|
|
 كرة قدم ... سيد بلد .. وأشياء أخرى !
|
(نشر بالمستقلة - الجمعة 29 مايو )
....
دور العبادة ليست هي المكان الذى نتوقع فيه سماع النقاشات حول امور الدنيا الأخرى غالباً ، لذلك ، وبينما كنت عابراً جوار سور إحدى الكنائس ، كان الحوار الذي استمعت له يحمل فى ظاهره معنى واضح ، كما اعتقدت !.
- أها زولكم دا لسه ما ظهر ؟
- ياخي لسه بدري عليهو .. زمنو لسه ما جا !
- والله انا ما مقتنع بي قصة جيتو دي !
- لا ياخي ، أكيد حيظهر حيظهر ، مسألة وكت بس !
- لا ، ما حيظهر ..!
حتى هذه النقطة من الحوار السابق ، كنت أعتقد ، وبما انني امر بجوار الكنيسة ، ان الحوار يدور حول مسألة ظهور السيد المسيح ! ولكن وبينما أوشكت على الإبتعاد ، إذ بأحدهم يتابع النقاش مواصلاً :
- يا جماعة الزول دا حيجي ، قالوا طيارتو اتحركت من دبي !.
**
عند هذه النقطة شعرت بالدهشة ، فالسيد المسيح لا يمكن أن يأتي من دبي عبر الخطوط الإماراتية ، بطبيعة الحال ! . وشعرت بشيء من الفضول ، لأن النقاش كان يبدو ساخناً ، فتمهلت قليلاً حتى أعرف الشخصية التى يتحدثون عن عودتها بكل هذا الحماس ، فاذا لم يكن السيد المسيح نفسه ، فلا بد انه شخص له أهمية كبرى .
دارت بضع كلمات أخرى ، لم استطع تمييزها لأن النقاش كان قد وصل مرحلة الصخب والضجيج الشديد ، ثم وسط كل ذلك سمعت أحدهم يصيح بحماس :
- والله قودوين دا لو ناسكم ديل ما ادوهو باقي قروشو ما بجي !
هكذا إذن ، انهم يتحدثون عن لاعب الهلال السابق قودوين ومسألة عودته للفريق من الخارج مرة اخرى !.
**
ربما تكون الرياضة – وانا اعني هنا كرة القدم – هي الشيء الأكثر شعبية فى نقاشات السودانيين واهتماماتهم ، اكثر شعبية من السياسة التى يشتهر السودانيون باهتمامهم بها . وقد نفهم سر اهتمام السودانيين بالسياسة ، فهي في النهاية تؤثر بصورة مباشرة على حياة الناس ومعيشتهم ، عكس كثير من الدول التى لا يتغير الوضع المعيشي فيها بتغير الحكومات ، ولكن ما هو سر اهتمام السودانيين بكرة القدم وشغفهم بها هكذا ؟ .. مع ان إحراز ( فيصل العجب ) لهدف فى مرمى فريق ما لن يؤثر على أسعار المحاصيل فى سوق القضارف !.
**
شعبية كرة القدم فى السودان لا تحتاج لمجهود كبير لإثباتها ، فالصحف الرياضية مثلاً أكثر توزيعاً وانتشاراً من الصحف السياسية ، ويمكنك ببساطة ان تجرب تمييز الصحف التى يطالعها الركاب في اى مركبة مواصلات عامة مثلاً ، فترسل نظرك الى الراكب فى المقعد الذي امامك لتكتشف انه يحمل صحيفة يبدأ مانشيتها الرئيسي بعبارة : ( سيد البلد يسحق أسود الجبال ) ! ، واذا لم تكن لك علاقة بكرة القدم فى السودان فستندهش طبعاً ، وستسأل نفسك : من هو ( سيد البلد ) ؟ .. انت ربما تعرف مثلاً ( سيد البيت ) ، الذي يشرفك بزيارته المنتظرة لتحصيل الإيجار نهاية كل شهر ، وتعرف ايضاً ( سيد اللبن ) الذي يجعلك صوت صافرته المميزة تستيقظ منزعجاً من نوم القيلولة المسائي ، وربما مر بك ( أسياد ) كثيرون من قبل : سيد المعزة ، سيد السماحة ، سيد الخضار ، ولكن سيد البلد ؟ ... طبعاً لابد ان يكون للبلد سيد ما ، إنت فاكر الحكاية سايبة ساي ؟!.
