دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
عـلي التوم: اتـفـاقـيـة السـلام السـودانيـة إنجـاز مضيئ نحو سـودان جـديد (مقال)
|
اتفاقية السلام السودانية إنجاز مضيئ نحو سودان جديد
الاتفاقية إنجاز يجبرنا علي التفاؤل الحذر(*)
بقلم علي التوم مستشار التنمية والسياسات الاقتصادية
مقدمة وخلفية
السودانيون في المهجر والشتات ظلّوا يتابعون جهود التوصل إلي سلام عادل ومستدام يصل بالسودان إلي آفاق جديدة ويعوّض شعوبه عمّا فقدته من غير مبرّر أو وجه حق. بعض هؤلاء أسهم بجهد المقل في تعزيز وإثراء فكر السلام. والبعض الآخر كان يُقدّم الديموقراطية المؤسسية العادلة والمعبرّة عن إرادة الشعب وعن مصالحه، يقدمونها علي السلام مستخدمين جدلية العلاقة بين الأساس والصرح. وكاد المفهومان، الديموقراطية والسلام، يضيعان وسط زخم من ثوابت النظام الحاكم وبين النهج التقليدي للمعارضة السودانية تارة بالسلاح وتارة بالمناورات السياسية التي كان بعضها عقلانياً وموضوعياً ومدركاً لمصالح الشعب في المدى البعيد، وكان البعض الآخر متمادياً في المناورات الحزبية والتأرجح في المواقف وفي قصر النظر بل وتغليب المصالح الذاتية علي المصالح الحقيقية للشعب. (*) نُشرت هذه المقالات في صحيفة الرأي العام السودانية يومي الخميس 6 يناير والاثنين 10 يناير وفي صحيفة الجمهورية المصرية (الطبعة العربية) في شكل حوار مع الكاتب في يوم الأربعاء 12 يناير 2005م. تتضمن هذه النسخة بعض المقترحات في سياق مستقبل التنمية في جنوب السودان. بعد مشاوير طويلة بين الأطراف المتفاوضة وبمعزل عن المعارضة التقليدية وبضغوط دولية فرضتها استجابات إنسانية قبل خفايا المصالح، تمّ التوصل إلي ما نأمل أن يصبح سلاماً مستداماً بين الشمال والجنوب. السلام الذي يستوجب علينا نحن معشر السودانيين بمختلف مواقعنا السياسية والفكرية أن نهنئ عليه من سعوا إليه وأوصلوه ولو في صيغته النظرية إلي مرحلة حقوقية متقدمة. كما نأمل في أن يكون السلام سلاماً سودانياً شاملاً ومناخاً صالحاً لتأسيس الديموقراطية العادلة والوحدة الوطنية المثمرة تنمية ونهضة وتقدّماً. ولقد سعدنا لسماع المحتفلين به من الطرفين ومن الفعاليات الراعية والمراقبة لاتفاق السلام بأن ما حدث حتى الآن لا يمثل برغم أهميته الموضوعية إلا بداية البداية، وهو ما بادرنا بالتنبيه له في مقالاتنا بصحيفة الأيام منذ أكثر من عام. وقبل أن نعرض لما تبقي من خطوات ومشاوير عملية لكي يصبح السلام النظري واقعاً إيجابياً ينفع أهل السودان ويؤمّن مستقبلهم ويرسخ وحدتهم جيلاً بعد جيل، ينبغي أن نُبدي ملاحظات محورية حول أساسيات ما تمّ التوصل إليه في اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب.
التقييم الموضوعي لاتفاق السلام
أولاً نري أن معادلات اقتسام الثروة التي تمّ الاتفاق عليها معادلات عادلة ومنصفة للطرفين،الشمال والجنوب، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار التخلف المزمن والتهميش المجحف الذي مُني به الجنوب منذ أن أصبح هنالك سودان بتكوينه الجغرافي والاجتماعي والسياسي المعاصر. فنصيب الجنوب المتفق عليه في الثروة الإقليمية يضع في الاعتبار ذلك التهميش الذي تسببت فيه سياسات الشمال قبل الجنوب، كما يضع في الاعتبار المنصف التعويض عن الخراب والدمار المادي والبشري الذي أصاب الجنوب، إضافة بالطبع إلي متطلّبات إعادة تأهيل وتنمية الاقتصاد الإقليمي والذي نأمل ونتطلّع لأن يتمّ في سياق الاقتصاد الوطني المتكامل، وإلا فسينطبق علينا المثل القائل : "كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا" !
ثانياً لا تحفظ ولا اعتراض لدينا علي ما تمّ الاتفاق عليه في مجال اقتسام السلطة بين الشمال والجنوب إذا كان ما أُعلن في مجال توزيع الحقائب الوزارية مؤشراً لنصيب الجنوب في أوجه السلطة الأخرى، خاصة إذا كانت العشرة مقاعد للجنوب تشمل نصيب حلفائهم في آبيي وجبال النوبة وجنوبي النيل الأزرق، التحالف الذي سبق وأن تحفظنا عليه من وجهة النظر السياسية (مقالاتنا بصحيفة الأيام في النصف الثاني من عام 2003م). أما نصيب الشماليين في الحقائب الوزارية (عشرين مقعداً) ونصيب الحزب الحاكم منه (ستة عشرة مقعداً) فأمر آخر نتعّمد عدم الدخول في تفاصيله لارتباطه بالقضية الأساسية وهي شرعية وجدوى إنفراد الحكومة بتمثيل الشمال لمجرد أنها استولت علي الحكم بالسلاح أو لمجرد أنها كانت الطرف الشمالي الوحيد في مباحثات واتفاق السلام. هذه قضية محورية سنتطرق إليها في موضع لا حق من هذا المقال.
ثالثاً وكما ذكرنا في مقالاتنا السابقة، ينبغي ألا نلوم الأخوة الجنوبيين لسعيهم نحو حلّ قضيتهم مع الحكومة في سياق الاتفاق علي نظامين سياسيين في بلد واحد بما في ذلك قبول نظام سياسي قائم علي تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال. ذلك لأن الأخوة الجنوبيين وكثيراً من الشماليين، وكاتب هذا المقال من بينهم، يعتقدون اعتقاداً راسخاً مسنوداً بالمعرفة وبالتجارب العملية، ومنها التجربة السودانية خلال العقدين الأخيرين، بأن تطبيق الشريعة الإسلامية لن يعطي غير المسلمين حقوق المواطنة الكاملة مهما بلغ نصيبهم الشكلي في الأجهزة السلطوية الحاكمة، ومهما بذلت حكومة الخرطوم من إجتهادات في سبيل التخفيف من التناقضات بين نهج الحكم باسم الشريعة ومتطلبات الوحدة العادلة والشاملة.
