|
وزارة الخارجية السودانية والتجديف الى الخلف !!
|
مقال رائع للدكتور السفير على حمد ابراهيم
شدنى هذا المقال الرائع للصديق على حمد فآثرت ان انقله لكم من موقع Sudanile
وزارة الخارجية السودانية والتجديف الى الخلف !! د.على حمد إبراهيم/واشنطن [email protected] * حديث اليوم ينبعث من سويداء القلب ، وأخص به وزارة الخارجية السودانية مهد صباى الوظيفى الذى تعلمت فيه مالم أتعلمه فى الدور العلمية والمدرجات الجامعية . وأخص به تحديدا ، وعلى وجه الخصوص ، زملائى الدبلوماسيين السودانيين المحترفين فى كافة الدرجات ، السفراء منهم ، والذين يحلمون بأن يكونوا سفراء فى غدهم المأمول ، والذين كانوا سيكونون سفراء اليوم لولا هجمة الانتهازية السياسية التى حولت وزارتهم الى قصعة تنتاشها الانياب الفاتكة وقد صارت فريسة مسجاة على قارعة الطريق ، ووليمة متاحة للغارمين ، وابناء السبيل الباحثين عن المجد الوظيفى بدون جهد غير الانتهاز.
كان الدخول الى الخارجية فى الزمان الغابر دونه خرط القتاد : منافسة شديدة الأطوار ، ظلمات ثلاث فوقها ظلمات ثلاث : تجويد لغوى أعجمى ، وتبيين عربى فصيح ، ثم تمحيص معرفى لا يبقى ولا يذر . ويتبع ذلك تمحيصان حارقان ، يبحث الأول عن حجم ذكاء سفير المستقبل ، ويبحث الثانى فى سيرة سفير المستقبل : اخلاقه ، ومتانة شخصيته ، وقدرته على التصرف المنفرد عند اللحظات الحرجة والملمات. كل ذلك تتحوط له جامعة الخرطوم بامتحانات قاسية تعرف جامعة الخرطوم دون غيرها كيف تفتل حبكتها . وما ادراك ما جامعة الخرطوم عندما يأخذها الجنون وهى تحبك الامتحانات. فكتاب امتحاناتها لا يكاد يدع كبيرة او صغيرة إلا أحصاها، حتى اذا فرغ الناس ، وظنوا انهم اصبحوا قادرين على امتحاناتها ، لطمتهم باختبارات علم النفس والذكاء العام . ثم لطمتهم باختبارات المعاينة النهائية ، حيث تتفحص هيئاتهم العامة : كيف يبدون ، كيف يمشون ، كيف يتكلمون ، كيف يبدأون الكلم.كيف يعيدونه . خوفا من ان يمر بثقب الامتحان سفير غير مناسب ، كأن يكون اعرج ، أو أعور ، أو قصير القامة قصرا مشين _ يعنى يكون بعيو ، لا سمح الله.
فاذا نجح سفير المستقبل فى كل هذا ، فهذا وحده لا يكفيه . ولا يجعله مؤهلا لكى يرتاد ذلك المكان العالى . كل هذه المرمطة لا تكفيه . ولا تجعله دبلوماسيا ولو فى قعر السلم الدبلوماسى المتناهى. بل يتوجب عليه أن يذهب الى الاكاديمية الادارية ليتعلم الطباعة ومسك الدفاتر والحسابات . وعليه أن يذهب بعدها الى الكلية الحربية ليتعلم ضرب النار حتى يستطيع حماية نفسه من جنون الارهابيين اذا ظفروا به فى قابل الايام فى عالم لم يعد السفير ذلك الشخص المبجل المحمى فى كل الاوقات من الدولة التى تقبل اوراق اعتماده . ثم يتعلم سفير المستقبل الشفرة العسكرية فى الكلية الحربية ، ويتعلم قوة الاحتمال. ومواجهة الشدائد الطارئة . فالخارجية لا تريد سفيرا خوارا يذوب كفص الملح فى الماء الحار من قولة تيت أو من ضربة البداية.
واذا قضى الله امرا كان مفعولا ، وسجل الممتحن كملحق دبلوماسى ، توجب عليه أن يجتاز اختبارات حاجز الكفاءة : بأن يدخل فى عالم البرزخ ، و يقضي فيه سنتين ملحقا دبلوماسيا مكتوبا اسمه بقلم الرصاص القابل للمسح بالاستيكة . ويظل معلقا بين عالمى الجنة والنار ، لا يدرى أين ترمى به الريح بعد عامين من الكد والكدح . فقد يعصف به تقرير يكتبه عنه سفير غاضب ، فيورده مورد التهلكة والردى. حتى اذا نجح فى العبور الى سجل الخدمة الدائمة ، يبدأ الدبلوماسى الجديد الزحف من درجة السكرتير الثالث ، يبدأ رحلة الركض نحو منصب السفير : ومن يدرى فقد يتهاوى ويسقط فى طريق الصراط المستقيم. وقد يعبر . الذين يعبرون يظلون فى مرحلة الركض الجبار نحوا من عشرين عاما او اكثر قبل أن تطق أرجلهم (الميز ) ويجلسون فى المكان العالى. ويحمدون الله كثيرا أن سخر لهم ذلك النجاح . ويدعون الله النجاة من عين الحاسدين الطامعين المتربصين بموقعه ذاك الذى وصل اليه بجهد البلاء . يعنى بالدارجى الفصيح: وصل اليه بطق اليد وطق الحنك ، وطق الضراع . يسأل الله أن ينجيه من المتلمظين لموقعه هذا . أؤلئك النفر الذين لا يظهرون إلا فى صحبة الأنظمة اياها !