**
وتقرأ العنوان مرة اخرى ، ( سيد البلد يسحق اسود الجبال ) ، وتقول فى نفسك لا بد انه سيد بلد خطير جداً إذن .. والا فكيف يمكنه سحق أسود الجبال نفسها ؟! ثم ان هناك امراً آخر ، ماهي قصة اسود الجبال هذه ؟ الشيء الذي نذكره ان الأسود كانت – حتى آخر مرة – تسكن فى الغابات ، فهل تركتها واتجهت الى الجبال ؟! كل شي هنا ممكن طبعاً ، ولله فى خلقه – دائماً – شئون !.
وينتقل بك النظر الى حيث تفاصيل العنوان فى ذات الصحيفة ، لتكتشف ان ( سيد البلد ) هو فريق الهلال العاصمي ، وان ( اسود الجبال ) ليس الا فريق الهلال كادوقلي ! فتشعر بمدى ضحالة ثقافتك ، وتنتقل ببصرك الى الراكب اقصى اليمين فتجده يطالع صحيفة ما ، ويبدو من هيئته انه شخص فى غاية الجدية ، شيخ متقدم فى العمر ، ذو لحية طويلة بيضاء ، يرتدي نظارات طبية سميكة ، لا بد انه يطالع صحيفة سياسية بالتأكيد ، ولا بد انه يهتم بقراءة اخبار وشئون المستعمرات البريطانية ، لأنه قد عاصر حملة اللورد كيتشنر على الثورة المهدية كما يبدو من مظهره ! وهكذا تنتقل ببصرك الى الصحيفة التى يطالعها بكل هذا الأهتمام لتجد عنواناً يقول : ( الزعيم يؤدي تدريبه فى القلعة الحمراء ) ... وهنا تهز رأسك لأن تحليلك لشخصية الرجل لم يكن مخطئاً ! فلابد ان القلعة الحمراء هى احدى القلاع التأريخية الشهيرة فى بريطانيا او اسكتلندا ، ولكن من هو الزعيم ؟ لا يمكن ان يكون هو الزعيم عادل امام ... فمن يكون ؟ لن تفكر طويلاً قبل ان تدرك ان المقصود حتماً هو ( زعيم ) حزب المحافظين او العمال فى بريطانيا ، فهناك يطلقون كلمة زعيم بدلاً عن رئيس ، فالمسألة كلها مسألة مستعمرات بريطانية كما هو واضح من الخبر !
وبينما تبتهج لأن تحليلك كان صائباً ، اذ بذلك الشيخ الممسك بالصحيفة ينتفض فجأة ، ويلتفت الى جاره فى المقعد صائحاً :
- بالله شوف دا ... هو عليك الله زريبة العيش بتاعتهم دي إستاد ؟!
**
لا حاجة بك للإحتفاء بغبائك ، فالشيخ الكبير ظهر انه مشجع كرة قدم متعصب ، والزعيم انما هو فريق المريخ ، بينما القلعة الحمراء ليست فى اسكتلندا بل هي الإسم الشائع لإستاد المريخ الكائن فى حي العرضة بامدرمان ! اما زريبة العيش ، فتلك قصة فتفاصيلها موجودة فى اقرب صحيفة رياضية اليك ..!
**
من بين كل 7 ركاب يقرأون الصحف فى اى مركبة عامة ، ستجد 5 منهم يطالعون صحفاً رياضية ، وهذا الأمر ربما تؤكده دور التوزيع المختلفة ، فما الذي يعنيه هذا ؟
في البداية ، اعتقد بأن هناك من يتفق معي فى ان تسمية الصحف عندنا بالصحف الرياضية فيه ظلم للرياضة نفسها : فالواقع ان الصحف تتحدث عن كرة القدم بصورة أساسية ، ثم تضيف اخباراً صغيرة عن المناشط الاخرى لملء الفراغات غالباً ، وربما نجد لهذا الاهتمام بكرة القدم ما يبرره لو كنا نعيش في دولة مثل البرازيل مثلاً ، حيث كرة القدم هناك شيء أساسي ، مثل الأكل والشرب ورقصة السامبا ، ولكننا – وهذه حقيقة مخجلة – نعيش فى بلد لم يبلغ فريقها الوطني بطولة كأس العالم طوال تأريخه المجيد ! ويجتر المشجعون فيه ذكريات الفوز الوحيد ببطولة الأمم الأفريقية التى حدثت قبل عشرات السنين ، رغم ان الاواراق التي تؤكد هذا الفوز قد أصابتها السنين المتعاقبة بالبلى ، وأكلتها الأرضه !.