مرة أخري نُذكّر، والذكري تنفع المؤمنين، بأن الحركة الشعبية الجنوبية بقيادة الدكتور قرنق ما كانت لتقبل معادلة النظامين في نظام واحد التي تتضمن تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال لو كان التجمّع السوداني المعارض قد قبل مبدأ الفصل بين نظام الحكم وبين الدعاوى الثيولوجية سواء أكانت إسلاما أو غيره. ونذكر القارئ مرة أخري بما قاله السفير السيد دانفورث ممثل الولايات المتحدة لقيادات التجمّع في القاهرة قبل عامين أو يزيد بأن المجتمع الدولي يهمه في المقام الأول إنصاف الجنوبيين والتأكد من حصولهم علي موضع في السلطة والثروة السودانية يتناسب وحجمهم ومواردهم الطبيعية والبشرية ويعوضهم عما فقدوه عبر التاريخ الطويل. وأضاف السيد دانفورث في اجتماعه مع قيادات التجمّع المعارض بأن المجتمع الدولي لن يتصدى لنوايا وممارسات حكومة الخرطوم من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال، ولكن إذا جدّت المعارضة الشمالية في رفضها لذلك التوجه تأميناًَ للوحدة الوطنية وضماناً للاستقرار المستدام، فإنها ستجد كلّ تأييد ودعم من المجتمع الدولي. وتجدر الإشارة إلي أنه في ما يسمي بمقررات أسمرا كان التجمّع المعارض، وبحضور ومشاركة حزب الأمة، قد ضمّن مبدأ الفصل بين الأديان ونظام الحكم في الوثيقة نظرياً ولم يرجع له أو يذكره بعد ذلك لا من قريب أو بعيد. كما لم يتضمّن الاتفاق بين السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمّع والأستاذ علي عثمان طه النائب الأول وممثل النظام الحاكم، الاتفاق الذي عرف بوثيقة جدّة، أيّ إشارة لذلك المبدأ. ثم عاد السيدان الميرغني والمهدي وضمّناه في البيان المشترك بينهما الصادر في أواخر عام 2003 بالقاهرة، أيّ بعد فوات الأوان وبعد أن ضُمّن في المبادئ العامة في اتفاقية مشاكوس التي مهّدت للسلام!
رابعاً نتفق مع ثوار دارفور والشرق بأن قضيتهم التي دفعتهم إلي حمل السلاح هدفها الأساسي ردّ مظالم مادية واجتماعية، ولكننا لا نتفق مع دعواهم بأن اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب لن تسهم في حلّ قضاياهم. إذ تكاد أغلب البنود المضمّنة في بروتوكولات مشاكوس والمؤيدة في شئ من التفصيل في البروتوكولات التي تم التوصل إليها في نيفاشا، تؤكد علي النظام الفيدرالي لكل أقاليم السودان وعلي إعطاء أهل كلّ إقليم الحق في إدارة وتخطيط وتنمية أقاليمهم في إطار السودان الواحد وبعلاقات ومعادلات محسوبة بين المركز والتخوم. صحيح إن هذا التقارب الذي تمّ الاعتراف به في المبادئ العامة للسلام لا ينبغي أن يفسّر بالتطابق التام بين حالة الجنوب وحالات الأقاليم الأخرى. ففي دارفور مثلاً تزيد قضية التهميش تعقيداً لارتباطها بقضايا أخري أثنية وطبقية وقبلية واجتماعية، إلا أنها جميعاً قضايا يمكن حسمها في إطار النظام الفيدرالي شريطة أن يكون ذلك النظام جزء من نظام ديموقراطي مؤسس متكامل وشامل لجميع ضمانات عدم الاستغلال والتسلط باسم العرق أو القبيلة أو الدين.
بهذا الفهم والمفهوم، وبعد نهاية جولة المفاوضات الأخيرة في نيفاشا، أرسلنا رسائل لأبنائنا في دارفور والشرق، والذين لا نعرف منهم أحداً علي المستوي الشخصي، نطالبهم بالكّف عن الهجوم المسلح إلا في حالة الدفاع عن النفس، وأن يرجّحوا النهج السياسي وأن يوحّدوا كلمتهم داخل كلّ إقليم، لأن مصداقية نواياهم نحو حسم قضايا أهاليهم تضعف كثيراً بتشرذمهم الذي يوحي بالدوافع الشخصية والسعي نحو السلطة أكثر مما يوحي بجدية الالتزام بأسبقيات رد المظالم.
لم يساعد جانب الحكومة للأسف باستمراره في الهجمات بشهادة الأهالي والمنظمات ووسائل الإعلام الإقليمية والدولية. ومن جهة أخري إذا كانت الحكومة تعتقد بأن وقف الحرب في الجنوب سيمكنها من تحويل جزء من ترسانتها لدارفور والشرق (وكردفان) لهزيمة ما تسميها بحركات التمرد، فتكون مخطئة وغير قادرة علي التعلّم من تجاربها، وستؤدي توجهاتها إلي خسائر مادية وبشرية أخري لا تحتمل، بل من شأنها أن تقوّض مسار عملية السلام الشامل، وقد تجهض اتفاقية السلام مع الجنوب نفسها.
سيناريوهات المستقبل: رهان بين التفاؤل والتشاؤم
إن الاستقراء الموضوعي لما تمّ الاتفاق عليه بين الجنوبيين وحكومة الخرطوم يجعل للتفاؤل بمستقبل السودان ما يبررّه، كما يجعل للتشاؤم ما يبررّه أيضاً. ذلك لأن الاتفاق بعناصره ومضامينه البيّنة والمستترة يحمل بذور الاحتمالين. فالسيناريو الغالب سيعتمد إلي حدّ كبير علي مقدرة أيّ من البذور ستجد التربة الصالحة والمناخ الأمثل للنمو الصحي والصحيح ولتفويت الفرصة لنمو العيّنة الأخرى. نحاول فيما يلي المقارنة بين فرص كلّ من السيناريوهين المتفائل والمتشائم.
السيناريو المتفائل
في ظلّ هذا السيناريو يواجه الجنوب تحدي التطبيق العادل للاتفاقية ويشمل ذلك عدالة توزيع الفرص والمكاسب والحقوق اجتماعيا وجهوياً داخل الإقليم الجنوبي نفسه. كما تواجه القيادات الإقليمية تحدّيات بناء الدولة الحديثة وتأسيس النموذج للديموقراطية العلمانية مع كفالة حرّية الأديان وحرية الفكر. وذلك حتى يستطيع أن يقدّم بنهجه الديموقراطي في الحكم الإقليمي دروساً يهتدي بها الشمال بل وبلاد أخري في أفريقيا والشرق الأوسط. وعلي الرغم من ما ورثه الجنوب من بنيات تحتية ومؤسسية. فالبداية من لا شئ أو من قاعدة ضعيفة خير من البناء علي أساس معوّج ومختل، وهذا ما نخشى حدوثه في الشمال أيضاً.
ومن التحديات التي تواجه القيادات الجنوبية المفاوضة والجانحة نحو السلطة الإقليمية تحقيقاً للسيناريو المتفائل، درجة مقدرتها علي كسب القيادات الجنوبية التي لم تحارب معها لسبب أو لآخر، وإعطاء تلك القيادات نصيباُ عادلاً ومجزياً في القيادة من غير منّ أو وصاية أو استكبار. إننا نُسدي تلك النصيحة من منطلق علمنا ومعرفتنا بمئات الشخصيات الجنوبية من الرجال والنساء الذين يتميزون بدرجات عالية من الكفاءات والخبرة والقيم الأخلاقية الرفيعة التي يحتاج إليها الجنوب في المرحلة القادمة.
ومن التحديات التي تواجه الجنوب أيضاً المقدرة علي تربية جيل جديد يؤمن بالوحدة الوطنية ويبعد عن الأحقاد ونزعات التشفي. وكذلك وضع الأسس لتنمية مستدامة ولنهضة ثقافية وعلمية متوازنة وعادلة اجتماعياً وجهوياً داخل الإقليم.
إن التركيز علي بناء الإقليم الجنوبي اقتصادياً واجتماعيا وثقافياً وإدارياً لا يعفي القيادات الجنوبية من مهمة بناء السودان الجديد بالإسهام الايجابي في بناء حكم مركزي كفء وعادل وفاعل ونظيف. وعلي قدر أهل العزم تأتي العزائم. والمقصود بالقدر هنا يا أخوة الجنوب هو المصداقية وحسن النوايا والتي نطالب الشماليين، خاصة الشباب، بالتحلي بها.
وتحدّيات الشمال أكبر وأشمل
وفي الشمال، وفي سياق السيناريو المتفائل نفسه، تواجه حكومة الخرطوم خيارين: إما قبول مطلب الاستفتاء في كلّ السودان، علي تطبيق الشريعة في الشمال، التطبيق الذي سيؤدي حتماً إلي ازدواجية وانفصام الحكم ويضعف ثوابت الحقوق والواجبات الواردة نصاً وضمناً في اتفاقية السلام، علي أن يتبع ذلك الاستفتاء أو يتزامن معه عقد مؤتمر دستوري جامع يحقق ويضمن شمولية الوفاق والتراضي والالتزام الوطني، من غير المساس بثوابت اتفاقية السلام المركّزة علي قيم الإنصاف والعدالة والمساواة. من غير ذلك الاستفتاء يُصبح الحديث عن ضرورة الإجماع علي تأييد ودعم اتفاقية السلام مجرد صيحة في وادي غير ذي بشر! وفي المؤتمر الدستوري المقترح ينبغي أن تترك ثوابت تطبيق نظام الشريعة أو تضمينها في الدستور الدائم للاستفتاء الشعبي العام، كما ينبغي إلاّ يُمس بمكتسبات الجنوبيين المحورية المضمّنة في اتفاقية السلام . لكن لا بدّ من تحقيق الإجماع عليها وتثبيت وتكريس قوميتها بتأهيلها لأن تُصبح خطوة مؤكّدة نحو الوحدة الطوعية والمستدامة.
إن من بين أهم متطلبات تحقيق ذلك الهدف بالطبع هو الاتفاق علي المشاركة المتوازنة في السلطة في الشمال بنسب الأوزان الحقيقية للفعاليات والفصائل السياسية. ونترك آليات تحقيق ذلك إلي مداولات المؤتمر الدستوري المقترح نفسه. والأمل معقود علي مشاركة فعلية ومجدية لجميع القوي السياسية في المؤتمر المقترح للاتفاق علي دستور للفترة الانتقالية. وإما البديل لبلورة هذا الإجماع فهو إفساح المجال والحريّة الكاملة لمعارضة فاعلة تضمّ كلّ من لا يقبل ثوابت الإنقاذ، معارضة لا تجد أي عوائق أمامها في توصيل إرادة وخيارات الشعب السوداني، كلّ الشعب، إلي صناديق الانتخابات وقبلها إلي حسم الخيارات الدستورية. وفي كلتا الحالتين، وتوفيراً لمناخ ومتطلّبات الحرية الكاملة، لا بدّ من إلغاء قانون الطوارئ إلغاءً كاملاً شاملاً بلا أيّ استثناءات، وحلّ الميليشيات وتحريم حمل السلاح بلا ترخيص مبرّر. كذلك لا بدّ من فتح الأبواب لعودة كلّ من يرغبون في العودة من السودانيين بالخارج وإعادة الراغبين منهم إلي مواقعهم التي أبعدوا منها قسراً وتعسفاً وتعويضهم علي ما فقدوه.
ومن متطلّبات ومرتكزات الديموقراطية أيضاً إعادة صياغة وتكوين جميع المؤسسات الاقتصادية والمالية والخدمية والاجتماعية ومراجعتها بهدف إعادة هيكلة وإصلاح ما شابها من تشوّهات ومفاسد ومسالك غير سويّة ومجافية لتعاليم الإسلام نفسه كما ذكر وحذّر الأستاذ علي عثمان طه يوم عودته من جولة المفاوضات قبل الأخيرة.
ومن خلال سلسلة مقالات أخري نعدّها للنشر قريباً بإذن الله سنعرض لبناء نموذج نظامي هيكلي ومتناسق للأسس والإجراءات الهادفة إلي تأمين النظام الديموقراطي ضد الانقلابات العسكرية والسلطوية الايدولوجية. وفي هذا السياق لا بدّ من النصوص الدستورية والقانونية الرادعة ضد التطرف الديني والايدولوجي والعرقي والسياسي، ولا بدّ من تحريم أحزاب ومؤسسات الارتزاق السياسي والايدولوجي المسنود من جهات خارجية.