يوم دخلت المعاينة الاخيرة قبل قبولى النهائى فى السلك الدبلوماسى كان على أن انجح فى الاسئلة الاخيرة التى طرحها علىّ اكثر من سبعة ممتحنين ،كان منهم الدكتور حسبو سليمان الطبيب النفسانى الذى كان رأيه فى شخصية الممتحن ، قوتها او ضعفها ، كان يحدد مصير هذا الممتحن. وكان علىّ أن أنجح فى اسئلة البروفسور محمد عمر بشير فى العلوم السياسية والثقافة العامة . لقد بهدلنى البروفسور محمد عمر بشير
وهو يناقشنى فى نظريات الكاتب الاامريكى الذائع الصيت Walter Lipman فى مجلة النيوزويك الامريكية . وكان الرجلان قاسيين معى فى الاسئلة (وفلفلانى) حتى مصارينى الدقيقة . فى لحظة معينة ترددت فى اجابتى على بعض اسئلة الدكتور حسبو سليمان ، وكان الرجل يعرفنى جيدا ويقرأ كتاباتى فى صحف الايام والصحافةوالاضواء . فقد كنت صحفيا محترفا وقتها وكنت أملا الصحف لطاعة ولداحة . حذرنى الدكتور حسبو من أن اجيب اجابات عشوائية – شختك بختك – كما يقول المثل العامى. وقال لى اكرم لك وانفع أن تقول انك لا تعرف الاجابة الصحيحة من أن تغامر باجابة عشوائية على امل أن تصادف الاجابة الصحيحة.
المهم كتبنى ربى فى عداد الناجحين وحمدت الله أن أصبحت دبلوماسيا ، لأدخل فى ميدان عمل لم أكن أضع فى اعتبارى أننى سوف أعمل فيه فى يوم من الأيام . بعد يومين من اذاعة اسماء الدبلوماسيين الجدد كنت اسير فى شارع القصر عندما تعمد سائق أحدى العربات الفارهة أن يلامسنى بعربته فى مزاح ودى. . وعندما التفت الى السائق ، وجدت وسمعت الاستاذ الصديق على شمو وهو يخاطبنى مازحا ويقول لى : " لقد خربتو علينا الخارجية . كانت الخارجية يدخلها اولاد الذاوات ، عزت الديب ، ومصطفى مدنى ، وفخر الدين . الآن اصبح يدخلها على حمد ابراهيم ، وعطا الله حمد بشير وما شابه . فضحكنا وهنانى الاستاذ الصديق على شمو وقال انه استمع الى اسماء الدبلوماسيين الجدد وسعد أن سمع اسمعى من ضمن الناجحين .نعم لم يكن فى الخارجية مكان للمحسوبية لذلك دخلها امثال على حمد و عطا الله حمد . كانت بطاقة الدخول تمنح بعد امتحانات قاسية. بدون ذلك لم يكن ميسورا لبدوى مثلى ، من دار محارب عموم، أهله رعاة ماشية بدون خطر او مزايا اجتماعية او سياسية ، لم يكن ميسورا له أن يدخل ذلك الصرح الذى أصبح يتهافت عليه المتهافتون بصورة اضرت ببنيه الذين بذلوا فيه الجهد وضربوا اكباد الإبل ليصلوا اليه .
تلك كانت أزمنة الخارجية فى زمانها الغابر. ثم جاءها زمان الريح الأصفر : ذلك الإعصار الذى هدم تقاليد الاستيعاب والترقى واكتساب القدرات والاعتماد الدبلوماسى ، وسهّل مهمة الولوج اليها أيما تسهيل . بدأ ذلك اولا فى عهد مايو. لقد هجم عليها اولا اهل اليسار الشيوعى ، فجاء فاروق ابوعيسى ، ومعاوية سورج ، ومحجوب عثمان ، وعابدين اسماعيل ، واحمد سليمان ، ومحمد سليمان ، وغيرهم ممن سقط من الذاكرة . ثم وفد عليها عسكريون ( ومتصوفة) عندما تحول الرئيس من شيوعى احمر بالمعايشة الى شيخ طريقة وامام وكاتب اسلامى يشرح لمريدى طريقته النهج الاسلامى لماذا_ وكانت تلك هجمة شرسة لم تكد تترك فى جسم الخارجية موضعا وإلا وجرحته.
ثم جاء زمان الانقاذ. وجاءت معه فلسفة التمكين لأهل الولاء ، ليخرج من الخارجية رعيل من السفراء الشامخين الى الشارع العريض ، حتى اصبح الدبلوماسيون المحترفون يتندرون على وضعهم : فيقولون الدبلوماسيون الكرور فى مقابل ال The Caree Diplomats . غير أن اقسى ما وصل اليه امر وزارة الخارجية هو أن يصبح المنصب الدبلوماسى يخضع للمحاصصة السياسية وليس للكفاءة ، بعد أن تمدد منهج منهج أهل الولاء فشمل الوافدين الجدد. لقد اصبح الدبلوماسيون المحترفون فى ذمرة وعداد الشهداء والصديقون. ولم يعد فى وسعهم غير صبر اولى العزم من الرسل وهم يعايشون غزوا سياسيا غير مسبوق لوزارتهم الجريحة. كثير التعزى اقدمه لزملائى فى الخارجية.
ليس عندك خيل تهديها ولا مال فليسعد النطق ان لم يسعد الحال
|
|
|
|
|
|