**
لا أفهم كثيراً عن كرة القدم ، فأنا اراها مجرد قطعة من المطاط يحاول اللاعبون توجيهها الى مرمى الفريق الخصم ، لذلك فأنا مندهش من اخفاق الأندية السودانية في الفوز بالبطولات العالمية ... أليست الحكاية كلها قطعة من المطاط وثلاث عوارض معدنية أسمها المرمى ؟! كيف يستطيع لاعب مثل زين الدين زيدان مثلاً ان يجري بالكرة ويدخلها المرمى ، بينما لا يستطيع اللاعب السوداني ان يفعل ذلك بنفس البراعة ؟ حسب علمي ، فزيدان هذا له فقط رجلان ويدان ، ونفس القوام ، بل ان رأسه أصلع كمان !.
**
ربما تكون مشكلة كرة القدم فى السودان انها تلعب على الورق ، في صفحات الجرائد ، وعلى اوراق المكاتبات التى تسير بلا معنى فى مكاتب الاتحادات والوزارات الرياضية ، وبينما تتكاثر اوراق الصحافة الرياضية تجف النجيلة فى الملاعب ... ولكن عن اى ملاعب نتحدث ؟ فهل يعقل ان الإستاد القومي الأول فى السودان ، استاد الخرطوم ، لازالت أكثر مقاعده عبارة عن مساطب من الأسمنت ؟ ولا داعي للحديث عن قبح منظره من الداخل والخارج ، وعدم توفر النظام والخدمات فيه ، ومسألة التسالي وقصب السكر وبقية المأكولات الشهية !.
الصحف الرياضية تظل تتحدث عن الابداع فى تشييد إستاد المريخ ، وتظل شهوراً طويلة تحدثنا عن المقصورة والطابق الثاني ، فنعتقد ان استاد المريخ سيكون شيئاً شبيهاً باستادات فرنسا او المانيا او حتى ( عش الطيور ) فى الصين ، ولكننا نكتشف ان المسألة أكثرها مجرد طلاء بالألوان الحمراء والصفراء ، بينما دولة مثل الصين ، استطاعت خلال فترة قليلة جداً ان تبني اكثر من استاد ، وبمواصفات عالية لا تصل اليها ( زرائبنا ) الحالية جميعاً ، ومع ذلك لم يهلل لها احد هناك ، ولم نسمع بأن الصين بها جرائد رياضية تتحدث عن القراقير الذين يفترسون السوكرتا .. مع ان فى الصين لقباً يصلح لفريق نموذجي ... ( التنين ) !.
**
السؤال التقليدي الذي يوجه اليك عن ميولك الرياضية هنا هو : مريخابي وللا هلالابي ؟! انه الافتراض المسبق ، مبدأ الشمال واليمين ، الجنة والنار ، الخير والشر ، ( انا اتحدث هنا بدون ترتيب ) , ولا احد سيفكر انك ربما لا تشجع اى منهما وتفضل تشجيع اتحاد مدني مثلاً ، فأنت فى النهاية فى السودان ، وفى السودان اذا كنت تشجع الإتحاد فأنت ( إتحادي ) وإتحادي تعني انك من اتباع الحزب الاتحادي الديمقراطي وليس اتحاد مدني ايها الشاطر !.
اما فريق حي العرب بورسودان المسكين ، فلا اعتقد بان احداً سيتطوع ليكون من مشجعيه ، والسبب واضح طبعاً : اذا سألك أحد عن ميولك الرياضية ، وكنت من مشجعي حي العرب فبماذا سترد ؟ هل ستقول : ( حي عربي ) ؟! .. من الواضح ان على ادارة فريق حي العرب ان تبحث لها عن اسم موسيقى اكثر يمكن النسبة اليه بسهولة ..!
**
لن أكون متشائماً ، ولكن الواقعية تجعلني اؤكد بطريقة قاطعة ان السودان لن يفوز بكأس العالم القادم فى جنوب افريقيا ، واذا اردتم ان تعرفوا الأسباب فعليكم مراسلة الدكتور شداد رئيس الاتحاد العام لكرة القدم ، وانا اضمن لكم انه سيرد عليكم ببيان مفصل ، ومدعوم بالاثباتات القانونية و الدبلوماسية والسياسية حتى ! وستطالعونه في الصحف الرياضية في اليوم التالي تحت عناوين مثيرة مثل : ( شداد يؤكد ان صقور الجديان ستؤدب البرازيل !).
**
أجمل ما في مسألة التسمية والألقاب التي يستعملها الرياضيون في السودان انها أسماء ذات طابع موسيقي : الرومان ، التماسيح ، القراقير ، ولكنني شخصياً اعتقد ان لقب ( سيد البلد ) هو الأجمل .. لسبب بسيط جداً ، فـ ( سيد البلد ) خلافاً لـ ( سيد البيت ) ، لن يطرق بابك في نهاية الشهر مطالباً بالإيجار !.
>>
|
|
 
|
|
|
|
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست