين يقترن بفلسطين يجعلها أكثر إستحقاقاً للعدالة و الحرية و الإستقلال. نحن-كفلسطينين وعرب- لم نفقد شيئاً عاديا كي يتراوح الحزن ما بين العادي و الحيادي. لقد فقدنا دائرة خلق و عطاء و كوكبة من المواصفات و الخصال و القدرات العظيمة يجسدها رجل واحد, أسمه أدوارد سعيد.
لقد فقدنا الرجل الموهوب, الصلب, الذي كشفَ زيف و تهافت الإمبريالية و ثقافتها الغازية و سعيها المحموم لتسليع عقول الضعفاء من فقراء و مستضعفي و مهمشي هذه الأرض, و خصوصا دول العالم الثالث. فقدنا الرائد العالمي في فضح مقاصد المستشرقين ومكائدهم و أطماعهم الكولونيالية, في إستعمار الشعوب العربية و الإسلامية و تزوير تاريخها و كتابته مشوهاً و إنتقائياً لغايات الإساءة و سوء التقدير و عدم نزاهة التقييم. و من هنا أنطلق "الإشراق" المبكر الواعي للمفكر أدوارد سعيد, هذا الكتاب الذي ترجم لعشرات اللغات..أصبح مرجعا هاما لمعرفتنا بذاتنا , بعد أن وضعت هذا الذات الجمعية العربية الشرقية الإسلامية تحت نيران القراءات الغربية المتحيزة, ناقصة الموضوعية للمستشرقين الذين أثروا الدفاع عن مصالح و" ثقافات" بلدانهم و مراكزهم الرأسمالية ,كي يعرفوا الآخر"نحن" و يتعرفوا عليه ,كما قرروا و خططوا و صمموا أن يعرفوه! كتابة الراحل المفكر أدوارد سعيد, كانت فاتحة للوعي بهذا الآخر الدخيل, بأهدافه غير النبيلة, فكانت كتابة عاقلة, فاعلة لسعيد الكبير, كتابة فوق كتابات المغرضين. كان الراحل فلسطينياً بإمتياز لا يقارن..خدم قضيته كما لم يخدمها أحد. سنحزن كثيراً لرحيله, و سنظل نفخر به كفلسطيني عبقري, كعربي صميم..لن نتمكن - مهما حاولنا- من إدراك كل أشعة هذه المعارف التي أطلقها عقله المتوقد في, المدى الإنساني الخلاق, الرحيب.
-------------------------------------------------------------------------------- المصدر / موقع الحقائق الفلسطينية ..
(عدل بواسطة hamid hajer on 07-29-2004, 01:29 AM) (عدل بواسطة hamid hajer on 07-29-2004, 01:36 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر. (Re: Ibrahim Algrefwi)
|
قصيدة لمحمود درويش: طِباق (عن إدوارد سعيد)
نيويورك/ نوفمبر/ الشارعُ الخامسُ/
الشمسُ صَحنٌ من المعدن المُتَطَايرِ/
قُلت لنفسي الغريبةِ في الظلِّ:
هل هذه بابلٌ أَم سَدُومْ؟
هناك, على باب هاويةٍ كهربائيَّةٍ
بعُلُوِّ السماء, التقيتُ بإدوارد
قبل ثلاثين عاماً,
وكان الزمان أقلَّ جموحاً من الآن...
قال كلانا:
إذا كان ماضيكَ تجربةً
فاجعل الغَدَ معنى ورؤيا!
لنذهبْ,
لنذهبْ الى غدنا واثقين
بِصدْق الخيال, ومُعْجزةِ العُشْبِ/
لا أتذكَّرُ أنّا ذهبنا الى السينما
في المساء. ولكنْ سمعتُ هنوداً
قدامى ينادونني: لا تثِقْ
بالحصان, ولا بالحداثةِ/
لا. لا ضحيَّةَ تسأل جلاّدَها:
هل أنا أنتَ؟ لو كان سيفيَ
أكبرَ من وردتي... هل ستسألُ
إنْ كنتُ أفعل مثلَكْ؟
سؤالٌ كهذا يثير فضول الرُوَائيِّ
في مكتبٍ من زجاج يُطلَّ على
زَنْبَقٍ في الحديقة... حيث تكون
يَدُ الفرضيَّة بيضاءَ مثل ضمير
الروائيِّ حين يُصَفِّي الحساب مَعَ
النَزْعة البشريّةِ... لا غَدَ في
الأمس, فلنتقدَّم إذاً!/
قد يكون التقدُّمُ جسرَ الرجوع
الى البربرية.../
نيويورك. إدوارد يصحو على
كسَل الفجر. يعزف لحناً لموتسارت.