وعلي صعيد العلاقات الخارجية يجب التزام جميع فعاليات العمل الوطني السوداني بانتهاج سياسة خارجية محايدة ومتعاونة مع جميع الدول والكيانات الإقليمية والدولية وفق مبادئ المصالح المشتركة. وفي ضوء تجارب الماضي القريب والبعيد ينبغي علي السودانيين تجنّب كل ما من شأنه أن يُعمّق الاستقطاب العربي الأفريقي في السودان. وعلي جميع دول الجوار العربي والأفريقي أن تدرك وتحترم هوية السودان المتمازجة عضوياً بين العربية والأفريقية، وأن يدركوا أيضاً حساسية ترجيح كفة علي الأخرى ترجيحاً اصطناعياً في محاولات قصيرة النظر لتغليب ما ليس في مصلحة السودانيين. ونحذر بنفس الدرجة من الأهمية من محاولات الهيئات الإسلامية والمسيحية لترجيح كفّة علي الأخرى في ذلك السياق الثيولوجي الذي يتخذ في بعض الأحيان صفة ردود الأفعال.
السيناريو المتشائم
وهو السيناريو المرتبط بعدم التزام الجنوبيين أو الشماليين بشروط ومتطلبات الديموقراطية العادلة والمستدامة التي أوجزناها في السيناريو المتفائل. فبالنسبة للجنوب يري كثير من السودانيين، ومن بينهم جنوبيون، بأن حلاوة الانتصار وعوامل أخري داخلية وخارجية منها تبرير الحق في الانفراد بالسلطة بما حققته قيادات الحركة الشعبية، قد يركز الجنوبيون المنتصرون علي تأسيس نظام علماني في ظلّ ديموقراطية شكلية أو صورية فيفقدون بذلك الرغبة أو الصلاحية في الضغط علي نظام الإنقاذ في الخرطوم بهدف تأسيس نظام ديموقراطي شامل وعادل. بل قد يذهب الجنوبيون الحاكمون المتحكمون إلي أبعد من ذلك فيتوافقون ويتواصلون مع حكومة الخرطوم علي تفسير لاتفاقية السلام يعطي الطرفين سلطات شبه مطلقة في حكم السودان بمشاركة صورية للقوي السياسية الأخرى. وهو ما يستشفه المراقبون من اتفاق الطرفين المتفاوضين علي إنفرادها بوضع دستور المرحلة الانتقالية. وقد ينبع هذا التوجه من تخوّف الجنوبيين من عدم التزام القوي المعارضة لحكومة الخرطوم باتفاقية السلام في جملتها أو تفاصيلها، خاصة بعد أن أخذت بعض تلك الجهات المعارضة تصف الاتفاقية بالثنائية وتطالب بطرح مقرراتها في مؤتمر جامع ما يعني ضمنياً بالنسبة للجنوبيين التخوف من سعي البعض إلي إعادة النظر في بعض ثوابتها الاستراتيجية.
نصيحتنا لقوي المعارضة في هذا السياق هي أن يقبلوا مقررّات اتفاقية السلام كما هي وأن يركّزوا علي تأسيس النظام الديموقراطي المؤسسي وعلي الخطوات المؤدية إليه وأهمها المؤتمر الدستوري الجامع. والذي يجب أن يسبقه ويهئ المناخ له إلغاء قانون الطوارئ وإطلاق الحريّات. وعلي القوي المعارضة أن تدرك أيضاً بأن احتمالات انفراد الجنوبيين وحكومة الإنقاذ بالسلطة وفق نظام تحالف سلطوي نابع من ادراكهما لحقيقة أنهما لا يمثلان أكثر من 35 بالمائة من مجموع الشعب السوداني، وأن فتح المجال والتسليم بنظام ديموقراطي حقيقي يعني احتمال خروجهما أو علي الأقل جماعة الإنقاذ من الحلبة السياسية أو حصول الأخيرة علي موضع هامشي فيها علي أحسن الافتراضات.
إن من بين العوامل التي ترجّح كفة السيناريو المتشائم في سياق التطلّعات إلي الديموقراطية والسلام الشامل والعادل، طبيعة تكوين التجمّع المعارض والقوي السياسية المعارضة الأخرى غير المنضوية تحت لوائه (حزب الأمة واللاحزبيين)، علماً بأن هؤلاء يمثلون أكبر كتلة معارضة خارج التجمّع، وإن كانت كتلة اللاحزبيين الغالبة غير منظمة. أما الحزب الرئيسي القائد فوقياُ للتجمّع، الحزب الاتحادي الديموقراطي فهو أحد الحزبين التقليديين الكبيرين تاريخياً في الساحة السياسية. ولكن الحزب الاتحادي أصبح مشتت القيادات والقواعد لعدد من الأسباب أهمها نهجه التقليدي المستند إلي رعاية طائفة الختمية وغير المدرك للتحولات الاجتماعية وللوعي الذي ساد الشعب السوداني في المدن والأرياف خاصة بين الشباب المتعلم. هذا الحزب لا يستبعد أبداً أن تسارع قياداته الطائفية نحو مشاركة السلطة الحاكمة وأن تقبل مواقع هامشية في النظام الجديد خاصة وهي ترجح الاستجابة لرغبة بعض رموزها من رجال الأعمال وبعض ذوي النفوذ الاجتماعي الذين استفادوا اقتصادياً في ظلّ نظام الإنقاذ. هذا التوجه، إن صحّ وواصل المشوار نحو المشاركة في السلطة يكون قد عزز السيناريو المتشائم لأنه سيؤدي إلي زيادة نسبة الشماليين غير الحريصين علي ديموقراطية كاملة من عشرة (وهو الحجم التقديري للحزب الوطني الحاكم الآن) إلي نحو عشرين بالمائة ممن يحق لهم حق التصويت في أيّ استفتاء أو انتخابات حرّة. أما إذا انضم الجنوبيون لهذا النادي، وهذا ما نشك فيه كثيراً، خاصة إذا انتهجت بقية قوي المعارضة نهجاً واقعياً وبعيد النظر، فإن الكتلة التي تفضل الانفراد بالسلطة في ظلّ ديموقراطية كسيحة وناقصة، سيصل إلي خمسين بالمائة تقريباً، نصفهم في الجنوب ونصفهم في الشمال. أما النصف الآخر المعارض فستعتمد فعاليته علي استطاعته التحالف الاستراتيجي مع الوسط اللاحزبي والذي ينقصه التنظيم والقيادة برغم احتوائه علي كوادر طليعية علي درجة عالية من الوعي السياسي والإداري والمهني.
وهكذا فإن السيناريو المتشائم من شأنه أن يضعف كثيراً وسيقوي بالمقابل السيناريو المتفائل بمستقبل السودان الديموقراطي المؤدي إلي العدالة والتقدم إذا أصبح التحالف العريض والمتكامل سياسياً واجتماعيا وجهوياً بين القوي المعارضة الممثلة ليسار الوسط مضافاً إليها القوي السياسية الجنوبية ذات الثقة في جديّة وإخلاص قوي المعارضة الشمالية، بل ومعها أيضاً أقسام كثيرة من رموز وقيادات نظام الإنقاذ المعتدلة والتي وعيت بالتجربة. ويقيننا أنه إن صحّ هذا الزعم المتفائل فلن تستطيع أيّ قوة غير مسلّمة بالحقوق الديموقراطية الكاملة والشاملة، أن تقف في وجه تطلّعات الشعب السوداني نحو صباح مشرق وسودان جديد.
لقد سعدنا لتصحيح السيد الصادق المهدي رئيس حزب الأمة لما دعا إليه قبل بضعة أسابيع مؤكداً أن البديل للمشاركة الديموقراطية في تأطير مستقبل السودان هو العصيان المدني المشروع في العرف الديموقراطي وليس حمل السلاح. ونري بهذه المناسبة بأن السيد الصادق المهدي ينبغي أن يتنبّه إلي ضرورة إصلاح حزبه نحو ديموقراطية مؤسسية فاعلة تترجم الزخم الايدولوجي الذي أسهم به سيادته باجتهاده الفكري إلي واقع مفيد. أما السيد مبارك الفاضل الذي كان قد ابتعد مع بعض رموز حزب الأمة من مركز الحزب مهرولاً نحو السلطة، فقد ذكرت له ذات يوم أنني ربما اتفق معه في كثير من الانتقادات التي وجهها لقيادة السيد الصادق للحزب، إلاّ أنني وصفت نقده لقيادة السيد الصادق بكلمة الحق التي أريد بها باطل. وعندما سألني السيد مبارك ماذا أقصد بالباطل، قلت له أنها السلطة طبعاً!
أما الإصلاح في الحزب الاتحادي الديموقراطي، الإصلاح المرتكز علي المؤسسية وعلي تحجيم النفوذ الطائفي الوصائي والأبوي من مركز ثقل جماهير المدن الواعية إلي مراكز النفوذ شبه الإقطاعي ودوائر الرأسمالية الفاسدة والمفسدة فيسير بخطي مُرضية في الداخل والخارج. بمعني آخر فإن هذا الحزب ينذر بعملية استقطاب بين يمينه ووسطه. وأما اليسار السوداني فما تزال أمامه مشاوير طويلة نحو الإصلاح السياسي والايدولوجي والتنظيمي. وقد علمنا بأن خطوات جادة قد بدأ اتخاذها بنهج ديموقراطي داخل الحزب في هذا الاتجاه.إلاّ أن فصائل كثيرة من اليسار المعتدل ما تزال خارج المحور. ونرجو أن يكون الحزب الشيوعي "الأم" قد وصل إلي قناعة بعد مشواره الطويل وفي ضوء انهيار النموذج السوفيتي بأن الاشتراكية السلطوية لن تقود إلي مجتمع اليوتوبيا الاجتماعية المنشود (راجع مقالاتنا في تقييم الأحزاب السودانية التي نُشرت بجريدة الأيام السودانية خلال النصف الثاني من العام الماضي)، ونري أنه في سياق الحال السوداني لا بديل لليسار بألوان طيفه المختلفة إلا أن يتوحد هو أولاً ثم يدخل في تحالف استراتيجي طويل المدى مع أحزاب الوسط من أجل تحقيق مجتمع الديموقراطية والرفاهية والعدالة الاجتماعية. إن التاريخ الوطني للشيوعيين السودانيين ولليسار السوداني بصفة عامة، التاريخ الذي تطغي فيه الإيجابيات علي السلبيات، تجعلنا نتفاءل في أن يغيّر ويجدد اليسار من مساره وأن يغلّب الفكر الوطني علي الايدولوجية الانقلابية وعلي نهج القفز علي المراحل "وتكفير" الحلفاء ورفاق الدرب!؟ لم يستفيد اليمين (الإنقاذي وحلفاؤه) من تجارب اليسار الانقلابية الفاشلة، فهل يستفيد اليسار من آخر تجارب اليمين الانقلابية التي نشهد طغيان سلبياتها علي إيجابياتها كما نشهد أيلانها للسقوط برغم تسلحّها بأقوى خطاب ديني في العالم وبالسلاح والدعم المادي والمعنوي الخارجي؟!
خاتمة وتوقعات متفائلة
نخلص من ما تقدم من عرض تحليلنا للموقف السياسي السوداني الماثل في عشية التوقيع علي اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب إلي الخلاصة والتوقعات التالية:
أولاً إن اتفاق السلام يمثل معلماً مضيئاً وحاسماً في تاريخ السياسة السودانية لأن مضامينه في العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية المتكافئة والعادلة والمستدامة تغلب علي سلبياته مثل موافقة الجنوبيين علي ثوابت حكام الشمال، وهي سلبيات يمكن التغلب عليها وحسمها بإرادة الشعب وبحقوقه الديموقراطية قبل نهاية المطاف (الفترة الانتقالية)، وبأذن الله. أما إذا لم يعي حكّام الخرطوم حقيقة أن خمسة مليون علي الأقل من جملة سكان دارفور البالغ عددهم نحو ستة ملايين نسمة وكلهم مسلمون سيقفون وعن قناعة ضد حكام الشمال بثوابتهم التي فشلت بالتجربة. وأما إذا أصرّ حكّام الخرطوم في عناد وتشنّج معروف عن بعضهم، فسينطبق عليهم (أيّ حكام الخرطوم) قول المتنبئ "قومي وإن قدروا إلاّ تفارقهم فالراحلون هُمُ"!
ثانياً لا سبيل للنظام الحاكم من أجل ضمان مشاركته المتكافئة ديموقراطياً في حكم السودان إلا بالتنازل غير المشروط عن ثوابته التي فرضها بقوة السلاح لا بالجدل الفكري أو الإجماع الديموقراطي الغالب. نقول هذا مع تقديرنا التام لما بذله النظام الحاكم من جهد من أجل التوصل إلي السلام مع الجنوب برغم فداحة ثمن ذلك السلام وبصرف النظر عن ظروف ودوافع ما أنجزوه.
ثالثاً إننا علي يقين بأن لا بديل لتحقيق الإجماع الوطني غير الاتفاق علي تنظيم مؤتمر دستوري يكون من بين أهم أهدافه التوصل إلي إجماع وطني شامل وإلي تأسيس نظام ديموقراطي حقيقي يؤدي إلي العدالة الاجتماعية والجهوية في جميع مناشط الحياة وإلي الوحدة الطوعية المستدامة تحت رقابة دول الجوار والجامعة العربية والإتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية والتي أسهم جميعها إسهاماً مقدّراً في التوصل إلي السلام؛
رابعاً إذا أصّر نظام الخرطوم الحاكم علي ثوابتهم فلا بديل للمعارضة المسنودة من المجتمع الإقليمي والدولي المناصر للديموقراطية والتحرّر إلا المطالبة باستفتاء شعبي يطرح تلك الثوابت المستخدمة كوسيلة للسلطة والحكم والتحكم ليقول الشعب كلمته فيها في ظلّ الرقابة المحايدة؛
خامساً علي الأخوة الجنوبيين أن يدركوا بأن ما حصلوا عليه من مكاسب وحقوق مشروعة تمثل إنجازاً تاريخياً توّج نضالهم المسنود بتأييد شعبي واسع وواثق في الشمال، إنجازات ينبغي المحافظة عليها وتطويرها وتثبيتها لصالح شعبهم والشعب السوداني كافة، وأن يدركوا أيضاً بأن أيّ تهاون أو تقاعس أو تفريط فيما اكتسبوه باتفاقية السلام سيعني انهيار البناء والنسيج الوطني بكلياته. نعم، عليهم أن يدركوا عظم التحديّات التي تواجههم في سبيل تحقيق أماني شعبهم. كذلك ينبغي أن يعمل الأخوة والأخوات قادة الجنوب بإخلاص وبعد نظر من أجل تحقيق وحدة وطنية عادلة ومتكافئة وأن يدركوا المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للانقياد وراء دعاوى وطموحات بعضهم والهادفة إلي تأسيس دولة منفصلة ومستقلة. ولا شكّ أن أغلب القيادات الجنوبية قد أدركت من خلال تعاملها مع الشماليين بأن في الشمال أغلبية واضحة من الذين يؤمنون إيماناً راسخاً بجدوى وأهمية تحقيق وحدة عادلة بين الشمال والجنوب. وبصرف النظر عن نسبة أولئك الوحدويين في الشمال، فإننا نحمّل الشماليين بنفس القدر مسئولية انهيار دعائم الوحدة الوطنية بعد هذا الاتفاق الاستراتيجي إذا ما أخفقوا في مضاهاته ودعمه بخطوات وسياسات عملية ومنصفة وبعيدة النظر؛
سادسا سيكون همّنا الأول بعد التأمين الشعبي علي اتفاقية السلام السعي الجاد من أجل تطبيق ثوابتها وتوجهاتها ومرتكزاتها الأساسية علي الأقاليم الأخرى المهمّشة والأكثر تخلفاً بأمل إزالة المظالم التي لحقت بأهلها عبر السنين وأجبرتهم علي حمل السلاح. في مقدمة تلك الأقاليم دارفور وشرق السودان وكردفان وجنوب النيل الأزرق وبعض مناطق السودان الشمالي. كلّ تلك الجهات تحتاج لدراسات عاجلة تحدّد مظالمها ودرجات التعدّي علي موارد وحقوق أهلها والتوصل في ضوء تلك الدروس وفي هدي مسح وتقدير علمي لميزاتها النسبية في التنمية والتقدم، إلي برامج ومشروعات إعادة هيكلة وإصلاح اقتصادي واجتماعي وإداري شامل أيضاً ودائماً في سياق الوطن الواحد والوحدة مع التنوّع. ونحذّر قادة تلك الأقاليم الذين تصدوّا ويتصدّون لمقاومة الظلم الذي وقع علي أهلهم من التركيز علي مبادئ اقتسام الثروة والسلطة أو التركيز علي النهج الإصلاحي الذي سيؤسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإدارية علي هياكل خربة وغير عادلة. وكما ذكرنا فيما تقدم، فإن اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب قد ثبّتت وكرسّـت حقوق اقتسام الثروة والسلطة. بقي تحديد الإجابة علي الأسئلة المحورية: اقتسام هذه وتلك لصالح من؟ هل تدور "ساقية جحا" لتصّب الماء من حيث نهلته أم توزعه علي أصحاب المصلحة الحقيقية الذين ماتوا أو كادوا يموتون عطشاً وجوعاً وهم بجوار مواردهم التي نُهبت؟
سابعاً أما في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان الجديد فلا بدّ من وضع أسس وقواعد ومفاهيم ومناهج ووسائل جديدة للنهضة التي يمتلك السودان الآن أغلب مواردها ومقوّماتها ولا ينقصه سوي السياسات الراشدة والسليمة والتخطيط العلمي. غير أن كلّ هذا لا يمكن أن يؤدي إلي النهضة المنشودة ما لم تتم إعادة هيكلة جذرية للبنية التحتية والمؤسسية وما لم تتوقف الممارسات الضارة والمجحفة التي أصبحت تمثّل سمة مميزة للسياسات والعمل الاقتصادي. ونكرر تحذيراتنا للجهات والكيانات المستثمرة المهرولة نحو السودان قبل وبعد اتفاق السلام بأن تأخذ حذرها من مخاطر الخسائر التي من المحتمل أن تنتهي إليها استثماراتها في السودان قبل إجراء العمليات الجراحية للاقتصاد السوداني، عمليات إعادة الهيكلة الجذرية للسياسات والنظم والمؤسسات المالية والنقدية والمصرفية والتجارية والضريبية. فمثلاً لا بدّ من كشف الأغطية والأقنعة عن الميزانيات الأربعة التي تنظم الحكومة من خلالها النشاط الاقتصادي في القطاع العام. والميزانيات الأربعة هي الموازنة العامة وميزانية الحرب والميزانية السياسية والأمنية والميزانية الولائية. هنالك تداخل مريب بين تلك الميزانيات فيما يتعلق بمصادر تمويلها وأوجه صرفها. وربما كان المعروف أكثر من المستتر، ولكن معادلات وتحليلات بسيطة بواسطة الاقتصاد القياسي (Econometrics) يمكنها كشف طبيعة تلك الميزانيات والعلاقات التكاملية بينها كما تكشف مدي إهدارها لموارد البلاد ومدي ارتباط نشاطاتها الاقتصادية بسلوكيات الفساد والإفساد التي حذّر منها النائب الأول لرئيس الجمهورية نفسه متبرئاً علي الأقل من تهمة ووصمة "حاميها حراميها".
والخراب والفساد الاقتصادي الذي نعرف مداه وأبعاده جيداً لا يمكن إصلاحه إلاّ في ظلّ نظام ديموقراطي مؤسسي حقيقي تحت حماية الدستور والقانون. ولا شكّ في أن من أهم الأسباب التي تجعل النظام الحاكم يقاوم أيّ محاولة للتغيير الجذري هو تخوف بعض رموزه من المحاسبة. والسؤال المحوري الذي يطرحه بعض السودانيين المعارضين للنظام هو هل بالإمكان مشاركة النظام الحاكم في الحكم وفي برامج تنمية اقتصادية واجتماعية تؤمّن علي تلك السياسات والبنيات المنحرفة؟ وبمعني آخر هل يستقيم الظل والعود أعوج؟
وفي الجنوب، برغم فرص تخطيط وتفعيل التنمية الاقتصادية والاجتماعية علي بيئة عذراء، إلاّ أن هنالك ثمة مخاوف من أن يُساء تحديد المعايير والاولويات لتلك التنمية خاصة في مواجهة ذلك الاندفاع غير المسبوق من جانب المستثمرين. وبسبب تخوفنا هذا، وحرصاً منا علي أن ينتهج الأخوة الجنوبيون نهجاً سليماً ومخططاً وبعيد النظر، نتقدم بالنصائح والمقترحات الآتية:
(1) أن يستعينوا بنخبة مختارة ومتخصصة من أبنائهم وبناتهم ومن كفاءات أخري من خارج الإقليم وأن يوكلوا لتلك النخبة إعداد خطة لأجهزة تخطيط اقتصادي واجتماعي تسترشد بسياسات واعية وبعيدة النظر، وأن تستفيد النخبة المقترحة من تجارب بلاد أخري نجحت فيها مناهج وبرامج التخطيط الاقتصادي والاجتماعي وفي مقدّمتها الهند والصين وسلطنة عُمان، مع مراعاة الفوارق بين طبيعة وسياسات تلك الدول الاقتصادية؛
(2) أن تحذر القيادات الجنوبية من تسريب أدواء وأساليب الأنشطة الاقتصادية إلي الإقليم من شمال السودان بما في ذلك الممارسات الفاسدة والمفسدة؛
(3) أن يبدأ المخططون برصد وحصر وتقييم واقعي للموارد الطبيعية والبشرية والمالية المتاحة في المدى القصير والمتوسط والتي من المقدّر لها أن تزيد حسب خبرتنا وحسب تجارب بلاد نامية كثيرة كلمّا نجحت الحكومة الإقليمية (والمركزية) في تحضير برامج ومشروعات استثمارية واضحة الجدوى والعائد؛
(4) لا بدّ من إعطاء أسبقية عالية في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية لإعادة توطين وتأهيل العنصر البشري مع مراعاة كافية منذ المرحلة الأولي للموازنة والتكافؤ والتكامل بين المشروعات الصغيرة والمتوسطة المعتمدة علي التكنولوجيا الوسيطة والكثافة العمالية المتناسبة(labor intensive) وبين المشروعات ذات الاحتياجات التكنولوجية والإدارية العالية؛
(5) ينبغي إعطاء أولوية للمشروعات والبرامج الإنمائية ذات الميزات النسبة العالية بالنسبة لاحتياجات الاستهلاك المحلي (الجنوب) أو التصدير للشمال والبلاد المجاورة. وخير مثال لتحديد الأسبقيات هو صناعة سكر القصب الذي أثبتت التجارب السابقة أن للجنوب ميزات مناخية واقتصادية فيها أكثر من الشمال حيث تكلفة الرّي العالية. وتفترض هذه الميزة النسبية لصناعة السكر إعطاء أسبقية عالية لتوليد الطاقة الكهربائية من النفط؛
(6) في مجال التدريب وإعادة التدريب وإعداد الأيدي العاملة والمؤهلة ينبغي التركيز في المدى القصير والمتوسط علي تدريب الحرفيين وعلي التعليم المهني (polytechnic) وتحفيز كوادره تحفيزاً كافياً يجنبّهم طموحات التحول إلي التعليم الأكاديمي الأمر الذي أحدث فراغاً وخللاً في الشمال بسبب تحويل المعهد الفني ومعهد شمبات الزراعي والمعاهد الفنية والزراعية الأخرى إلي جامعات ومؤسسات أكاديمية نتج عنها انهيار المستويات الإدارية في المشروعات الزراعيـة والصناعيـة والخدمية( الهندسة والمواصلات الخ)؛
(7) نُحذّر الأخوة والأخوات الجنوبيين من اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لقد أتضح من تجارب بلاد نامية كثيرة بأن الضرائب سواء كانت علي الدخل أو الإنتاج أو الصادر أو الوارد لا تحقق هذا الهدف. فالهدف يتحقق بالتوزيع العادل للموارد الإنتاجية وبتخطيط وتمويل وتنفيذ المشروعات التي تستوعب وتفيد قطاعات واسعة ومتوازنة من المواطنين. ولا بدّ كذلك من الحذر من الانفلات الاستهلاكي البذخي الذي يعكس ويحفز التفاوت في الدخول كما يفتح الشهية للطمع والفساد والإفساد.
( وتحقيقاً للتنمية الإقليمية المتوازنة ينبغي منح ميزات استثمارية وحوافز أكثر للاستثمار والتنمية في الجهات النائية نسبياً وذلك حتى لا تُصبح مناطق مهمشة ومنعزلة اقتصادياُ وسياسياً؛
(9) لا بدّ من الاعتراف بأن المواطنين، جنوبيين كانوا أم شماليين، الذين يعيشون بالخارج قد تعلّموا واكتسبوا خبرات يتمني أغلبهم أن يعودوا ليفيدوا بها وطنهم وأهلهم لكن في نفس الوقت، وبنظرة أكثر واقعية، فقد أصبح لهؤلاء المواطنين قيمة بديلة (opportunity value) عالية. فلا بدّ من حفزهم بدرجات كافية تمكنهم من التوفيق بين حبّ الوطن والغيرة عليه من جهة وبين حدود التضحيات المادية والحياتية التي يمكنهم تقديمها في سبيل العودة. تجدر الإشارة إلي أن حكومة الإنقاذ قد جعلت من حفز العائدين من كوادرها الملتزمة سياسة محورية منذ الأعوام الأولي من توليها السلطة وكانت ومازالت تغدق عليهم الحوافز والامتيازات في شكل مرتبات إضافية تُصرف لهم في أغلب الأحيان بالعملات الأجنبية. هذا بالإضافة طبعاً للمكاسب الأخرى التي يحصل عليها بعضهم من الأعمال الحرّة والتسهيلات المساندة لها!
(10) ننصح القادة الجنوبيين بأن يؤسسوا لإدارة اقتصادية إقليمية ذات كفاءة عالية ومتطّورة، وأن يحفزوا كوادر المؤسسات الاقتصادية للدرجة التي تجنبهم الانحراف والعبث بموارد وحقوق الشعب. وعلي حكومة الإقليم أن تسنّ قوانين صارمة ورادعة ضد الفساد والإفساد، وأن تُدرك بكلّ الوضوح بأن المنح والقروض التي ستوجه إليها من الخارج ستتوقف إلي حدود بعيدة علي مدي صدقيتها ونزاهتها وشفافية نظامها السياسي والاقتصادي، إضافة إلي الكفاءة في استخدام تلك الموارد.
(11) نوصي قيادات الإقليم الجنوبي، وخاصة أولئك المعنيين بتخطيط وإدارة الاقتصاد، بأن يعملوا علي تحقيق توازن فاعل ومفيد بين استخدامات الموارد الطبيعية وإصحاح البيئة، وأن يعطوا أسبقيات عالية في المدى القصير والمتوسط لإعادة تأهيل الغابات وحظائر الصيد البرّي وغيرها من المرافق التي أصابها الدمار من جرّاء الحرب. وثمة واجب آخر لا يقلّ أهمية وهو ضرورة مراعاة نصيب وحقوق الأجيال القادمة في الموارد الطبيعية وتأمينها ضد الطمع والنهم والأنانية وقصر النظر الذي أصبح سمة من سمات النظم السياسية شمولية كانت أم ديموقراطية في شمال البلاد.
والتوازن المنشود في استخدام الموارد الطبيعية وخاصة الأراضي يمكن تحقيقه بعدة طرق ووسائل من بينها التوفيق بين أهمية تحديث الزراعة التقليدية والرعي التقليدي وبين الاستثمار في الأنماط الإنتاجية عالية الكثافة التكنولوجية والرأسمالية كما ذكرنا آنفاً. وفي الإقليم الجنوبي وفي شرق أفريقيا (كينيا ويوغندا) أمثلة وتجارب مفيدة في هذا المجال (مزارع حجّار لإنتاج التبغ والبن في غرب الاستوائية ومزارع الشاي والبن ومزارع الألبان واللحوم في كينيا ويوغندا).
(12) نوصي القيادات الجنوبية التي ستتولى المهمة المشحونة بالتحديات، مهمة قيادة وبناء الجنوب الجديد، أن يولوا اهتماما كبيراً وأن يعطوا أسبقية عالية لمهمة بناء نهضة ثقافية هادفة ومؤسسة علي ثوابت وطموحات السودان الجديد الواحد الموحد. ولا نقصد بالثقافة الثقافة المعرفية فحسب، وإنما أيضاً وبنفس القدر من الأهمية الثقافة السياسية، ثقافة الديموقراطية الشعبية وثقافة حقوق الإنسان وثقافة سيادة واحترام القانون كحكم بين الناس. كذلك نقترح بأن تقترن برامج وأنشطة إعادة التوطين ببرامج مدروسة لمحو الأمية. ولا شكّ أن الأخوة والأخوات في القيادات الجنوبية يدركون بأن من بين أهم مشاكل التنمية والنهضة في القارة الأفريقية كانت وما تزال ضعف البنيات الثقافية ورعاية ودعم القيم الإنسانية المسنودة بتعاليم الأديان والثقافات المحلية والعالمية المختلفة.
(13) ولا تقل أهمية عن ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان ثقافة التسامح والتي ينبغي أن تستهدف أطفال السودان في الشمال والجنوب في البيت و منذ المراحل الدراسية الأولي بهدف إزالة الصراعات والفوارق المزمنة سواء أكانت تلك الفوارق المرتبطة بالعرق أو الدين أو المستويات الاجتماعية. لقد آن الأوان حقاً أن يعمل السودانيون جميعاً من أجل سودان تسوده روح الصفاء والنقاء والتمازج الثقافي والحضاري. وعلي أصدقائنا الأفارقة والعرب أن يراعوا ضرورة هذا التمازج بالنسبة لوحدة السودان المستدامة والمجزية.
(14) ولا شكّ أن كثيراً من الأخوة والأخوات في الجنوب يعلمون مدي حرص أقسام كبيرة من رجال الأعمال والمهنيين الشماليين الذين ظلوا يؤيدون مطالب وحقوق مواطنيهم في الجنوب، مدي حرص هؤلاء علي مواصلة تجاوبهم مع الجنوب بالإسهام الفاعل والمجدي في مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ونري تأكيداً ودعماً لأهداف الوحدة الوطنية إتاحة الفرص لهؤلاء وأولئك لتحقيق رغباتهم وحين نواياهم.
ونختم إسهامنا المتواضع هذا بقوله تعالي "أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" (صدق الله العظيم). ونسأله تعالي التوفيق وحسن القصد.
علي التوم محمد علي مستشار التنمية والسياسات الاقتصادية (سياسي مستقل)
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: عـلي التوم: اتـفـاقـيـة السـلام السـودانيـة إنجـاز مضيئ نحو سـودان جـديد (مقال) (Re: Raja)
|
شكرا رجاء... شكرا على التوم من وقت وبالتحديد منذ ان بدا اهل الحوش فى الميول نحو التعارك الفكرى غير المؤسس وغير المؤسسى مرتكزين على مفردات تفضح ازمة النقاش الفكرى السودانى الذى يحترمه المارين على الحوش _ بعد هذه الجملة الاعتراصية غير القصيرة _ اعود واقول منذ ذلك التاريخ لم اقراْ نظرة موضوعية ومقال يرتكز على الحقائق دون تسويف ويقدم الرؤى المستقبلية بوضوح تام ..انه النص الغائب فى المنبر والطرح المفقود والمنتظر حتى نثوب الى رشدنا الوطنى ... شكرا لهذه الموضوعية الواعية...شكرا
| |
|
|
|
|
|
|
|