|
من لاهاي الى أبيي
|
أول مقال أقرأه لاسحاق احمد فضل الله بعد قرار وقف الوفاق من صحيفة الانتباهة..رحلة لاهاي ومحكمة أبيي
آخر الليل اسحق أحمد فضل الله
من لاهاي .. الي ابيي
(1)
قبل الكتابة
(ولن ينهنه قوماً انت خائفهم
كمثل وقْمِك جهالاً بجهال)
و (الوقم) .. معروف..!
(فاقعس اذا حدبوا واحدب اذا قعسوا
ووازن الشر مثقالاً بمثقال).
وهذه ايام الرطانة ..
(2)
وهذه ايام (الكشف اللدني) وكشف النفوس وعيوننا تحدق داخل نفوسنا تنظر ماذا هناك .. حقاً!!
فالطائرة التركية التي تحملنا من لاهاي تضربها عاصفة رعدية مجنونة والبرق ينثر السماء مثل لوح زجاج ضربته بألف حجر.
والطائرة .. التي يعميها الضباب تماماً تتجه الي البحر .. في سقوط منفلت .. والاعاجم الاتراك حولنا وغيرهم ينطلق فيهم الصراخ والبكاء والتكبير والضجيج..
وفيما كانت الطائرة تهوي الي الموت فتحنا كتاب اعمالنا الذي نلقى به الله .. ووجدنا فيه اننا اعداء لعرمان .. لان الله يكره الذل والخيانة..
فشعرنا باطمئنان .. هائل غريب.
خلفنا كراعاً فوق كراع .. وقلنا للموت (ارح).
(3)
وفي الشرفة في محكمة لاهاي كنا ننظر الي الفريقين المختصمين .. وننظر الي النفوس..
وصف من سبعة مقاعد يجلس عليه محامو الدولة ثم آخر وآخر حتى الخامس.
ثم المنصة .. ثم مقاعد الحركة .. تقابل ما ههنا.
وفي ايمن الصف اليمين من هنا يجلس السفير الدرديري .. ومن خلفه عبد الرحمن ابراهيم المحامي الضخم.
وفي ايمن الصف اليمين في صفوف الحركة يجلس مشار .. النويراوي الوحيد هناك والذي يدفع به اليها شئ نذكره في ما بعد.
والي يمينه دينق ألور..
وفي صفوف الحكومة كانت هناك عمائم قادة المسيرية .. عمائم وعباءات يرطن بعضها بعدة لغات..
وفي اقصى زاوية بعيدة يجلس حسن مكي .. دون ربطة عنق كالعادة .. ودكتور الطيب زين العابدين .. ومريم الصادق مشغولة بجهاز (لاب توب).
لكن شيئاً كان يشغلنا .. ويرسم السودان كله تحت عيوننا وبدقة لم يسبقه اليها احد.
وفي الصف الثالث من مقاعد وفد الحكومة كان يجلس اللواء فضل والسلطان حمدي وكلاهما كان تلميذاً في مدرسة (الفولة).
وعلى الجانب الاخر في صفوف الحركة كان يجلس المعلم الذي كان يعلمهما مادة الدين الاسلامي والذي كان اسمه (احمد) والذي هو الان (دينق ألور).
وفي الصف الثالث كان يجلس زكريا اتيم احد كبار ابيي الذين تأتي بهم الدولة شهوداً.
واتيم الذي تلقى من الحركة الشعبية تهديداً بالذبح ان هو قدم شهادته - والذي سيقول هذا للمحكمة - كان ينظر الي اثنين من ابنائه في صفوف الحركة .. يجلسان هناك انتظاراً لمهمة غريبة.
والمهمة تتبين..
ففي اللحظة التي جلس فيها زكريا اتيم على المنصة للشهادة كان الامر المرتب ينطلق - وابناؤه يتحركون من مقاعدهم ليجلسوا على مقاعد لا تبعد من ابيهم الا خطوتان .. يحدقون في عيونه بعيون تتلظى.
والاب الذي يبلغ الثمانين من العمر ويتلقى هذا الاذى البليد من ابنائه يطلق شهادة راعدة وهو يقول للمحكمة
: انا في الثمانين من العمر .. ولن يخيفني شئ .. ولا اكذب .. وقد تلقيت تهديداً بالقتل من الحركة الشعبية هذه ان انا جئت للشهادة..
والمترجم يتجاهل جملة التهديد بالقتل ويتجاوزها وأحد القضاة يدق المنصة ليقول.
: عفواً .. انا اعرف اللغة العربية - واعتقد ان المترجم لم يكن دقيقاً في ترجمة اقوال الشاهد .. تعاد الترجمة.
ووفد الحكومة الذي كتم صرخته قبل لحظات يجذب نفساً عميقاً.
وفي الصف الثاني كان الفريق مهدي بابو نمر في قفطان .. وعمامة لا يهمه ان تكون انيقة .. وعلى الجانب الاخر كان يجلس احد احفاد دينق مجوك..
وفي القاعة الشديدة الطول امام قاعة المحكمة كان الفريق مهدي يقول للرجل قبل ساعة.
: لو ان ابي بابو نمر وابوك دينق مجوك كانوا حيين .. هل كنا نأتي الي هذا؟!
(4)
وصف من المحامين من اطراف العالم يشغلون الصفين الاوليين .. في جانب الحكومة..
وصف من المحامين من اطراف العالم شغلوا الصفين الاوليين في جانب الحركة.
والشهود..
لكن ثقافة خمسين سنة كانت تعترك هناك .. وحتى ابقار الدينكا والمسيرية ومذكرات ونجت وبيوت الجغرافيا البريطانية ودور الوثائق والمفتشون الانجليز اول القرن الاسبق وشكسبير .. و ... و كلهم كانوا هناك.
يعتركون بعنف.
والجلسات التي تمتد من التاسعة وحتى السابعة تنفض ساعة للغداء .. وهناك المحكمة / التي هي كنيسة ضخمة جداً (كاتدرائية) / تشهد ساحتها الامامية مشهداً يكفي تماماً لجعل احد مثل عرمان يموت كمداً.
هناك كانت جلابيب وعباءات وعمائم وفد الحكومة تصطف .. وتقيم الصلاة .. صفوفاً .. وافراداً..
حي على الصلاة حي على الفلاح .. الله اكبر..
وعند العتبات بعد الجلسة الاولى ومرافعة مستر (كراوفورد) قائد فريق المحامين السودانيين نسأل المحامي عبد الرحمن ابراهيم.
: ما رأيك؟!
قال: وددت انه لم يبق محام في العالم الا جاء ليشهد كيف هي العظمة..
والعظمة - مع المراس الرائع للرجل - كان ما يأتي بها هو الوثائق الرائعة الكثيفة.
والوثائق كان من ينسجها نسج دودة القز هو رجل اسمه الدرديري .. ولعامين كاملين..
وعند الباب الزجاجي نمر برجل ابيض الرأس من قادة الحركة يحيط به آخرون..
وحين تطلب منه ان يبتعد عن الباب يغمزنا احدهم ويقول متحدياً.
هل تعرف هذا..؟!
قلنا ونحن نحدق فيه.
نعم .. ونحدث..
|
|
|
|
|
|