يركض في ملعب التِنِس الجامعيِّ.
يفكِّر في رحلة الفكر عبر الحدود
وفوق الحواجز. يقرأ نيويورك تايمز.
يكتب تعليقَهُ المتوتِّر. يلعن مستشرقاً
يُرْشِدُ الجنرالَ الى نقطة الضعف
في قلب شرقيّةٍ. يستحمُّ. ويختارُ
بَدْلَتَهُ بأناقةِ دِيكٍ. ويشربُ
قهوتَهُ بالحليب. ويصرخ بالفجر:
لا تتلكَّأ!
على الريح يمشي. وفي الريح
يعرف مَنْ هُوَ. لا سقف للريح.
لا بيت للريح. والريحُ بوصلةٌ
لشمال الغريب.
يقول: أنا من هناك. أنا من هنا
ولستُ هناك, ولستُ هنا.
لِيَ اسمان يلتقيان ويفترقان...
ولي لُغَتان, نسيتُ بأيِّهما
كنتَ أحلَمُ,
لي لُغةٌ انكليزيّةٌ للكتابةِ
طيِّعةُ المفردات,
ولي لُغَةٌ من حوار السماء
مع القدس, فضيَّةُ النَبْرِ
لكنها لا تُطيع مُخَيّلتي
والهويَّةُ؟ قُلْتُ
فقال: دفاعٌ عن الذات...
إنَّ الهوية بنتُ الولادة لكنها
في النهاية إبداعُ صاحبها, لا
وراثة ماضٍ. أنا المتعدِّدَ... في
داخلي خارجي المتجدِّدُ. لكنني
أنتمي لسؤال الضحية. لو لم أكن
من هناك لدرَّبْتُ قلبي على أن
يُرَبي هناك غزال الكِنَايةِ...
فاحمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ
نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ/
- منفىً هوَ العالَمُ الخارجيُّ
ومنفىً هوَ العالَمُ الباطنيّ
فمن أنت بينهما؟
< لا أعرِّفُ نفسي
لئلاّ أضيِّعها. وأنا ما أنا.
وأنا آخَري في ثنائيّةٍ
تتناغم بين الكلام وبين الإشارة
ولو كنتُ أكتب شعراً لقُلْتُ:
أنا اثنان في واحدٍ
كجناحَيْ سُنُونُوَّةٍ
إن تأخّر فصلُ الربيع
اكتفيتُ بنقل البشارة!
يحبُّ بلاداً, ويرحل عنها.
]هل المستحيل بعيدٌ؟[
يحبُّ الرحيل الى أيِّ شيء
ففي السَفَر الحُرِّ بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافيةً للجميع...
هنا هامِشٌ يتقدّمُ. أو مركزٌ
يتراجَعُ. لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً,
فإن الهوية مفتوحَةٌ للتعدّدِ
لا قلعة أو خنادق/
كان المجازُ ينام على ضفَّة النهرِ,
لولا التلوُّثُ,
لاحْتَضَنَ الضفة الثانية
- هل كتبتَ الروايةَ؟
< حاولتُ... حاولت أن أستعيد
بها صورتي في مرايا النساء البعيدات.
لكنهن توغَّلْنَ في ليلهنّ الحصين.
وقلن: لنا عاَلَمٌ مستقلٌ عن النصّ.
لن يكتب الرجلُ المرأةَ اللغزَ والحُلْمَ.
لن تكتب المرأةُ الرجلَ الرمْزَ والنجمَ.
لا حُبّ يشبهُ حباً. ولا ليل
يشبه ليلاً. فدعنا نُعدِّدْ صفاتِ
الرجال ونضحكْ!
- وماذا فعلتَ؟
< ضحكت على عَبثي
ورميت الروايةَ
في سلة المهملات/
المفكِّر يكبحُ سَرْدَ الروائيِّ
والفيلسوفُ يَشرحُ وردَ المغنِّي/
يحبَّ بلاداً ويرحل عنها:
أنا ما أكونُ وما سأكونُ
سأضع نفسي بنفسي
وأختارٌ منفايَ. منفايَ خلفيَّةُ
المشهد الملحمي, أدافعُ عن
حاجة الشعراء الى الغد والذكريات معاً
وأدافع عن شَجَرٍ ترتديه الطيورُ
بلاداً ومنفى,
وعن قمر لم يزل صالحاً
لقصيدة حبٍ,
أدافع عن فكرة كَسَرَتْها هشاشةُ أصحابها
وأدافع عن بلد خَطَفتْهُ الأساطيرُ/
- هل تستطيع الرجوع الى أيِّ شيء؟
< أمامي يجرُّ ورائي ويسرعُ...
لا وقت في ساعتي لأخُطَّ سطوراً
على الرمل. لكنني أستطيع زيارة أمس,
كما يفعل الغرباءُ إذا استمعوا
في المساء الحزين الى الشاعر الرعويّ:
"فتاةٌ على النبع تملأ جرَّتها
بدموع السحابْ
وتبكي وتضحك من نحْلَةٍ
لَسَعَتْ قَلْبَها في مهبِّ الغيابْ
هل الحبُّ ما يُوجِعُ الماءَ
أم مَرَضٌ في الضباب..."
]الى آخر الأغنية[
- إذن, قد يصيبكَ داءُ الحنين؟
< حنينٌ الى الغد, أبعد أعلى
وأبعد. حُلْمي يقودُ خُطَايَ.
ورؤيايَ تُجْلِسُ حُلْمي على ركبتيَّ
كقطٍّ أليفٍ, هو الواقعيّ الخيالي
وابن الإرادةِ: في وسعنا
أن نُغَيِّر حتميّةَ الهاوية!
- والحنين الى أمس؟
< عاطفةً لا تخصُّ المفكّر إلاّ
ليفهم تَوْقَ الغريب الى أدوات الغياب.
وأمَّا أنا, فحنيني صراعٌ على
حاضرٍ يُمْسِكُ الغَدَ من خِصْيَتَيْه
- ألم تتسلَّلْ الى أمس, حين
ذهبتَ الى البيت, بيتك في
القدس في حارة الطالبيّة؟
< هَيَّأْتُ نفسي لأن أتمدَّد
في تَخْت أمي, كما يفعل الطفل
حين يخاف أباهُ. وحاولت أن
أستعيد ولادةَ نفسي, وأن
أتتبَّعُ درب الحليب على سطح بيتي
القديم, وحاولت أن أتحسَّسَ جِلْدَ
الغياب, ورائحةَ الصيف من
ياسمين الحديقة. لكن ضَبْعَ الحقيقة
أبعدني عن حنينٍ تلفَّتَ كاللص
خلفي.
- وهل خِفْتَ؟ ماذا أخافك؟
< لا أستطيع لقاءُ الخسارة وجهاً
لوجهٍ. وقفتُ على الباب كالمتسوِّل.
هل أطلب الإذن من غرباء ينامون
فوق سريري أنا... بزيارة نفسي
لخمس دقائق؟ هل أنحني باحترامٍ
لسُكَّان حُلْمي الطفوليّ؟ هل يسألون:
مَن الزائرُ الأجنبيُّ الفضوليُّ؟ هل
أستطيع الكلام عن السلم والحرب
بين الضحايا وبين ضحايا الضحايا, بلا
كلماتٍ اضافيةٍ, وبلا جملةٍ اعتراضيِّةٍ؟
هل يقولون لي: لا مكان لحلمين
في مَخْدَعٍ واحدٍ؟
لا أنا, أو هُوَ
ولكنه قارئ يتساءل عمَّا
يقول لنا الشعرُ في زمن الكارثة؟
دمٌ,
ودمٌ,
ودَمٌ
في بلادكَ,
في اسمي وفي اسمك, في
زهرة اللوز, في قشرة الموز,
في لَبَن الطفل, في الضوء والظلّ,
في حبَّة القمح, في عُلْبة الملح/
قَنَّاصةٌ بارعون يصيبون أهدافهم
بامتيازٍ
دماً,
ودماً,
ودماً,
هذه الأرض أصغر من دم أبنائها
الواقفين على عتبات القيامة مثل
القرابين. هل هذه الأرض حقاً
مباركةٌ أم مُعَمَّدةٌ
بدمٍ,
ودمٍ,
ودمٍ,
لا تجفِّفُهُ الصلواتُ ولا الرملُ.
لا عَدْلُ في صفحات الكتاب المقدَّس
يكفي لكي يفرح الشهداءُ بحريَّة
المشي فوق الغمام. دَمٌ في النهار.
دَمٌ في الظلام. دَمٌ في الكلام!
يقول: القصيدةُ قد تستضيفُ
الخسارةَ خيطاً من الضوء يلمع
في قلب جيتارةٍ, أو مسيحاً على
فَرَسٍ مثخناً بالمجاز الجميل, فليس
الجماليُ إلاَّ حضور الحقيقيّ في
الشكلِ/
في عالمٍ لا سماء له, تصبحُ
الأرضُ هاويةً. والقصيدةُ إحدى
هِباتِ العَزَاء, وإحدى صفات
الرياح, جنوبيّةً أو شماليةً.
لا تَصِفْ ما ترى الكاميرا من
جروحك. واصرخْ لتسمع نفسك,
وأصرخ لتعلم أنَّكَ ما زلتَ حيّاً,
وحيّاً, وأنَّ الحياةَ على هذه الأرض
ممكنةٌ. فاخترعْ أملاً للكلام,
أبتكرْ جهةً أو سراباً يُطيل الرجاءَ.
وغنِّ, فإن الجماليَّ حريَّة/
أقولُ: الحياةُ التي لا تُعَرَّفُ إلاّ
بضدٍّ هو الموت... ليست حياة!
يقول: سنحيا, ولو تركتنا الحياةُ
الى شأننا. فلنكُنْ سادَةَ الكلمات التي
سوف تجعل قُرّاءها خالدين - على حدّ
تعبير صاحبك الفذِّ ريتسوس...
وقال: إذا متّ قبلَكَ,
أوصيكَ بالمستحيْل!
سألتُ: هل المستحيل بعيد؟
فقال: على بُعْد جيلْ
سألت: وإن متُّ قبلك؟
قال: أُعزِّي جبال الجليلْ
وأكتبُ: "ليس الجماليُّ إلاّ
بلوغ الملائم". والآن, لا تَنْسَ:
إن متُّ قبلك أوصيكَ بالمستحيلْ!
عندما زُرْتُهُ في سَدُومَ الجديدةِ,
في عام ألفين واثنين, كان يُقاوم
حربَ سدومَ على أهل بابلَ...
والسرطانَ معاً. كان كالبطل الملحميِّ
الأخير يدافع عن حقِّ طروادةٍ
في اقتسام الروايةِ/
نَسْرٌ يودِّعُ قمَّتَهُ عالياً
عالياً,
فالإقامةُ فوق الأولمب
وفوق القِمَمْ
تثير السأمْ
وداعاً,
وداعاً لشعر الألَمْ
| |
|
|
|
|
|
|
Re: أدوارد سـعـيد ...الــمُـفـكر. (Re: al-Hameem)
|
سلام يا باشا وتحية مُشرقه , وشكر كتير علي النص
بس ولكن الست معي في انو الراجل ده " بموته" اوشك ان يفسد علي درويش شاعريته " عشان يلاحق الفكرة يعني" , الا ان محمود انقذته اوراقه..!
نشوفك تاني
| |
|
|
|
|
|
|